فلما رأى الحضور ما حل ب «آرا» تكأكئوا جموعا يسألون عن أمرها ويستفهمون بصحتها، وانتدب الأطباء من بينهم لتنبيهها ثم نقلت إلى بعض الغرف لتأخذ راحتها، وكان في بعض الزوايا هنالك أربعة شبان من أبناء الكبار، وكانوا من الأحرار، فحين نظروا ما أصاب الفتاة لم تثر لهم عاطفة، ولم ينبعث عنان؛ بل استمروا يتهامسون. فقال أحدهم: إن للأمر لدخيلة. فلقد كنا نراها قبل حضور الخادمة في أتم صحة. قال آخر: وما أدرانا أن تكون قد سمعت شيئا أكدرها. فقطع الثالث عليه قائلا: وما عسى يكدرها إلى هذا الحد من الأشياء؟ اللهم إلا أن تكون قد علمت بخيبة المسعى في بعض أعمالها الشيطانية. قال الرابع: إن كان هذا أو ذاك فليس في الأمر ما يشغلنا عما نحن فيه من تدبير نزهة للبحر في سحر هذه الليلة.
والآن فأخبروني كم يكفينا من النبيذ، وأي أنواع الفاكهة تختارون؟ وهل لكم في الصيد حتى أوعز إلى تابعي بتهيئة ذلك كله وجعله في الزورق وانتظارنا به على المرسى الذي بالقرب من القصر؟ قالوا: عشر زجاجات، وشيء من العنب، واثنتان من أمهر راقصات المدينة تختارهما أنت ومغنيك الخصوصي، الذي ملأت سمعته الآفاق. قال: ذلك إليكم، وإني ذاهب إلى حيث الخادم لألقي عليه أوامري بالاستعداد.
حتى إذا كان نصف الليل برح الملك المجلس فصعد إلى الطبقة العليا من القصر لينام، وكان المدعوون قد أخذوا قسطهم من أنس تلك الليلة الشائقة، ولم يبق غير الانصراف، فكنت تراهم ينهالون على الأبواب زمرا بين فرادى وثنى وكلهم ألسنة تلهج بالثناء على مكارم الملك، والدعاء لذاته المقدسة بدوام العز والبقاء.
أما «آرا» فقد كانت أفاقت تماما، فلما رأت المجلس ينفض، تأخرت في جماعة من الكهنة حتى انصرف الناس جميعا، فخرج الكهنة وبينهم بنت كبير الحرس وما زالوا يمدون لأقدامهم الخطو مسرعين، إلى أن وصلوا المعبد الأكبر. وهنالك قصدت توا إلى مبيت وكيل المعبد، وكان نائما فنبهته فانتبه فقصت عليه الخبر، وما كان من أمر الملف ووقوعه في قبضة «رادريس»، فلما سمع الكاهن ذلك منها تغبر وجهه بادئ بدء، وظهرت عليه آثار الارتباك، وأطرق قليلا يفكر ويدبر ، غير أنه لم يلبث أن أقبل على الفتاة، فبالغ لها في الملاطفة وتسكين الجأش ثم أشار لها أن تجلس فجلست، وانثنى هو فأوصد الباب.
ثم عاد فلبس لباسا خاصا وأوقد نوعا من البخور معلوما له، وجاء بعد ذلك وسط الغرفة فتربع جالسا، ولبث كذلك نحو ساعتين من الزمان صامتا ثابتا، لا يتحرك منه إلا شفتاه وعيناه، وأحيانا يداه. كل ذلك و«آرا» ذاهبة الصبر تنظر منتظرة، وتتأمل مؤملة حتى نطق الكاهن، فقال: ها هو قد انتبه من نفسه على غناء وطرب الناس في زورق يتنزهون في النيل، ها هو قد صار في قبضتي وطوع إرادتي، ها هو يحاول المكث في السرير فلا يستطيع، ها هو يجهد أشد الجهد من تسلطي على أعصابه، ها هو يمزق ثوبه، ها هو ينزع الملف من صدره، ها هو يفتح النافذة، ها هو قد مد يده بالملف، ها قد ألقاه في النيل.
الفصل الثالث
الأحرار في طيبة
كان بطرف من شارع الصناعة مخزن صغير يبيع الأسلحة، وكان يتردد على هذا المخزن ويطيل الجلوس فيه كثيرون من الفتيان، معارف التاجر الذي كان فتى شابا كذلك، وكان في جملة ألاف المخزن وزواره العديدين «بيسمتوس» ثاني أنجال الملك، وشقيق «آشيم» الوحيد، غير أنه كان يغشاه متنكرا كما هي عادة الملوك والأمراء، في كل أين وآن.
فبينما الأمير ذات يوم جالس في زاوية مستترة من المخزن، وحوله أربعة فتيان من معارفه، وهم يتذاكرون الحوادث والأحوال، دخل شاب هندي فسأل التاجر قائلا: أرني ما عندك من صنف الخناجر وابدأ بأصغر ما تبيع منها. قال: إن كان لك في الخناجر الصغيرة، فإن عندي منها ما تستسهل حمله وتأخذه لأول وهلة، ثم أتاه بخنجر في قبضته سلسلة، في طرفها سوار. وقال: هذا الخنجر ذو السلسلة، وهو آخر اختراع، بل أنت له أول مبتاع. والذي يذكر من مزايا هذا الخنجر، التي لا تحصر، أنه يريح حامليه كثيرا والمسافرين من بينهم أكثر.
قال: كفى، فقد أعجبني، وأنا مشتريه، ثم التفت حوله فرأى جماعة في زاوية من المخزن، وهم شاخصون إليه، وكأنما أرابهم أمره، فلم يجد بدا من اتقاء ظنونهم. فقال للتاجر: وما عندك أيضا مما يليق أن يحمله الغريب، هدية لأهله وإخوانه. قال: عندي السلاح قديمه وحديثه، وجيده وغثيثه، فانظر وتخير. فجعل الهندي يتأمل ويختار، حتى أخذ شيئا فأعطى التاجر أضعاف القيمة، من الأحجار الكريمة، ثم حياه وانطلق. فقال عندئذ أحد أصحاب الأمير: من عسى يكون هذا الهندي يا ترى؟ فقال التاجر: علمي كعلمك في أمره. ولكن القيمة التي بذلها لي تدل على أنه رجل غني واسع الثروة. قال الأمير: لعله أحد الوفد الذين قدموا اليوم برسالة خصوصية من الملك «دهنش» إلى أبي. قال الصاحب: وهل في المدينة وفد هندي الآن يا مولاي؟ قال: نعم، وأنا في عداد المدعوين لحفلة مقابلة الملك لهم. قال: ومتى تجري هذه الحفلة يا مولاي؟ قال: اليوم قبيل الغروب.
صفحة غير معروفة