وكان ضغط الكهنة على خاصة الأمة وعامتها، وبالأخص رجال الحكومة، على اختلاف درجاتهم، وتنوع وظائفهم، شديدا متواصلا، زائدا عن حده، فكان العقلاء الأحرار ينكرون عليهم كل هذا التوسع في النفوذ، وتناول حقوق الملك المقدسة والاختصاص بالأمر والنهي في البلاد. أما الملك فقد لحظ الأمر من أول يوم بعين مبصرة، وارتاح لنشأة هذا العدو المستتر المهدد للكهنة شركائه، في الملك بغير حق شركة، ولمنازعيه الحكم بغير حق نزاع، إلا أن ولعه الزائد بالحروب وشغفه الجم بالفتوحات كانا يمنعانه من تأليب عناصر الحكومة بعضها على بعض، وفتح حقبة للمشاكل الداخلية ربما تطول فتحول دون ما هو مشغوف به مشغول، فكان يتغابى عن أعداء الكهنة، ويواصل هؤلاء المعاملة الحسنة.
ولهذا بقيت النهضة أدبية محضة، لا تجوز النفوس ولا تتعدى الخواطر والأفهام، إلى أن أخذ «رادريس» و«بنتؤر»، كلاهما حقه في الترقي في خدمة المملكة، فعهدت إلى الأول قيادة الجيوش الاستعمارية العامة، وعين الثاني أستاذا عاما للأدب والفلسفة في العاصمة، ومؤدبا للأميرين الشقيقين «آشيم» وبسمتوس ابني الملك من الملكة زوجته الشرعية، وكان ذانك الرجلان من أكبر خصوم الكهنة في السر والجهر، وكانا واحدي عصرهما في عالمي السيف والقلم، نافذي السلطان الأدبي على أبناء طائفتيهما، فهذا تنجذب إليه الجيوش كما تنجذب إلى النصر، وهذا فعول بيانه بالألباب ما تفعل الخمر، فلما تقلدا منصبيهما الجديدين تقلداهما على الفور سلاحا ماضيا لمناهضة الكهنة والسعي في رفع نير ذلك الاستبداد عن العباد والبلاد.
ثم كان من سعدهما أن العدو مني بفقد دعامة من أرفع الدعائم وركن من أركان بنائه الجسام، ألا وهو «طوس» الكاهن الأعظم لطيبة؛ أي رئيس الديانة في القطر كله، ولم يكن مات، ولكن فر من خدمة الديانة، لأسباب سنوردها بعد، وعلى وجه كدر صفو القوم تكديرا، وانسحب على أثر «طوس» كثيرون من أذكياء الكهنة انضموا إليه، فتكون من جميعهم حزب مناوئ للديانة شديد على رجالها رهيب.
وكان الملك قد فرغ من فتح الأرض، ولكن بعد أن أصبح كهلا غير قادر المشيب، وكان لم يزل في موقف النظارة تلقاء هذه الحرب الخفية، وهو يشكو مع الشعب من عتو الكهنة وعبثهم بحقوقه، موروثها والمكسوب، ولكن كان يغدو على مداجاتهم مغلول اليد، قليل الحيلة، ليس له عن الأمر معاث إلى أن شب «آشيم»، وكان أذكى أولاده وأنبلهم وأشجعهم قلبا، فاغتنم الملك هذه الفرصة لينذر الكهنة، فقرع لهم بفتاه العصا لأول مرة؛ حيث استعمله على منفيس والأقاليم الوسطى، وجعل في خدمته «رادريس» و«بنتؤر» بالرغم من معارضة الكهنة وقيامهم في وجهه لمنع هذا التعيين.
ومن ذلك العهد بدا حزب الأحرار للوجود يمتد من منفيس إلى طيبة فأقصى أطراف المملكة، وظهر الأمير فوق الكهنة كرما وجودا وتواضعا ورحمة وإدناء للأمة، ومخالطة لها واشتغالا بها، إلى غير ذلك من الصفات التي كانت أضدادها في أبيه، فتهافتت القلوب على كلمته، وتسابقت الخواطر إلى تلبية دعوته، كل هذا والحزب خلف الحجاب، والعمل مستتر والنار كامنة في أغوار الرماد.
والآن إذ وقف القارئ على هذا البيان المجمل، عن سيرة الحزب، فلينتقل معنا إلى مركز قرية البشنين؛ حيث فيما وراء الجانب العامر الآهل منه، منزل متوسط بطبقة واحدة مبني بالآجر (الطوب الأحمر) مبيض بالجير، ظهره إلى المساكن، ووجهته خالصة إلى الخلاء، وله مدخل معتم حقير، وهذا المدخل عبارة عن خمارة فيها بعض أرائك للجلوس، وبها منصة عليها كثير من أدنان الخمر، وسلل الفاكهة.
وكان المنزل والخمارة لشاب من أهالي القرية، وكان عزبا منفردا، ليس معه إلا خادمان يصحبانه من قديم زمان، وكان لا يقبل في خمارته إلا طلاب الراحة من المسافرين أو الآيبين من الصيد والقنص التعبين، وقد جعل الأسعار فادحة حتى تجافت عن محله الأقدام، وصار كل من دخله مرة خرج مكويا بغلائه فلا يثني.
فكان أهل القرية، وعلى الأخص ألاف الخمر منهم، يرمقون الشاب بعين المقت ويسلقونه بألسنة حداد، فيزعمون أن والده ترك له ثروة واسعة كان قد أسسها من تجارته العظيمة في ورق البردي، فلم يحافظ الفتى عليها، بل بددها في أقصر زمان، ولم يستبق من العقار إلا ذلك المنزل، فاتخذ فيه حانة وراح يعيش ببيع الخمر، ثم كان السكيرون من بينهم يزيدون فيقولون: وليته ناجح في عمله فإنه يرفع الأسعار، ويعطي بمقدار، ويصرف الزوار، فلا الليل يبيع ولا النهار.
وكانت الخمارة في الليلة التي نحن بصدد حوادثها مفتوحة مشتغلة، وكان في جوفها مصباح ضعيف الضوء عنده أريكة، وعلى هذه الأريكة رجلان يتحادثان، وبين أيديهما شيء من الخمر والفاكهة، فكان أحدهما يقول للآخر: إن الأمير في شغل الليلة يدبر لعذراء الهند مبيتها في قصر النزهة، قال: نعم، وأي شغل! قال: فهل تظنه يشرف الجمعية بحضوره كالعادة؟ قال: ومتى عهدنا في الأمير قلة الوفاء حتى بدأنا نظن به الظنون؟ قال: حاشاه وتعالت مروءته، وإنما أنا أنظر إلى كثرة أشغاله وخطارة ما يباشر من الأمر، فالتفت الأول حينئذ إلى رب الحان، وكان عند منصته مشتغلا بترتيب الدنان، فسأله: أيها الرئيس، كم عندك الآن من الإخوان؟ قال: تموا خمسين، ولم يبق من لم يحضر ممن عليهم الحضور سوى الأمير وصاحبيه. قال: فهل اعتذر الأمير برسول أو رسالة. قال: لا، ولعله وصاحبيه في الطريق. قال: فكم بقي من الوقت لنبتدئ؟ قال: ضربة الجرس الثالثة، ثم ارتجل نظرة إلى الأفلاك. فقال: بل أرى الوقت قد جاء، ولم يبق إلا أن استعد، وانحدر من فوره إلى المخدع في الحان، فعالج بابه فانفتح فدخله، وخرج منه على أثر ذلك الخادمان. فدعوا الرجلين للحاق بالرئيس، ففعلا كما فعل، ثم عمدا إلى باب الخان ليغلقاه.
وعند ذلك أقبل الأمير وصاحباه، فتنحى لهما الخادمان، حتى إذا دخلوا أغلق الباب، وابتدر الجميع دخول المخدع، وكان خلف بابه مباشرة سلم من حبال فنزلوا منه إلى دهليز ضيق مظلم طويل، فمشوا فيه حتى إذا اجتازوه خرجوا إلى مكان مشيد الأركان وافي العظم والاتساع، لا يضيق بألفين من النفوس يجتمعون فيه، وكان منارا بمصابيح قوية الأشعة إن لم يكن ضوءها من الكهرباء، فهو لا ريب ما يلي ذلك مباشرة من الأضواء.
صفحة غير معروفة