خرج مع عمارة بن الوليد المخزومي إلى أرض الحبشة تاجرين، وكان عمارة مولعا بالخمر والنساء فشرب وهما في السفينة فانتشى، ونظر إلى امرأة عمرو نظرة اشتهاء ثم هم بتقبيلها، بل أومأ إليها أن تقبله في قول صريح، فقال لها عمرو - متقيا ما يكون من رجل سكران بين الماء والسماء: قبلي ابن عمك! فقبلته، فلم يزد ذلك عمارة إلا إغراء بالمراودة وجرأة على القحة، ولمح عمرا على حافة السفينة - وهو في سكرة من سكراته - فدفع به إلى الماء يظنه غير قادر على السباحة، كما يغلب بين أبناء البادية، فسبح عمرو حتى نجا وسمع عمارة وهو يقول له غير آبه بحقده عليه: أما والله لو علمت يا عمرو أنك تحسن السباحة ما فعلت! فإذا هو قد جمع سوء النية بحياته إلى سوء النية بعرضه ومع هذا كله كظم عمرو ما بنفسه، وظل يصانعه حتى تمكن من الكيد له عند النجاشي، فأرسله في العراء مخبولا يعيش في الغربة عيش الأوابد حتى مات ...!
واشترك عمرو وأخوه هشام في حرب الشام، وأخوه هذا من علم الناس في الصلاح وصدق البلاء، فإذا ثلمة في الطريق يتخطف المدافعون من يهجم عليها بالسيوف، فهابها العرب وأحجموا عنها وطال ترددهم لديها، فإذا هشام يقدم عليها وهو ينادي في الجيش: يا معشر المسلمين إلي إلي! أنا هشام بن العاص! أمن الجنة تفرون؟ وما زال يتقدم حتى خر قتيلا متعرضا في تلك الثلمة المرهوبة، فلما انتهى المسلمون إليها هابوا أن يدوسوه كرامة له ولأخيه، فكان عمرو أول من تقدم فداسه وهو يصيح بجنده: أيها الناس إن الله قد استشهده ورفع روحه، وإنما هي جثة ثم أوطأه وتبعه الناس، حتى تقطع وهو مشغول عنه بما هو أجدى وأعظم، فلما انتهت الهزيمة عاد إليه وجعل يجمع لحمه وأعضاءه وعظامه بيديه ثم حمله في نطع فواراه ...!
وبرز علي بن أبي طالب يوما في حومة صفين وقد طال أمد القتال، فقال: يا معاوية! علام يقتتل الناس؟! ابرز إلي أو أبرز إليك، فيكون الأمر لمن غلب، وجاء في روايات شائعة أن عمرا قال لمعاوية يومئذ: والله لقد أنصفك الرجل ...! فظن معاوية أنه يغرر به ويدفع به إلى هلاكه طمعا في دولته؛ فأقسم عليه ليخرجن للمبارزة التي أغراه بها، فلما غشيه علي بالسيف رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له سوءته، فضرب على وجه فرسه وانصرف عنه.
وكل هذه أخبار متوافقة يخيل إليك أنك ترى ابن العاص وهو يفعلها ويروض وقائعها رياضة الرجل الذي يعتز بقدرته على هواه، وكأنه يأنف لدهائه أن يغتر بنزوات الساعة كما يغتر بها سائر الناس، وكلها تعبر عن خليقة لا شك في صدقها عند ابن العاص، وإن تمارى الناس في صدق الروايات، ونعني بها خليقة النظرة العملية وغلبة العقل على الشعور.
ولا شك أن استحضار هذا «الخلق العملي» لازم جدا للمؤرخ في كل خطوة يخطوها مع عمرو بن العاص في أحواله الفردية أو أحواله العامة؛ لأنه سرى من مزاجه إلى سياسته وطريقة التفاهم بينه وبين الناس، سواء كانوا من الزملاء أو الرعية أو الأعداء، وقلما تظهر الطريقة التي يقتنع بها الرجل من شيء كما تظهر من الطريقة التي يقنع بها الآخرين.
انظر مثلا إلى الفرق بينه وبين عبادة بن الصامت في إقناع عظماء القبط ببقاء العرب في مصر، وأنهم لن يتركوها وقد دخلوها، ولن يرجعوا عن فتحها جميعا لا لرغبة في رشوة ولا لرهبة من قوة.
فإن عبادة بن الصامت لم يزد على أن احتقر الدنيا حين خوف المقوقس عاقبة الإيغال في بلده، فكان توكيد حب الآخرة هو فحوى كلامه حين قال: إن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعه لليله ونهاره، وشملة يلتحفها فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله واقتصر على هذا الذي بيده؛ إنما النعيم والرخاء في الآخرة وبذلك أمرنا الله وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضوانه وجهاد عدوه.
أما عمرو فإنه وقف مثل هذا الموقف فلجأ إلى الطعام؛ ليقنع عظماء القبط بأن العرب غير تاركي مصر وقد دخلوها. «أمر - كما جاء في الطبري - بجزر فذبحت، فطبخت بالماء والملح وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا وأعلموا أصحابهم، وجلس وأذن لأهل مصر، وجيء باللحم والمرق فطافوا به على المسلمين، فأكلوا أكلا عربيا: انتشلوا وحسوا وهم في العباء ولا سلاح، فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعا وجرأة، ثم بعث في أمراء الجنود في الحضور بأصحابهم من الغد، وأمرهم أن يجيئوا في ثياب أهل مصر وأحذيتهم وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك ففعلوا، وأذن لأهل مصر فرأوا شيئا غير ما رأوا بالأمس، وقام عليهم القوام بألوان مصر فأكلوا أكل أهل مصر ونحوا نحوهم، فافترقوا وقد ارتابوا وقالوا: كدنا، وبعث إليهم - أي إلى أمراء الجنود - أن تسلحوا للعرض غدا وغدا على العرض، وأذن لهم فعرضهم عليهم ثم قال: إني قد علمت أنكم رأيتم في أنفسكم أنكم في شيء حين رأيتم افتقار العرب وهون تزجيتهم، فخشيت أن تهلكوا فأحببت أن أريكم حالهم وكيف كانت في أرضهم، ثم حالهم في أرضكم ثم حالهم في الحرب فظفروا بكم، وذلك عيشهم وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها ما رأيتم في اليوم الثاني، فأحببت أن تعلموا أن من رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني وراجع إلى عيش اليوم الأول ...»
وإن هذا الضرب من البراهين لقائم عنده أبدا لا يأتي عرضا في حادث من الحوادث ثم ينقضي بانقضائه، وكثيرا ما ذكر الطعام وهو يلجأ إلى الإقناع، فكان من كلامه: «أكثروا الطعام، فوالله ما بطن قوم قط إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضيت عزمة رجل بات بطينا!»
بل هو يقوم الأخلاق والفضائل بقيمتها العملية وفائدتها الملموسة، فالعدل مثلا فضيلة جميلة محبوبة، ولكنها عند عمرو محبوبة؛ لأنها سياسة حسنة لتوفير المال كما قال: «لا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل.»
صفحة غير معروفة