هل تعنيني حقا؟ كيف وقد بلغت من العمر ما يكفي لتسقط النساء عني ألقاب العاشقين؟! نعم، أشعر بالحسرة على ما فات وما ضاع ولن يعود أبدا، وبانكسار كئيب يحني ظهري ويأبى إلا أن أرضخ لمعاول الزمن تهدم ما بنيته في سنوات طوال. نادرا ما يأتينا الموت فجأة، هو بخبث يتسلل إلى خلايانا واحدة تلو الأخرى فنشعر رويدا رويدا بالوهن والخذلان واليأس، فيلتهمنا وقد أضحينا فريسة سهلة المنال. من الحمق أن ننتظر نهايتنا إلى أن تأتي، وعلينا أن نصر على الخلود حتى تكذب ظننا المقادير. لن نواجه أبدا حقيقة الموت المفزعة، فعند الموت تتلاشى كل الحقائق، والخوف من الموت ليس إلا كابوسا يعجل بمجيئه.
وجهت بصري نحوها متعمدا متحديا، والتقت عينانا في حوار طويل، حتى أفقت منزعجا عندما وضع ابني خالد يده على كتفي يخبرني بأنه قد عاد. أيها الملعون الصغير إنك تتعجل نهاية أبيك!
علي أن أستعيد الآن دور الأب، علي أن أسدد الفواتير، وأقدم النصح، وأشكو المرض، وألعن اليوم الذي تزوجت فيه، ثم أبحث بعد ذلك عن سبب لإرسال خالد بعيدا. بادر خالد من حيث لا يدري فحقق رغبتي؛ استأذن كي ينزل إلى البحر. وبدلا من أن أستكمل حلقات مغامرتي انتابني القلق، وظللت وجلا أترقب حركات ابني وسكناته بين الأمواج وقد انشغلت عن كل ما حولي وما بداخلي، أقف أحيانا وأجلس أخرى، أتقدم متوجسا نحو الماء وأرتد ثانية تحت مظلتي، أتعقب أثره بين الرءوس الطافية فأعثر عليه مرة، ويغيب مرات. هكذا كان الأمر يبعث على الضجر، لقد تركته أمه وذهبت برفقة ابنتنا لزيارة أمها المريضة، فأصبحت أنا المسئول الوحيد عن سلامته.
وقع بصري عليها وهي تداعب طفلا على حافة البحر، هيفاء في حوالي الأربعين من عمرها، ممشوقة القد، تكاد معالم أنوثتها النافرة تشق عنها ثوبها المبلل بالماء. وجه يتوهج بالأنوثة وإن لم يكن على حظ وافر من الجمال، عينان واسعتان تقرأ فيهما الكثير من الجرأة واللامبالاة. تأكدت من نظراتها المتكررة أنها فطنت لانشغالي بأمرها، انتابتني رعدة خفيفة وشعرت بخوف مبهم، وتلفت حولي مستطلعا عيون الناس، خشيت أن يراني أحد أتلصص النظر إلى النساء وقد بلغت من العمر ما بلغت. عدت إلى جلستي تحت المظلة وقد عقدت العزم على ألا أنظر ناحيتها، فوجدتني مستغرقا أرقب مرافقيها تحت المظلة المجاورة. ترى أي علاقة هي التي تربطهم بها، تلفت أبحث عن زوج لها أو ابن، وكان صعبا جدا أن أخمن وسط هذا الجمع الكبير. نهض أحدهم واتجه نحوها وعاد بالطفل فأجلسه تحت المظلة بين ذويه، ومسرعا قفز نشيطا مرحا وهو يعود إليها، فأمسك بيدها واقتادها نحو الماء بينما كانت هي تتمنع في دلال، وتلتفت نحوي المرة تلو المرة والابتسامة تعلو وجهها، حتى خشيت أن يفتضح أمري. بعد قليل أيقنت أنها تنشغل بالنظر إلي أكثر من انشغالها باللهو مع رفيقها، هو زوجها بالتأكيد، فلا شيء كان يحول بينه وبين الالتصاق بها والقبض على ذراعيها وحملها بين يديه. أثار سلوكه هذا تقززي لا غيرتي، فأغمضت عيني مكرها. خلف جفني رأيتها تعوي وتمزق ثيابها وتشتعل بين أحضاني كجمرة من نار. تنفست بعمق واعتدلت في جلستي لعلي أطرد شياطين أخذت تعبث برأسي.
أثار رفيقها المخنث هذا فضولي، يبدو أنه تجاوز الأربعينيات من عمره، لكنه أقرب الشبه بطفل. رأيت بعض الصبية والشباب وقد جذبتهم دعاباته الفاضحة معها يتحلقون حولهما في الماء، وبدا هو غير عابئ، وهي أيضا. من الواضح أنه يجيد الغوص والسباحة ويتفاخر كالصبيان بهما، فكان يتركها وسط هذه الحلقة المتأججة بالرغبة، ويمضي في استعراض مهاراته فرحا منتشيا بنظرات الإعجاب وكلمات الثناء. لمرات كان يعود إلى الشاطئ فيشعل سيجارة أو يحتسي كوبا من الشاي، تاركا رفيقته قابعة في الماء لا تسلم من سخافات العابثين. أكان هذا الديوث هو مبرر جرأتها نحوي؟ هل كانت تبحث عن رجل؟ أصابني التقزز.
بعد حين خرجت من البحر واتخذت مجلسها بالقرب مني لا يفصلها عني سوى بضع أقدام. أصبح بمقدور أي شخص الآن أن يلحظ نظراتنا المتبادلة، فتحاشيت قدر استطاعتي أن ألتفت إليها، لكنها فعلت كل ما بوسعها كأنثى كي تهزم إرادتي وتبعثر وقاري، أفصحت عن بعض خفايا جسدها لي، علت ضحكاتها، تلوت، وانثنت، ومالت، واعتدلت، واستلقت، متعمدة أن تعري أمامي ما أخفته عني لساعات. هل استشاطت غريزتها فعجزت عن مغالبتها؟ أم أرادت أن تسعر الجحيم في جسدي البارد؟
بداخلي سرت رعشة لذيذة داعبت أعضائي فأوقدت نيران شهوة متعطشة للارتواء، نسيت حذري، وتلاقت عينانا تتعانقان، تاهت عيناي تغوصان بين حنايا جسدها، وتقطعت أنفاسي وأنا أتسلق وأهبط من شفتيها إلى قدميها، وبيدي قبضت بقوة على قائمي مقعدي وكأني أعتصر لحمها وأتشبث بالمقعد كي لا أفر منها أو إليها.
ارتمى خالد على المقعد إلى جواري فاستيقظت مرعوبا أحملق فيه، وبعد أن تعرفت على ملامحه هدأ روعي، وأغمضت عيني أسدل ستارة قاتمة على حلم فاضح.
امتدحني ولدي طويلا، فعلى عكس ما تفعل أمه، هكذا ظن، فقد منحته أنا حرية كاملة في أن يسبح كيفما شاء، وتركته يلعب مع أقرانه كيفما اتفق، وأعفيته من وابل من النصائح والإرشادات والمواعظ، فلم أعكر صفوه ولم أقطع عليه متعته. كان مسرورا معجبا بي وممتنا لثقتي الكبيرة فيه وإيماني بأنه قد نضج، أما أنا فلم أغفر لنفسي قط أنني قد نسيته تماما زهاء ساعة.
كان علي أن أعود إلى كهفي. أبصرت بائع الجرائد فاستوقفته، وللمرة الأولى في حياتي ابتعت إحدى جرائد المعارضة، والتقطت نظارتي الطبية ورحت أدفن عيني داخل أوراقها كي لا تحيد عن السطور. كانت لا تعرف الكلل، ووجدتها تقف فجأة إلى جواري وتتوجه بالحديث إلي: من فضلك. هل يمكنني أن أستعير الجريدة لبعض الوقت؟
صفحة غير معروفة