وكان على الجدار الذي يستقبله الوافد على هذه القاعة صورتان؛ إحداهما: أسد شاب بين الفتاء، بادي مخايل الحمية والقوة، وهو مطلق يهيم، ولكن على عينيه رباطا يحجب نورهما، وهو لا يملك للرباط فكا، وتحت هذه الصورة مكتوب: «الوطن محجوب مدى المستقبل بالكهنة.» والثانية: صورة ذلك الأسد وقد دنا منه طفل صغير، فنزع الرباط عن عينيه، فأبصر فربض عند قدمي الطفل رافعا رأسه يتأمله بهيئة الشاكر الممتن، وتحت هذه الصورة مكتوب: «شكر الوطن لحزب الأحرار.» وكانت على الجدار الأيمن أيضا صورتان؛ إحداهما: فرعون وقد جثا - على فخامة جاهه - أمام كاهن، وخلف فرعون فتاة وهو ينزع عنها بيده ما عليها من الحلي، والحلل، ثم يجعله على الكاهن الذي قد ناء بما حمل، وتحت هذه الصورة مكتوب: «فرعون يبذل أشياء الأمة للكهنة.» والثانية: صورة تلك الفتاة وقد وقف أمامها طفل صغير وهو يسمو إليها بيديه الناعمتين مملوءتين من أنواع الحلي، وصنوف الجواهر، وتحت هذه الصورة مكتوب: «حزب الأحرار يرد إلى الأمة أشياءها.»
أما الجدار الأيسر فكانت عليه صورة فتاة تحمل على رأسها تاجا، وقد جعلت في يدها اليسرى بضعة تيجان، وأمامها فتاة أيضا وهي تتوجها بيدها اليمنى، ووراء هذه الفتاة الثانية ملأ من الفتيات مزدحمات ينتظرن، وتحت هذه الصورة مكتوب: «منفيس تتوج مدائن النيل بتاج الحرية مبتدئة بطيبة.» وكان في صدر القاعة عرش، وكان الرئيس يستوي عليه فيملك بإشارته وأقواله إصغاء الحاضرين، أما سائر القوم فكانت لهم أرائك بعضها عند بعض، وكانت درجات للجالسين، فلما اطمأن بالأحرار المجلس قام الرئيس - صاحب الخان - وفي يده ورقة فقال: هذه أيها الإخوان رسالة وردت على كاتم الأسرار، من الكاهن «شاين» أحد أبناء الجمعية وجاسوسها ومراسلها في المعبد يقول فيها، ثم قرأ: وقف الكهنة على أمري معهم، فألقوني في سجن الخائنين، المارقين من الدين إلى أن يصدر مجلسهم الأعلى بطيبة حكمه، الذي لا يكون إلا الإعدام على أفظع وجوهه، وإني مستعد للقاء الموت، مدخر آخر أنفاسي في جو هذه الدنيا لأجود به قائلا: لتحي جمعية الأحرار.
فلما اطلعت الجمعية على هذه الرسالة الوداعية قامت لها وقعدت، وأبرقت وأرعدت، ولم تمكث أن اقترعت، فأصابت القرعة الأمير وحرين آخرين من كبار الضباط في منفيس، فنهض المندوبون الثلاثة على الفور يصيحون: نحن لها، ولنأتيكم ب «شاين» قبل أن ينفض مجلسكم هذا، وللحين لووا على خزانة السلاح فتسلحوا ثم خرجوا وهم لا يدرون أين يتوجهون، ولا كيف يصلون إلى صاحبهم المسجون؟
ومما زادهم حيرة، وأضعف أملهم بالنجاح أن الليل كان مقمرا مكشوف السماء يتهدد بالفضيحة كل دباب مريب. هذا فضلا عن منعة المعبد، واستحالة الوصول إليه، وزحمة الحراس والخفراء عليه؛ فكانت هذه الفكرة تتملك كلا من الرجال الثلاثة، وتسعى بقدمه فيوغل في السير إلى أن بلغوا باب طيبة، وهنالك وقفوا برهة يستريحون ويدبرون لهم أمرا. فقال أحد الضابطين: الآن أدركت خطارة المأمورية، وخطر المسعى. فقال الآخر: بل هي الخطوة الموبقة والمنية المحدقة. فقال الأمير: ولكنا حملنا هذا الأمر العظيم فلنصطبر له ولنقم فيه بما يوجب الشرف، وتقتضي الشهامة، غير ناسين أن بين ظلمات المعبد في هذه الساعة صاحبا لنا من أعز الأصحاب، يعاني عظيم الأسر ويسام أليم العذاب، مهددا بين لحظة وأخرى بأقصى العقاب. فعند سماع هذه العبارة امتلأ الضابطان حماسة من الرأس إلى القدم، وتنصلا مما كانا أبديا. فقالا: إنما قلنا ما قلنا من أجلك يا مولاي، وخوفا عليك، فأما وقد صممت على المخاطرة فيها، فنحن ساعداك، بل نحن وذوونا والعالمون بأسرهم فداك.
كانت اللصوصية عند المصريين الأقدمين حرفة من حرف الشعب، وكان اللصوص طائفة ولها رئيس، وكان كل من سرق شيئا يحمله إلى هذا الرئيس فيأتيه صاحب الشيء فيطلبه منه فيرده إليه بعد أن يحجز الربع، ولعل القوم كانوا يذهبون في تحليل هذا السلوك الغريب مع السراق؛ أولا: إلى أن اللصوصية مستحيل إفراغها من الدنيا، مهما كان من شدة المراقبة وصرامة القوانين. ثانيا: أن المسروق منه لا تنفعه معاقبة السارق إذا هو لم يسترد أشياءه؛ بل الذي ينفعه ويهمه رد الشيء المسروق على إهماله وعدم السهر على ماله.
وكان للصوص زي خاص بهم، ولكن لا يعرفه إلا الخبيرون بأحوالهم والأكثرون رؤية لهم واعتيادا للقائهم، وهم الحكام.
فبينما الأمير وصاحباه كما تركناهم يتفاوضون في ذلك الشأن كان بالقرب منهم على المكان، رجل ملتف بإزار من الكتان الأبيض، وعلى رأسه قلنسوة بيضاء كذلك، وهو منكمش في وضعه، ولكن قريب، بحيث يرى ويسمع. فاتفق أن الأمير التفت فوقعت عينه عليه، فطرده فانسل من المكان كما ينسل الثعبان من حضرة الإنسان، وعاد الأمير فقال لصاحبيه لا تلقيا له بالا؛ فإنه لص، وقد عرفته بثيابه البيض التي يلبسها مهرة اللصوص في ليالي القمر تخلصا من الظل النمام، وليتنا نقتدي بالقوم في ليلتنا هذه فنخفف من ثيابنا بحيث لا يبقى علينا منها إلا الأبيض، فاستحسن الضابطان هذا الاقتراح، وتجرد الرجال الثلاثة إلا عن أبيض اللباس، ثم استأنفوا السير آخذين جانب السور الغربي، وقد عقدوا العزم على أن يأتوا المعبد من باب الظلام، تسلقا كأن هذا الباب متروك بلا حراس، مباح لكل من شاء أن يتسلق من الناس، إلا أنهم ما نصفوا الطريق الطويل الذي بين البابين طيبة والظلام، حتى لمحوا لصا يتسنم السور من نقطة سهلة المصعد، وهو يراهم ولا يواري عنهم عيانه، كأنما لا يعنيه أن يعلموا شأنه فحدثتهم أنفسهم بالصعود على آثاره واقتفاء خطاه لعله من معتادي هذا المعبد، وقد اتخذ السور مسلكا إليه، فابتدروا الصعود من حيث رأوا اللص يصعد.
وكانت نقطة سهلة المرقى في الحقيقة، ولكن ليس في ظاهرها شيء يدل على أنها مصعد معتاد أو سلم عامة للأفراد، وما هو إلا يسير زمان حتى بلغوا أعلى السور، وهناك رأوا اللص وقد اندفع ينساب زحفا على الأربع في مستو من سطح السور ففعلوا مثله، ومثلوا من فورهم فعله، واستمروا كذلك سائرين حتى لاح لهم باب الظلام، باذخ الذرى بين العماد والدعام، فتذكروا أنه محفوظ الذروة بالأقوام، محفوف من كل مكان بحراس لا تنام؛ فأجفلوا وكادت تخونهم الأقدام، لولا أنهم رأوا اللص، وقد عمد في طريقه لحجر كبير، فأزاله عن موضعه، ثم نزل من ذلك الموضع مختفيا، فأسرعوا نازلين على آثاره، وإذا هم بسرداب ضيق أسود حالك، تشفق الحشرات منه أن تتخذه مسالك، فما زالوا يزحفون حتى عبروه، وكانت في آخره نافذة ضيقة فوثب اللص منها ووثب الأمير وصاحباه على أثره، فإذا هم على قمة عمود ضخم عظيم الارتفاع.
فأشرف الأمير من ذروته ينظر، فرأى اللص وقد بلغ أسفل العمود، مستعينا في النزول بحفر كانت في الحجر، فأرشد صاحبيه إلى ذلك ثم نزل، وهما يتبعانه حتى إذا استقرت الأرض بأقدامهم وقفوا ينظرون، وإذا إلى اليمين باب هائل من حديد، وقد عمد اللص لعتبته فقلعها، ثم ولج فتبعوه والجين فحازهم دهليز شديد الضيق، يكاد أن لا يجاز، وكانت أرضه من نحاس رقيق مائج، مهزوز فاجتازوه ثابتي الأقدام، متشجعين بذلك اللص المقدام، وهنالك اعترضهم باب آخر عال، من سلاسل الحديد العراض الطوال، وعليه حارسان بطلان، ضخمان قويان متسلحان، وخلف هذا الباب صوت أنين ينبعث من كل مكان. فاستأخر الأمير عندئذ ينظر ماذا يأتي اللص مع الحارسين، وكيف يمرق من أيديهما.
أما اللص فلم يزد على أن نظر إلى الرجلين نظرة واحدة، متوزعة تأثر كل منهما بقوة سحرها، فانقلب مدار الوجه نحو الحائط وظهره إلى ظهر أخيه، وعالج اللص بعد ذلك عتبة الباب حتى قلعها، ثم دخل فتبعه الأحرار الثلاثة، وإذا هم بقاعة عظيمة تدور بها حجر كثيرة على كل واحدة منها باب صغير من حديد.
صفحة غير معروفة