وقد كره عمر بن الخطاب ولاية خالد؛ «لأنه رجل فخور يحمل أمره على المغالبة والتعصب»، فسعى عند الخليفة في عزله، فعزله وعقد لواءه ليزيد بن أبي سفيان.
هنالك جاشت مطامع عمرو، فسمت به همته إلى قيادة الجيوش الإسلامية التي تصد الروم وتفتح الشام، ورأى أن خالد بن الوليد صاحبه القديم تكفل بدولة الأكاسرة، فليكن هو إذن كفيل المسلمين بدولة القياصرة، ولم يشأ أن ينتظر حتى يبرم الرأي في مسألة القيادة العليا وهو غائب عنها، فلما أخذ الخليفة في تجريد الجيوش وعقد الألوية لها، ذهب إلى عمر بن الخطاب فقال له متلطفا: «يا أبا حفص! أنت تعلم شدتي على العدو وصبري على الحرب، فلو كلمت الخليفة أن يجعلني أميرا على أبي عبيدة، وقد رأيت منزلتي عند رسول الله، وإني أرجو أن يفتح الله على يدي البلاد ويهلك الأعداء.»
فأجابه عمر بصراحته الصادعة: «كلا! ما كنت لأكذبك! وما كنت بالذي أكلمه في ذلك، فإنه ليس على أبي عبيدة أمير! ولأبو عبيدة عندنا أفضل منزلة منك وأقدم سابقة، والنبي
صلى الله عليه وسلم
قال فيه: «أبو عبيدة أمين الأمة.» فلم ييأس عمرو من إقناعه بعد ما سمع، وراح يقول له: «ما ينقص من منزلته إذا كنت واليا عليه.» فانتهره عمر قائلا: «ويلك يا عمرو! إنك ما تطلب بقولك هذا إلا الرئاسة والشرف، فاتق الله ولا تطلب إلا شرف الآخرة ووجه الله تعالى.»
واستقر رأي الخليفة على البعوث وقوادها، فأنفذ أبا عبيدة بن الجراح إلى حمص، ويزيد بن أبي سفيان إلى دمشق، وشرحبيل بن حسنة إلى وادي الأردن، وعمرو بن العاص إلى فلسطين، وخشي أن يقع الخلاف مرة أخرى على الرئاسة، فقال له وهو يودعه: «... كاتب أبا عبيدة وأنجده إذا أرادك، ولا تقطع أمرا إلا بمشورته.» وأوصاه أن يذهب في طريق العقبة إلى فلسطين.
ويقدر عدد الجيش الذي قاده عمرو بتسعة آلاف مقاتل، معظمهم من أهل مكة والطائف وهوازن وبني كلاب، وعدد الجيوش الإسلامية كافة بسبعة وعشرين ألفا من الفرسان والمشاة.
وكان ذلك في أواخر السنة الثانية عشرة للهجرة، على القول المشهور، أو في أوائل السنة التي بعدها، على قول آخر. •••
إلا أن دهاء عمرو أنزله من هذه الجيوش منزلة المشورة والمراجعة، وإن لم ينزله بينها منزلة الرئاسة العامة والقيادة العليا.
فلما اقترب جند المسلمين من مواقعهم التي قصدوا إليها سمعوا بأهبة العدو، فإذا هو يزحف إليهم في جحافل جرارة تبلغ عدتها مائة وخمسين ألفا، من حاملي الشكة السابغة والعدة الكاملة، فترددوا وتشاوروا وكتبوا إلى عمرو بن العاص وإلى الخليفة، فوافاهم الجواب منهما معا بالاجتماع للقاء الروم في موقع واحد، وكان رأي عمر أن يتراجعوا إلى اليرموك وينتظروا جيوش الروم هناك ...
صفحة غير معروفة