قال: وما بال الأمير «آشيم» لا يصل مع أن الذي نعلمه أن الأمير برح منفيس أول أمس والمسافة بينها وبين العاصمة لا تحتاج إلى أطول من هذه المدة؟ قال: إن أخي يريد ليجعل يوم قدومه موافقا ليوم صدور حكمنا في قضية «رادريس». فإن كان الحكم الإدانة اغتنم الفرصة ليستوهب الملك العفو عنه، لمناسبة تشريف عذراء الهند لعاصمة البلاد، وإن كان البراءة كان ذلك زيادة في رونق اليوم وبهائه. قال: نعم الرأي، وإنها لأريحية جدير بها مولانا الأمير «آشيم»، وهل حقيقي يا مولاي أن جلالة الملك عهد إلى سعادتك رئاسة المجلس الأعلى، الذي ينظر في هذه القضية؟
قال: نعم. قال: إن «رادريس» إذن لسعيد. قال: إلى هذا الحد فلتقف أسئلتك يا «منحب»، فورأس أبي لن يكون «رادريس» بين يدي على علو مكانته إلا كبعض الناس، حتى تنطلق قوانين «رمسيس»، فإن قالت بإدانته عوقب لا محالة، وإن فاهت ببراءته برئ. ثم لقي من مساعداتي ومساعفاتي ما ينسيه ما كان من سجن وهوان. قال: وهذه أيضا أريحية أنت بها يا مولاي خليق. ثم أمسك الصاحب عن هذا الموضوع وطرق غيره فقال: ماذا تم يا مولاي في مشروع إنشاء المدارس الحرة؟ قال: صدق الملك عليه في هذا الصباح، وصدرت بذلك الأوامر العالية لأولي الأمر في طيبة ومنفيس. قال: بشرت بكل ما تحب يا مولاي. ففي هذا اليوم لا ريب تقوض نفوذ الكهنة وانتزع منهم السلاح الرهيب، ولكن كيف خاطر الملك إلى هذا الحد؟ وعلى من اعتمد في هذه العظيمة؟ قال: تدرع بأخي «آشيم» ليتقي سهام الكهنة. فما زال يهددهم بالاعتزال والتنازل لولي العهد في الحال حتى أذعنوا راضين بأخف الضررين. قال: إذن فإن لنا أن نرجو أن سيكون لمشروع إنشاء المكتبات العمومية هذا الحظ عينه. قال: هذا عزم الملك أيضا يا «منحب»، ولكنه يرجئ الفصل فيه وفي غيره من مقترحات أخي إلى ما بعد قدوم الأمير، والفراغ من حفلات قرانه، والآن أترككم وأذهب لأرتدي ملابسي الرسمية وأستعد، ثم إن الأمير ودع أصحابه وانطلق ذاهبا.
وفي هذه الأثناء دخل شرطي فطلب من التاجر بيانا عما ابتاع ذاك الهندي الغريب من مخزنه، واستقصه جميع ما دار بينهما من الكلام، فأعاده عليه، فانصرف مكتفيا بما علم من الخبر.
وخرج الأحرار بعد ذلك فمضى ثلاثة منهم لحالهم، وخطر للرابع أمر مهم، يجب أن يعمله الأمير قبل ذهابه إلى الحفلة، فركب جواده وسار خببا يؤم قصر النجل الثاني حتى وصله، وكان الوقت الأصيل فترجل ودخل فجلس ينتظر فراغ الأمير من لبس ملابسه التشريفية، ولم تكن هنيهة حتى أقبل النجل الثاني يختال في حلة عزه وفخاره، فبدر الفتى إليه وقال همسا: لا يبعد أن يجري الملك ذكر والدي بحضورك يا مولاي، وأن ينكر عليه استعفاءه من العضوية في مجلس الحكومة الأعلى، فأنا أشتهي على مكارمك أن تبذل المجهود لتحمل جلالته على قبول هذا الاستعفاء الذي كنت أنا الباعث عليه بلطف احتيالي وكثرة إلحاحي وسؤالي. قال: وهل تحققت بعد تمكن الكهنة من إرادته؟ قال: كل التحقق يا مولاي، بل هو كأحدهم في جميع أحواله، ولولا ما تفرض النواميس من بره، ووجوب كرامته وستره، لأطلعتك على العجيب الغريب من أمره، ولكني أسألك يا مولاي أن تكتفي بهذا. قال: إذن فثق أن استقالته مقبولة، وأننا غنمنا كرسيا جديدا في مجلس الحكومة الأعلى، فقبل الفتى يده وانصرف، وركب الأمير على الفور فسار إلى دعوة أبيه.
الفصل الرابع
الوفد الهندي في قصر الملك
برح الوفد الهندي دار الضيافة الرمسيسية، قاصدا قصر الملك يسعى على الأقدام، وكان مؤلفا من نحو عشرين مندوبا، ليس منهم إلا أمير أو وزير، وهم يسوقون بين أيديهم هدايا الملك «دهنش» إلى «رمسيس»، من نمورة وجلود وطيور نادرة الوجود، وذهب كثير بين سبائك ونقود، وأحجار كريمة، فوق كل قيمة، وغير ذلك من ثمين أشياء الهند القديمة.
وكان القوم يسيرون خافضي الرأس وأيمانهم على صدورهم وأشملهم مرسلة نحو الأرض، علامة على التناهي في إجلال مزورهم العالي ومقصودهم الفخيم، حتى بلغوا القصر، وهنالك استقبلهم الحجاب وأجلسوهم في محل الانتظار، ثم استصدروا الإذن الكريم بدخولهم، فدخلوا على الملك، وكانت الحفلة قد تم تمامها، وتكامل بعظماء الدولة نظامها، فتقدم حامل الرسالة من بين القوم فسجد طويلا لدى قوائم العرش، ثم قام فرفع الرسالة إلى «رمسيس» فأخذها الملك ودفع بها إلى كبير تراجمة القصر ليقرأ فقرأ:
من «دهنش» ملك ملوك الهندين، إلى ملك ملوك القارتين، ورب العرش والتاجين، المهيب الجيوش والأساطيل، مولانا «رمسيس الثاني سيزوستريس» صاحب النيل: أما بعد؛ فقد سلف من جليل إحسان الملك إلينا، وسبق من جزيل منته علينا، ما يجرئنا على الالتجاء في حمى قوائم عرش عظمته وشوكته، مستجيرين به من الدهر الغادر؛ حيث فجعنا في جارية الملك كريمتنا عذراء الهند، فساق لها يدا عادية اختطفتها من خدر عزها وصيانها، فإن تفضل جلالة الملك ومد لنا يد المساعدة العلية في سبيل إيجادها، كانت جارية مملوكة يهبها لجلالته والدها المخلص الداعي.
التوقيع
صفحة غير معروفة