فاضطرب صاحبه، وقال: «قسمة ونصيب ... وكل هذا من أجل نفسين لا طلعا ولا نزلا.»
ثم التفت نحوي كالمستغيث سائلا: أصحيح أن الحكاية فيها خمس سنوات؟
قلت: لا أظن.
فنظر إلي الأول نظرة يتنازعها ادعاء العلم بأحوال السجون ولهفة الخلاص، وقال لي كأنه يتحدى ويستزيد من الاطمئنان في وقت واحد: وكيف هذا وقد رأيت بعيني جماعة عوقبوا بالسجن خمس سنوات لأنهم زيفوا النقود؟
فطاب لي أن أداعب مهارة هذين الشيطانين وأخذت أشرح لهما ما أعتقد من الفارق بين التزييف في الخارج والتزييف في داخل السجن، وقلت لهما: إن المزيف في الخارج يختلس حق الحكومة وحق الناس، ولكن المزيف هنا يختلس ما هو مختلس بطبيعته ومستحق للمصادرة عند ضبطه، وليس على هذا عقوبة أكثر من عشرين أو ثلاثين جلدة، وأيام أو أسابيع من سجن الانفراد والخبز القفار.
قال: لتكن مائة جلدة، وانطلق يدعو لي بالطمأنينة وارتقاء المراتب والصحة والعافية وكل شيء ...
قلت: هداك الله يا صاح، ولكن هذه الدعوات الصالحات هل تراها «عملة صحيحة» عند صيارفة السماء؟!
القراءة
يسمح النظام في «قره ميدان» بالقراءة للمحجوزين على ذمة التحقيق والمحكوم عليهم بالحبس البسيط، وتنحصر القراءة المسموح بها في الكتب الدينية والعلمية والأدبية التي «لا تخل بالنظام» ما عدا الروايات وكتب التسلية، ويرجع الأمر في التفريق بين ما هو جائز من المقروءات وما هو محظور إلى رأي الموظف «الكتابي» الذي يتفق وجوده ساعة وصول الكتاب؛ لأن الموظفين العسكريين يترفعون عن الخوض في هذه المسائل «الملكية» ولا يشعرون بغضاضة على أنفسهم من إلقائها على كاهل حملة الأقلام، ولكن ما الحكم في اللغات التي لا يعرفها الموظف الحاضر؟ وما الحكم في الروايات التي هي من صميم الأدب؟ وما الحكم في الكتب التي لا يلوح عليها أنها روايات إلا لمن قرأها وأحاط بتراجم أصحابها؟ وما الحكم فيما يخالف النظام من التصانيف إذا كان المراقب الفاضل لم يسمع قط باسم كارل ماركس ولا كروبتكين، ولا مانع عنده من إجازة كل تأليف لإخوان هذا الطراز؟
الحكم في ذلك كله للمصادفة والمزاج، فكثيرا ما يتوغل في السجن من أجل هذا كتاب يقشعر له بدن النظام الاجتماعي وكل نظام في الوجود، وكثيرا ما ينتظر الكتاب الإذن بعبور الجدران أياما وأسابيع حتى يرسل إلى الإدارة العامة ويعثر هناك على من يعرف الألمانية أو الأوردية أو الأرمنية وما شابهها إذا كان مكتوبا بإحدى هذه اللغات.
صفحة غير معروفة