هذه أمثلة يعرف إخواننا الذين خبروا الشيخ أحمد نظائر من طرازها البديع، والظريف في أمره بعد ذلك أنه جاءني يوما يستأذن في «إجازة» شهر للسفر إلى البلد على غير عادة.
فسألته: وفيم هذا السفر الغريب؟
قال: يا أستاذ، إنهم يوزعون الآن تعويضات الخزان، وأقاربي وأهل البلد يخشون الغبن وخطأ الحساب، فأرسلوا يستقدمونني ويلحون علي في شهود التوزيع.
قلت: ومن لها غيرك يا شيخ أحمد؟ سافر على بركة الله، كان الله في عون البلد الذي أنت هاديه، وألبق من فيه. •••
والشيخ أحمد كما علم القارئ ليس بسجان ولا موظف في السجن ولا زميل فيه، فما الذي زج به في هذا المأزق المكروه؟
الذي زج به فيه أننا تركنا له البيت وحده وأنا وأخي يوم كنا كلانا معتقلين، وقد ظل عمدتي الوحيد في كل ما له علاقة بتدبير شيء في المنزل، أو إحضار شيء منه حتى انتهت الشهور التسعة، ولا حاجة بي إلى أن أقول: إنه لم يقلع خلالها عن ذكائه البارع ولا عن تزويدنا بالأعاجيب من «وحائده» وأفانينه.
فقد استطاع الشيخ أحمد بذكائه الثاقب وتجربته السنين الطويلة أن يعلم أنني أتناول الغداء نحو الساعة الثانية، ولا أغير هذا الموعد إلا لسبب عارض، ولكنه لم يستطع أن يعلم أن مواعيد السجن غير مواعيد البيت، ولم يستطع أن يصدق السجانين حين قالوا له: إن الساعة الثانية عشرة هي موعد الغداء عندهم؛ لأنه لا يصدق إلا ما يسمعه من الأستاذ!
وتعبوا في إقناعه بغير جدوى، وعالجوا إفهامه أن «العنبر» يقفل عند الظهيرة وأن الموظفين المنوط بهم رقابة السجن ينصرفون في هذه الساعة، وهو لا يفهم ولا يزيدهم على أن يقول: «إن الأستاذ لم يتناول غداءه قط في الساعة الثانية عشرة، وقولوا ما شئتم، فأنا لا أصدق لكم كلاما حتى أسمع من لسانه!» وهيهات ذلك إلا بإذن وموعد زيارة وكتابات وردود.
وكان السجانون قد عرفوا الشيخ أحمد، وخبروا منهاجه في فهم الأمور، فولعوا بعناده واستثارته، وأنذروه يوما لئن لم يحضر غدا قبل الساعة الثانية عشرة ليدخلنه السجن ولا يخرجن منه بعد ذلك أبدا.
ولم يحفل الشيخ أحمد بوعيدهم ولم يتقدم لحظة عن الموعد الذي اختاره لحضوره. فلما دق الباب كان السجانون على أهبة القبض عليه، واتفق ثلاثة منهم على استدراجه وجذبه إلى داخل الباب، فأخذوا بيديه وشدوا عليه وهو يستعيذ بالله ويقاوم بقوة الجبارين وقوة الخائفين ثلاثة رجال ليسوا بالضعاف ولا بالهينين.
صفحة غير معروفة