فلما بعث به النبي - عليه السلام - إلى غزوة ذات السلاسل، أرسل في طلب المدد فجأءه المدد من المهاجرين، وفيهم أبو بكر وعمر وعليهم أبو عبيدة بن الجراح أمير، فقال عمرو: أنا أميركم وأنا أرسلت إلى رسول الله أستمده بكم، فأنف المهاجرون أن يؤمروه وفيهم من فيهم من جلة الصحابة، وقالوا: بل أنت أمير أصحابك وأبو عبيدة أميرنا ... قال عمرو: إنما أنتم مدد أمددت بكم ...
وأشفق أبو عبيدة أن يتخاذلوا وهم على أهبة الحرب، فقال له: تعلم يا عمرو أن آخر ما عهد إلى رسول الله أن قال: «إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا.» وإنك إن عصيتني لأطيعنك، قال عمرو: إذن أنا أعصيك، قال أبو عبيدة: وأنا أطيعك.
وعاد إلى منازعة أبي عبيدة الرئاسة والإمارة يوم أقدم أبو بكر - رضي الله عنه - على فتح الشام، فسعى عند عمر ليقنع الخليفة بتأميره على الألوية جميعا، وكان يوشك أن يفلح في مسعاه لولا إكبار عمر لأبي عبيدة، حتى لقد هم بمبايعته بعد النبي - عليه السلام - قال: إنه ليستخلفنه بعده لو عاش.
وقد كان حب المال يملؤه ويتمكن منه حتى لم يبال أن يخفيه، ولم يزل يتكلم - كلما دعاه داعي الكلام - بما يكشفه وينم عليه.
سأله معاوية وقد شاخا وبطلت لذات الشباب عندهما: ما بقي من لذة الدنيا تلذه؟ قال: محادثة أهل العلم وخبر صالح يأتيني من ضيعتي.
وفي حديث آخر أنه دخل يوما على معاوية، وقد كبر ودق ومعه مولاه وردان، فتذاكرا الأيام واستطرد عمرو سائلا: يا أمير المؤمنين ما بقي مما تستلذه؟ قال معاوية : «أما النساء فلا أرب لي فيهن، وأما الثياب فقد لبست منها حتى وهى بها جلدي، فما أدري أيها ألين، وأما الطعام فقد أكلت من لبنه وطيبه حتى ما أدري أيه ألذ وأطيب، وأما الطيب فقد دخل خياشيمي منه حتى ما أدري أيه أطيب ... فما شيء ألذ عندي من شراب بارد في يوم صائف، ومن أن أنظر إلى بني وبني بني يدورون حولي ... فما بقي منك يا عمرو؟!» فقال: «مال أغرسه فأصيب من ثمرته وغلته!»
وقد اشتهر منه هذا الحب للمال حتى عرضه لظنون الخلفاء واحدا بعد واحد؛ فقاسمه عمر ماله، وعزله عثمان من ولاية مصر وهو يحسب أنه قد استأثر بخراجها دون بيت المال، وقال له معاوية يوما وهو يذكر له الحساب والعقاب والأوزار التي يثقل بها ميزان السيئات: هل رأيت بينها شيئا من دنانير مصر؟
ومن ثم تسابق الرواة في تقويم ثروته يوم وفاته، فاعتدل صاحب «مروج الذهب» في وصفها بعض الاعتدال، وبالغ صاحب «حياة الحيوان» فقال: إنه خلف «سبعين بهارا دنانير» والبهار من جلد الثيران، قيل: إنه يسع أردبين!
ولقد كان النبي - عليه السلام - أدرى الناس بهذه الصفة في عمرو بن العاص قبل أن يعرفه المسلمون أو المشركون بطول المراس وتعاقب الأعمال والمساعي وتفتق المطامع والآمال، فولاه الإمارة في غزوة ذات السلاسل، وقال له وهو يعرضها عليه: «إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك، وأزعب لك من المال زعبة صالحة.»
1
صفحة غير معروفة