وعلى هذا لا بد من البقاء حيث أنا، أو الانتقال إلى إحدى الغرفتين الواسعتين في المستشفى للإقامة هنالك مع جمهرة من المرضى قد تبلغ العشرين.
فبقيت حيث أنا عدة أيام، وبقى الزكام يتقدم ويتقدم حتى احتبست الأنفاس وامتنع النوم وعيف الطعام وهبط وزن الجسم بضعة أرطال، ولم يبد من الظواهر ما يدل على تحسين قريب في الحجرة الأرضية المحسوبة من المستشفى، وهي معزولة عنه بحراس وأشداد.
لقد رأيت ذلك المستشفى - أي رأيت ساحة الرضوان بعيني - مرات في خلال زيارة الطبيب، ولكني لم أطمح إليه ولم أزل أتوقاه وأتحاماه، فلما طال الأمر وخيفت العاقبة ألا تجرب ساحة الرضوان مع المجربين؟ ألا تفتأ على زهدك في هذا الرجاء الموعود وفي كل رجاء عند القوم موعود؟
وجئتهم صباح يوم لم أنم في ليلته لحظة واحدة فأنبأتهم أنني أوثر غرفة المستشفى الواسعة بين أشتات المرضى على البقاء في هذه الحجرة المسقمة، فلما كان العصر جاء الإذن بالانتقال فانتقلت إلى غرفة المجروحين والمكسورين ومعي بعض الصحف والكتب والعقاقير والقوارير، وانقضت الساعات الأولى على ما يرام: نظرت من النافذة التي كان سريري يقابلها فإذا بي أرى ميدان القلعة والناس يذهبون فيه ويجيئون والمركبات تروح فيه ذات الشمال وذات اليمين، وهذه سعة - ولو نظرية - لا يشعر بها السجين بين حجرات العنابر الأرضية، فغالطت نفسي قليلا وقلت خير!
وهبط المساء فأضاءت المصابيح الضئيلة واستطعت أن أقضي هنيهة في قراءة الصحف المسائية، ولم أكن أستطيع ذلك في الحجرة الأرضية قبل إدخال النور إليها، فغالطت نفسي مرة أخرى وقلت خير، ولعله خيران!
وسكن ليل السجن إلا أصداء من الطريق فاستوى كل مريض على سريره، وأخذوا في السمر الطريف، وأي سمر طريف؟! هذا مدمن مخدرات قبضوا عليه وأودعوه سجن الاستئناف ريثما يفرغون من تحقيق أمره فألقى بنفسه من الدور الثاني إلى الأرض هربا من الدنيا التي يحرم فيها بلاء المخدرات! وهذا مدمن آخر يصف كيف يعالجونه من دائه بنقل الدم من جسمه إلى جسمه؛ لأن دمه لا يزال كالسم المخدر إذا سرى إليه أغناه عن الجرعة المشتهاة، وهذا يذكر أيامه في سجن طرة الكبير بين القتلة وقطاع الطريق وهو لا يخلو في ذكرياته من ازدراء حاضره والحنين إلى ماضيه، وهذا يتحدث بما عاناه في دخول المستشفى من العنت والبلاء، وبين ذلك كله جريح يئن وآخر يقضي ضروراته على مشهد ممن حوله، وآخر يستدعي صاحبه ليعينه على قضاء ضروراته عجزا منه عن القيام والحركة، وقس على ذلك ما عداه.
وكانت النوافذ مفتوحة في ساعات المساء الأولى، فلما أغلقت واحدة بعد أخرى فشت روائح الدواء، وما هو شر من الدواء في الغرفة المغلقة، وزاد الكرب حين هدأت الأصوات وخيم السكون فلم يكن يقطعه إلا أنين مقلق أو زفير مختنق من بعض أولئك المساكين، وإلا دقات الساعة الكبرى في مسجد القلعة، تتزايد في عدتها على الحساب العربي كأنها تستحث الليل الراكد الثقيل. •••
وجعلت أصابر الوقت لحظة بعد لحظة ولا سبيل إلى الإغفاء، وكلما ابتدأ نصف ساعة قلت سأنام قبل انتهائه وهو ينتهي وينتهي ما بعده ولا اختلاف بين الأنصاف ولا الساعات، وكنت أحصي الوقت على الحساب الإفرنجي بظهور الممرض صاحب النوبة وهو يفتح الباب كل نصف ساعة ويتسلل إلى آخر الغرفة ليدير مرصد الساعة الذي يسجل له مثابرته على السهر طول الليل، ومضيت أشغل الوقت خلال هذه الفترات بفكرة واحدة لا تتبدل وهي: هل من فائدة للانتظار؟ وهل أرجو أن أستقر في هذه الغرفة أياما وشهورا وتلك حالتها بضع ساعات؟ ثم انقضت الساعة الثانية فطاولت نفسي إلى الثالثة في انتظار نوم نافر لبثت أنتظره ليالي متعاقبات، وشعرت بمضض انتظاره تلك الليلة في كل لحظة لما خامرني من خيبة الأمل وما أحاط بي من التنغيص والإيذاء، فلما كانت الساعة الثالثة بلغ الصبر غاية مداه، ولما انتصفت الرابعة بادرت الممرض وهو يفتح الباب، وطلبت إليه أن يدعو ضابط الحراسة تلك الليلة، فتردد قليلا ثم لم ألبث أن سمعت قرقعة المفاتيح في هبوطه على السلم وصعوده بعد فترة ومعه ضابط الحراسة.
سألني الضابط مستغربا: ماذا جرى؟
قلت: لا شيء إلا أنني لا أطيق المكث بهذا المكان، ولا بد لي من العودة إلى الحجرة أو المبيت في أي مكان غير المستشفى.
صفحة غير معروفة