الفصل الحادي عشر
شعب يلهو
كانت الستائر مسدلة على نوافذ القصور في بركة الرطلي، وإن أنوار المصابيح لتنفذ من ورائها فتترامى على سطح الماء في الخليج الحاكمي، وقد هبت نسمات الليل على صفحة الماء، وتكسرت عليها الأشعة، كأنها سطور مكتوبة يقرأ منها كل ذي عينين نجوى خواطره ...
وعلى شاطئ الخليج سرادق منصوب قد أقيمت في صدره دكة عالية، جلس عليها جوقة من مشاهير أهل الغناء والموسيقى، بين عازف عود، وضارب دف، ونافخ شبابة، فيهم علي بن رحاب صاحب التلاحين المشهورة والأغاني الساحرة، وفيهم هيفاء اللذيذة مغنية السلاطين، وفيهم علي بن غانم الطنبوري، وأنعام الخاصكية معلمة الغناء في قصر السلطان قايتباي ... ولم تتخلف عن المجلس عزيزة بنت السطحي كبيرة مغنيات القاهرة لذلك العهد، وإن كانت قد هجرت الغناء منذ بعيد ...
واصطف الناس جلوسا على الحشايا والأرائك محتبين أو متكئين على النمارق، قد غص بهم السرادق على سعته، حتى ليس فيه مقعد لقادم جديد أو طريق لعابر ...
وعلى الأريكة القريبة من دكة المغنين، جلس طائفة من أمراء المماليك يتوسطهم طومان ابن أخي الغوري، قد فرعهم طولا، وبهرهم جمالا وسماحة، وأشرقت على شفتيه ابتسامة راضية تشيع فيما حواليه البشر والاطمئنان.
وعلى مقربة من مجلس هؤلاء الأمراء، جلس جماعة من وجهاء القاهريين وظرفائهم، فيهم الشاعر الماجن جمال الدين السلموني، والخطيب الظريف بدر الدين بن جمعة شيخ قبة يشبك، وفيهم المهذار العياب سباب الأنام تقي الدين بن محمود الشاهد بالمدرسة الصالحية، وفيهم المؤذن المغني المزواج المطلاق شهاب الدين المحلاوي الذي جاوز عدد مطلقاته تسعا وتسعين، ولم يزل عزبا يبحث عن زوجة يبلغ بها عدد مطلقاته المائة ... وقد اكتنف هذه الجماعة عن اليمين وعن الشمال، رجلان قد بلغا من دمامة الخلقة وبشاعة المنظر الحد الذي يوشك أن يخرجهما عن حقيقة الآدمية: أحدهما أرقم المسيخ - خادم خلوة الشيخ أبي السعود الجارحي - والآخر معين الدين بن شمس نائب وكيل بيت المال ... وكأنما أرادت هذه الجماعة من القاهريين الظرفاء أن يكتنف مجلسهم هذان الدميمان؛ ليكونا وقاية لهم من شر حاسد إذا حسد.
وتهيأت الجوقة للغناء، وأرهف الناس آذانهم يسمعون، وأزيحت الأستار عن شرفات البيوت المطلة على الخليج، وبرزت من خلالها وجوه قد نضرتها النعمة، وانبسط الضوء على سطح الماء، وتكاثرت عليه الظلال الراقصة، وغنى علي بن رحاب فأطرب وأعجب، وجاوبه أصحابه وصواحبه عزفا على العود، أو نقرا على الدف، أو صفيرا على الشبابة، وتردد الصدى من بعيد إلى بعيد ... وهو ينشد:
مولاي خذ لي أمانا
من لحظ طرفك
صفحة غير معروفة