وإن نسية من هذه النسيات التي يتقنها الشيخ أحمد لكافية لتوديعه مدى الحياة، لولا أمانة عزيزة تشفع له وإخلاص وثيق يزكيه، وطول خدمة مذكورة تكافئ هذه النسيات.
التسلية في السجن
لو تمت «تعليمات» السجن بحرفها في معاملتنا نحن المحكوم علينا في قضايا النشر والصحافة، لكان معنى ذلك أنني قضيت تسعة شهور صامتا لا أنبس بكلمة واحدة، إلا أن تكون هذه الكلمة سؤالا أو جوابا لموظف من موظفي السجن في عمل من أعماله الرسمية، ثم ألوذ بالصمت «البوذي» الطويل عاكفا عليه ليلي ونهاري بلا صلاة ولا قربان!
لأن إدارة السجن أوصدت على كل مسجون في قضية صحفية أو قضية من قضايا النشر باب حجرة منفردة.
وأمرت أن ينفرد كل منا في أوقات الرياضة فلا نتلاقى بمكان واحد، ولا يمر أحد منا على حجرة الآخر.
بل أمرت أن يكون ذهاب كل منا إلى المستشفى لمقابلة الطبيب أو اللجنة الطبية في موعد غير موعد زملائه.
وعلى هذا كنا في «سجن انفرادي» كالذي يعاقبون به السجناء الأشقياء، ونحن لا ندري ولا إدارة السجن تدري، وكنا أسوأ حالا من شرار المجرمين؛ لأنهم يجتمعون في ساعة الرياضة عشرات عشرات، ويجتمعون في المصنع بضع ساعات، ويجتمعون في حجرة النوم خمسة خمسة أو عشرة عشرة أو عشرين عشرين حسب اتساع الحجرات.
وهذه نقيضة أخرى من نقائض السجن وأعاجيبه، وهو كمصر في رأي هيرودوت موطن النقائض والأعاجيب.
ومهما يكن من زهادة الإنسان في اللغو والكلام، وفي إخلاده إلى العزلة والسكون فليس السكوت تسعة شهور بالأمر المعقول ولا بالأمر الهين، وأي سكوت؟ إنه السكوت لغير عبادة يتعزى العابد بسلامها وثوابها، وإنه السكوت مع الفراغ من العمل، ومن النظر إلى الدنيا، ومن ضروب السلوة جميعها إلا القراءة ومراقبة النمل على الجدران!
لقد كنا نرى بعض المحبوسين من الموسرين القادرين على استئجار الحجرات المفروشة أثناء التحقيق يهجرون تلك الحجرات لانفرادها وعزلتها، ليشتركوا مع غيرهم في حجرة واحدة ينامون فيها على الأرض بغير فراش إلا الحصير من الليف الخشن، ويعملون بأيديهم في تنظيف الأرض وغسل الآنية كل صباح ويؤثرون ذلك على السرير وحشايا القطن، والراحة من الخدمة وامتهان النفس في الغسل والتنظيف؛ لأنهم يستطيعون الكلام هنا بغير عقوبة، ولكنهم يعاقبون إذا سمعهم الحارس يكلمون جارا لهم من النافذة أو فتحات الباب حين ينفردون في حجرة معزولة.
صفحة غير معروفة