ومهما يكن من الأمر فإن حالة كهذه لا يدركها المرء إلا بعد أن يلقى صعوبات لا بد من تذليلها؛ حتى يصل إلى نشدانه، هنالك لا يبلغ هذه الدرجة مريد إلا بعد أن تبلغ روحه درجة النقاء.
إذن فلا يمكن لمخلوق - مهما كان - أن يصل إلا بعد بذل جهد شديد، وإنما من مقدمة برهان وجوده تعالى نستطيع أن نستدل على صفات ضرورية فيه لا يمكن بغيرها أن يكون إلها، وهذه مسألة من أعظم المسائل الدينية، نقول: وأهم هذه الصفات وألزمها أنه سبحانه وتعالى أحد أزلي، غير مادي، ممتنع التغير، ضابط الكل، غير متناه في الوجود والعدل وسائر الكمالات.
وإنما يقصر عقل الإنسان ويكون فوق قدرته أن يدرك عدم تناهي الله، وليس لذلك من سبب إلا تأخره العقلي والأدبي، فيتصور المولى - جلت قدرته - محدودا، ويتصور له صورا متشابهة له، ويتصوره جالسا على عرش رفيع في أعلى السماوات لا يليق به التدخل في أمور صغيرة حقيرة.
قالوا: فلنتصور سيالا في منتهى الدقة واللطافة ينفذ إلى الأجسام والكائنات بأسرها كما ينفذ الجسم الروحاني في الجسد الهيولاني في كل أجزائه، على أن الجسم الروحاني ليس في ذاته عاقلا، بل هو موصل لأفكار الروح والعامل الناقل لإحساسها وإدراكها، فمادته السيالة تتشرب على نوع القول فكر الروح، فتصير معه واحدا كما يصير الهواء مع الصوت واحدا، قالوا: فكما نقول مجازا: دوي الهواء، وهزيج الريح، هكذا يسوغ لنا بطريق المجاز أن ننسب للمعلول ما للعلة، فنقول عن السيال الروحاني: إنه عاقل، والسيال الروحاني هذا بذاته لا يعقل، وإنما يعقل بسبب وعلة أخرى.
قالوا: إن أعيننا الجسدية محدودة في شعورها وكثير من العوامل المادية تفوتها، وإنا مثلا نرى مفاعيل الوباء، ولا يمكن لنا أن نبصر العامل الذي ينقله، مع أننا نؤمن بوجوده ونحس بفعله، ونشاهد الأجرام الفلكية تسير بقوة الجاذبية ولا نرى بأعيننا ولا بنظاراتنا المكبرة هذه القوة، أما الأشياء الروحية فلا يمكن أن نراها إلا بأعين النفس، هنالك الرقي الكمالي، وهنالك نرى الحقيقة. قالوا: مثل ذلك كإنسان مستقر في واد عميق، يكتنفه ضباب من كل جانب، فلا يرى الشمس، وإنما يتحقق وجودها من انتشار بعض النور حوله، فإذا طفق يصعد في الجبل ازداد النور حوله وضوحا على قدر ارتقائه، ومتى تعالى فوق الضباب الكثيف، وبلغ الهواء النقي أبصر الشمس في كل جلائها، هكذا فإن النفس كساؤها الروحاني ولئن كان خفيا عن نظرنا لتناهي لطافته إلا أنه في نظر النفس مادة غليظة، تعوقها عن شعور كثير، فهذا الكساء يزداد دقة ولطافة على قدر ترقي الروح الأدبي؛ لأن نقائص النفس كطبقات ضبابية تحجب نظرها عن رؤية النور. أما الأرواح الناقصة فلا تشاهد الله؛ لأنها محجوبة عن رؤيته بنقص الاستعداد فيها لذلك.
الخير والشر
يقول فيلسوف اليونان الكبير أرسطو: «ليس في العالم شيء هو خير بذاته، ولا شيء هو شر بذاته، بل بالوضع، وقد ينقلب الخير شرا، والشر خيرا، فلا تكون هنالك حقيقة.»
نقول: فالرأي عنده أن الخير والشر نسبيان، وأن كل واحد منهما إنما يعتبر خيرا أو شرا بالنسبة للمكان وللزمان والأحوال التي تحوطه، وليس هذا ببالغ بنا إلى ما نصبو إليه، وإنما نحن نريد أن نتمشى مع أصحاب المذهب المادي في القول بالخير والشر والثواب والعقاب، وفي الكلام على المسئولية وتوقيع العقوبة، فنقول إنهم يتساءلون: إذا كان الشر نتيجة نقائص في الإنسان، فلماذا خلقه الله ناقصا؟ أما كان في وسعه - جلت قدرته - أن يبدعه كاملا، فينتفي بذلك الشر، وينمحي وجوده من على الأرض؟
ونقول: ليس بغريب ولا بعيد أن نسمي الشر عدم الخير، فنقول إن عدم وجود الخير إنما هو وجود للشر، وامتناع الخير من مكان إنما هو إطلاق لدواعي الشر، كما نطلق مثلا البرد على عدم وجود الحرارة، فإذا وجدت الحرارة انعدمت البرودة.
والله هو الخير المحض، فهو لا يريد إلا الخير، أما الشر فمصدره الإنسان، قالوا: ولماذا لا يكون الشر أثرا من آثار الطبيعة، ونتيجة لازمة لها؟ قلنا: وهذا بعيد غير معقول ولا مقبول؛ لأنه لو كان الشر من نتائج الطبيعة لما أمكن الإنسان - مهما حاول - أن يتجنبه ونحن نعلم - علم اليقين - أن الإنسان بما فيه من مواهب واستعدادات يستطيع أن يحول الشر ويتفاداه ويقاومه، ويجد له مخرجا ومفازة للنجاة من هلكته.
صفحة غير معروفة