وفي هذه الأثناء بدأت أشعر بقشعريرة الرطوبة التي ينضح بها الأسفلت في أرض العنبر وسقوفه، ثم فرغ السجان وصاحب النوبة الموكل بحجرتي من إعداد سريرها وأدواتها ولوازمها، فألقيت نظرة على الغطاء الذي سيغنيني عن غطائي فلم أطمئن إليه كثيرا، ولكني قلت: لا بأس بالتجربة هذه الليلة، وبقيت متوجسا من هذه النافذة المفتوحة على رأسي يندفع منها الهواء طول ليل الخريف، فما العمل فيها؟
قال دليلي أو «فرجيلي» علي أفندي شاهين: «لا عليك من هذه النافذة! فسترى كيف نعالج خطبها.» والتفت إلى صاحب النوبة فأوصاه أن يسدها بالحصيرة المفروشة على أرض الحجرة كما يصنع في حجرته هو، ففعل صاحب النوبة توا ليريني كيف يحكم هذه الصناعة، وضحك شاهين أفندي ضحك العلم والمعرفة وهو يقول لي: «احمد الله على أنهم لم يختاروا لك سجن الاستئناف، فهناك النافذة أربعة أضعاف النافذة هنا ولا أمل في سدها بحال من الأحوال، فضلا عن الظلام المطبق من الصباح إلى المساء.»
قلت: «الحمد لله!»
وهبط ظلام الليل شيئا فشيئا، وعاد المسجونون قبل ذلك أفواجا إلى الحجرات، وتعالت بينهم ضجة كضجة السوق في يوم زحام، ثم توالى إغلاق الأبواب وإدارة المفاتيح في الأقفال، ثم بدأ «التتميم» أو المراجعة حجرة حجرة: كم يا ولد؟ عشرة!
كم يا ولد؟ أربعة ... وهكذا إلى نهاية الدور، وفي كل عنبر أربعة أدوار، ولن يبرح السجان دوره حتى يستوثق من مطابقة العدد الموجود للعدد المكتوب في سجله المعلق عند الباب.
وازدادت الضجة بعد انتهاء المراجعة فلم يكن للسامع أن يسمع إلا أسماء تتقاذف بها أفواه رجال ونساء، وصرخات وأهازيج وشتائم هي عندهم في منزلة التحيات المباركات! ثم سكنت الضجة بعض الشيء وتبين من هنا وهناك نداء مفهوم، وشرع اثنان في قافية من القوافي المعروفة في محافل الأعراس والموالد المصرية، وكأنهما علما بمقدم الصحفي الطارئ على السجن في تلك الليلة فجعلا للصحافة قسما من هذه المساجلات المحفوظة: الأولاد تنادي وراك وتقول: إيش معنى؟ - المؤيد! المؤيد ... وهو يعني «المقيد». ••• - فوق رأسك يا معلم علي. - إيش معنى؟ - المقطم!
وهذه حقيقة واقعة وليست بمجاز! لأن بناء السجن واقع في حضن جبل المقطم. ••• - الرغيف في سقف بيتكم. - إيش معنى؟ - كوكب! ••• - تطلع من هنا تقابلك في البيت. - إيش معنى؟ - الحمارة!
وقس على ذلك ما يقال، وما يسمع كرها ولا يقال.
أما أنا فقد أظلمت الحجرة عندي ظلامين؛ لأن النافذة المغلقة حجبت كل ضياء يتسلل إلى الحجرات من فناء السجن المنار بنوره الضئيل، فلم أستطع أن أعرف مكان الكوب ولا سلة الطعام في ذلك الظلام، ولبثت أسمع الأصوات تخفت وتخفت حتى انقطعت أو كادت في نحو الساعة التاسعة كما أنبأتني الساعة العربية التي تدق في مسجد القلعة، ولم يبق من مسموع إلا وقع أقدام الحراس على البلاط، وإلا صيحاتهم كل نصف ساعة يطيلونها ويتنافسون في إطالتها، فذكرتني مبيت ليلة على حدود الصحراء، أسمع فيها صياح الذئاب.
التهريب
صفحة غير معروفة