الفصل الثالث
من التجارة إلى الإمارة
من الطمع الكثير أن تتطلع إلى تاريخ مفصل لطفولة عمرو بن العاص، أو لطفولة عظيم من عظماء عصره في البلاد العربية خاصة؛ لأن أبناء العصور القديمة قلما حفلوا بالطفولة أو حفلوا بأخبار الرجال - كبارهم وصغارهم - إلا بمقدار اتصالها بالحوادث الجامعة؛ فهم حينئذ يدخلون في حوزة التاريخ ويذكرون في سباق الحوادث التي لهم بها اتصال.
ولكننا نستطيع أن نقول على ثقة: إن عمرا الطفل قد تعلم كل ما يتعلمه أطفال العرب المقيمين في الحاضرة؛ لأنها السنة العامة التي لا موجب للشذوذ عنها؛ ولأننا نعلم ذلك وزيادة عليه من أخباره وهو في طور الشباب والكهولة، فنعلم أنه كان يحسن ركوب الخيل والسباحة ويحسن الضرب بالسيف، وينظم الشعر ويعرف الكتابة كما كان يعرفها نفر من أبناء التجار النابهين الذين يرشحهم آباؤهم للعمل في التجارة.
وقد عصمه اعتزازه بالنسب أن ينظم الشعر للتكسب بالمدح والهجاء على عادة «المحترفين» من شعراء زمانه، وإنما كان ينظمه للتنفيس عن نفسه، ويجري به خاطره كما كانت تجري به خواطر الوجوه من رؤساء العشائر في معرض العظمة والاعتبار.
والظاهر من أخبار نشأته الأولى كما أسلفنا أنه بكر بالزواج؛ لأن الفارق بين سنه وسن ابنه عبد الله غير كبير؛ ومن ثم يجوز لنا أن نفهم أنه استقل بمعيشته وهو في ميعة الشباب، ولا سيما إذا ذكرنا أن أمه لم تكن سيدة الدار في كنف أبيه.
فربما تزوج الفتى الناشئ من أهل البادية، ولم يستقل بالمعيشة بعد زواجه؛ لأنه يعمل هو وزوجه في رعي الإبل له ولأبيه في محلة واحدة.
أما العربي الناشئ في الحاضرة فالأغلب الأعم أن يستقل بيته وعمله بعد زواجه، ويصدق هذا على عمرو خاصة؛ لأننا لم نقرأ من أخباره وهو عامل في التجارة أنه كان يصحب أباه في رحلاته إلى الحبشة والشام، وربما دل على استقلاله بمعيشته البيتية أنه كان يصطحب زوجه في سفره، كما جاء في النبأ المشهور عن إحدى رحلاته إلى الحبشة، وإنه لكذلك دليل على شبيبة حازمة غير لاهية، جديرة أن تضطلع بأدب الأسرة، ولا تعيث في الغربة عيث الإباحية التي شاعت بين فتوة الجاهلية.
وقد داول في شبيبته بين الجزارة والتجارة، وظل يداول بينهما إلى ما بعد إسلامه وانقضاء صدر من الإسلام إلى قيام الفتنة بين علي ومعاوية؛ ففي مشاورته لولديه بين اللحاق بهذا أو بذاك كان يشكو معيشته بين «جزاري مكة»، ويطمح إلى مقام أكرم له من هذا المقام.
وللتجارة في سيرة عمرو شأن أعظم من شأن المرتزق أو الصناعة التي يكسب بها مئونة عيشه؛ لأنها ولا ريب كانت مدرسته الكبرى التي تعلم فيها ما تعلم من أحوال الحياة وخلائق الناس، بل كانت مدرسته الكبرى في السياسة والفتوح: من سياحاتها تلقى علمه الأول عن الأمم والبلدان، ومن سياحاتها نفذ إلى عيوب الحكم ومواقع الخلل في الدول التي كانت له يد في الإشارة بفتحها وسوق الجيوش إليها، وتهوين الأمر على الخلفاء حين خامرهم التردد في القدرة عليها.
صفحة غير معروفة