الرحيل
حكاية بهنس
عضة كلب
شيطاني المفترى عليه
حديقة الموت
المسامح كريم جدا
الإرهابي
الدعوة عامة
وراء الحدود
شجرة الدر
مزرعة جارسيا
المأتم
الحياة بلا دخان
أبناء للبيع
قبل الطوفان
الرحيل
حكاية بهنس
عضة كلب
شيطاني المفترى عليه
حديقة الموت
المسامح كريم جدا
الإرهابي
الدعوة عامة
وراء الحدود
شجرة الدر
مزرعة جارسيا
المأتم
الحياة بلا دخان
أبناء للبيع
قبل الطوفان
عضة كلب
عضة كلب
مجموعة قصصية
تأليف
أحمد عبد الواحد
الرحيل
بعد أن أم الناس في صلاة العشاء، خرج الشيخ سليم من المسجد قاصدا داره، وفي الطريق عرج على دكان بقالة مجاور، فاشترى عددا من الأرغفة وقطعتين من الجبن الأبيض ومثلهما من الحلاوة الطحينية وعبوة شاي وكيسا من السكر. قبل أن يهم بصعود منزله استوقفه شاب ملتح، تبادلا الحديث لبعض الوقت، ثم انفرد الشيخ بالحديث، تحول الحوار إلى محاضرة، وبعد فترة قصيرة كان الشاب قد تملكه الضجر أو أعوزته الحجة، فحول بصره عن الشيخ وأخذ يتلفت يمينا ويسارا، ثم استأذن فجأة في الانصراف، وظل يحوقل بصوت مسموع حتى غاب عن الأنظار.
دقائق هي التي قضاها الشيخ سليم في منزله بعدها خرج يحمل كيسا في يده، واتخذ طريقه صوب الكوبري الجديد، ثم سار عدة خطوات بمحاذاة الترعة الكبيرة، وأمام عشة صغيرة على شاطئها وقف ينادي على خميس الأعرج، وكرر النداء مرات ولم يجبه أحد، فافترش الأرض وأخرج مسبحته.
غير بعيد، ومن بين عيدان الغاب خرج خميس الأعرج مستندا إلى عكازه يجاهد للإسراع بالعودة إلى عشته، وما إن وقع بصره على الشيخ سليم حتى أقبل عليه مهللا واتخذ مجلسه إلى جواره. - سامحني يا مولانا. أيعقل أن تتنازل فتأتي لزيارتي كل يوم حاملا معك الخير كله، وأتخلف أنا عن موعدك؟! لقد انزويت بعيدا عن أعين المارة ونزلت للاستحمام في الترعة، ويبدو أنني لست معتادا على النظافة، فما إن ارتديت ملابسي واستلقيت على ظهري منتعشا حتى غفوت في مكاني.
رد الشيخ مبتسما: الحمد لله أنك بخير. لقد تركت الكيس بالداخل.
ثم نهض وألقى السلام على خميس، وهم بالانصراف. استوقفه خميس قائلا: ألم يحن الوقت بعد كي تتزوج يا شيخ سليم؟ - الحمد لله على ما أعطى. - لكنني أشتاق «للطبيخ» يا مولانا.
بعد أن فرغ الشيخ سليم من تناول طعام عشائه، نهض فأعد لنفسه كوبا من الشاي، ومد يده لخزانة كتبه العامرة فأخذ كتابا، ثم جلس حيث مكانه المفضل على أريكة وضعت تحت نافذة الحجرة، واستغرق في القراءة. بعد مدة أحس بثقل جفنيه وأخذ رأسه يتساقط من حين لآخر، فنهض كي يتوضأ عله يستعيد نشاطه، وحانت منه التفاتة نحو النافذة، فاتسعت عيناه وتسمر في مكانه. على البعد أبصر ألسنة من اللهب تتصاعد من إحدى القرى القريبة، استنتج أن نيرانا تبدو من مسافة بعيدة بهذا الحجم لا بد وأن تكون صادرة عن حريق هائل. دعا الشيخ ربه أن يلطف في قضائه، وتوكل على الله فارتدى حذاءه وخرج مسرعا إلى الشارع. تلفت يمينا ويسارا، كان الليل قد انتصف وخلت الشوارع تماما من المارة. فكر الشيخ أن يستخدم مكبر الصوت في المسجد لدعوة الناس لنجدة جيرانهم، لكن الأمر على هذا النحو سوف يستغرق وقتا طويلا. توقف للحظات ثم نادى بأعلى صوته يستغيث بأسماء شباب عهد فيهم الصلاح والمروءة، ففتح الناس نوافذهم يستطلعون ما يحدث، وهرع غالبية من ناداهم من الشبان وأحاطوا به يتساءلون. وبعد أن تجمع عدد كاف من المتطوعين، قادهم الشيخ نحو القرية المشتعلة.
عندما شارفوا مدخل القرية شاهدوا صفا من الشباب يشهرون أسلحتهم البيضاء، ويقطعون الطريق على الداخل والخارج منها. واصل المتطوعون سيرهم فهم لا يحملون إلا النوايا الحسنة، تقدم اثنان من الشباب فاستوقفوهم، وخاطبا الشيخ سليم يستفسران عن مقصده، ولم يكد يفتح الشيخ فمه حتى صاح شخص من بعيد يحذرهما بأن عربات الشرطة في الطريق، فانفرط الصف وتفرق جميع الشباب هاربين.
عمت الكارثة ناحية واحدة من القرية وكأن زلزالا ضربها، أو ثار على أطرافها بركان لم يخمد بعد: التهمت النيران العديد من المنازل وما زالت مشتعلة في منازل أخرى، نساء يلطمن الخدود ويصرخن، وشيوخ يتضرعون إلى الله أن ينجيهم من الشر، ورجال يحملون جرحاهم، وآخرون يهرولون حاملين ما تبقى لهم من أمتعة، وأطفال يهيمون على وجوههم باكين، وضجيج تختلط مصادره، ودخان كثيف ينشر السواد في المكان.
انشغل الشيخ سليم ومرافقيه بإطفاء النار غافلين عن بقية المشهد، حتى بدأت قواهم تخور، وعندما تنحى البعض منهم جانبا حتى يستردوا أنفاسهم شاهدوا عجبا؛ حشد كبير من الناس يقفون على مسافة من المكان مكتفين بمشاهدة ما يدور، والأغرب أن منهم من يهللون ويكبرون ويستبشرون بنصر من الله قريب. الآن فقط أدرك الشيخ سليم ومن اتبعه أنهم مع عدد محدود فقط من أهل القرية المنكوبة كانوا يحاولون إخماد الحريق، وأن الغالبية كانت تحتفي بالخراب. فتعالت صيحات الاستهجان من فريق الشيخ، وجاء الرد وابلا من السباب واللعنات والطوب من الفريق المقابل. سار الشيخ سليم بمفرده متوجها نحو الطرف الآخر، تقدم أحدهم ورفع يده إلى أعلى فتوقف القصف، وبلهجة الواعظ الآمر قال: لولا حسن نواياكم وجهلكم بحقيقة ما يحدث، ما تركناكم تعودون إلى دياركم سالمين. لا تنصروا كافرا مسيحيا على مسلم. هل بلغت؟ «لن يثمر الحوار معهم إلا تعميقا للخلاف.» هكذا حسم الشيخ سليم أمره، وآثر الانسحاب مع أهل قريته خشية فتنة أخرى قد تقع هذه المرة بين أبناء الدين الواحد. وهكذا ترك الطرفان النار تأتي على ما تبقى.
عاد الشيخ سليم إلى منزله مكدودا، وخشي أن يستسلم للنوم فتفوته صلاة الفجر، نهض فاغتسل وتوضأ وأبدل ثيابه وأخذ مجلسه المفضل على الأريكة متأهبا للذهاب إلى المسجد، وما هي إلا لحظات حتى غفا. انتفض الشيخ على صوت طرقة خافتة على الباب، ظن أنه تخلف عن الصلاة، نظر سريعا إلى ساعة الحائط، فاطمأن قلبه وعاد إلى جلسته. كان في شك في أن أحدا بالفعل قد طرق بابه، وجاءت الطرقة الثانية لتؤكد أنه لم يكن يتوهم وأن عليه أن ينهض فيفتح الباب، ففعل. اندفع أحد الأشخاص ودخل المنزل كمن يقتحمه، استهجن الشيخ هذا السلوك: لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأذنوا ...
قاطعه الشاب: عذرا يا عم الشيخ فالرعب أخرجني عن صوابي.
تأمله الشيخ سريعا، كان شابا في حوالي الثلاثين من عمره، عاري القدمين، تلطخ جسمه وملابسه بالطين والوحل، زائغ العينين، تتملكه الرعشة بين لحظة وأخرى.
أردف الشاب: ليس لي ملجأ في الدنيا سواك يا شيخ سليم، فأنت الوحيد الذي آتمنه على حياتي. لقد سمعت عنك الكثير ...
لم ينتظره الشيخ حتى يكمل، وناوله بعضا من ملابسه وطلب منه أن يذهب ليغتسل ثم يتناول بعض الطعام، وبعدها سوف يستمع إليه.
لم يذق الشاب الطعام الذي أحضره الشيخ سليم، فما إن جلس إلى المائدة حتى غلبه النوم. أذن بالفجر، فنهض الشاب مرتجفا وحدق في عين الشيخ ينتظر قراره. طلب منه الشيخ أن يبقى في المنزل حتى عودته، على ألا يصدر عنه أي صوت، وانطلق إلى المسجد.
عندما عاد الشيخ سليم إلى منزله وجد الشاب قد افترش الأرض وراح يغط في نوم عميق، بهدوء أيقظه: لماذا تنام على الأرض؟! يا بني، لا تحملني من الذنوب ما لا أطيق.
نهض الشاب من على الأرض وظل واقفا في مكانه، فأشار الشيخ له بأن يجلس على الأريكة، ثم توجه إلى المطبخ. بعد قليل عاد يحمل صينية عليها بعض الطعام وبراد الشاي وعدة أكواب ووضعها على المائدة، ودعا الشاب ليشاركه ما أحضر. حاول الشاب الاعتذار، وأصر الشيخ: هذا ليس موعد إفطاري لكنني عجلت به من أجلك. أنت مجهد وفي حاجة للطعام والنوم.
جلس الشاب إلى المائدة، وأخذ رشفة أو رشفتين من الشاي، وشرع يقص على الشيخ سليم قصته، وما إن انتهى حتى التزم الصمت وتطلع إلى وجه الشيخ آملا.
قال الشيخ سليم: سيقتفون أثرك في الأيام القادمة، وذيوع خبر وجودك بالمنزل معي سوف يلفت نظرهم بالتأكيد. زواري لا ينقطعون عن المكان ليلا أو نهارا ولن تفلح أية محاولة لإخفائك عن عيونهم.
في موعده اليومي بعد صلاة العشاء، حمل الشيخ سليم كيسه المعتاد وانطلق نحو الكوبري الجديد، لكنه اليوم كان يسير وئيدا يتلفت يمنة ويسارا بين الفينة والأخرى. أمام عشة خميس الأعرج توقف ثم نظر خلفه، وفي لمح البصر كان الشاب إلى جواره. خرج خميس من العشة مهللا كعادته، ثم أمسك لسانه عندما لمح شخصا لا يعرفه. خاطبه الشيخ: هذا يوسف الذي حدثتك عنه. سوف يبقى داخل العشة لا يبرحها ما أمكن، فإن تصادف ورآه أحد، فقل إنه قريب لي هارب من ثأر يطارده، وقد لجأ إلي إلى أن يجد مخرجا، وهو يقيم عندك لأن مسكني هو أول مكان سوف يقصده طالبو الثأر للبحث عنه. وعندما ينتقل يوسف للإقامة معي سوف يكون لنا قول آخر.
وأردف: يوسف أمانة بين يديك يا خميس.
رد خميس: اقتلني إن قصرت.
ثم التفت الشيخ نحو يوسف: خميس محل ثقتي الكاملة، فلا تقلق، لقد حدثته عنك ويمكنك أن تصارحه بما تريد دون خوف. وعليك من الآن أن تحلق شاربك وشعر رأسك وترتدي جلبابا آخر غير جلبابك.
بعد أسبوعين كان الشيخ سليم في طريقه لأداء واجب العزاء في وفاة محمد المهدي، وإلى جانبه يسير يوسف في جلبابه الأبيض وطاقيته البيضاء. تساءل الناس عن الغريب، وكان خميس قد أعد نفسه للرد: قريب للشيخ أتى من الصعيد باحثا عن عمل، فاستبقاه الشيخ إلى جواره يعينه على فلاحة الأرض ويؤنس وحدته.
لم يمض الكثير حتى كسب يوسف ثقة أهل القرية، فهو يكدح طوال النهار بهمة وإخلاص في أرض الشيخ سليم، لا يتدخل فيما لا يعنيه، يغض بصره، ويعف لسانه، ولا يتسكع في طريق أو يرتاد المقهى، ويتجنب صحبة الشباب الذين هم في مثل عمره؛ صالحهم وطالحهم على السواء. وكما أجمع أهل القرية على خصاله النبيلة، فقد أدهشهم جميعا أن يوسف يرافق الشيخ سليم أينما ذهب إلا إلى المسجد! كيف يسكت الشيخ عن هذا السلوك وهو الإمام ويوسف هو قريبه ورفيقه؟ كان يصعب عليهم أن يتصوروا أن يكون الرجل على خلق دون أن يكون متدينا، فما بالك ويوسف لا يؤدي فرض الصلاة. تطوع بعض المتحذلقين بتفسير الظاهرة العجيبة، قالوا إن يوسف من المتشددين دينيا، وإن هؤلاء - وفق فتواهم - لا يجوز أن يصلوا خلف إمام يخالفهم في المذهب. وكان التفسير مرضيا مريحا، ومنح يوسف توقير الجميع واحترامهم، فتقدموا إليه ينشدون النصيحة والفتوى، فامتنع قائلا إن الشيخ لم يأذن له بعد، فتأكدت قناعتهم بأن الشيخ يعده لخلافته.
شاع بين الناس أن يوسف يعتزم الزواج من أرملة محمد المهدي، غالبية الناس استهجنوا الأمر؛ فيوسف رغم خصاله الطيبة وافد غريب، ولم تشفع محبتهم له لقبول عضويته الكاملة في القرية. في الآونة الأخيرة كان الشيخ سليم يتردد على منزل عائلة الأرملة الشابة ليتوسط في الخلاف الذي نشب بينها وبين أشقاء محمد المهدي حول توزيع الميراث، وعزز هذا قناعة الناس بصدق إشاعة لا يعلم أحد من الذي أطلقها، أما الشيخ سليم ويوسف فلم يرد بخاطرهما قط شيء مما أشيع.
الغيرة والحقد دفعا واحدا من الناس أو أكثر للنكاية في يوسف والتخلص منه نهائيا، فوشوا به لجهات الأمن زاعمين بأنه إرهابي هارب لجأ إلى بيت الشيخ سليم فآواه عنده، وكانت التهمة بالطبع جديرة بأن تؤخذ بعين الاعتبار.
اقتاد رجال الشرطة الشيخ سليم ويوسف إلى مديرية الأمن، وكان خميس الأعرج وحده هو من حاول اللحاق بهما. حاول خميس دخول مبنى المديرية فتلقى نصيبه كاملا من الركل والسباب، لم يرفق به أحد لعاهته أو لمظهره البائس، فجلس على الطوار المقابل للمديرية يندب حظه ويئن مما أصابه، وتركه الجنود على مضض.
ظل الشيخ سليم واقفا أمام مكتب ضابط الأمن، أما الضابط فقد أدار له ظهره ووضع ساقا فوق أخرى وظل يحتسي فنجان قهوته قطرة تلو قطرة، قال: ما زلت تصر على أنك لست إرهابيا، لا بأس، فلدينا من الوسائل ما يجعلك تعترف.
رد الشيخ سليم: يا حضرة الضابط، هل بلغكم عني من قبل ما يجعلكم تسيئون الظن بي؟ كل ما في الأمر أن إنسانا ضعيفا استجار بي فأجرته، وهكذا يحضنا ديننا، لقد أنقذت إنسانا من القتل ومنعت آخر من ارتكاب جريمة.
أدار الضابط كرسيه وحملق في الشيخ غاضبا. - هل يحض الدين على نصرة الإرهابيين؟! - وهل يعد الشخص إرهابيا في نظر القانون لمجرد أنه يجمع التبرعات لبناء كنيسة! - بناء كن... كنيسة! - نعم هذا كل ما فعله. لقد أحرق المتطرفون من المسلمين منزله ونكلوا بأهله وتوعدوه بالقتل. أنتم تعلمون بالتأكيد تفاصيل ما حدث في تلك الليلة.
شرد الضابط للحظات، ثم سأل: ما اسم يوسف بالكامل؟ - يوسف دانيال مسيحة. إن له بيتا وأرضا وأهلا، وكل قريته تعرفه.
رغم أن كل الدلائل كانت واضحة دامغة بما يكفي لبراءة الشيخ سليم ويوسف من التهمة التي حاول البعض إلصاقها بهما، فقد ظلا قيد التحفظ لثلاثة أيام داخل مديرية الأمن، وظل خميس يأتي كل صباح فيلتزم الجلوس على الطوار المقابل لمبنى المديرية من الصباح الباكر وحتى الغروب. أخيرا أطلق سراحهما، فخرج الشيخ سليم يستند إلى ذراع يوسف وقد أحنى ظهره التعب، أبصرهما خميس الأعرج فانفرجت أساريره وعبر الطريق مسرعا نحوهما. - ظننت أنني سوف أبقى في انتظاركما إلى يوم يبعثون، وخشيت على ساندويتشات الفول أن تفسد، فأكلت نصفها.
على مقهى صغير في ميدان المحطة جلس الثلاثة حول مائدة واحدة، صامتين تماما، ينظر كل منهم إلى ناحية، يتقاسمون ما تبقى من الطعام الذي أحضره خميس، ويرتشفون الشاي على مهل.
قال يوسف: سأظل غريبا مطاردا أينما حللت.
قال خميس: أنا مثلك سوف أعيش دوما على الهامش، فلا أرض لي ولا مسكن.
قال الشيخ سليم: أهل القرية طالبوا الأمن بترحيلي، اتخذوا قرارهم وكأنهم يسارعون للتخلص من دنس علق بثيابهم. لو أن إغاثة مسيحي واحد كانت خطيئة، ألم تشفع لي سنوات طوال قضيتها بينهم أدعو صادقا إلى الخير وأنهى عن الشر؟!
ونهض الثلاثة قاصدين محطة القطار.
أعلن المذيع الداخلي للمحطة أن القطار المتجه إلى مصر سوف يتحرك في الخامسة صباحا.
على أحد المقاعد الخشبية جلس الثلاثة يترقبون بزوغ الفجر. (تمت)
حكاية بهنس
على مقعد خشبي أمام بيته الكبير، اعتاد صالح بهنس الجلوس بمفرده من العصر إلى ما بعد غروب الشمس، يميل برأسه تارة إلى اليمين حيث يمتد حقله الواسع بأشجاره العالية وبساطه الأخضر، وتارة إلى اليسار نحو أطراف البراري حيث الأرض القاحلة الجرداء إلا من بقع من حشائش قصيرة يكسوها الغبار. لا تقطع عليه خلوته إلا زوجته التي تأتيه مستندة إلى عكازها، تضع إلى جانبه كوبا من الشاي أو كوبا من الماء، وتربت على كتفه في صمت، ثم تعود أدراجها.
لسنوات طويلة مرت، كان بهنس مضرب الأمثال في جلده وصبره وعزيمته التي لا تلين. طرده أبوه من منزله لأنه تزوج دون أن يستأذنه، فلجأ إلى البراري وبنى عشته من فروع الأشجار وعيدان الغاب، وأعمل فأسه في البوار فأصلح من الأرض كل يوم شبرا. لمدة طويلة ظل يعمل أجيرا هو وزوجته، إلى أن جمعا أول محصول لهما من أرضهما المستصلحة، فتفرغا لزراعتها واستصلاح المزيد، حتى صار بهنس الآن مالكا لأكثر من عشرة أفدنة.
تحمل هو وزوجته معا كل أشكال العناء والفقر، أما أبناؤهما فقد عاشوا زمن الأمان ورغد العيش، حتى إذا ما شبوا عن الطوق حاولوا إقصاءه عن كل عمل بحجة الحرص على صحته، إلى أن أفلحوا فسجنوه داخل بيته لا يكاد يبرحه، واختاروا أكبرهم فجعلوه أبا بديلا يستشيرونه في أمورهم ويفصل بينهم فيما اختلفوا فيه، وكأنهم أصدروا عليه حكما بالخرف غير قابل للنقض.
هبط الليل، فأتته امرأته تستعطفه أن يدخل إلى المنزل؛ فالبقاء على هامش البراري ليلا قد يعرضه ويعرض أسرته الكبيرة لهجمات الذئاب، ومن الضروري إغلاق البوابة الخارجية.
في محبسه الداخلي، في حجرته، تركوا له الراديو ليمضي معه الليل، ودائما ما كانوا يبادرون هم بتشغيله على محطة القرآن الكريم، فيحزنه أنهم يستحثونه على التوبة ويلحون على إبلاغه بأن ساعته قد حانت، بينما يتفرغون هم في الصالة الواسعة يسمرون بمشاهدة التليفزيون ولعب النرد وتبادل النكات والنوادر، وتنشغل عنه زوجته بإعداد الشاي للكبار وإعداد الحلوى لأحفادها. قليلا ما كانوا يشفقون عليه من وحدته فيدعونه لترك فراشه والجلوس معهم، ونادرا ما فعل؛ فقد كان يشعر أنه أصبح ضيفا ثقيلا في منزله.
نهض بهنس من فراشه فأدار الراديو على محطة أم كلثوم، ثم رفع عينيه إلى شهادة كبيرة موضوعة في إطار مزخرف ومعلقة على الحائط، وظل واقفا يسترجع ذكريات أثيرة لديه عن فترة من أهم فترات حياته؛ شهادة تروي باختصار حكايته في الجيش، تسجل أن العريف المجند صالح محمد المتولي بهنس قد حقق المركز الثاني في الرماية على مستوى سلاح المشاة. كان زملاؤه من المجندين يغارون جدا من رضاء قادتهم عنه؛ فقد عرف عنه إطاعة الأوامر والانضباط وإتقان العمل، وظنوا، أو كانوا يأملون، بأن الحال سوف يتبدل عندما تأتي تدريبات الرماية، فلون عينيه الفاتح جدا كان يوحي لهم بأنه ضعيف البصر، وأثبتت التجربة أن بهنس هو الصقر الذي لا يخطئ هدفه.
تفاخر أهل القرية بابنهم صالح بعد الأخبار التي بلغتهم عن مهارته الفائقة في الرماية، والترقيتين اللتين حصل عليهما تقديرا لكفاءته، وظل أبناؤه فخورين به إلى أن طمعوا في ولاية مبكرة لعهده، فنصحوه بألا ينظر إلى شاشة التليفزيون حتى لا يفقد بصره. «لماذا يتعجلون موتي والله لم يأذن به بعد؟!» هكذا كان يفكر الرجل، فتطفر من عينه دمعة باردة ويجف حلقه. لقد تعافى تماما من الوعكة الصحية التي ألمت به كما أكد الأطباء، فما بالهم يشعرونه في كل مناسبة أنه أصبح عاجزا يستجدي الحياة؟! ألحوا عليه مرارا بأن يقسم بينهم التركة، فخشي إن فعل أن يلقوا به خارج المنزل. عندما طرده أبوه وأصبح وحيدا فقيرا أمن شر الغرباء، وها هو اليوم يملك الكثير ولا يأمن شر أبنائه.
كان يوم عيد، ولحوم الأضحية تجذب القريب والغريب إلى منزل بهنس، وأفواج الزائرين لا تكاد تنقطع، والجميع صغارا وكبارا منهمكين في أداء طقوس المناسبة، وصالح بهنس قابعا في حجرته، يمن عليه بعضهم بالتحية ويتجاهله آخرون، حتى العيدية تكفل ابنه الأكبر بتوزيعها وتلقي الشكر.
وقت غروب الشمس، كان الجمع قد انفض إلا من قلة من الأقارب انشغلت بالتهام الوجبة الدسمة، بينما كانت الأم تجاهد لإقناع بهنس بتناول طعام الغداء الذي وضعته على سريره. وفجأة دوت صرخة طفل، أعقبتها صرخات وهرج وصيحات، فانتفض بهنس واقفا وهرع يخرج من غرفته ليستطلع ما حدث. كان أحد أحفاده يقف إلى جوار النافذة حين قفز نحوه أحد الذئاب مكشرا عن أنيابه، ولولا الشبكة الحديدية المثبتة على الشباك لكانت نهاية الطفل.
أسرع البعض يغلقون زجاج النوافذ، وتكوم الأطفال في صدور أمهاتهم، ووجم الكبار وهم يتلفتون في كل اتجاه. صرخ فيهم بهنس: انشغل كل منكم بشأنه، ونسيتم إغلاق البوابة الخارجية.
واتجه مسرعا ليتأكد من غلق الباب الداخلي للمنزل، ثم بلهجة حازمة: سوف أصعد إلى سطح المنزل، وليلزم كل منكم مكانه.
هم أحد أبنائه بأن يجري خلفه، فنهره بغلظة، فارتد إلى حيث كان.
بعد دقائق رجع بهنس وقد تجهم وجهه. - قطيع من الذئاب يحيط بالمنزل.
ومن فوره دخل غرفته، ثم خرج وقد خلع جلبابه وطاقيته البيضاء، وحمل البندقية التي احتفظ بها لسنوات داخل دولابه. وأصدر أمره الصارم: لا يفتح أحدكم باب المنزل قبل شروق الشمس.
واتجه صوب الباب. علت أصوات ترجوه ألا يخرج. جال بهنس بعينيه سريعا فيهم، ثم فتح الباب وخرج.
بعد صلاة العصر، شيعت القرية كلها صالح بهنس إلى مثواه الأخير، وكان ضابط النقطة وبعض أفرادها ضمن المشيعين، وتبادل الناس الحديث عن سيرة المتوفى بقدر كبير من الإعجاب، وتضاربت بعض التفاصيل في واقعة بهنس والذئاب حسبما أملى خيال كل شخص.
عندما حضر رجال الشرطة في صباح ثاني أيام العيد، عثروا على جثث لثلاثة ذئاب في مواضع متفرقة في فناء منزل بهنس وخارج سوره، وعلى جثة ذئب رابع في وسط الحقول، كل ذئب صرعته رصاصة أو رصاصات أطلقت من بندقية نصف آلية. أما المزارع صالح محمد المتولي بهنس فقد وجدوه ميتا وهو جالس على الأرض مستندا إلى جزع شجرة وما زال قابضا على بندقيته، وبفحص جسده لم يعثروا على أية إصابات. (تمت)
عضة كلب
اعتدنا أن نشارك الليل أحلامه وهواجسه، وأن نستر بردائه الأسود عوراتنا وأقبح مثالبنا. وبعيدا عن الازدحام والصخب وآلاف العيون العاطلة التي لا عمل لها إلا التطفل على شئون الآخرين، كنا نلتقي بعد الحادية عشرة مساء ليومين أو ثلاثة من كل أسبوع، نجوب الشوارع، ونفترش الأرصفة، ونردد الأغاني والأشعار، ونتناقش في الفلسفة والسياسة والفن وكرة القدم، لا يثنينا عن حياة الليل هذه إلا عظائم الأمور، ولا ننعم من النوم إلا بأقل القليل.
قليلون هم سكان الليل الذين ألفوا وجودنا؛ ساكنو الشوارع من الأطفال، وبعض راكبي «التريسكل» وأصحاب عربات اليد الصغيرة وهم ينقبون بين أكوام القمامة عن رزقهم من الزجاج والبلاستيك والكرتون، ورواد «الغرز» العائدون من أطراف المدينة، وحراس الأبراج السكنية، وشلل من البلطجية الباحثين عن المشاكل، ورجال الأمن وقد تأكدوا بعد تجربة طويلة أننا نحافظ على النظام.
مجموعنا في المتوسط خمسة، نزيد أحيانا وننقص أخرى تبعا للظروف، أعمارنا تدور حول الأربعين، وأغلبنا متزوجون ولهم أطفال. وقد اعتادت أسرنا على هذا الشكل الأنيق من العبث، وربما وجدت زوجاتنا في تغيبنا لوقت طويل عن المنزل راحة لهن من جدالنا الدائم وحذلقاتنا الكئيبة واهتماماتنا السمجة، وعلى أية حال كنا نعود إلى منازلنا أخف دما وأكثر نشاطا وأقل إثارة للنكد.
ليالي الشتاء الباردة والطرقات الموحلة لم تكن سببا كافيا لكي نزهد في دنيانا شديدة الخصوصية، بل على العكس؛ فبعضنا كان يجد لذته في فرك يديه ورؤية بخار الماء يصعد من فمه وأنفه ومنظر حذائه وقد خاض في الوحل. وكلنا بلا استثناء كنا نجد «سندويتشات» الفول المدمس الساخنة في ليالي الشتاء لذيذة بشكل لا يوصف، وربما لهذا السبب كان عم جمعة صاحب عربة الفول أكثر الغرباء قربا إلينا.
لا نعرف عن عم جمعة إلا القليل، فهو نادرا ما يتحدث عن شأنه الخاص، مظهره يخبر عن أنه تجاوز الستين من عمره، لكنه لا يحترف إسداء النصائح وصب اللعنات على الحاضر والجيل الحالي كما يفعل كبار السن، وهو أحيانا أكثر تمردا على الواقع وثقة في المستقبل من غالبية الشباب. لا نعرف له زوجة ولا ولدا، ولم نسأله عن محل ميلاده أو عنوان مسكنه. توقف في تعليمه عند الإعدادية كما أخبرنا، ومع هذا فهو طلق اللسان يستشهد في حواراته معنا بآيات من القرآن والأحاديث النبوية. يعشق عبد الحليم وأم كلثوم، ويروقه الاستماع إلينا ونحن نردد أشعار نجم وفؤاد حداد، وفي عينيه تختلط الدموع بنظرة الأسى عندما يأتي ذكر جمال عبد الناصر.
عربة عم جمعة إلى جوار الجامع الكبير كانت إحدى محطاتنا الرئيسية في رحلة الليل، ولأن وقفتنا حولها كانت غالبا ما تطول، فقد تعرفنا على بعض زبائنه، وغالبا ما كان هذا التعارف سطحيا على هامش النكات والقفشات وقضم أرغفة الفول، أما لقاؤنا بسعيد قصاقيص فقد كان مختلفا تماما.
كنا نهم بالانصراف عندما ألقى علينا سعيد السلام، فاستوقفنا عم جمعة معربا عن رغبته في أن نتعرف بسعيد، ثم أشار إليه ولم يكمل حتى رأينا سعيد ينحني مبتسما: محسوبكم سعيد. وأكمل بالإنجليزية: «بت نوت هابي.» (وهو يعني بهذا أن اسمه سعيد لكنه ليس سعيدا). واستفسر ضاحكا: البعدا مش كده برضه؟
وعلت ضحكاته تقلق سكينة الليل.
لاحظ عم جمعة امتعاضنا فتدخل قائلا: الأستاذ سعيد مدرس أول الرياضيات بالمدرسة الثانوية.
عقب أحدنا متعمدا أن يكون سمجا: مساء الهندسة يا عم.
رد سعيد: ده تفاضل منك.
وواصل ضحكاته المتقطعة الحادة. تركنا المكان غير معقبين، وواصلنا سيرنا، وأدركنا سعيد بعد عدة أمتار، وضاحكا أيضا قال: أشكالكم تثير فضولي وأنا مصر على صحبتكم، لنمض سويا إذن. وتأبط ذراعي!
ضحكته علامة مسجلة تنطلق بنغمة واحدة، وترتسم على وجهه بنفس الملامح في كل مرة مهما تغيرت المواقف، وكأنها قناع استعاره من شخص آخر أو اشتراه من أحد المتاجر. كنا مرغمين على صحبته في اليوم الأول، ثم برضانا تواعدنا على اللقاء مجددا في اليوم التالي، وسريعا ما ذابت الفواصل بيننا وأصبح عضوا في جماعتنا. قارئ جيد، لماح، ويسخر من كل شيء، يبدو بسيطا وشديد التواضع، ناقما بشدة على الأثرياء لكنه ليس بشكاء ولا بكاء. يستمع أحيانا إلى فيروز، ويمل سريعا من مشاهدة مباريات كرة القدم. لا يتابع بانتظام نشرات الأخبار والبرامج السياسية كما نفعل، ويدعي أنه غير مهتم بشئون السياسة والحكم. يطيل الإصغاء لحديث جاد ولا ينسى أبدا أن يعقب في النهاية بكلمة إنجليزية قد تكون غير ملائمة شكلا للموقف لكنها بإيجاز توحي برأيه في الأمر، يعقبها بضحكته المعهودة وما يجري على لسانه اللاذع الخفيف الظل . ينطق بالحكمة تارة وعابثا يطلق النكات تارة أخرى. أنيق في غير إسراف أناقة الشباب في أوروبا وأمريكا، وفيما عدا ملابسه فمظهره يوحي باللامبالاة والعبث؛ نظرة عينيه وشعره ولحيته ووقفته وجلسته ومشيته وحديثه وضحكاته.
تعرف واحد منا على زميل لسعيد يعمل في نفس المدرسة، فأخبرنا بما لم يخبرنا به سعيد عن نفسه: سعيد قصاقيص زعيم الرياضيات بلا منازع، عبقري لا يدانيه في الرياضيات حتى مستشار المادة في الوزارة؛ ولذا يتجنب الموجهون مناقشته في المادة العلمية ويخشون من إبداء الملاحظات على أدائه، وهم لا يستريحون إليه ويقدمون عليه من هم دونه في التقارير السنوية، ويرشحون غيره للترقية. أما زملاؤه من المعلمين فهم على العكس يحبونه ولا يخجلون من طلب مشورته في الرياضيات؛ ربما لأنه ليس منافسا لهم في الدروس الخصوصية، فهو لا يسعى إليها، وأغلب من درس له الرياضيات من التلاميذ لا يستمرون معه، فلا يبقى معه إلا النوابغ، وهم قليلون، وبعضهم أحرز مراكز متقدمة على مستوى الجمهورية في الثانوية العامة. يرفض العمل في مدارس البنات والتدريس للفتيات، ويتجنب تماما التعامل مع زميلات المهنة. يصر دائما ألا يعطي درسا خاصا لتلميذ واحد بمفرده، وأيا كان الأجر الذي يعرض عليه فهو يرفض بشكل قاطع أن يذهب إلى تلميذ في منزله، وقد عرضه هذا الموقف المتشدد لبعض المشاكل مع أولياء الأمور من وجهاء المال والسلطة.
ويتناقل زملاؤه حكايته الشهيرة مع المحافظ؛ فقد أرسل إليه المحافظ من يتفق معه على درس خصوصي لابنته، وبالطبع طلب منه أن يكون الدرس في فيلا سيادته، والأمر من كل الوجوه كان صادما للأستاذ سعيد فلم يتردد في الاعتذار. حذره البعض من مغبة هذا الرفض، وكالعادة كان هازئا يرد: هيسخطوك يا قرد يعملوك إيه؟ ناظر! أما المحافظ فقد ظن أنه معتوه، أو هكذا يخمن البعض.
وقصاقيص سعيد هي عصا التأديب التي يقرع بها أصحاب الملايين من الموجهين الذين يسيطرون على مراكز الدروس الخصوصية. والقصاقيص جمع قصاصة من الورق، ورقة صغيرة يلتقطها سعيد عشوائيا من المكان الذي يوجد فيه ولو كانت ملقاة في كوم قمامة، ويخرج قلمه ويخط عليها معادلة أو مسألة رياضية يطلب من أحد التلاميذ توصيلها لغريم تجرأ على التقليل من شأنه في الرياضيات، وغالبا ما يفشل الجميع في حلها، وقصاقيص سعيد لا يرد عليها أبدا بمثلها، هكذا علمتهم التجارب معه.
تقدم سعيد لمسابقة للترقية إلى وظيفة موجه، ربما لكي يشاكس رؤساءه فحسب، وجاءت النتيجة طبعا في غير صالحه، فتوجه إلى مكتب التوجيه الفني والذي بيده قرار اختيار الأنسب للوظيفة، وأثناء اجتماع المكتب جذب سعيد أحد المقاعد وجلس في مواجهة الجمع بابتسامته المعتادة وخاطبهم: سؤال سهل وليس قصقوصة: لماذا تم استبعادي؟ دمي ثقيل أم مسألة كفاءة علمية!
أجاب كبيرهم: لا هذا ولا ذاك، أسلوب التعامل مع الزملاء والرؤساء.
مط سعيد شفتيه ثم أطلق ضحكته المميزة، وجالت عيناه في المكان، وراقته سلة القمامة، فرفعها ثم أفرغها فوق رأس الموجه العام. وهادئا وسط دهشة المجتمعين لوح بيده قائلا بالإنجليزية: «سي يو ليتر.» (أي إلى اللقاء)، وترك المكان، وأصداء ضحكاته تنسحب بطيئة في إثره.
لم يمض الكثير حتى توطدت علاقته بنا بل وأصبحنا نفتقده جدا إذا غاب، فقد أضفى علينا ربما ما كنا نسعى بالفعل إليه وننكره على أنفسنا: روح العبث. لم نعلن لحظة الصدق هذه لأحد ولا لأنفسنا؛ فقد كنا في شك دائما من جدوى ما نفعله لأنفسنا ولمن حولنا، إننا نحوم في الفراغ كفراشات شيطانية ونظن أننا نحرث الأرض للحرية، وكان سعيد هو الذي قذف في وجهنا بالحقيقة التي أعمينا بصيرتنا عنها.
فر الناس من حرارة علب الطوب التي يسكنون فيها إلى الشوارع والميادين يستجدون نسمة هواء باردة، وامتدت جولاتهم وجلساتهم في الطرقات وعلى الأرصفة إلى أذان الفجر. لقد استعمروا مملكتنا واغتصبوا الخلاء الذي نحلق فيه، لكننا نملك رفاهية البدائل المتاحة، فاتفقنا على الفور على شراء فراغ جديد أرحب نعبث فيه كما اعتدنا. قررنا أن تكون لقاءاتنا ليلا في المصايف المجاورة حيث البحر والهواء المنعش والمطاعم «والكافيهات» ولامبالاة المصطافين بالغير، إضافة إلى متعة السفر ليلا على طرقات غير مزدحمة وبصحبة صديق مقرب. واعتزمنا أو كنا مجبرين على أن نخفي الأمر عن أسرنا، ومكنتنا سياراتنا الخاصة من السفر والعودة إلى المنزل في المواعيد المعتادة دون أن يلحظ أحد. واتفقنا أن أصطحب سعيد معي في سيارتي، وانطلقت أول قافلة لنا.
على غير عادته مكث سعيد صامتا أغلب الطريق، حاولت أن أحفزه على الحديث فكان يجاملني وسريعا ما يعود إلى صمته. بعد أن التأم شملنا قضينا بعض الوقت على الشاطئ وقد انفرجت أسارير سعيد بعض الشيء، لكن ضحكته الرنانة لم تنطلق بعد، وأمسك لسانه اللاذع عن أي تعليق واكتفى بمراقبتنا وكأنه يرانا للمرة الأولى. دعانا واحد منا إلى عشاء فاخر بأحد المطاعم على نفقته، ثم جلسنا لبعض الوقت في أحد الكافيهات، وأصر سعيد أن يتحمل فاتورة الكافيه. أنعش هذا التغيير روحنا فعدنا إلى منازلنا أسعد حالا بعد أن تواعدنا على اللقاء التالي.
تخلف سعيد عن صحبتنا لفترة طويلة حتى استبد بنا القلق عليه، لم يكن أحد منا يعرف عنوان سكنه، فاعتزمت المرور على عم جمعة، وهو تصرف أكثر لياقة من الذهاب إلى مقر عمله في المدرسة.
استقبلني عم جمعة عاتبا: سعيد رجل طيب، ماذا حدث بينكم؟
أخبرته أنه تغيب عن لقاءاتنا دون سبب، وأنني أتيت لمقابلته عساه يعرف عنوان مسكنه، تردد الرجل قليلا ثم قال: هو يسكن معي.
كان رده مفاجأة لي، حاولت أن أخفي تعجبي وآثرت الصمت كي أترك له ولي فرصة تأكيد الخبر أو نفيه، عم جمعة كان فطنا بما يكفي كي يعرف ما يدور برأسي. - سعيد ابني. إنه ليس من صلبي لكنه جزء مني وأنا جزء منه، وهو من تبقى لي في هذه الدنيا.
الأمر إذن لم يكن يتطلب رغيفا وطبقا من الفول أتناولهما واقفا، فأنا في أمس الحاجة إلى سيجارة وجلسة طويلة. وجلسنا أنا وعم جمعة على إحدى درجات سلم الجامع الكبير.
مات والد سعيد وهو ما زال طفلا في العاشرة من عمره، يحمل ذكرى أبيه وحيدا بلا أخ ولا أخت. كان المعاش الذي تركه الأب يقيه وأمه ذل السؤال وإن لم يكفل لهما رغد العيش. بعد عام واحد من وفاة زوجها تزوجت الأرملة الناضجة بشاب يصغرها بسنوات، وكأنها جلبت لابن الحادية عشرة من عمره غريما متحفزا لا أبا. كانت تتغاضى عن وحشية زوجها في التعامل مع الصبي، وكانت تتعامى عن رؤية دموع سعيد تستعطف الأمومة فيها أن ترحمه؛ فقلبها كان يقطن مكانا أبعد كثيرا من صدرها. أجبره زوج أمه على العمل وترك المدرسة على أن يأتيه بكل ما يحصل عليه من أجر لقاء بقائه بالمنزل، وخضع الصبي، فازدادت شهية زوج الأم لمال لا يكد لأجله وطالبه بالمزيد، ولأن سعيد كان أجيرا فقد كان يحصل فقط على ما يرضى صاحب العمل أن يمنحه، وعندما حاول أن يجد عملا آخر أو عملا إضافيا، علم صاحب العمل بأمره فطرده، وطرده زوج أمه من المنزل أيضا وكأنما وجد الفرصة السانحة لنيل مأربه. لم تعترض زوجته، ولم تراجعه في الأمر، ولم تركع أمام قدميه تستجديه العفو والرحمة، بل لم تربت حتى على كتف ابنها وهو يغادر منزله، فبصق سعيد في وجهها وانصرف.
يحكي عم جمعة أنه تعرف على سعيد في نفس اليوم الذي ترك فيه منزله. كان عم جمعة يعمل خادما لزاوية، وفي الوقت نفسه كان يدرب الصغار على حفظ القرآن. وفي إحدى الليالي توجه كعادته كل يوم لفتح الزاوية ورفع أذان الفجر، فوقع بصره على الصبي يرقد نائما أمام الباب مباشرة، أيقظه بهدوء، فانتفض سعيد من نومه مذعورا، ربت عم جمعة على كتفه وطلب منه أن يتوضأ ليشارك الجماعة صلاة الفجر. انفض المصلون وتلكأ سعيد في الانصراف، فجلس عم جمعة قبالته يسأله برفق عن حاله.
فقد عم جمعة زوجته وأبناءه عندما انهار المنزل على من فيه، وظل يعيش وحيدا لسنوات، حتى وجد سعيد، فأصبح منذ اليوم الأول أعز ما يملك في دنياه، وكان سعيد أوفى الناس نحو منقذه. حفظ سعيد القرآن كاملا عن عم جمعة في وقت وجيز جدا أثار دهشته، ورأى الرجل فيه صبيا نابها ومن الظلم أن يعده ليخلفه في الزاوية أو يحترف قراءة القرآن على المقابر. تفرغ سعيد بالكامل لمذاكرته وتقدم لامتحان الابتدائية ثم الإعدادية (منازل)، ورفض أي عون عرض عليه لمساعدته في دروس الثانوية العامة، واجتاز اختباراتها من المرة الأولى والتحق بكلية العلوم. جاءه خبر وفاة أمه فاكتفى بأن قال ممتعضا: أراحتني. رجاه عم جمعة أن يذهب لتلقي العزاء، فأقسم ألا يفعل.
تفاصيل الحكاية كانت تشدني، لكن الأولى وقتها أن أطمئن على حاله وأعرف سبب تغيبه. قاطعت عم جمعة: ما الذي أغضبه منا؟
فتعجب الرجل: ظننت أنه هو الذي أغضبكم.
رافقنا سعيد في الرحلة التالية إلى المصيف، ولاحظنا جميعا أنه يتكلف في سلوكه وينتقي كلماته على غير عادته، كان يحاول جاهدا أن يبدو كما عهدناه فبدا غريبا جدا. تجاهلنا الأمر حتى لا نفسد ليلتنا وعزمنا على الذهاب لتناول الطعام في أحد المطاعم كما نفعل في كل لقاء، وفوجئنا بسعيد يعتذر عن مرافقتنا. واجهناه كلنا مستهجنين اعتذاره، تجاهل ما قلناه، وطلب منا أن نصطف جالسين أمامه كتلاميذ مدرسته، ففعلنا ممنين أنفسنا بفاصل فكاهي يروح عنا. وقف سعيد في مواجهتنا متعمدا أن يكون جادا، وهو نادرا ما يفعل، قال: سؤال بسيط وليس قصقوصة: لماذا يغض رجال الأمن أنظارهم عنكم؟ وأدهشنا السؤال فهو يوحي بإساءة جسيمة لنا، ولم يرد أحد، وانتظرناه حتى يفصح عن غرضه. أكمل وكأنه موقن أنه لن يجيب أحد: كنت أظن أن أجهزة الأمن في بلدنا غافلة عنكم، لكنني تأكدت فيما بعد أنهم يجيدون عملهم، ويدركون جيدا ما يفعلون. إنكم أكثر ملكية من الملك، تصدعون رءوسنا بالثورة والاشتراكية والعدالة والانتصار للفقراء، بينما تعيشون في بذخ وتشاركون الأغنياء في سرقة نصيب الفقراء والتعالي عليهم، وتهيبون بالحكام أن يمعنوا في إفقار الناس لتطوير أدوات الإنتاج، وأن يتمادوا في إذلالهم كي ينضج وعيهم الطبقي. لا ترون حرجا في أن تمروا إلى المستقبل فوق جثث الملايين من البؤساء!
عقب أحدنا: لا تنتظر منا أن نكون أعضاء في جمعية خيرية.
رد سعيد: ولا تنتظر أنت يا سيد لينين أن يصدقكم أحد.
علت وجهه ابتسامة ساخرة وهتف مقلدا صوت مهرجي السيرك: هلموا الآن يا رفاق نخرج للنضال في مطعمنا الفاخر، زاد الثورة بانتظارنا.
ساد الوجوم، وما لبث أن أطلق سعيد ضحكته المعهودة وصرخ في وجوهنا بالإنجليزية: «ليرز.» (أي كذابون)، ولوح مودعا، وانصرف، ولم يستوقفه أحد.
مرت أسابيع لم نلتق خلالها بسعيد، كنا نأمل ألا تنقطع صلته بنا، وكأننا في اشتياق لجلد ذواتنا والتطهر من خطيئة لا نعرف سبيلا إلى الخلاص منها. وفي إحدى ليالي الشتاء، كنا قد بلغنا تقريبا ميدان الجامع الكبير حيث عربة الفول وعم جمعة، حين تهادى لأسماعنا صوت نباح لمجموعة من الكلاب يعلو أحيانا ويخفت أخرى، وفجأة اختلط نباح الكلاب بعواء متقطع، فالتفتنا إلى الخلف فأبصرنا ما لم نصدقه، كان سعيد يعدو مطاردا جماعة من الكلاب، والكلاب تفر من أمامه مذعورة!
لمحنا سعيد فلوح من بعيد قائلا بالإنجليزية: «هالو كومرادز.» (مرحى أيها الرفاق).
وواصل ما كان فيه، وغاب في أحد الشوارع الجانبية، ثم ظهر من جديد مستمرا في مطاردته، وعندما حاذانا أبطأ وهو يشير إلى الكلاب التي تلهث مبتعدة: ابن الكلب ده مزق بنطلوني الجديد ليلة أمس، كان ينوي أن يمزق لحمي أيضا.
وعاد يعدو وجميعنا نضرب كفا بكف. غابت المطاردة عن أعيننا لكنها ظلت مستمرة في نفس الشارع الجانبي مرة أخرى، وكالبلهاء أسرعنا الخطى كي نرقب نهاية المعركة. كان الشارع الجانبي في الواقع حارة مغلقة لا منفذ لها غير مدخلها، وكان سعيد يحاصر الكلاب يمينا ويسارا يسد عليها منفذها الوحيد. وأخيرا وجدناه يقفز مرتميا فوق أحد الكلاب بعد أن حاصره في إحدى الزاويتين. كان الظلام يعوقنا عن رؤية دقائق ما يحدث، لكننا سمعنا الكلب يطلق عواء مستمرا، ثم وجدناه وقد أفلت من سعيد وأطلق سيقانه للريح مبتعدا حتى اختفى عن الأنظار. نهض سعيد من على الأرض ينفض التراب عن ملابسه واتجه نحونا، ومطلقا ضحكته المعهودة قال: قضمت أذنه. كلب. (تمت)
شيطاني المفترى عليه
كشفت عن نفسك لي للمرة الأولى ليلا كما تفعل كل الشياطين، كان الظلام يغشى حجرة نومي ساعتها ، فكيف تسنى لي أن أراك والظلام لا يضيء ظلاما؟! وكأننا تواعدنا على اللقاء، أنت جئت في موعدك، وكنت أنا في انتظارك، فلم يتملكني الرعب لرؤيتك كما تروي الأساطير القديمة.
الأطفال لا يعرفون الشياطين، ليس لأنهم لا يخطئون، بل لأنهم لا يتعمدون الخطأ، ولقد بلغت الآن من العمر ما يؤهلني للدخول إلى مملكتك.
كدت أركع عند قدميك أستجديك المعصية، لكن النار التي اشتعلت بداخلي كانت أخف وطأة علي من جحيمك، فصبرت، لعلك تبادر أنت لا أنا بالخطوة الأولى فتحمل عني بعضا من وزر الخطيئة. وقد تعلمت بعد أن خبرت خبثك، أنك لا تأتي أبدا دون دعوة صريحة، وخيلاؤك الطاووسي يمنعك أن تطلب، إنك فقط تمنح من يستجدي.
سريعا تجاوز حبي للفتيات رسائل الغرام والزهور الحمراء وفسحة الكورنيش وتبادل الإشارات الخجولة عبر الشرفات وأسطح المنازل، ما عدت أختلس النظرات إلى الفتيات فحسب، أصبحت أنظر إلى كل الإناث من تحت ملابسهن، لكن ضعفي، والسوط في يد أبي، والطرحة البيضاء على رأس أمي تكفلوا بالإبقاء على بكارتي.
مكثت طويلا أبكي خيبتي وأنا أصغي لمغامرات الرفاق في مقاعد السينما الخلفية وعلى درجات السلم وفي الفنادق السيئة السمعة وشقق العزاب، ولا أدري إن كانوا يبالغون أو يختلقون الوقائع، أو أنني أكذبهم لأنهم يأتون بما لا أقدر على الإقدام عليه.
لأنني قد تربيت على القهر، فقد كان رضاء الناس عندي أولى من اتباع الحق. كنت أخشى أن تنبذني جماعة الرجال، أو أن تأمنني النساء إذا ما خلوت بهن. أردت أن يباركني الشيطان فورا وبأي ثمن، وأن يعلن على الملأ أنني قد اقترفت خطيئتي الأولى وأضحيت ذكرا.
كي يأتيني عونك أيها الشرير ضحيت بالجنة، ورضيت أن يراق دمي قربانا لرضائك. لا رعد ولا برق ولا عواصف ولا زلازل، حضرت ناعما كالأثير، وعلى حافة فراشي جلست، سرت بجسدي رعشة، فانتفضت من نومي ورأيتك تبتسم، فتحت فاهي وما كدت أنطق حتى أومأت برأسك أنك قد فهمت شكواي. كان النوم يغالبني، فأغمضت عيني مستسلما.
أخذت بيدي بنعومة واستسلمت أنا كطفل وديع لا حيلة له، حلقت بي فوق كل المحظورات والنواهي، وفي منزل جارتي الجميلة المتعالية التي ألهبت ذكورتي هبطنا معا. أشرت إلى حجرة نومها فتراجعت وأنا أنهر تلصصك على الآخرين، تركت يدي تفلت من قبضتك دون مقاومة منك، واتجهت أنت صوب التلفاز وجلست تقلب مفتاح القنوات وتحاول إخفاء ضجرك، وبعد قليل رأيتك تستلقي على الأريكة المجاورة وتستغرق في مشاهدة أحد أفلام «ميكي ماوس». أما أنا فقد تصلبت في مكاني ورأيت أن الأولى بي أن أنصرف فورا. تراجعت، ورحت أستطلع المنزل، وعند حجرتها توقفت، والتفت إليك لأرى إن كنت تراقب حركاتي، وما إن أيقنت أنك استغرقت في النوم، حتى انحنيت مسرعا لأنظر من ثقب مفتاح حجرتها. لم أشاهد ما رجوت أن أشاهده، فاعتدلت ووضعت يدي على مقبض الباب مترددا، وعندها أسرعت أنت إلي ودفعتني إلى داخل الغرفة.
رأيتها تستلقي في نعومة تحتضن الوسادة وقد انحسر ثوب نومها الأبيض عن ساقيها الناعمتين وثدييها النافرين. كم كنت أتمنى فقط أن ترد علي تحية الصباح، وها هي الآن وجبة شهية تنادي من يلتهمها، بالأمس كانت ترفل في الحرير وتسبح في السحاب فلا تطالها عين أو يد، وهي الآن أمامي، في متناولي، لحما وأنفاسا وعرقا وملابس صنعت لتخلع. نظرت إليك أستعطف خبثك، واستجبت أنت على الفور، وفي لحظات رأيتها عارية تماما وقد أخذت تستيقظ، ورأتني فما حاولت حتى أن تغطي جسدها، بل مدت ذراعيها تدعوني، وتلفت خلفي فأيقنت أنك أخليت لي الساحة.
هل كانت خادمتك أيها القواد الأكبر، أم أنها إحدى ضحاياك؟
أفقت فلم أجدك عند حافة الفراش، كنت قد فرغت من أداء دورك، وكان علي أن أمضي في الطريق منذ الآن بمفردي، أشعلت بداخلي نارا جوعى لا تطفأ، وتركتني أبحث عن فرائسي.
في مساء اليوم التالي طرقت بابها في جرأة لم أصدقها، رحبت بي، أردت أن أتأكد أن ما حدث بيننا بالأمس لم يكن مجرد حلم، سألتها، طلبت ثمن الإجابة عن السؤال مقدما، أعطيتها كل ما معي، أجابت: نادرا ما أتذكر وجها من الوجوه العديدة التي أراها.
بإرادتي أنا، ومن عرقي وجهدي وأعصابي ومال أبي ونصائح رفاقي، تسوقت واشتريت كل ما يلزمني من وسائل العشاق، وأرقت الدماء زلفى لآلهة الحب، ونجحت بعد مشقة في التهام الثمرة الحرام. وانتظرتك كي تأتي مهنئا، فلم تفعل.
استعذبت الخطيئة وتباهيت بدنسي، وأخرجت لساني للعرف والقانون والأخلاق وأبي ومعلم اللغة العربية، لكن الحياة خارج جدران السجن تجعلك المسئول الوحيد عن مصيرك، فتتمنى لو أعادوا وضع القيود حول معصمك.
في كل مرة وبعد أن تسكن رعشة النشوة في جسدي، ترتخي أعضائي وينشط ضميري معذبا، وبدلا من أن تمد لي يد العون ساعتها، تفر هاربا، إنك حتى لا تعينني على النسيان وتمنحني بعضا من المخدرات التي أدمنتها، وتضطرني لسرقة مال أبي. نعم، أدركت الآن فقط أن حلقات الشر يجب أن تكتمل. أنت تاجر جملة أيها الملعون.
كيف امتدت أظافري تمزق شرف أقرب الأصدقاء إلى قلبي؟! لم تكن زوجته جميلة وما كنت وقتها مشتاقا لأحضان أية أنثى، لكنني بذلت كل جهد ممكن للإجهاز عليها. لقد رقي صديقي إلى الوظيفة التي كنت أطمح لنيلها، إنه بالفعل غير جدير بها، وأنا على ثقة أنه قد اشتراها من بائعي الضمائر. لقد استعنت بك فخذلتني عندما اقترحت علي أن أقدم رشوة معتبرة لقاء اختياري للترقية. رفضت اقتراحك المكلف الثقيل الظل؛ فشراء المخدرات عندي أولى، وكنت أظن أنني بلغت من الفسق الحد الذي يجعلك لا تدخر وسعا لإشباع نزواتي دون ثمن، لكنك شحيح حتى في الشر!
كانت المخدرات تستنزف راتبي الضئيل، وكنت مستعدا أن أبيع أي شيء مهما غلا وعز واستحال تعويضه، كي أطردك من رأسي لبعض الوقت فأتناسى ما اقترفت من ذنوب. كنت أناصبك العداء تلك المرة فوجدتني أستعين بأسلحتك أنت على حربك. كنت غبيا إلى أقصى حد وهزمتني أنت شر هزيمة.
منعت عن أسرتي المبلغ الضئيل الذي كنت أعينهم به على مصاعب العيش، وتراجعت عن المساهمة في تكاليف زواج أختي الصغيرة، وقبلت الرشوة في وظيفتي بفجور. أصبحت في حاجة إلى المزيد من المخدرات فازددت فجرا.
خلف وكيل النيابة الإدارية كنت تقف وترمقني ساخرا، كنت تتشفى في فأر استقوى على ملك الغابة فناصبه العداء، ولكي تؤكد لي أنك وحدك المخلص، ولكي يزداد ريشك المزركش تألقا، همست في أذني بخطة محكمة استطعت بفضل دهائها أن ألصق الاتهام بغيري، وأفلحت، وأفلت من العقاب على ذنب اقترفته عامدا.
تزوجت، وما كان ينبغي لي أن أتزوج، فمثلي لا يثق برجل أو بامرأة. وأظنها كانت زوجة صالحة أرسلتها لي العناية الإلهية، كانت تسهر على راحتي كأم حنون، وتسدي لي النصح كخل وفي، وتحاول إسعادي قدر الممكن كزوجة مطيعة مخلصة، وكانت تحاصر أخطائي كشيخ بار. أما أنا فكنت أكره أبي وأساتذتي في المدرسة والجامعة ورجال الشرطة ونصائح كبار السن، كنت أكره أي سجن يسحق إرادتي مهما بدا جميلا، فبدأت أنفر منها وأحملها خطايا كل السجانين. وحينها أتيت أنت على عجل تقترح علي أن أطلقها، فلما رفضت ألححت علي أن أفعل، فطلقتها. وبدونها أضحت حياتي أكثر قبحا وفسادا، أما هي فقد تزوجت بثري أرمل، منحها من الود والمال ما لم تكن تحلم به لأنها كانت تراعي الله في أبنائه اليتامى. كانت تحول بيني وبينك أيها الشرير فأردت التخلص منها حتى لو كان في بعدها عني سعادتها. مثلك لا يجود بخير، والحقيقة أن زوجتي كانت عصية على إرادتك.
مرت سنوات العمر وأوشكت أن أبلغ نهاية الطريق، فنظرت خلفي أسترجع ما فات. ماذا يفيدك أيها الشيطان لو أن مملكة الجحيم اكتظت بالوافدين إليها؟ لن يجديك التفاخر شيئا لأنك هالك لا محالة وقد كتبت عليك اللعنة، ولو أننا برحمة من ربك نجونا لأضحى مصيرك أكثر بؤسا. تحاملت عليك كي أجد منفذا للنجاة.
صرخت ألعنك، فأتيت على عجل تسد علي طريق التراجع، نهرتك، ونزعت القناع عن وجهك، تراجعت مذعورا، لقد رأيت وجهي أنا وكأنني أنظر في مرآة. (تمت)
حديقة الموت
طالب المواطنون في الدولة العالمية أن يتضمن دستورهم الجديد حق الإنسان في أن يقرر بنفسه متى تنتهي حياته، واعتبروه حقا طبيعيا كالحق في الطعام والشراب والعلاج والسكن والتنقل ، وعلى الدولة أن توفر لمواطنيها الوسائل التي تمكنهم من تحقيق مطلبهم هذا بصورة إنسانية. وقد عكف مجلس الحكماء على دراسة هذا المطلب العام وتقنينه قبل أن يتم قبوله كأحد مواد الدستور.
رأى المشرعون أن الانتحار قرار فردي، غالبا ما يكون متعجلا ويفتقر إلى مبررات جدية، يلجأ إليه الشخص تحت ضغط ظروف طارئة، وأنه إذا ما أمهل هذا الشخص بعض الوقت كي يعيد تقييم موقفه، فإنه سوف يعدل عن قراره، لكن شخصا كهذا لا يصح أن يكون مواطنا في الدولة العالمية؛ فهو ضعيف، متردد، تقوده أهواؤه، وولاؤه لنفسه لا للدولة، ومن الصواب أن يتم استبعاده.
ويشدد الحكماء على قولهم بأن «علينا ألا نكون أكثر ترددا منه، فنمنحه فرصة مجانية لمراجعة قراره، أو نستعطفه لكي يحيا. الجينات المريضة لهذا الشخص يجب ألا تورث لمواطنينا.»
فإما أن يتناول الشخص «حبة الجنة» كما يطلقون عليها، فيفارق العالم على أصوات الموسيقى دون أن يشعر بأي ألم، أو يعدل عن رأيه وتتعلق ذاته المريضة بالحياة، فيساق جبرا إلى معسكرات العمل ليقضي فيها عشر سنوات. هكذا أقر مجلس الحكماء عقوبة التراجع عن قرار الموت الاختياري.
لهذه الأسباب كان اسم «ميتا زد» يبعث على الفزع، وميتا زد هو الاسم الذي أطلق على المؤسسة المسئولة عن تنفيذ قرار الموت الاختياري، إذا ما تخطى الشخص بوابتها الهائلة فقد ذهب في طريق لا عودة منه.
تضم المؤسسة ثلاثة مبان عملاقة تحيطها الأشجار العالية من كل جانب، وخلف تلك الأشجار يرتفع سور شاهق أشبه بأسوار السجون في العصور القديمة. ويستطيع المارة أمام البوابة الرئيسية أن يشاهدوا بسهولة حديقتها الغناء الشاسعة ونافورتها البديعة، وكأن المؤسسة تحاول التملص من هويتها الكئيبة، أو أنها، كما يتندر المواطنون، قد صنعت على هذا النحو كي تغريهم بالدخول! ولهذا أطلقوا عليها اسم حديقة الموت.
في البداية أقبل الناس على الموت كما لو أنهم حرموا من متعته لزمن طويل! وتدريجيا تراجع الإقبال على الموت الاختياري لكنه لم ينقطع، وظلت معدلات الوافدين إلى حديقة الموت ثابتة لسنوات طويلة. وصار الأمر مألوفا حتى بات لا يلتفت إليه أحد، إلى أن نشرت إحدى الصحف إحصائية أشارت إلى أن أعداد الوافدين إلى مؤسسة ميتا زد قد هبطت فجأة في الشهور الثلاثة الأخيرة إلى أقل من العشر، وما زالت آخذة في التراجع.
أثار هذا الخبر فضول الصحفية أرينا، خاصة لأنها كانت مهتمة بما تناثر من أخبار أو شائعات عن مؤسسة ميتا زد، تساءلت: ما دام أن تغيرا لم يحدث في المجتمع أغرى بعض البائسين فجأة بالاستمرار في الحياة، وأن الموت ما زال هو نفس الموت، فلماذا أجفل المنتحرون من هذا الموت المريح الذي يمنح مجانا في ميتا زد؟
أقدمت أرينا على مغامرة لم يسبقها إليها أحد، قررت أن تدخل إلى حديقة الموت وأن تخرج منها أيضا!
بعد ثلاثة أسابيع تقدمت نور، الصديقة المقربة إلى الصحفية أرينا، ببلاغ إلى الإدارة المركزية للأمن ذكرت فيه: أن صديقتها تغيبت منذ مدة طويلة، ولم تتمكن إدارة الأمن المحلية في المدينة من العثور عليها أو معرفة أسباب اختفائها. وقالت إن أرينا زميلة لها وتعمل صحفية لدى إحدى المجلات الواسعة الانتشار، وكانت تعتزم قبيل اختفائها إعداد تحقيق صحفي عن حديقة الموت، ترصد فيه مشاعر اللحظات الأخيرة لمن اتخذوا قرار الموت الاختياري، فتقدمت بطلب للمؤسسة المعنية ورفض طلبها. ووجدت أرينا أن الحل الوحيد لمشكلتها هو أن تتقدم بطلب للموت الاختياري وتعيش التجربة كاملة، وما إن تفرغ من مهمتها حتى تكشف عن شخصيتها الحقيقية للمسئولين هناك. وأضافت الصحفية نور أنها أقلت زميلتها في سيارتها الخاصة حتى بوابة ميتا زد، ولم تسمع عنها شيئا منذ ذلك اليوم.
أخفت نور الغرض الحقيقي من دخول زميلتها أرينا إلى ميتا زد كي لا تثير ضدها حفيظة المسئولين في إدارة الأمن.
كلفت إدارة الأمن المركزية الكابتن أديمار ببحث الموضوع، فأرسل على الفور مساعده الملازم عمرو إلى ميتا زد ليجمع كل ما يمكن من بيانات عن رواد المؤسسة خلال السنة الأخيرة، وبيانات العاملين بها، وكذلك أية معلومات عن الصحفية أرينا. أما الكابتن أديمار فقد انطلق للقاء الصحفية نور .
أكدت نور من جديد أنها أوصلت أرينا إلى بوابة ميتا زد بنفسها، وكانت كلماتها ونبرة صوتها توحيان بأنها تحمل المؤسسة مسئولية اختفاء صديقتها.
سألها الكابتن أديمار: أتعتقدين أنها اختطفت؟
أجابت نور: أو قتلت، فربما توصلت خلال تحقيقها الصحفي إلى رصد مخالفات تشكل خطرا على العاملين بالمؤسسة.
رد أديمار: حسك الصحفي قد يضخم أمورا هي في الواقع بسيطة ومألوفة. لا تنسي أننا نتحدث عن مشاريع موت لبشر قد نفضوا أيديهم من الحياة كلها، وأي مخالفات ترتكب في تنفيذ مشروع الموت لن تؤدي إلى شيء إلا إطالة الحياة! فمن نعاقب؟ وعلى أي شيء؟
ما قاله الكابتن شوش تفكيرها، فحديثه منطقي، والثقة التي يتحدث بها تجبرها على التراجع عن ظنونها، لكن نور ظلت بعد اللقاء على يقين بأن هناك خطأ ما؛ ولذا فقد عقدت عزمها ألا تدع الأمر كله بيد الأمن، وعليها أن تعيد النظر فيه معتمدة على مهارتها الصحفية.
أكدت البيانات التي جمعها الملازم عمرو صحة الإحصاءات التي نشرت في الصحيفة، والتي تشير إلى التناقص الملفت والمفاجئ في أعداد الوافدين على ميتا زد، وأكدت في الوقت ذاته أن المؤسسة لا تسعى لإخفاء الأمر. وكانت المفاجأة التي أثارت دهشة الكابتن أديمار أن البيانات تخلو تماما من ذكر أي شيء عن أرينا؛ فلا هي دخلت ميتا زد، ولا أنهت حياتها، ولا أرسلت إلى معسكرات العمل، فقفزت بعقله فرضية لا تخلو من منطق، هي أن الأسباب التي جعلت الناس يبتعدون عن المؤسسة، هي ذاتها التي تفسر سبب اختفاء أرينا، إن كانت أرينا قد دخلت ميتا زد بالفعل.
دقق أديمار في بيانات العاملين بالمؤسسة فلم يجد شيئا فيها يلفت النظر، لكنه توقف عند اسم البروفسير ماريو رئيس المؤسسة؛ فالاسم بدا مألوفا لديه، وهذا يعني أنه شخصية معروفة، فهل يستحق منصبا متواضعا كهذا أن يشغله شخص جدير بالاعتبار! لم يكن أديمار ليتجاهل هذه الملاحظة وسط هذه الضبابية التي تكتنف مأموريته.
بعد أن جمع أديمار بعض المعلومات الأولية عن البروفسير ماريو، قرر اللجوء لأحد أساتذة الجامعة والذي يعمل في نفس تخصص ماريو.
ذكر الأستاذ الجامعي أنه عمل تحت إشراف ماريو لعدة أشهر في مركز الهندسة الوراثية، وهو عالم جليل لا ينكر أحد نبوغه، وقيل وقتها إنه يعمل في أحد المشاريع الكبرى، وكل ما يعرفه أن المشروع محاط بسرية تامة.
سأله أديمار: هل ما زال هذا المشروع قائما إلى اليوم؟ - سبق أن ذكرت لك أنني لا أعلم ما هو المشروع ولا أين تجرى أبحاثه. - هل تعلم أن البروفسير يرأس حاليا مؤسسة ميتا زد؟ - أعلم، ولا أفهم كيف لشخصية مرموقة مثله أن يقبل بوظيفة «حانوتي» متعهد لدفن الموتى!
ترك الكابتن أديمار قيادة السيارة إلى مساعده الذي استمر يدور حول سور المؤسسة ولا يدري سببا لما يفعل، وظل الكابتن يدقق النظر إلى مباني ميتا زد لفترة، ثم طلب من الملازم عمرو أن يصف له مباني المؤسسة من الداخل. ذكر عمرو أن المؤسسة تضم ثلاثة مبان رئيسية؛ الأول مخصص للنزلاء، والثاني للشئون الإدارية، والمبنى الثالث الأضخم يضم المعامل ومراكز الأشعة وقاعات الفحص الطبي ... وهنا قاطعه أديمار متعجبا: أشعة وفحص طبي! أتراهم يسعون للاطمئنان على صحة موتاهم!
فغر الملازم فاه: كيف فاتتني هذه الملاحظة؟ لقد رأيت هذا المبنى من الداخل، إنه مجهز تجهيزا متطورا جدا.
أكمل أديمار: إن مباني المؤسسة أضخم بكثير جدا من احتياجاتها المعلنة، كما أن جيش العاملين بها ومؤهلاتهم العلمية يتعديان بكثير طبيعة المهمة التي تقوم بها المؤسسة.
قبل أن يتناول أديمار إفطاره، تم إبلاغه بأن الصحفية نور تود لقاءه بشكل عاجل، فأسرع إليها. أخبرته نور أن مصدرا، رفضت ذكر اسمه، أبلغها بأن الإدارة المحلية للأمن تلقت عشرات البلاغات التي تتهم ميتا زد بارتكاب مخالفات جسيمة، وقد رفض المصدر الكشف عن طبيعة هذه المخالفات. وذكرت نور أن كل البلاغات لم تكن تحمل أي اسم، باستثناء بلاغين تحرت هي عنهما على أمل اللقاء بمن أرسلهما، فاكتشفت أن الأول لباحث في مركز العلوم الاجتماعية ومحتجز الآن في مصحة عقلية ونفسية ومحظور زيارته، والمفاجأة أن الثاني كان وما زال إلى الآن يعمل في مؤسسة ميتا زد، وقد أنكر حينما تم سؤاله أي صلة له بالبلاغ.
بهدوئه المعتاد قال أديمار: إنك تقحمين نفسك في أمور قد تكون مصدر خطر عليك. مسموح لك بالطبع بعدم الإعلان عن مصادرك، وإن كان التصريح به قد يجنبنا الكثير من المتاعب.
أدركت نور مقصده فهزت رأسها بالرفض، فأكمل: هذا المصدر طبقا لروايتك أصبح معرضا هو الآخر للخطر، ومن واجبنا حمايته.
قالت: لقد أبدى استعداده للإدلاء بشهادته إن تطور الأمر فوصل إلى المحكمة.
لم يجد الكابتن منفذا يصل عبره لمعرفة هوية هذا المصدر، فاختتم حديثه محذرا نور من معاودة التدخل في سير التحقيق، لكنه تعمد أن يكون هذا التحذير أقرب للنصيحة منه إلى الأمر الواجب النفاذ.
في اليوم التالي توجه أديمار إلى إدارة الأمن المحلية للاطلاع على تلك البلاغات، فتلقى من كل المسئولين ردا واحدا يفيد بأنه تم إرسال البلاغات للإدارة المركزية، وأنهم لا يعرفون أي شيء عما احتوته. أثار هذا الإجماع شكوكه، لكنه أرجأ بحث الأمر إلى حين.
كلف الملازم عمرو بمهمة مراقبة الصحفية نور، وليومين متتاليين لم يلحظ الرجل شيئا غير عادي سوى أنها لا تذهب إلى عملها في المجلة، ولا تبرح منزلها إلا للتسوق أو للذهاب إلى المغسلة. وفي وقت متأخر من الليل في اليوم الثالث، فوجئ الملازم عمرو بأصوات صرخات عالية رجح أنها تصعد من شقتها، فأسرع بالصعود إليها، وكان غريبا أن باب شقتها كان مفتوحا، وعندما دخل وجدها ملقاة على الأرض فاقدة الوعي وحولها بضعة أشياء مبعثرة، ولم تكن هناك آثار ظاهرة لجروح أو كدمات.
نقلت الصحفية نور إلى أحد المراكز الطبية، وأفاد الأطباء هناك بأنها تعاني من إجهاد عصبي حاد، وأنها سوف توضع تحت الملاحظة لعدة أيام، ومنعت عنها الزيارة.
لم يمض سوى أسبوع واحد منذ آخر لقاء جمع بين الكابتن أديمار والصحفية نور، ولهذا تعجب أديمار من التغير الكبير الذي طرأ على نور خلال أيام قليلة فقط. عندما دخل حجرتها في المركز الطبي بصحبة أحد الأطباء، كانت نور نائمة وإلى جوارها كان يجلس رئيس تحرير المجلة التي تعمل بها. بدت نور شاحبة هزيلة، والعرق يتصبب من جبينها بغزارة، ومن وقت لآخر كانت أطرافها ترتجف وتفتح عينيها للحظات وسريعا ما تغلقهما. انتظر الحضور حتى أفاقت، أو استيقظت، ونهض الطبيب يفحصها ويهمس إليها ببعض الكلمات. كانت مرهقة للغاية حتى إنها وجدت صعوبة في الجلوس على السرير فساعدها الطبيب حتى استندت إلى إحدى الوسائد. كانت شاردة ولا تستقر عيناها على شيء أو أحد، واستغرقت بعض الوقت إلى أن أدركت وجود أديمار ووجود رئيس التحرير. سألها الكابتن: ماذا حدث؟
بصوت خافت ولحظات توقف وجمل مبتسرة، ذكرت نور أن كل ما تتذكره أن صوتا أيقظها من نومها أثناء الليل، ولم تتبين مصدر ذلك الصوت، ربما كان نداء، أو صوت ارتطام، أو شيئا آخر. وكان من الصعب عليها أن تعود للنوم بعد أن استيقظت، فجلست إلى جهاز الحاسوب، وفوجئت بأن كل ما حفظته على الجهاز من بيانات وصور وأفلام وغيرها قد تلاشى تماما. وعندما تفحصت بريدها الإلكتروني وجدت رسالة مفادها أن المجلة قد وافقت على منحها إجازة لمدة أسبوعين، رغم أنها لم تتقدم بطلب بهذا الشأن، وقد صدق رئيس التحرير على قولها وأنكر صلة المجلة بالرسالة، وأكدت نور أن الرسالة لم تكن تحمل أي اسم أو عنوان للمرسل.
سألها: لماذا صرخت؟
تعجبت: لا أذكر أنني صرخت، ولا أعلم من الذي أتى بي إلى هنا.
توقفت لبرهة وهي شاردة، ثم أردفت: لقد رأيت ... لا لا ربما كان حلما. - يقولون إن باب الشقة كان مفتوحا، هل كنت بمفردك في المنزل؟ هل طرق بابك أحد؟ هل كنت تهمين بالخروج؟
ألحت نور أن يستمر حديثها مع الكابتن، لكن الطبيب أصر على أن تتوقف عند هذا الحد.
اصطحب أديمار رئيس التحرير أثناء خروجهما من المركز، بادر رئيس التحرير قائلا: حدثتني نور مرات في الأمر. ألا ترى أي علاقة بين ميتا زد وما يحدث لها الآن؟ وما حدث كذلك لزميلتها أرينا؟ - نحن لا نعرف إلى الآن ما الذي حدث لأرينا. - وجود مجموعة من العلماء في مؤسسة كتلك يثير الكثير من الأسئلة؟
لم يعقب أديمار. أردف رئيس التحرير: نفوذ العلماء في عصر الدولة العالمية يفوق بكثير ما كان للمحاربين ورجال السياسة في عصور سابقة. لقد باتوا يسيطرون على كل شيء؛ على عقل الإنسان، ووجدانه، وعلى الطبيعة والمجتمع. كاد الأمر أن يفلت من قبضة الإدارة الحاكمة. - ماذا يريد العلماء من الموتى!
أجاب: يريدون، مثلا، أحياء فقدوا الرغبة في الحياة يجرون عليهم تجاربهم. العلماء لا يقيمون وزنا إلا لمنهجهم التجريبي وأغلبهم لا يبالون بالاعتبارات الأخلاقية، وهذا مكمن خطرهم على حضارتنا. وما دمنا نعتبرهم صناع الحياة، فكل شيء لديهم مبرر ومباح.
لم يكن أديمار مستريحا لكلام رئيس التحرير، لكنه ظل لفترة يمعن التفكير فيما قال.
تفقد أديمار والملازم عمرو كل منشآت المؤسسة، وبينما كانا يتجولان في المبنى الضخم الخاص بالمعامل طلب أديمار مقابلة البروفسير ماريو رئيس المؤسسة، وتعجب عندما رأى الرجل المبجل قد تنازل وأتى إليه. ظل أديمار يبدي إعجابه بالتجهيزات المتقدمة جدا في المكان، وتظاهر بأنه مأخوذ تماما بما يراه، أما ماريو فكان هادئا باردا يرسم ابتسامة باهتة على وجهه. فاجأه أديمار: أعتقد أن إعداد الموتى للدفن لا يحتاج إلى كل هذه التجهيزات.
ببرود وامتعاض عقب البروفسير: نحن نترك هذه المهمة الشاقة لغيرنا، ونكتفي فقط بإجراء بحوث محددة لاكتشاف العلاقة بين جينات وراثية معينة والرغبة في الموت الاختياري، بالطبع بهدف وضع حد لهذه الظاهرة.
كان رد ماريو مفحما، فاكتفى أديمار بقوله: على أية حال أنتم تقدمون للدولة العالمية خدمات جليلة.
ناقش أديمار خطته مع الملازم عمرو، قال: إذا افترضنا أنهم يحتجزون أشخاصا لإجراء التجارب عليهم، فلا بد أن يكونوا قد أسقطوا أية بيانات عنهم، وهنا لن تجدي البيانات الرسمية أي نفع. إن الطريقة التي فكرت الصحفية أرينا في اتباعها هي بالفعل الأكثر جدوى. لا بد من الدخول إلى ميتا زد ومراقبة ما يدور فيها عن قرب؛ لذا فإن علينا أولا ...
قاطعه الملازم عمرو: استدعتني الإدارة المركزية. طلبوا مني العودة على وجه السرعة. - كيف لم يبلغني أحد!
في اليوم التالي، اتصل الكابتن أديمار بالإدارة المركزية للأمن، وتعمد ألا يأتي على ذكر الملازم عمرو، وشرع في إبلاغ رئيسه بخطته. قاطعه الرجل محتدا: لقد تجاوزت المهمة التي كلفت بها. أبلغتك المؤسسة رسميا بأن الصحفية أرينا لم تدخل ميتا زد. البحث عن المفقودين من اختصاص الأمن المحلي. مهمتك انتهت، فلتعد تقريرك وتعرضه علي في الغد.
بضعة أسابيع مرت بعد خروجها من المركز الطبي ولم تتمكن نور خلالها من الاتصال بالكابتن أديمار للوقوف على ما تم بشأن اختفاء صديقتها، وأخيرا تمكنت من محادثته هاتفيا، قالت: أردت فقط أن أعرف ما الذي انتهى إليه بحثك في موضوع اختفاء ...
قاطعها أديمار هادئا: لم يعد من صلاحياتي الآن الحديث في هذا الأمر. لقد تم ترقيتي إلى وظيفة أخرى.
قطعت نور الاتصال دون أن تهنئه.
يوم أن تحدثت نور إلى الكابتن أديمار في المركز الطبي لم تكن واثقة تماما أن ما حدث في منزلها كان شيئا مدبرا، والأحداث المشابهة التي وقعت بعد ذلك اليوم داخل منزلها وخارجه جعلتها أمام احتمالين؛ إما أن هناك بالفعل من يحاول أن يبث الرعب في قلبها ويربكها، أو أنها كانت مذعورة خشية أن يصيبها ما أصاب صديقتها، فتواجه مصيرا مجهولا مخيفا تكون فيه نهايتها. والنتيجة في الحالتين واحدة؛ فلقد استبد بها القلق وحاصرها الخوف ولعبت برأسها الوساوس، واختلط عليها الأمر فأصبحت عاجزة عن التمييز بين ما تتوهمه وما يحدث بالفعل.
بعد انتهاء إجازتها عادت نور إلى عملها، واتجهت مباشرة صوب مكتب رئيس التحرير، جلست في مواجهته، ابتسم الرجل ورحب بها، قالت وهي تنكس رأسها: زارتني أرينا في مسكني.
اندهش الرجل. سألها: متى؟ - ليلة أمس. أو ... ربما أول أمس. - هل عادت من ميتا زد؟ - تقول إنها لم تذهب إلى هناك على الإطلاق.
ورفعت عينيها إلى رئيس التحرير، ثم أردفت: صدقني، أنا لم أكذب. لقد أوصلتها بسيارتي إلى ميتا زد، ورأيتها تتخطى البوابة إلى الداخل. - لماذا انقطعت أرينا عن العمل كل هذه المدة إذن؟ - تقول إنها لم تعد ترغب في العمل في المجلة. - ولماذا انقطعت عن زيارتك أو الاتصال بك أيضا؟ - تقول إنها لم تنقطع عن زيارتي.
وانفجرت نور في البكاء، ثم قالت: الحقيقة التي آتمنك عليها يا سيدي هي أنني لست واثقة إن كنت قد رأيت أرينا منذ ذلك اليوم المشئوم أم لا.
نهض رئيس التحرير من مكتبه، وخطا نحوها ثم ربت على كتفها. - أنت في حاجة إلى إجازة أخرى.
في مساء نفس اليوم كانت نور نزيلة في أحد مراكز إعادة التأهيل النفسي. (تمت)
المسامح كريم جدا
في الثانية بعد منتصف الليل استيقظ الحي كله على أصوات صرخات تصعد من منزل الأسطى شعبان الميكانيكي، أضيئت الأنوار وأطلت الرءوس من النوافذ والشرفات تحاول استجلاء الأمر، هرعت بعض النساء نحو المنزل وطرقن بابه، وفضل الرجال الانتظار في الخارج كي لا يهتكوا حرمة البيت، ووقف عم مصطفى أمام كشكه يضرب كفا بكف ويستغفر الله.
عادة ما يعود شعبان إلى منزله قبيل الفجر، لكن الشرطة داهمت «الغرزة» ففر وبعض من كانوا بصحبته هاربين، وآثر الأسطى السلامة فقرر أن يكتفي بما دخنه من حشيش في ذلك اليوم وأن يعود إلى منزله مبكرا عن موعده. طرق الباب عدة مرات فلم يفتح أحد، كان ضيق النفس تلك المرة فهوى بقبضته بقوة على الباب ثم أمسك حين أدرك أنه يحدث ضجيجا يوقظ النائمين، وقرر أن يستدير حول المنزل ليطرق على نافذة حجرة النوم، فتستيقظ زوجته صباح وتفتح له الباب، وقبل أن يصل، رأى النافذة عن بعد وقد فتحت على مصراعيها وقفز منها شخص إلى الشارع وفر هاربا.
لم يصرخ شعبان يستنفر الناس لتعقب اللص، وهو نفسه لم يبادر إلى تعقبه، بل توقف في مكانه يحاول استيعاب ما رأى «هو لص، نعم لص، ومن عساه يكون غير ذلك! إن ملامحه مألوفة بالنسبة لي، ولكن العديد من الناس متشابهون، هل أصبح طارق لصا؟ هل أتى ليسرق منزلي وهو صديقي؟ إنه بالتأكيد شخص آخر يشبهه.»
فكر، أيجري وراءه ليلحق به أم أن الأوان قد فات؟ كان عليه أن يتخذ قراره على الفور، فسواء كان الرجل لصا أو غير ذلك فهو لن يتأنى وينتظره عند ناصية الشارع. أهو أجبن من أن يواجهه؟ أهو أجبن من أن يواجه حقيقة ما حدث؟ أم أن في العجلة الندامة كما يقولون، وعليه أن يتمهل حتى يصبح على يقين، ولكن أي يقين وقد هرب الجاني؟ هل وهنت عزيمته لأنه فكر طويلا، أم أن عزيمته كانت خائرة فتعلل بالحكمة في تدبر الأمر؟
كان شعبان قد ابتعد عدة أمتار فقط عن منزله، منشغل البال يتقدم خطوة ويتأخر خطوة، حتى رأى عم مصطفى يقف خارج كشكه الذي ظل مفتوحا في تلك الساعة، سأله إن كان قد شاهد أحدا يجري منذ لحظات، أجاب الشيخ: نعم، طارق الحلاق. حاولت أن أستوقفه لمعرفة سبب تعجله فلم يلتفت، خير إن شاء الله، ماذا حدث؟ «هو طارق إذن بكل تأكيد، وهو بالتأكيد أيضا ليس لصا، فلماذا أتى إلى منزلي في غيابي وفي هذا الوقت المتأخر من الليل؟ ولماذا فر هاربا حين أتيت؟ الأمر ليس في حاجة إلى فطنة، الأمر في حاجة إلى رجل.»
لم يبق ما يبرر بقاءه في الشارع، فخطا نحو منزله، هل يواجهها بحقيقة الأمر؟ هل ينتظر أن تعترف بجرمها وتقبل قدميه كي يغفر لها؟ وإن فعلت، فهل من الرجولة في شيء أن يسامحها على خيانتها له؟ إن سامحها فقد أعطاها تصريحا مفتوحا لأن تتاجر بشرفه. تعجب شعبان كيف انتظر إلى الآن ولم يفعل شيئا، كان من المفترض أن يطيش صوابه وفي سورة غضبه يحمل سكينا ويجز رقبتها ولو سجدت بين قدميه، كيف لرجل مثله أن يوقن من خيانة زوجته ويظل كما هو الآن هادئا متماسكا، يفكر ويتدبر ويتقدم ويتراجع، تخطو قدماه إلى الأمام وتتراجع إرادته للخلف؟ أليس برجل ككل الرجال!
طرق شعبان باب شقته ففتحت له صباح الباب وهي تتثاءب. سألته: كم الساعة الآن؟ - هل أتى أحد يسأل عني اليوم؟
أجابت: لا. سأعد لك طعام العشاء.
ما الذي يسعى إليه؟ إنها الآن تسخر منه وتستخف به. «أعدت خطتها بإحكام هذه العاهرة، تظاهرت بأنها لا تستطيع النوم ما دامت ترابيس الباب مفتوحة؛ فاللصوص قادرون على فتح أي باب، وهكذا فعلوا مع قريبة لها واغتصبوها بعد أن جردوها من مصاغها. أقنعتني ألا أستخدم مفتاح الشقة حتى أمنحها الوقت الكافي لأن تخفي آثار جريمتها وتودع عشيقها عند النافذة. ماذا أنتظر منها أن تقول أو تفعل؟!»
جرى إلى المطبخ فأمسك بشعرها وانهال عليها بالصفعة تلو الأخرى، صرخت صباح، وتعالى صياحها، وارتفعت نداءات الجيران وصيحاتهم وواصلوا طرقهم على باب المنزل، فازداد هياجه وحرك العنف والضجيج فيه ما عجزت إرادته عن فعله، المشاجرة هي التي حثته على القتل لا الرغبة في الانتقام والثأر لشرفه، ودون أن يعمد قبض على رقبتها بقوة وأوشك أن يخنقها، رأى طفليه يقفان عند باب المطبخ يرتجفان ويصرخان، تركها شعبان وفتح باب شقته لأولئك الذين يواصلون الطرق على الباب، وكأنه هو الذي يستنجد بهم لإخراجه من موقف لا يعلم كيف ينهيه. - ماذا حدث؟
أجابت صباح: دخلت المطبخ لأعد له العشاء فانقض علي كالمجنون. اسألوه هو ماذا فعلت.
أبى شعبان في أول الأمر أن يخرج الطفلان مع صباح، أما صباح فقد اصطحبتها جارة لها إلى منزلها مؤقتا كي لا تتفاقم الأمور، وبعد قليل استعطفه الرجال أن يسمح للطفلين بالذهاب مع أمهما رأفة بهما، فقبل.
مكثت صباح في منزل أهلها ثلاثة أسابيع لم تفصح خلالها عن حقيقة ما حدث، وظلت تتهم زوجها بالجنون، وتؤكد أنها تجهل تماما سبب ثورته. ولا يدري أحد إلى الآن من الذي أشاع واقعة طارق الحلاق وفراره من نافذة الشقة، حتى علم بها القاصي والداني، أما الأسطى شعبان فلم يكذب الشائعة بل اكتفى بالصمت والتجاهل.
بعد مرور شهر تقريبا، وكما هو معتاد في حينا، تقدم أهل الخير يتوسطون للصلح بين صباح وزوجها، فشككوا في حقيقة ما رأى شعبان الذي لا ينكر أنه كان مخدرا وقتها، وشككوا أيضا في رواية الشيخ مصطفى فهو رجل طيب حقا لكنه مسن وبصره حتما قد أصابه الضعف، أما خطة الطوارئ التي أعدتها صباح، فلم يطلع شعبان أحدا عليها. وأخيرا أكد أهل الخير على أن سوء الظن لا يأتي إلا بخراب البيوت، وأن الصلح في كل الأحيان خير. قال شعبان: لكنني طلقتها ثلاثا.
رد المصلحون: غضبك أفقدك وعيك، والطلاق في هذه الحالة لا يقع.
قبيل صلاة الجمعة التالية وقف الشيخ مصطفى يبتسم في هدوء وهو يرى شعبان خارجا من منزله، يرتدي جلباب الصلاة الأبيض، ويتوجه إلى صالون طارق كي يحلق ذقنه. (تمت)
الإرهابي
أودع حسنين الفوال مستنداته لدى المحكمة، واستعطف القاضي أن يرفق بموكله، وتأجل نظر الدعوى لمدة ثلاثة أشهر. لقد مكث اليوم حتى نهاية «الرول» إلى أن حان دوره، فآلمته بطنه من الجوع وجحظت عيناه من شدة الصداع.
خرج حسنين من مبنى المحكمة، نظر إلى ساعة يده وتوقف للحظات يبحث عن مخرج: قطع الطريق سيرا على الأقدام فوق أنه مجهد ويستهلك الحذاء، لن يمكنه من اللحاق بقطار الخامسة، وسوف يضطر إلى أن يستقل وسيلتين للمواصلات بدلا من واحدة حتى يصل إلى بلدته. جال ببصره حول المبنى، فأشرق وجهه حين وقعت عيناه على سيارة محمد الحنفي، «ما زال إذن داخل المحكمة، ربما تصيد زبونا سمينا؛ فالحظ دائما يسعى في ركاب من ليسوا في حاجة إليه».
لن يكلفه الأمر سوى أن يصبح ثقيل الظل باردا لبعض الوقت، إلى أن يعرض عليه محمد الحنفي أن يرافقه في السيارة. سوف ينتظر ما دام في الوقت متسع، فإن أزف الوقت استقل التاكسي والأمر لله من قبل ومن بعد. «غبي هذا المتهم ككل البؤساء من المجرمين، أيكون في عهدته بضاعة تقدر بأكثر من مليونين من الجنيهات ويسجن من أجل كرتونة بسكويت وأربع عبوات صغيرة من الكافيار! الأدهى أنه يقر بأنه قد أخذهم بالفعل وكان ينوي سداد ثمنهم في نهاية الشهر. ماذا ترك لي كي أتعلل به أمام المحكمة؟ إن كلمة الكافيار وحدها في محضر القضية ستستفز القاضي فيحكم عليه بأقصى عقوبة، ماذا لو كانوا أربع علب من الفول المدمس مثلا؟ أنا نفسي لم أذق طعم الكافيار من قبل، وأقسم أن لا أحد من سلالتنا قد فعل .
المتهمون يلقون بكل العبء على عاتق المحامي وكأنه هو من ارتكب الجرم، إنهم لا يتقنون صنعتهم بشكل مرض، كبار اللصوص فقط ماهرون في اللعب بالقانون بينما صغارهم فاشلون حتى في الإجرام. المجرم الحقيقي في القضية هو المفتش الذي أبلغ عن العجز في عهدة البائس موكلي، كان أولى به أن يدفع من جيبه الخاص ثمن البضاعة الناقصة بدلا من أن يزج بالرجل إلى السجن ويشرد أسرته. من قال إن هذا الجاهل المعدم الذي لا يجد قوت يومه يقام عليه الحد؟!»
أخيرا جاء محمد الحنفي، ليس في الوقت متسع لمديح أو هجاء. قال حسنين: إما أن توصلني بسيارتك إلى محطة السكك الحديدية أو تقرضني أجرة التاكسي.
وصعد إلى السيارة.
رائحة الطعمية أدارت رأسه، لو أنه فتح مطعما للفول و«الفلافل» في هذا الموقع الفريد في ميدان المحطة، لأصبح مليونيرا خلال بضع سنوات فقط. الناس يتكالبون على «السندويتشات» وكأنها توزع مجانا على أبناء السبيل. قاوم الإغراء، لم تبق إلا ساعة أو أكثر قليلا ويصل إلى بلدته ويتناول طعاما ساخنا. لولا سندويتش الحلاوة الطحينية الذي أصرت أمه على وضعه في الحقيبة لهلك. تنهد «لولا أنني أقيم وأسرتي في منزل أمي ما وجدت قيمة اشتراك القطار. ما زالت الحاجة أمي إلى اليوم تظن أنني من علية القوم، الحمد لله أنها لا تعرف شيئا عن صفوة المجتمع وإلا لماتت حسرة على أبنائها. البدلة ورابطة العنق والحذاء اللامع والأنفة والصوت العالي هي أهم ما يميز السادة عندها.»
مسرعا اجتاز بوابة المحطة، ولم يكد يكمل خطوته الثانية حتى دفعه رجل في كتفيه كي يوقفه، فانقلب حسنين الفوال على ظهره. كانت السقطة مؤلمة، وتعجب ألا يأتي أحد من الناس ليعينه على الوقوف، نهض ينفض عن ملابسه التراب. وصرخ موبخا: ماذا فعلت يا ثور؟!
فأطبق الثور على رقبته ودفعه للأمام. أمره الضابط أن يفتح حقيبته.
اعترض الفوال: أهذه هي الطريقة التي يعامل بها المواطن في وطنه؟ أنا محامي.
رد الضابط ببرود: عندنا طرق أسوأ بكثير.
أمر الضابط أحد جنوده بتفتيشه . تراجع الفوال للخلف. - هذا الإجراء مخالف للقانون. هل لديك أمر من النيابة بالتفتيش؟
لكزه المخبر في صدره فترنح. ورد الضابط: لدينا قانون الطوارئ وقانون مكافحة الإرهاب. سوف تكون محظوظا إن لم أحتجزك إلى أن نتحرى عنك.
أدرك الفوال أن عليه أن يحني رأسه بدلا من أن تقطع. جاهد كي يتماسك، فرت من عينه دمعة حاول أن يخفيها. خطا الضابط نحوه خطوة وربت على كتفه. - هون عليك. لا تحمل الأمور ما لا تحتمل. الضرورة تحتم علينا أن نتجاوز القانون في بعض الأحيان. إننا نعمل في ظل ظروف صعبة.
جف حلقه، وأحكم الكرب قبضته على صدره وبالكاد استمر يتنفس، دخل الحمام، وأغلق بابه، وفتح أمام دموعه مجرى واسعا.
أنصت لصوت المذيع الداخلي للمحطة، سوف يتحرك القطار بعد خمس دقائق، سار متثاقلا مطأطئ الرأس حتى بلغ الرصيف.
صعد إلى القطار، مشى بين صفي المقاعد، عدد الركاب محدود دائما، أغلبهم مواطنون فوق العادة، أترى كم منهم مرغت كرامته في التراب مثله؟ إنه يكره التشبه بهذه النخبة وهو ليس منها، ويرى أن من العار أن يتعلق بأذيالها، لكنها الضرورة أيضا كما يقول الضابط، تلك الكلمة السحرية الأثيرة عند كل الطغاة، الكلمة التي تحتمل أي معنى وفي الوقت ذاته لا تقبل النقاش، التي تجبرك جبرا على الرضا بكل الأشياء التي تبغضها، الضرورة، الضرورة في الأمن، وفي الغذاء والكساء والشراب والدواء والزواج والعمل. «أنا لا أحب عربات القطار المكيفة ولا أنتمي لركابها، إنهم يبصرون جلدي خلف قماش البدلة ويأنفون من لونه الكالح، لكن لو رآني أحد الموكلين أجلس بين ركاب الدرجة الثالثة لطالبني بإعادة الأتعاب حتى لو صدر الحكم ببراءته، ما زال الناس يعتقدون أنه لا يمكن لفقير أن يكون محترما!»
اهتدى الفوال إلى رقم مقعده فجلس ووضع حقيبته على أرضية القطار إلى جواره، أرخى التكييف عضلاته وأعصابه فأغمض عينيه وراح في سبات عميق لم يوقظه إلا ارتجاج القطار عند توقفه، نظر من النافذة، إنها المحطة الأولى، ما زال أمامه العديد من المحطات. إلى جواره جلس أحد الركاب بعد أن ألقى السلام، يبدو أنه لم يحجز مقعدا فهو لم يلتفت إلى أي رقم. لنفسه قال الفوال: «لقد اختارني دون غيري، أقسم النكد ألا يمل من مرافقتي.»
الراكب كان شابا لم يبلغ الثلاثين من عمره، كث اللحية حليق الشارب، يرتدي جلبابا أبيض ويضع على رأسه طاقية بيضاء، ومعه حقيبة أوراق لفتت نظر حسنين الفوال لأنها تشبه إلى حد كبير حقيبته.
عاود الفوال النظر إلى وجه الراكب الشاب مرة أخرى بطرف عينه، إنه نموذج للإرهابي الذي تعرضه شاشات التليفزيون. حسنا، فالشاب الآن في إجازة، لو أنه خرج قاصدا الجهاد ما ارتدى هذه الملابس التي تلفت الأنظار إليه، وربما لأن الأمن يفكر غالبا على هذا النحو فقد تعمد الشاب التمويه. «في كل الأحوال يبدو أن هذا اليوم لن يمر على خير. لو تحسب الإنسان لكل الاحتمالات لكان الموت أفضل له.» استسلم ونام.
عندما استيقظ للمرة الثانية لم يكن الشاب جالسا إلى جواره، لكن حقيبته كانت موجودة إلى جانب مقعده. «لعله نهض ليصلي في مكان ما، تقبل الله منا ومنه.»
مرت ساعة تقريبا ولم يرجع الشاب، ليس الأمر إذن صلاة. هل غادر القطار؟ سرت بجسده رعدة، ربما كانت الحقيبة مفخخة. بغير تدبر ودون تردد التقط الفوال الحقيبة ووضعها على ركبتيه وفتحها، أغمض عينيه، وتخشبت يديه وهو يقبض بقوة على الحقيبة، تسارعت دقات قلبه، أنب نفسه بقوة: كيف لمحام أن يبلغ هذه الدرجة من الحمق؟ لو كانت الحقيبة مفخخة كما تخوف فربما انفجرت عند فتحها. لم تنفجر، حبس أنفاسه وفتح عينيه ببطء، رأى رزما متراصة من الأوراق النقدية تملأ الحقيبة، بسرعة أغلقها وتلفت سريعا حوله، وأرجع الحقيبة إلى موضعها. «من أين يأتي شاب في مقتبل العمر بثروة كهذه؟» تساءل حسنين متعجبا «لعلها تجارة سلاح أو تجارة مخدرات؛ فخبرتهم كبيرة بمثل هذه الأمور في أفغانستان.» «هم من أفتوا فليس علي جناح، إنهم يستحلون أموال المسلمين بل ودماءهم أيضا لتحقيق أغراضهم، سوف أكتفي أنا بالمال لأحقق أغراضي ولو لمرة واحدة في عمري، لعلني لا أضطر مستقبلا لدخول محطة السكك الحديدية فيستبيح الأمن كرامتي العليلة.» «ليس أمامي متسع من الوقت كي أعمل العقل، لقد أعملته من قبل دائما فأصبحت على هذه الحال التي لا تسر مسلما أو كافرا.»
سوف يصل القطار إلى المحطة بعد دقائق، قرر حسنين الفوال قرارا لا رجعة فيه، اعتزم أن ينال نصيبه من مال المسلمين! تلفت حوله، لا أحد يجلس في الصف الذي يجلس فيه، والمقاعد عالية ولن يراه أحد. لو أنه حمل حقيبتين لأصبح في موضع شبهة، أخرج أوراقه من حقيبته سريعا ثم وضع الحقيبة أسفل مقعده، كان يفضل لو ألقى بها من النافذة، لكن النوافذ لا تفتح في مثل هذه العربات، فتح الحقيبة الأخرى وفي لمح البصر وضع أوراقه فوق النقود وأغلقها بإحكام ووضعها إلى جانبه.
غادر حسنين القطار، لم يحس بالراحة التي كان يستشعرها كل يوم لحظة وصوله إلى محطته، لم يصبح سعيدا كما ظن، كان مشوش التفكير قلقا يتلفت حوله دائما كلص مبتدئ. تساءل: هل هو سارق بالفعل؟ أهو لص كبقية اللصوص الذين يترافع عنهم؟ ربما كان المال الذي استولى عليه سينفق لإيذاء المسلمين، ربما أتى من حرام وما أتى من حرام فالنار أولى به. ابتسم، أدرك أنه يغالط: «النار أولى به، لا حسنين الفوال.»
أرغم الفوال على الوقوف في نهاية الطابور، تساءل، إجراءات تفتيش، إنهم يبحثون عن إرهابي. ارتعد خوفا، سيفتشون كل الحقائب، وبالتأكيد سوف يتساءلون عن مصدر هذه الأموال. فكر قليلا «حسنا إنها أموالي أنا وسوف أتمسك بها، ثمن الأرض التي ورثتها عن جدي، ما هم فيه الآن سوف يلهيهم عن تحري الأمر.»
فتح الجندي الحقيبة فرفع عينيه إلى الضابط، تقدم الضابط فأخذ رزمة من النقد وفحصها، ابتسم ابتسامة سوداء. - هل تصنعون فيلما سينمائيا أم أنك نصاب؟ - أنا محام يا حضرة الضابط. - وما معنى أن تضع ورقة مالية حقيقية فوق رزمة من الأوراق البيضاء يا محامي؟
فغر فاه، ونظر إلى الحقيبة لا يكاد يصدق. الحقيبة المكتظة بأوراق النقد جذبت الأنظار، وتجمهر الناس.
صرخ الجندي الذي يحمل الحقيبة: يا أفندم، يوجد أسفل النقود ...
ودوى انفجار كبير.
في صباح اليوم التالي، عرضت نشرات الأخبار صورا للإرهابي حسنين محمد صبحي الفوال، المسئول عن الانفجار الذي وقع بمحطة السكك الحديدية، وأذيع أن منظمة درع الإسلام قد أعلنت مسئوليتها عن الحادث. وذكر بيان الداخلية أن الأمن قد تمكن من تحديد هوية الإرهابي من بقايا أوراقه الخاصة التي عثر عليها في موقع الانفجار. (تمت)
الدعوة عامة
لن تعود زوجتي من سفرها قبل الرابعة عصرا، وأمامي بضع ساعات أطلق فيها روحي من محبسها؛ فهذه هي المرة الأولى منذ زمن طويل التي يحق لي فيها أن أخلع على نفسي لقب المصطاف. في مثل هذا الوقت تقريبا من كل عام، اعتدت وأسرتي أن نشد الرحال إلى رأس البر، وما إن تطأ أقدامنا أرض المصيف حتى تتهاوى كل آمالي في قضاء إجازة ممتعة؛ فعلى الفور يتخذ الجميع قرارهم بتعييني في وظيفة عبد بلا أجر، رغم أنني الوحيد الذي يتكفل بكل النفقات، وأظل أنوء بأعباء تلك الوظيفة التعيسة حتى ونحن على الشاطئ.
كانت الظهيرة حارة، والنهار في أوج ضيائه، والهواء يعبق برائحة البحر. ولأنني وأمثالي ممن أبلى الشقاء أجسادهم، وانسحقت أرواحنا تحت ضغوط الواجب والمقبول والصحيح، لم نكن ننتمي لهذا المكان أو لهذا الحشد؛ فقد انزويت تحت المظلة أتصنع الوقار والحكمة مكتفيا باستطلاع ما حولي؛ بائع يلح في عرض بضاعته على المصطافين، طفل يشكل أحلامه من الرمال الرطبة، أنثى تختال في مشيتها وتحصي بطرفي عينيها عدد العيون التي تلاحقها، لهو فظ صاخب لجمهرة من الشبان تفور قلوبهم النضرة بالجرأة والطيش والإقبال على الحياة، يسعون إلى لفت أنظار الفتيات. وهي، نفس المرأة التي كانت تجلس إلى جوار مظلتنا بالأمس، ما زالت تطيل النظر إلي وكأنها تؤكد أنها حقا تعنيني أنا.
هل تعنيني حقا؟ كيف وقد بلغت من العمر ما يكفي لتسقط النساء عني ألقاب العاشقين؟! نعم، أشعر بالحسرة على ما فات وما ضاع ولن يعود أبدا، وبانكسار كئيب يحني ظهري ويأبى إلا أن أرضخ لمعاول الزمن تهدم ما بنيته في سنوات طوال. نادرا ما يأتينا الموت فجأة، هو بخبث يتسلل إلى خلايانا واحدة تلو الأخرى فنشعر رويدا رويدا بالوهن والخذلان واليأس، فيلتهمنا وقد أضحينا فريسة سهلة المنال. من الحمق أن ننتظر نهايتنا إلى أن تأتي، وعلينا أن نصر على الخلود حتى تكذب ظننا المقادير. لن نواجه أبدا حقيقة الموت المفزعة، فعند الموت تتلاشى كل الحقائق، والخوف من الموت ليس إلا كابوسا يعجل بمجيئه.
وجهت بصري نحوها متعمدا متحديا، والتقت عينانا في حوار طويل، حتى أفقت منزعجا عندما وضع ابني خالد يده على كتفي يخبرني بأنه قد عاد. أيها الملعون الصغير إنك تتعجل نهاية أبيك!
علي أن أستعيد الآن دور الأب، علي أن أسدد الفواتير، وأقدم النصح، وأشكو المرض، وألعن اليوم الذي تزوجت فيه، ثم أبحث بعد ذلك عن سبب لإرسال خالد بعيدا. بادر خالد من حيث لا يدري فحقق رغبتي؛ استأذن كي ينزل إلى البحر. وبدلا من أن أستكمل حلقات مغامرتي انتابني القلق، وظللت وجلا أترقب حركات ابني وسكناته بين الأمواج وقد انشغلت عن كل ما حولي وما بداخلي، أقف أحيانا وأجلس أخرى، أتقدم متوجسا نحو الماء وأرتد ثانية تحت مظلتي، أتعقب أثره بين الرءوس الطافية فأعثر عليه مرة، ويغيب مرات. هكذا كان الأمر يبعث على الضجر، لقد تركته أمه وذهبت برفقة ابنتنا لزيارة أمها المريضة، فأصبحت أنا المسئول الوحيد عن سلامته.
وقع بصري عليها وهي تداعب طفلا على حافة البحر، هيفاء في حوالي الأربعين من عمرها، ممشوقة القد، تكاد معالم أنوثتها النافرة تشق عنها ثوبها المبلل بالماء. وجه يتوهج بالأنوثة وإن لم يكن على حظ وافر من الجمال، عينان واسعتان تقرأ فيهما الكثير من الجرأة واللامبالاة. تأكدت من نظراتها المتكررة أنها فطنت لانشغالي بأمرها، انتابتني رعدة خفيفة وشعرت بخوف مبهم، وتلفت حولي مستطلعا عيون الناس، خشيت أن يراني أحد أتلصص النظر إلى النساء وقد بلغت من العمر ما بلغت. عدت إلى جلستي تحت المظلة وقد عقدت العزم على ألا أنظر ناحيتها، فوجدتني مستغرقا أرقب مرافقيها تحت المظلة المجاورة. ترى أي علاقة هي التي تربطهم بها، تلفت أبحث عن زوج لها أو ابن، وكان صعبا جدا أن أخمن وسط هذا الجمع الكبير. نهض أحدهم واتجه نحوها وعاد بالطفل فأجلسه تحت المظلة بين ذويه، ومسرعا قفز نشيطا مرحا وهو يعود إليها، فأمسك بيدها واقتادها نحو الماء بينما كانت هي تتمنع في دلال، وتلتفت نحوي المرة تلو المرة والابتسامة تعلو وجهها، حتى خشيت أن يفتضح أمري. بعد قليل أيقنت أنها تنشغل بالنظر إلي أكثر من انشغالها باللهو مع رفيقها، هو زوجها بالتأكيد، فلا شيء كان يحول بينه وبين الالتصاق بها والقبض على ذراعيها وحملها بين يديه. أثار سلوكه هذا تقززي لا غيرتي، فأغمضت عيني مكرها. خلف جفني رأيتها تعوي وتمزق ثيابها وتشتعل بين أحضاني كجمرة من نار. تنفست بعمق واعتدلت في جلستي لعلي أطرد شياطين أخذت تعبث برأسي.
أثار رفيقها المخنث هذا فضولي، يبدو أنه تجاوز الأربعينيات من عمره، لكنه أقرب الشبه بطفل. رأيت بعض الصبية والشباب وقد جذبتهم دعاباته الفاضحة معها يتحلقون حولهما في الماء، وبدا هو غير عابئ، وهي أيضا. من الواضح أنه يجيد الغوص والسباحة ويتفاخر كالصبيان بهما، فكان يتركها وسط هذه الحلقة المتأججة بالرغبة، ويمضي في استعراض مهاراته فرحا منتشيا بنظرات الإعجاب وكلمات الثناء. لمرات كان يعود إلى الشاطئ فيشعل سيجارة أو يحتسي كوبا من الشاي، تاركا رفيقته قابعة في الماء لا تسلم من سخافات العابثين. أكان هذا الديوث هو مبرر جرأتها نحوي؟ هل كانت تبحث عن رجل؟ أصابني التقزز.
بعد حين خرجت من البحر واتخذت مجلسها بالقرب مني لا يفصلها عني سوى بضع أقدام. أصبح بمقدور أي شخص الآن أن يلحظ نظراتنا المتبادلة، فتحاشيت قدر استطاعتي أن ألتفت إليها، لكنها فعلت كل ما بوسعها كأنثى كي تهزم إرادتي وتبعثر وقاري، أفصحت عن بعض خفايا جسدها لي، علت ضحكاتها، تلوت، وانثنت، ومالت، واعتدلت، واستلقت، متعمدة أن تعري أمامي ما أخفته عني لساعات. هل استشاطت غريزتها فعجزت عن مغالبتها؟ أم أرادت أن تسعر الجحيم في جسدي البارد؟
بداخلي سرت رعشة لذيذة داعبت أعضائي فأوقدت نيران شهوة متعطشة للارتواء، نسيت حذري، وتلاقت عينانا تتعانقان، تاهت عيناي تغوصان بين حنايا جسدها، وتقطعت أنفاسي وأنا أتسلق وأهبط من شفتيها إلى قدميها، وبيدي قبضت بقوة على قائمي مقعدي وكأني أعتصر لحمها وأتشبث بالمقعد كي لا أفر منها أو إليها.
ارتمى خالد على المقعد إلى جواري فاستيقظت مرعوبا أحملق فيه، وبعد أن تعرفت على ملامحه هدأ روعي، وأغمضت عيني أسدل ستارة قاتمة على حلم فاضح.
امتدحني ولدي طويلا، فعلى عكس ما تفعل أمه، هكذا ظن، فقد منحته أنا حرية كاملة في أن يسبح كيفما شاء، وتركته يلعب مع أقرانه كيفما اتفق، وأعفيته من وابل من النصائح والإرشادات والمواعظ، فلم أعكر صفوه ولم أقطع عليه متعته. كان مسرورا معجبا بي وممتنا لثقتي الكبيرة فيه وإيماني بأنه قد نضج، أما أنا فلم أغفر لنفسي قط أنني قد نسيته تماما زهاء ساعة.
كان علي أن أعود إلى كهفي. أبصرت بائع الجرائد فاستوقفته، وللمرة الأولى في حياتي ابتعت إحدى جرائد المعارضة، والتقطت نظارتي الطبية ورحت أدفن عيني داخل أوراقها كي لا تحيد عن السطور. كانت لا تعرف الكلل، ووجدتها تقف فجأة إلى جواري وتتوجه بالحديث إلي: من فضلك. هل يمكنني أن أستعير الجريدة لبعض الوقت؟
حملقت فيها مشدوها. كررت: الجريدة من فضلك.
ناولتها إياها بيد مرتعشة، فابتسمت شاكرة، وتهادت خطواتها وهي تعود إلى مقعدها تحت المظلة.
نبهني خالد باقتراب موعد ذهابنا إلى صديقي القديم عبد القادر الذي دعانا لتناول الغداء معه، وتوقع أن أمه وأخته قد عادتا من السفر وهما الآن في انتظارنا. ليس بيدي حيلة، ويبدو أن حكاية اليوم ستنتهي سريعا، نهضت متثاقلا وجمعنا أشياءنا، وسرنا بضع خطوات، سمعتها تناديني: أستاذ ... الجريدة ... الجريدة، نسيت الجريدة.
ناولتني الجريدة، وبسرعة أشارت بإصبعها إلى بضع كلمات بخط اليد في أعلى الصفحة الأولى، وعلى الفور طويت الجريدة خشية أن يلاحظ خالد أي شيء. وانطلقنا إلى مسكننا.
كنت مرتبكا إلى أقصى حد، وراقني لهذا أن نتناول الغداء أنا وعبد القادر في الشرفة منفردين، وكالعهد به كان عبد القادر مرحا لاهيا، ولم يكف عن الحديث لحظة، كانت عيناي تتجهان نحوه لكنني كنت أراها هي، خشيت أن يلحظ انصرافي عنه، فقاطعته على حين غرة: ماذا أعددت لحياتك بعد الخروج على المعاش؟
تعجب: أين كنت يا رجل؟ أبعد ساعة من الحديث عن مشاريعي وخططي وأحلامي تسألني ماذا سوف أفعل؟! فهمت الآن سبب شهيتك المفتوحة على غير العادة، إنك لا تدري أنك تأكل. ما زالت أمامك بضع سنوات قبل أن تسرح من الخدمة كالعجزة، ففيم كان شرودك؟
أجبت: امرأة.
وفي إسهاب رحت أروي له حكاية الظهيرة. كان مندهشا، لكن ابتسامته لم تغادر وجهه، ثم صدرت منه ضحكة عالية، فحذرته خشية أن يلتفت لحديثنا أحد.
بينما لا زال يقهقه عقب: لم تفعلها في ريعان الشباب، فكيف وقد بلغت من العمر عتيا؟!
استهجنت: أراك لا تكف عن الهزل وقت الجد. - أي جد؟ على الشاطئ؟! قصص الحب على الشاطئ تأتي وتذهب كأمواج البحر، ولا تلبث أن تختتم بمشهد غروب الشمس، ليس إلا.
استفزني رد فعل الرجل، فوجهت الحديث وجهة أخرى، وسريعا فهم. قال جادا: أخبرني إذن ماذا كتبت لك على صفحة الجريدة.
انتفضت واقفا أحملق فيه. أخبرته أنني لم أقرأ ما كتبت، والأخطر أنني تركت الجريدة على المائدة ونسيت أمرها، فعاد يضحك حتى تقطعت أنفاسه وبدأ يسعل. صمت فجأة ثم قال: انهض سريعا علنا نجد الجريدة حيث وضعتها، لن تصدق زوجتك أبدا أي كذبة يمكن أن نؤلفها.
أخبرنا زوجتينا أننا سوف نذهب لقضاء مصلحة ما، وسوف نعود بعد قليل.
في سلة القمامة بالمطبخ وجدت الجريدة، وكان من الصعب أن نتكهن إن كان أحد قد لاحظ ما عليها وقرأه. نصحني عبد القادر ألا أنبس بكلمة واحدة عن الجريدة، وأن أدعي جهلي تماما بما كتب عليها لو أن أحدا واجهني بالسؤال.
ذكرت صاحبتنا داليا، وهذا هو الاسم الذي خطته بيدها، أنها سوف تكون في انتظاري في أحد مطاعم القاهرة، وحددت اليوم والساعة، وأنها لتسهيل التعارف بيننا سوف ترتدي ثوبا أبيض. سألني عبد القادر عما انتويت فعله، فأكدت له أنني سوف أذهب للقائها. قال: الأمر لا يستحق أن تتجشم عناء السفر، كثيرات هنا أرخص سعرا.
أشحت عنه وجهي، كنت مستاء لما قال. تعجب: ما بالك يا رجل! أيزيد الأمر عن بضع دقائق في الفراش؟!
قلت عابسا: أخطأت حين لجأت إليك.
لم يعقب، واقترح أن نغادر المقهى ونعود أدراجنا.
جاهدت كي أبدو طبيعيا خلال سهرتنا مع أسرة عبد القادر، وبينما كانوا يودعوننا عند باب الفيلا ملت على أذن صديقي أخبره بأنني نسيت الجريدة في المقهى، فابتسم وهز رأسه مشيرا لي ألا أهتم.
مرت الأيام المتبقية لنا في رأس البر ثقيلة مملة، وقد لاحظ الجميع أن تغيرا ما قد طرأ علي وظهرت آثاره في فترات صمتي الطويلة وتوتري الدائم. في كل صباح كنت أتوقع أن أراها على نفس الشاطئ، وكنت أذرعه ذهابا وجيئة حتى التفتت إلي كل الأنظار، أو هكذا ظننت، وفي كل مساء كنت أترقب مواجهة عنيفة مع زوجتي إن كانت قد علمت بشيء. كان صديقي عبد القادر متفهما وفيا لي كما عهدته، لقد كف تماما عن إثارة الموضوع، واكتفى بالامتناع عن التعليق عندما يأتي ذكر داليا على لساني. كنت على يقين أنه يشفق لحالي؛ ولهذا فقد حرص على التواجد إلى جانبي أغلب الوقت، لعل الأزمة تنتهي قريبا على خير.
في اليوم الموعود وصلت المطعم مبكرا عن موعدي، لم أرفع نظارة الشمس عن عيني، وفضلت أن أنزوي في ركن قصي من صالة المطعم، ورحت أترقب لحظة وصولها.
في موعدها تماما، ظهرت تدخل من الباب ترتدي فستان موعدنا الأبيض، وقبل أن أنهض للقائها سبقني شاب أنيق نهض من على مقعده في مقدمة صالة المطعم واتجه نحوها، ظلت واقفة تبادله الحديث وهي متجهمة بعض الشيء، بعد ثوان انفرجت أساريرها، ثم ضحكت ضحكة يشوبها المجون أثارت انتباه البعض. أمسك الشاب يدها واقتادها إلى حيث كان يجلس، ومكثا لدقائق يتبادلان الحديث والبسمات والهمسات، وفي سفور أخرج الشاب حافظة نقوده وناولها رزمة من أوراق النقد وضعتها سريعا في حقيبة يدها، وعلى الفور نهضا سويا وغادرا المكان.
ابتسمت وأنا أسترجع منظر صديقي عبد القادر وقد تقطعت أنفاسه من الضحك. (تمت)
وراء الحدود
كان عبد الرازق يجر رجليه جرا ويتعثر من حين لآخر وهو يدفع عربته الخشبية فوق الرمال، عيناه كانتا تتجهان نحو هدف لا يبصره الناظرون. هو وقليلون من أهل قريته النائية يعرفون طريقهم جيدا وسط هذه الصحراء الشاسعة، تقودهم فطرتهم الصافية، حيث لا علامة ولا إشارة ولا أثر يقتفى ولا خطوط فاصلة.
لم تصعد الشمس بعد إلى منتصف السماء، لكن أشعتها كانت حارقة تلسع جلد عبد الرازق وتخترق «الكاب» الذي يضعه على رأسه، فيرفعه بين الفينة والأخرى كي يفرغ ما اختزنه من نار. بدا الرجل وهو يدفع عربته الخشبية فوق الرمال كمن يزيح هما جاثما على صدره، لكن هم الجوع كان أشد وطأة، فواصل سيره يكتم شكواه ولا يسأل أحدا إلا خالقه.
من بعيد لاحت أطلال خربة، فجد الرجل في سعيه رغم إعيائه الشديد وأخذ يهرول بعربته في اتجاهها؛ عربات متفحمة وقد تهشم هيكلها، وأخرى أعطبتها قذيفة أو قذائف، وشباك تمويه، وفوارغ ذخائر، وخرق متناثرة لملابس عسكرية، ومئات من أكياس مليئة بالرمال مصفوفة فوق بعضها البعض وقد تبعثر عدد منها، وخنادق وحفر وتلال، وآثار دماء.
بنظرة سريعة مدربة أحصى عبد الرازق محتويات الموقع، مخزن الغنائم، واطمأن إلى حظه من الرزق، فاستلقى على الأرض في ظل عربة محطمة وغفا. أيقظه صوت باب سيارة يصفق، تلته أصوات مختلطة بعضها أقرب إلى الحفيف والأخرى أقرب إلى الهزيم، خافتة أحيانا وعالية أحيانا، أدرك أن الرياح اشتدت، فعاد إلى نومه.
في المرة الثانية سمع طرقا شديدا، فنهض فزعا، وأسرع نحو عربته متحفزا فأخرج مطرقته ورفعها عاليا، وخطا بخفة باحثا عن مصدر الطرق. كان حمد يفكك أجزاء إحدى العربات، وما إن رأى عبد الرازق حتى تهلل وجهه بشرا وأسرع يصافحه.
حمد: ظننت أنك سبقتني، وحملت ما يكفيك وعدت إلى بيتك.
رد عبد الرازق ضاحكا: أنت دائما تسبقني وتطمع في الاستئثار بأثمن ما في الغنيمة.
رد حمد: كلها توزن بالكيلو، إنهم حتى في الحرب لا يتركون لنا غير فضلاتهم.
مستخفا سأل عبد الرازق: ترى من الذي انتصر في المعركة الأخيرة؟
رد حمد: أتظن أنني أعرف من كان يحارب من؟ دول وأحلاف وعصابات مسلحة وإرهابيون وتجار سلاح. أنا لا يعنيني سوى البحث عن طعام أطفالي؛ الخردة.
فجأة صمت الرجلان وأرهفا السمع، بعد قليل تيقنا أنه صوت أنين، فأسرعا معا يفتشان بين الأشلاء عمن يستغيث.
كان جرح الضابط غائرا لكنه قد توقف عن النزف؛ فالأمل كبير إذن في إنقاذه، بللا شفتيه بقطرات من الماء، ووضعا كيسا من الرمال تحت رأسه، وفتحا أزرار قميصه، وحلا حزامه. كان الضابط يفتح عينيه من وقت لآخر ولا ينطق ولا يكف عن الأنين. سارا كل في اتجاه يبحثان عن حقيبة إسعاف ليطهرا جرحه، فعثر عبد الرازق بدلا منها على زجاجة خمر صغيرة لم تفتح بعد. نزع عبد الرازق غطاء الزجاجة فأخذ رشفة أو رشفتين، وصب بعضا مما فيها فوق الجرح، صرخ الضابط كثور يذبح، وفقد وعيه. حملاه إلى إحدى العربات، وإلى جواره تركا بعض الماء وقليلا من الطعام، وقاما بتفتيش العربة جيدا خشية وجود عقارب أو أفاع قد تسللت إليها، ثم أحكما غلق النوافذ والأبواب، وما إن ابتعدا خطوات حتى توقف حمد قائلا: العربة مغلقة وهو فاقد الوعي، قد يموت خنقا.
رد عبد الرازق هازئا: إنها عربة مخصصة للجنود، أتظن أنها محكمة الغلق لا ينفذ إليها الهواء؟ اطمئن، فتحاتها تسمح بتسلل الذئاب والضباع وعابري السبيل أيضا!
رد حمد جادا: لكنها ربما تكون محكمة الغلق، ولو على سبيل الخطأ.
قال عبد الرازق: لا بأس، لنترك فتحة ضيقة في نافذة العربة.
ثم ساخرا أردف: فإن تسلل منها ثعبان صغير أكله الضابط إن جاع!
عقب حمد: ألا تكف عن الهزل؟
رد عبد الرازق: لولاه لفقدت عقلي منذ زمن.
سأل حمد جادا: هل أنت على يقين أنه ضابط فعلا؟
رد عبد الرازق: انظر إلى بشرته الناعمة وملابسه الداخلية، إن الضباط ينزعون الرتب من على أكتافهم إن جد الجد؛ كي لا يكونوا هدفا سهلا وصيدا ثمينا، لا يزعجهم أن يتشبهوا بأمثالنا أحيانا إن كان في هذا مصلحتهم.
ضاع الكثير من الوقت، وكان لزاما عليهما أن يجمعا ما أمكن من الخردة على وجه السرعة حتى يعودا قبل غروب الشمس إلى ديارهما.
في اليوم التالي بكر عبد الرازق في الوصول إلى الساحة الخراب، وتوجه من فوره نحو الضابط الجريح، فوجده يجلس داخل العربة وإلى جواره حمد الذي سبقه بالحضور. أخرج لفافة وفتحها وناولها للضابط الذي أطال النظر إليها وظل ينقل بصره بين الرجلين ثم سأل: من الذي أوصى بهذه الأدوية؟
رد عبد الرازق: المرحومة أمي! عثرت على الأدوية وسط القمامة فأحضرتها لك. ما بالك يا رجل! هل تشك في نوايانا نحوك أم تخشى من جهلنا؟ اطمئن لقد أوصى بها الصيدلي.
عقب حمد: نحن حاولنا إنقاذك بينما تركك قائدك وزملاؤك وفروا كالفئران. لو أردنا بك سوءا لتركناك يا حكيم زمانك.
أشاح الضابط بوجهه عن حمد، ونظر إلى عبد الرازق: من أي بلد أنت؟
رد عبد الرازق مستخفا: من هنا.
أشار الضابط إلى حمد، وسأل: والأخ؟
أجاب عبد الرازق: هو أيضا من هنا.
ظل الضابط ينظر في كل الاتجاهات من خلال نوافذ العربة. ثم سأل: في أي جانب نحن من الحدود الآن؟
كان الضيق قد استبد بحمد، فانفجر بصوت عال يخاطب عبد الرازق: لننهض نحن للسعي على رزقنا. لقد أحضرنا لهذا الرجل الطعام والدواء، فشبع وبدأ يتعافى وأصبح مهتما بأشياء أخرى. ربما أخطأنا عندما قدمنا له العون.
لساعات واصل الرجلان عملهما يسابقان الزمن حتى بلغ بهما الإعياء مبلغه، فاقترح حمد أن يستريحا قليلا. أتى كل منهما بكيس طعامه فأفرغه، وجلسا يتشاركان طعام الإفطار.
من بعيد لمح حمد قافلة طويلة من العربات تسير على الطريق الرئيسي الممهد متجهة نحو الساحة الخراب. «من المؤكد أنها مركبات حربية فمرور سيارة وحيدة من هنا حدث استثنائي، هل يتأهبون لمعركة جديدة أم أتوا للم أشلائهم؟ في الحالتين ينتظرنا نحن الثلاثة مصير أسود.» هكذا فكر حمد واتخذ قراره سريعا، فانحرف عن طريقه ودفع عربته بقوة خلف أحد التلال التي تشرف على ساحة الحرب، وصعد إلى أعلى التل يستطلع ما يحدث. اقتربت القافلة ترفع أعلام شرقستان، فاستبد به خوف شديد على عبد الرازق فهو يحمل هوية غربستان، وهم لن يتوانوا عن الفتك به.
انطلق حمد يعدو نحو الساحة، لعله يفلح في الوصول إلى صاحبه قبل أن تداهمه القافلة، وعندما وصل أبصر عربة عبد الرازق الخشبية لكنه لم يعثر عليه، توقف لبرهة ثم جرى نحو المكان الذي يوجد فيه الجريح، كان عبد الرازق يعاون الضابط على الوقوف، صرخ فيه حمد: أسرع. قافلة آتية من شرقستان.
اتسعت عينا الضابط، وكأنما دبت فيه روح شيطانية فوقف منتصبا على قدميه وجرى نحو إحدى المركبات المهشمة، زحف على بطنه أسفلها وبدأ يحفر في الرمال، بينما ظل الرجلان حيث هما يرقبانه في دهشة. أخرج الضابط بندقية آلية وخزينة طلقات ملفوفتين بعلم غربستان، ثم نهض واختبر سريعا أجزاء سلاحه وثبت فيه خزينة الطلقات، والتقط العلم ولفه حول رقبته. نهره حمد وقد احتقن وجهه غيظا: لن يلتقطوا لك صورة تذكارية! أسرع وإلا تركناك فريسة لهم. أتظن أنك قادر بمفردك على مواجهة هذا الجيش؟! ما هذه البندقية؟ أين مسدسك، سلاحك الشخصي؟ - رفع الضابط بندقيته في مواجهته وهو يقول: أنت من شرقستان، أليس كذلك؟
قال حمد موجها حديثه لعبد الرازق: هذا الضابط مخبول، لقد ذهبت الحروب بعقله، هلم بنا وإلا أمسكوا بك.
تعجب الضابط ووجه سؤاله إلى عبد الرازق: هل أنت من غربستان حقا؟
تركاه وأسرعا يختبئان خلف التل، وجرى الضابط في أعقابهما.
توقفت القافلة، معظمها عربات مدنية وقليل منها مركبات حربية تحمل علم شرقستان، وعلى الفور هبطت منها أعداد كبيرة من الناس يرتدي أغلبهم بزات عسكرية. ومن إحدى السيارات المدنية هبط رجلان، كأنهما جنرالان رغم أن أحدهما يرتدي ملابس مدنية من أحدث طراز، يخطوان في خيلاء ويصدران الأوامر يمنة ويسارا، ومعا تفقدا المكان، ويبدو أنهما قد استقرا على موضع بعينه، وأمرا الجميع بالتحرك نحوه .
شرع الوافدون كخلية نحل يؤدي كل منهم دورا محددا: نصبت خيام، وحملت كاميرات تصوير ومعدات أخرى إلى المكان، ودار مولد كهرباء، ومدت كابلات متفرقة على الأرض، وصعد بعض من يرتدون الزي العسكري إلى المركبات الحربية، وتفرق الباقون منهم يمينا ويسارا يحملون أسلحتهم، ووقف الجنرال العسكري شامخا في عربة متقدمة يرفرف عليها العلم. تعالت صيحات الجنرال المدني، ثم أطلق صفارته.
تساءل حمد: أهذا فيلم سينمائي؟ وهؤلاء، هل هم عسكريون فعلا؟
أجاب عبد الرازق: لا يهم، سوف يعتقد المشاهدون أنهم كذلك.
وتوالت المشاهد: إطلاق نار، وانفجارات، ودخان، وحرائق، ورجال يسقطون، واشتباك بالأيدي، وعربات تتصادم وتنقلب على الأرض، وألوان دماء، وجندي يحمل آخر ويجري به، وآخر يحمي بجسده قائده ويتلقى وابلا من الرصاص بدلا منه، وجندي يجاهد في رفع العلم وهو غارق في دمه، ونداءات وصيحات وصرخات، لتنتهي المشاهد بالجنرال ينزل من عربته ويصافح جنوده الذين يرفعون الأعلام ويهللون ويكبرون.
استهجن الضابط حانقا: متى حققوا النصر! نحن الذين انتصرنا.
نهره حمد: اخفض رأسك وإلا قطعوها.
قال الضابط: إنهم يخدعون الشعب. وأمثالك يصدقونهم.
عقب عبد الرازق: بالأمس شاهدت فيلما في التليفزيون يحكي قصة انتصار غربستان. القادة دائما منتصرون غانمون، وأمثالي يدفعون دائما ثمن النصر وثمن الهزيمة.
فرغ الثلاثة من تناول الطعام وجلسوا يتحدثون عن واقعة الأمس. جاهد حمد كي لا يغلبه النعاس ونهض ففتح «الزمزمية» ورش وجهه ببعض الماء، ثم مد يده إلى العلم الذي يحتفظ به الضابط وجفف وجهه بطرفه وأعاده إلى موضعه. استشاط الضابط غضبا وكال لحمد الشتائم، اندهش الرجلان، وظلا صامتين يحملقان فيه، فلم يتوقف عن السباب، فما كان من حمد إلا أن رد السباب بمثله، أسرع الضابط فالتقط سلاحه وصوبه ناحيته، قفز عبد الرازق نحو الضابط ودفعه بقوة فأوقعه أرضا، ومال عليه يحاول تهدئته. وآثر حمد أن يغادر المكان.
قال عبد الرازق: لم يكن الأمر يستدعي كل هذا، ومع أن العلم في النهاية ليس إلا قطعة قماش، فإن حمد لم يمسه بسوء.
قال الضابط خافضا صوته: استمع إلي جيدا. نحن أبناء وطن واحد، وهذا الرجل من البلد الذي نحاربه منذ سنوات، إنه عدو، فلا تأمنه.
رد عبد الرازق: إنه أمني وملاذي ورفيق طريقي. أنا لا أرى أمثالك إلا عن بعد.
أضاف الضابط متجاهلا ما قيل: لقد أصبحت الآن قادرا على السير، أريدك أن تصطحبني إلى أقرب نقطة حدود لغربستان.
رد عبد الرازق: حرس الحدود على الجانبين ألفوا رؤيتي لأكثر من عشر سنوات، وأنا لا أثير ريبتهم؛ فهم واثقون أن كل ما أفعله هو السعي على لقمة العيش، لكنني لا أضمن أن يتركوك وشأنك. - حسنا، فلتبلغ أي مركز شرطة أو موقع عسكري عندما تعود إلى غربستان اليوم. - لن أقدم أبدا على تضحية كهذه. أنا لا أضمن أن أخرج من هذه الأماكن إن دخلتها. ليس أمامك إلا حمد فصلاته بالطرفين قوية، وهو يمدهما بالكثير مما يحتاجان إليه من غذاء ودواء وسجائر وأشياء أخرى.
رد الضابط غاضبا: إلا هو.
توقف الثلاثة عند السلك الشائك أمام أول نقطة حدود لدولة غربستان، تقدم الضابط الجريح وصاح بأعلى صوته معلنا جنسيته ورتبته العسكرية وطالبا الحديث إلى قائد المجموعة. بعد قليل سمح له بالدخول بعد تفتيشه، وظل حمد وعبد الرازق في الانتظار خلف السلك الشائك كما طلب الضابط.
عاد الضابط الجريح وخلفه ثلاثة جنود، وأشار لحمد وعبد الرازق أن يقتربا من السلك الشائك، ففعلا، فرفع سلاحه وأفرغ فيهما ذخيرته.
سأله أحد الجنود مندهشا: ماذا فعلا يا سيادة النقيب؟
رد الضابط ببرود: الأول عدو، والثاني خائن. (تمت)
شجرة الدر
بدأ الفصل الدراسي الثاني منذ أيام، وفي مثل هذا الوقت من كل عام تنظم مسابقة لاختيار المعلم المثالي في المدرسة، وكان الأستاذ عزت من بين ثلاثة مرشحين هو أكثرهم حظا؛ فكفاءته المهنية وأخلاقه الطيبة وحب التلميذات له ترجح كفته، ولم تكن صلته بمديرة المدرسة تنقص من قدره إلا القليل.
ساد الهدوء طابور الصباح؛ فالجميع متلهفون على معرفة من استقر الرأي عليه، وبإحساس الواثق تماما من النصر، كان يعتري الأستاذ عزت بعض الخجل وتعلو وجهه بسمة القناعة والرضا. تقدمت الأستاذة درية مديرة المدرسة مصحوبة بنخبة من المقربين، فأمسكت الميكرفون وأعلنت بلهجة باردة وباختصار مخل أن الفائز بلقب المعلم المثالي لهذا العام هو الأستاذ خليل أيوب. وجم الجميع وتلفتوا يتبادلون نظرات ذات مغزى؛ فقد كان خليل مستبعدا تماما من توقعاتهم. صفق بعض من تحلقوا حول المديرة وتفرق الآخرون حول الطابور يتجنبون عين المديرة المنذرة، وساد صمت كأنه التمرد مخنوق الأنفاس. وفي نبرة آمرة غاضبة تجاهد للتنصل من ارتعاشة الخوف خرجت الكلمات من فم الأستاذة درية: لنصفق معا للأستاذ خليل.
ولم يصفق أحد، فصرخت: ليصعد الجميع إلى الفصول.
وأخذت طريقها نحو مكتبها، وفي أعقابها هرول خليل.
في ذلك اليوم بدا أن الزمام بدأ يفلت من يد السيدة درية، فبعض المعلمين تركوا فصولهم وتجمعوا في الطرقات يتهامسون، وسنحت الفرصة للتلميذات أن يتحلقن في جماعات متناثرة خارج أبواب الفصول وفي الفناء، ولم تفلح صيحات بعض المشرفين والمشرفات في إعادة فرض النظام الصارم في المدرسة، والذي كان صفة المدرسة المميزة منذ أن تولت إدارتها المديرة الحالية. سادت الفوضى، وكانت المديرة أكثر ذكاء من أن تظهر آنذاك خارج مكتبها.
لم يكن هناك حديث إلا عن الأستاذ عزت ودرية، وتطرق الحديث بالطبع للأستاذ خليل أيوب نجم الواقعة الجديدة. لم يمض على خليل إلا بضع سنوات في مهنة التعليم، وهو أعزب في الثامنة والعشرين من عمره، متعدد المواهب؛ فهو بالإضافة لراتبه الزهيد وما يحصل عليه من الدروس الخصوصية، يرتزق من التجارة في الملابس الجاهزة والدجاج واللحوم المستوردة، وهو متعهد أنفار لمكاتب تسفير العمالة إلى دول الخليج، وله في كل «خرابة» جحر، ينفذ منه إلى المرتشين في كل مكان لتسهيل حصول الناس على حقوقهم أو الجور على حقوق الغير. كثير التغيب عن المدرسة ودائما بإذن مقبول من السيدة المديرة، التي تبعد الشبهات عنه وعنها متعللة بأنه ينجز مصالح المدرسة في الإدارة التعليمية وغيرها، لما يتمتع به من صلات وثيقة بالكثيرين تسهل له الأمور. وهو بالطبع المسئول الأول بتفويض منها عن الحفلات والمسابقات، وما خفي من شئون العلاقات العامة التي أثبت فيها جدارة لا ينكرها إلا حاسد أو شريف. أفاق منافق يتحاشاه البعض، لكن الكثيرين يلجئون إليه وقت الشدة فهو لا يخذل أحدا. قربه الشديد من المديرة وفارق السن بينهما جعل الناس يلقبونه بالابن المدلل، وهو دائما ما يتحاشى التعامل مع الأستاذ عزت.
بعد يومين فقط من واقعة اختيار المعلم المثالي، أشيع في المدرسة أن الأستاذ عزت تقدم بطلب للإدارة التعليمية يطلب فيه نقله إلى أي مدرسة أخرى، وهرولت السيدة المديرة إلى المسئولين بالإدارة تلتمس منهم عدم الاستجابة لطلب النقل. غالبيتهم كانت ترى أنه من الأنسب ألا يعمل الزوج في مدرسة تديرها زوجته، فجاهدت لإقناعهم بأن رفض زوجها العمل تحت رئاستها يعطي انطباعا بفشلها كزوجة، مما يضر بسمعتها بين هيئة التدريس والتلميذات ويؤثر بالتالي على أدائها، ولمحت أن أمرا كهذا يتعارض مع توجهات الدولة التي تعمل على ترسيخ مكانة المرأة في المجتمع. واختتمت دفاعها بأن اعتراض عزت على ترشيح شخص آخر معلما مثاليا للمدرسة، يؤكد على حيادها وموضوعيتها واتقائها للشبهات. فأرجأت الإدارة البت في الطلب.
تعرف الأستاذ عزت على الآنسة درية بعد عودته من الإعارة لإحدى دول الخليج، وكان وقتها بالطبع عريسا تتخاطفه الأمهات. دعي عزت للغداء في منزل أحد أصدقائه القدامى، وبالصدفة المتفق عليها والتي أحكم ترتيبها! أتت درية لزيارة قريبتها، زوجة الصديق القديم، وأقنعتها قريبتها، بالطبع بعد جهد! بأن تجلس إلى المائدة لتناول طعام الغداء معهم، وتم التعارف في أجواء شهية. ويبدو أن المأدبة قد راقت للمدعوين.
كانت درية فتاة جامعية في السنة النهائية، تستعين بأناقتها كي تضيف الكثير إلى جمالها المتواضع، تنتمي لأسرة متوسطة الحال تفتخر دوما بأصولها التركية وثرائها البائد، وتتنكر لأصولها الجينية من الغطرسة والغلظة. فبدت شابة أنيقة عريقة النسب، خجولة مهذبة، ولم يكن عزت يبغي ما هو أفضل.
كان عزت أعقل وأكثر طيبة من أن يكون زوجا! بمضي الوقت أسفرت درية عن وجهها الحقيقي وبدت أكثر عنادا وأنانية وجحودا من أن تكون امرأة أو أما. أخلاق عزت الطيبة وإحساسه بالمسئولية تجاه أطفاله جعلاه يقدم التنازلات تباعا، حتى صارت حقوقا مكتسبة لزوجة لحوح عنيدة، وما إن ظفرت باستسلامه حتى تجاهلته تماما فلم يعد يحفزها على شيء قط، أي شيء، وسعت خارج دائرة الأسرة لإشباع رغبتها في التسلط والظهور. تحقق لها ما أرادت، فتفرغت لعملها بعد أن فرغت من أمر زوجها وأبنائها الذين تم احتجازهم كرهائن لإرادتها، وأسرعت ترتقي السلم الوظيفي لا يعوقها قريب أو غريب أو مبدأ، وكسبت رضاء رؤسائها بالطرق المشروعة وغير المشروعة.
كان العاملون تحت قيادتها أكثر انضباطا ومواظبة على مواعيد العمل والتزاما بكل التعليمات، وحققت تلميذات مدرستها نتائج طيبة جدا في الاختبارات العامة، وكان الكل يتمنى زوال هذه النعمة! فالمعلمون يشعرون بأن عينا ما تراقبهم أينما حلوا، لا يسلمون من لسانها المنفلت وجزاءاتها الإدارية، ورفضها للحوار وتمسكها الغبي بوجهة نظرها، ونظرة التعالي التي تخترق كبرياءهم، وتهديداتها المشئومة للقمة عيشهم. وهي تستثير في تلميذاتها مشاعر الرعب من «أمنا الغولة» ويكنون لها ما يضمرون تجاه زوجات آبائهم. والجميع يتلهفون على الهروب من هذا المعتقل.
ظل الأستاذ عزت يطرق أبوابا أخرى مصرا على ترك العمل بالمدرسة، وظنت درية أن زوجها بات يؤلب الرعية على ملكتهم، فأضحى من جديد هدفا لذيذا يستحثها لاستجماع مواهبها المنحطة، وشحذ همتها لإصابة فريستها في مقتل. كانت قد أهملته بعد أن أجهزت على كبريائه فلم يعد رجل أحلامها، وأضحت الآن تختلق الحجج لتعنيفه أمام زملائه، بل وأمام تلميذاته، وعادة ما تتوافر الحجج لدى أي مدير فاشل. وظل الأستاذ عزت كما عهده الجميع في المدرسة مربيا فاضلا، معلما كفئا محبوبا، وزميلا محترما مقربا، لكن شيئا عارضا صغيرا قد طرأ عليه ولم يلتفت إليه إلا القليلون، لقد أصبح الرجل يتلقى صفعات زوجته المديرة بابتسامة واثقة!
مرت أيام وكأن الموجة العاتية التي ضربت المدرسة قد استقرت أخيرا فوق رمال ناعمة. وللمرة الثالثة على التوالي تفوز المدرسة بكأس المدرسة الأفضل على مستوى الإدارة، ولا يبرر عاقل سبب فرحة الجميع بهذا الانتصار إلا بهيمنة روح القطيع على من استعبدوا لفترات طويلة. تزاحم المهنئون على مكتب السيدة المديرة الذائعة الصيت، وتراصت باقات الزهور على جانبي الطرقة المؤدية إليه. لقد أدى الجميع فرائض الطاعة، وكان لزاما على الابن المدلل أن يكون على مستوى توقعات سيدته، وقد حدث. فأمام الحشد المتزاحم في مكتب السيدة المديرة دخل خليل أيوب حاملا باقة من الزهور وضعها على المكتب، ومد يده مهنئا ليصافح مدام درية، وعندما مدت يدها لتصافحه انحنى خليل سريعا فقبل يدها. احمر وجه المرأة وارتبكت، وساد الصمت، ومن وسط الحشد اندفع الأستاذ عزت نحو خليل أيوب وعلى حين غرة لكمه في وجهه فسقط على الأرض.
بعد تلك الواقعة، تغيب الأستاذ عزت عن المدرسة لأربعة أيام متواصلة، وفي اليوم الدراسي الأخير من الأسبوع بكر في الحضور إلى أرض الطابور، وما إن انتظم الجميع وخرجت درية تتفقد حرس الشرف، حتى أمسك الأستاذ عزت بالميكروفون داعيا كل الزملاء والتلميذات لحضور حفل خطوبته على الآنسة علية، إحدى تلميذاته بالصف الثالث. وكأن دعوته الموجزة كانت إشارة البدء المتفق عليها، فانفرط عقد الطوابير وتزاحمت التلميذات حول زميلتهن علية، بعضهن يطلقن الزغاريد، والأخريات يرددن الأغنية الشهيرة: «مبروك عليك يا معجباني يا غالي، عروستك الحلوة قمر بيلالي ...» (تمت)
مزرعة جارسيا
منذ الصباح الباكر، اصطف جميع من في المزرعة على جانبي الطريق المؤدي إلى الفيلا في انتظار وداع الكولونيل جارسيا، الذي اعتزم القيام بإحدى رحلاته البعيدة والتي لا يعلم أحد وجهتها أو الغاية منها. مضت على وقفتهم هذه ساعات، وبينهم من هو متعب أو ساخط أو ضجر، لكن الرهبة كانت تملأ القلوب فما كان أحدهم يجرؤ على التعبير عن استيائه أو رفضه لطابور العذاب هذا، الذي يتكرر في كل مرة يرحل فيها الكولونيل أو يعود من أسفاره، فالتشريفة والزي العسكري هما الإرث الذي يعتد به الكولونيل ويذكره بمجده الغابر، ويرضي شغفه بالسطوة والتعالي.
من وقت لآخر كان كارلوس، خادم السيد وذراعه الباطشة، يخرج من القصر ليتفقد طابور الشرف، وهو اليوم على غير العادة لا يحمل معه سوطه، لكنه لا يبخل بلكمة في الوجه أو رفسة بقدمه يستقيم معها ما اعوج من أمر؛ انحراف عن الصف، التفاتة، طفل يبكي على صدر أمه، رجل يطرد ذبابة حطت على عينه، شيخ استسلم لانحناء ظهره. وعندما يعود كارلوس أدراجه يتراجع الخوف وتلح أوجاع البدن، فيلتوي الصف وينحني يسارا ويمينا، وتتراخى السيقان والأذرع، ويتحرك الساكن.
تخطت السيارة بوابة المزرعة فاتجهت كل الأنظار إليها وانفرجت الأسارير، فعما قريب ينتهي هذا الموقف الذي لا يجرؤ أحد على استهجانه حتى بينه وبين نفسه فقط. توقف السائق في نهاية الممر الفاصل بين الصفين المتراصين، ثم أطلق بوق سيارته يعلن عن وصوله، بعدها هبط من السيارة ووقف إلى جوار بابها الخلفي. أطل كارلوس من النافذة العريضة للقصر ثم اختفى، وأطبق الصمت على المكان.
بعد دقائق ظهر الكولونيل جارسيا خارجا من باب القصر، وعلى مسافة خلفه يسير كارلوس وزوجته التي ارتسمت على وجهها لوعة الفراق، أما كارلوس فبدا متجهم الوجه متوترا على غير ما اعتاد في مثل هذه الاحتفاليات، يتلفت حوله بين لحظة وأخرى، وينتبه لكل حركة أو صوت، ويتوقف لثوان ثم يواصل سيره.
تقدم جارسيا بضع خطوات ثم توقف يتأمل المكان ومن فيه، فاستقرت كل العيون عليه، رجل قارب على السبعين من عمره، طويل القامة أميل إلى السمنة، أحمر الوجه عريض الشارب، يرتدي معطفا رماديا وحذاء طويل الرقبة، وعلى رأسه قبعة سوداء يعدل موضعها من حين لآخر، يخطو مختالا في مشية عسكرية صارمة، ويجاهد لإخفاء عرج خفيف في ساقه اليسرى.
نفث الكولونيل دخان غليونه، وسار وئيدا بين الصفين وأنفه الروماني يناطح السحاب. تعمد الجميع، كما في كل المناسبات السابقة، أن يسمعوه كلمات الدعاء وأمنيات العودة السالمة الغانمة، واندفع قليلون يقبلون يده وحذاءه، فتركهم يفعلون دون أن تبدر منه أي التفاتة نحوهم. أما كارلوس فكان يتفحص وجوه كل من اقترب من الكولونيل ثم يبعدهم، بغير خشونة هذه المرة!
تحرك السائق ليفتح للسيد باب السيارة، وفجأة، ومن خلف الصف الأيسر ارتفع صوت ينادي جارسيا دون ألقاب، توقف الكولونيل مندهشا وتلفت حوله، وتحولت كل الأنظار نحو رجل أسود البشرة يخترق الصف شاهرا مسدسه، ثم اندفع نحو الكولونيل وأطلق عليه بضع رصاصات. وقعت المفاجأة على الرءوس كالصاعقة فلم يسمع لأحد صوت، ولم يتحرك أحد من مكانه إلا بعد أن ولى الفاعل الأدبار، صرخ البعض: كوفي، كوفي، إنه كوفي.
حالف الحظ الكولونيل جارسيا فكان ضابطا في الجيش المنتصر، ولأن النياشين والأنواط العسكرية لا تكفي في كثير من الأحيان، فقد قبض الكولونيل ثمن اشتراكه في الحرب نقدا، عندما استغل نفوذه كقائد لحامية في إحدى المستعمرات واشترى مساحة أرض شاسعة لقاء مبلغ زهيد. أرسل له زملاء السلاح في مستعمرات أخرى أفواجا من الأفارقة اشتراهم بثمن قليل ليستصلحوا الأرض ويزرعونها. ولأنه اعتاد أن يأمر فيطاع، فقد استعان الكولونيل بعدد من الجنود المرتزقة من أصحاب البشرة البيضاء، ليكرهوا السود على العمل تحت ضربات السياط.
ولأن الجنود في الحقول لا عمل لهم، فقد انشغلوا بارتكاب كل الفظائع، وتباروا في التنكيل بالعبيد، يشحذون عقولهم في ابتكار وسائل جهنمية لتعذيبهم وسحق إرادتهم، ويمنون نفوسهم المريضة بالمزيد من صرخات الألم ونزيف الدماء، ونظرات التذلل في أعين من لا حول لهم ولا معين.
حصد الكولونيل سريعا ما زرعه العبيد، فعزم على الاستمرار في مشروعه المربح، لكن المرتزقة البيض كانوا العقبة الكبرى؛ فقد بالغوا في ابتزازه حتى أوشكوا أن يستولوا على كل ما تربحه المزرعة، لقاء ما يقومون به من أعمال قذرة، وربما طمعوا في أن يشاركوه ملكية المزرعة، وكان لا بد من التخلص منهم. كان جارسيا كغيره من النخاسين يخشى تمرد العبيد إن غاب من يردعهم، ولكي يستقر له الأمر قرر أن يستبدل استغلاله الخشن لجهد العبيد باحتيال أقل خشونة، يمكن تحمله ويوفر له كثيرا من النفقات. استغنى جارسيا عن العمالة البيضاء المكلفة، وأنفق فقط نصف ما كان يدفعه للجنود لتحسين ظروف حياة العبيد، فمنحهم كمية أكبر من الطعام الرديء، وبنى لهم حظائر لتأويهم، وأشترى لهم إناثا ليتزوجوا وينجبوا، ليستهلكوا ما تبقى لهم من قوة، ويوردون في الوقت ذاته مزيدا من الأيدي العاملة. وانتقى الكولونيل من عبيده أقواهم بنية وأكثرهم جلدا وجعلهم حراسا على مداخل المزرعة ومخازنها، واستعان بهم لتأديب الخارجين على النظام.
رأى الكولونيل أن استعباد الروح يجعل العبيد أكثر صبرا على تحمل أوجاع الجسد، فصنع من نفسه كاهنا يفعل كل ما يفعله سياسي مستبد، يعلم الناس كيف يكونون عبيدا صالحين، ينتقي من الدين كل حقوق السيد، ويتنكر لكل حقوق الرعية. وقد مكنه جهل العبيد بدينهم الجديد من أن يعبث بتعاليمه كيفما شاء، حتى إنه أوهمهم في بعض المواضع في الكتاب المقدس أن لفظة «السيد» في بعض المواضع تشير إلى أمثاله من مالكي العبيد ولا تشير إلى الرب، وأنهم لن ينالوا الغفران حتى يرضى الكولونيل عنهم. وقد قبله العبيد كاهنا كرها وطوعا؛ فهو في أسوأ الأحوال يجعل من مذلتهم واستكانتهم مظهرا لطاعة أوامر السماء، وثمنا يتحتم عليهم دفعه لقاء جنتهم الموعودة بعد الموت.
في سلام تام مع النفس أذاق جارسيا عبيده كل صنوف العذاب، من استكان منهم، قبل من ظهرت على وجهه علامات الضيق، كان لا يرضى منهم بغير الإذعان الكامل لمشيئته.
لم يتزوج الكولونيل، واستحل من اشتهى من نساء المزرعة وفتياتها، فهو حر في أن يفعل ما يشاء بمن يملكه. وكانت الجميلة إيلينا زوجة كارلوس هي مطيته المفضلة التي يعتليها وقتما رغب، بالطبع في غياب زوجها الذي كان نادرا ما يدخل القصر قبل منتصف الليل. وفي تبجح يلائم طبعه وقناعاته، كان جارسيا لا يجد حرجا في أن يطلب من إيلينا أن تنتقي له من نساء المزرعة من تراها توفي بالغرض، ويبدو أنها وهي البيضاء الجميلة لم تتملكها روح الغيرة على سيدها ومعشوقها، ولا تمانع في أن يستعمل إحدى جواريه في بعض الأحيان. وسار الأمر على هذا النحو إلى أن أحضرت بين يديه نانا.
لم تكن نانا كسابقاتها، فقد بدت نافرة رافضة، ولم تفلح شتائمه وسورة غضبه وضربات سياطه في إخضاعها، حتى أوشك أن يفتك بها غير مصدق لموقفها تجاهه، لكن إيلينا أفلحت معها عندما أخبرتها بأن الكولونيل لن يتورع عن قتل أطفالها وزوجها إن هي أبت الانصياع لرغبته.
مكرهة رضيت نانا أن تمنح جسدها جثة هامدة لمغتصبها، وكان الكولونيل جارسيا أعلى مقاما من أن تشعر به كذكر، فكانت لقاءاتهما صامتة باردة. وهو، هذا العاشق المسن المتعجرف واهن القوى، لا يثق في ذكورته، ويقبل أن ينحدر إلى مستوى عبيده فتشتد عليه الغيرة على نانا، وينكل بزوجها كوفي أشد تنكيل؛ يضع الأصفاد الثقيلة في قدميه أينما حل، ولا تشفى جراح ظهره من أثر ضربات السياط، ويضعون الكمامة على فمه كما لو كان كلبا مسعورا، ويجر على وجهه في التراب كعتاة المجرمين.
صبر كوفي طويلا على العقاب جراء ذنب لا يعرف ما هو، وخاب رجاء نانا في عفو العاشق عن زوجها، فتململت بين ذراعيه، ليتحمل كوفي مزيدا من العذاب.
نهشت الغيرة قلب إيلينا، فهي لم تعد المعشوقة الأثيرة عند جارسيا، إن لعابه يسيل عند رؤية نانا، هذا الشيخ المخرف، كيف قسا قلبه فأمرها أن تشرف بنفسها على نظافتها وملابسها وزينتها، كيف لها أن تقبل بأن تكون خادمة لهذه الجارية السوداء؟! ولكن هل تجرؤ على إظهار رفضها، إن جارسيا لا يقيم وزنا لشيء، وهو لن يتردد لحظة واحدة في جلدها وطردها هي وزوجها من المزرعة.
لم تعدم إيلينا الحيلة، سنحت لها الفرصة لإعمال مكيدتها عندما طلب الكولونيل منها ذات مرة إحضار نانا إلى مخدعه، فذهبت لكوفي في الحقل تطلب منه أن ينصح زوجته بألا تقدم على إثارة غضب الكولونيل حتى لا يفتك بها أو به. وتعمدت المراوغة حينما طلب منها كوفي توضيح الأمر، واكتفت بأن أخبرته بأن زوجته تعلم جيدا ما يريده السيد منها.
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي أثارت شكوك كوفي في زوجته الجميلة، لقد أصبحت أكثر نظافة عما كانت عليه في الآونة الأخيرة، وفاحت منها عدة مرات رائحة عطر لم يسبق أن خبره طوال عشرته معها، وأصبح القصر يطلبها من وقت لآخر للخدمة فيه بعد أن ظلت عشر سنوات لا تدخله قط. حاول كوفي أن يدفع عن نفسه تلك الشكوك، عندما ظن أن جارسيا ما كان له أن يضطهده على هذا النحو لو أنه اتخذ من زوجته عشيقة له. لم يخطر بباله قط، وهو العبد، أن سيده يمكن أن يشعر بالغيرة منه. لم يكن واثقا من طهارة زوجته أو دنسها، كان ساخطا حانقا ثائرا يحتار في أمره، كانت غيرته على زوجته كذكر أشد وقعا عليه من اقترافها للزنى الذي عده الدين الجديد من الخطايا. هل معاشرة السيد لإحدى جواريه خطيئة؟ لم يكن يدرك ما هو الخطأ، ولا يعرف بالتالي ما الذي يتوجب عليه فعله؛ ولذا فقد وجد كوفي ألف ذريعة أخرى لكي ينهال ضربا على نانا ليل نهار، ولم تسأله امرأته عن السبب ولو لمرة واحدة.
لم تكن نانا لتتوقف طويلا أمام اغتصاب الكولونيل لها؛ فقد اعتادت تحرش الذكور بها في موطنها الأصلي الذي كان متسامحا مع الأمر، واعتادت بعد أن تم اصطيادها وبيعها أنها والذكور من أمثالها سواء، مجرد حيوانات لا يستر لها عورة، ألقي بها لتنام وتتعرى وسط الذكور، ويعتليها منهم من يشاء. نانا لا تختلف كثيرا عن النساء العبيد، لكنها عاشت من قبل تجربة مغايرة؛ فقد كانت ضمن ممتلكات أحد السادة البيض قبل أن تباع لجارسيا، وكان سيدها القديم أقل وحشية، أو ربما أكثر تعاليا، فلم يسمح لنفسه أن يتواصل مع عبيده، رجالهم ونسائهم، عن قرب. وكان مالكها السابق متشددا في دينه أيما تشدد، فوضع قواعد للتحريم لم يسمح قط بمخالفتها. هكذا التبس الأمر على نانا، فأضحت لا تدري أي نموذج من السادة هو السائد والصحيح، وأي مسلك ينبغي لها أن تسير فيه، ولهذا السبب، ربما، كانت علاقتها مع جارسيا مضطربة لا تستقر على حال.
لم يكن دينها الجديد بحلاله وحرامه قد استقر في أعماقها بعد. وظلت المرأة، كما اعتادت من قبل، طرفا سلبيا في هذه العلاقات، سواء رغبت أو كرهت، تتمنع ما أمكنها كأنثى أي حيوان، ثم تستسلم وتنسى بعد قليل ما حدث. أما والكولونيل، السيد، هو الذكر هذه المرة، فالأمر مربك تماما، فهي لا تستطيع أن تجزم بأن ما يفعله ولي النعمة ليس حقا أصيلا له .
نانا موقنة فقط بأن زوجها كوفي لا يرضى بالأمر، وهي لهذا لن تخبره مطلقا بما يفعله الكولونيل معها، وتبذل ما في وسعها كي لا تغضبه.
مست الشرارة التي أطلقتها إيلينا زوجها، تعجب كارلوس من أوامر الكولونيل المشددة والمتكررة بإيقاع العذاب بكوفي، لم يكن كارلوس ملاكا، بل كثيرا ما أذاق عبيد المزرعة ألوانا شتى من العذاب، لكن الحيرة تملكته هذه المرة، فالعبد كوفي لم يعص أمرا ولم يتقدم أحد بشكوى من سلوكه، وهو كما عهده لسنوات، كان يبادر بتقديم العون لمن يحتاجه دون طلب، ولم يكن كارلوس ليتصور أن قائده وسيده يمكن أن ينشغل طويلا بحال عبد مثل كوفي. لا بد وأن سببا خفيا يوجد خلف تصرفات الكولونيل، هكذا فكر كارلوس.
أمر جارسيا بحبس كوفي في قبو تحت الأرض ومنع أي طعام أو شراب عنه لثلاثة أيام. نفذ كارلوس الأمر، لكن نداء داخليا عميقا كان يلح عليه أن يرفض وأن يتبين سبب ما يحدث. في وقت متأخر ليلا فتح كارلوس الزنزانة ووضع طعاما وشرابا أمام كوفي الذي جحظت عيناه من الدهشة، ثم انكب على طعامه وشرابه ككلب جائع مذعور، وما إن انتهى حتى أمره كارلوس بألا يخبر أحدا مطلقا بما فعل. تعجب كوفي: أتخشى الكولونيل كما نخشاه؟! - بل أكثر. مالك المزرعة، أبيض كان أم أسود اللون، هو الحر الوحيد، وما نحن إلا عبيد بيض نخدم أسيادنا بطريقة مختلفة عنكم. - ألست مواطنا حرا في بلدك؟ - حر في أن أشكو ضيق ذات اليد، وأن أصرخ كما أشاء من الألم، وأن أختار من بين السادة أقلهم قسوة فأعمل في خدمته، وأن أسير في الطرقات وقتما أشاء كأي كلب. - لماذا تعاملوننا إذن على هذا النحو؟ - لا تظن أننا جميعا مرضى ننتشي بتعذيبكم، نحن مجبرون على القيام بالأعمال القذرة التي يتأفف منها السادة. هناك أفارقة يؤدون نفس العمل.
بدا أن كوفي لا يستوعب كل ما يقال، فاكتفى بالصمت. قال كارلوس: سأساعدك بشرط أن تخبرني بالسبب الذي يجعل الكولونيل ساخطا عليك إلى هذه الدرجة. - لا أدري.
صرخ فيه كارلوس وهو يهم بمغادرة القبو: سأتركك إذن تموت في قبرك هذا.
استوقفه كوفي.
تعمد كارلوس أن يدخل القصر في غير الأوقات التي اعتادها، كان يراقب زوجته، ولم يدم الأمر طويلا؛ فسلوك زوجته يثير الريبة من اللحظة الأولى، إنه لم يضبطها عارية ترقد أسفل جارسيا، لكنه خشي أن يواجه هذا الأمر يوما ما، فبنى لنفسه كوخا بعيدا عن القصر، وأمر زوجته بأن تأوي إليه بعد أن تنهي عملها في خدمة الكولونيل. استشاط جارسيا غضبا من فعلة خادمه، الذي تجرأ فاتخذ قراره دون الرجوع إليه وأخذ موافقته.
لم يصدق كارلوس نفسه عندما قيده حراس المزرعة السود إلى شجرة، ومنعوا عنه الطعام والشراب. أهكذا يتنكر هذا الجاحد لكل ما بذله كارلوس من أجله؟ لقد حمل جارسيا فوق كتفه لأميال عندما أصيب في أحد المعارك، كان جنديا مخلصا للكولونيل قبل أن يكون أيضا خادما مخلصا. ورغم هذا فقد هزأ به مرارا، وصفعه مرة أمام زوجته إيلينا، وركله بقدمه وسط المزرعة وعلى مرأى من العبيد، ولم يتورع عن جلده لهفوة صغيرة غير مقصودة، وها هو الآن ينكل به على أيدي الحراس السود. أدار كارلوس شئون المزرعة لسنوات طويلة ولم ينل منها سوى أجره الزهيد فقط، ورضي بأن تكون زوجته خادمة في قصر الكولونيل، أما جارسيا فلم يكتف بخدمة المرأة في قصره. لم يبق لكارلوس سوى شرفه، لكن جارسيا أهدره غير مبال.
بفضل كارلوس أعتق كوفي من سجنه بعد شهرين، وعندما ألمت بكارلوس النازلة وغضب الكولونيل عليه لم يتردد كوفي رغم المحاذير من رد الجميل للرجل. ما حدث لكارلوس أفزع حراس المزرعة، فها هو المدير الأبيض ينكل به، فما الذي يشفع لهم وهم العبيد السود؟ كوفي وكارلوس أمام مالك المزرعة سواء، لا يختلفان إلا في لون البشرة؛ ولذا فقد كان من السهل على كوفي أن يتفق مع الحراس على أن يأتي كل مساء، فيحل وثاق كارلوس ويقدم له الطعام والشراب، ويظل بجانبه حتى ينال قسطا من النوم قبل أن يعيده لحالته السابقة.
بعد عذاب طويل تدبر كارلوس أمره، وقرر أن يقبل قدمي الكولونيل حتى يعفو عنه. منحه الكولونيل الفرصة لكي يهزأ به ويمرغ أنفه في التراب ويجثو خاشعا ذليلا أمام سيده، فأمره أن يعود هو وإيلينا ليقيما في القصر، وكأنه يأمره بأن يحمل له زوجته بنفسه ويأتي بها إلى مخدعه. لم يكن كارلوس قادرا على تحمل ذلك الهوان مهما حاول، لكنه نفذ الأمر وتعمد أن يبدي امتنانه!
دخل كوفي على زوجته ليرى المولود الجديد، وما إن وقعت عيناه عليه حتى عبثت برأسه كل الشياطين، كان المولود فاتح البشرة تختلف ملامح وجهه عن إخوته ووالديه. لم يكن الأمر غريبا على عبيد المزرعة فقد حدث نفس الشيء مرارا من قبل لأسر أخرى، لكن الشكوك التي كانت تنهش عقل كوفي جعلته ينهال على زوجته ضربا مبرحا دون أن ينطق بكلمة، جرت نانا لتحمل طفلها وتهرب من المكان، وما إن رآها تحمله حتى اختطفه من يدها وقذف به إلى الأرض، ومات الضحية.
أمضى كوفي في سجن المستعمرة ثلاث سنوات، لم يأت أحد لزيارته خلالها سوى كارلوس، الذي كان يحمل له معه في كل مرة أصنافا من الطعام والشراب ويمنحه بعض النقود. عندما سأل كوفي عن زوجته في الزيارة الأولى، أخبره كارلوس بأنها ما زالت تتردد بانتظام على القصر، فلم يسأل عنها بعد ذلك.
عندما قتل جارسيا، ظل كارلوس لبعض الوقت يتأمل جثة الكولونيل وهي بعد ما زالت ملقاة على الأرض، وحانت منه التفاتة نحو زوجته فرآها تذرف الدمع على الفقيد، فركلها بقدمه أمام الجميع، ثم دعا الحراس فحملوا الجثة إلى القصر، وتبعهم.
بعد دقائق خرج كارلوس من القصر يحمل حقيبة في يده، صعد إلى السيارة، وطلب من السائق الإسراع علهما يلحقان بالقاتل ويمسكان به. في الطريق توقفت السيارة وهبط منها كارلوس، ثم أشار إلى السائق بأن يمضي إلى حال سبيله.
وسط المزارع كان كوفي بانتظاره، تصافح الرجلان، ثم انطلقا معا. (تمت)
المأتم
الإعلان الكبير المعلق على المدخل، لفت أنظار جميع العاملين عند حضورهم صباحا إلى مقر العمل، فلم تكن كل الإعلانات السابقة بهذا الحجم، ولم تكن تضم تلك الخطوط الزخرفية المتعددة الألوان. فاق إعلان خبر وفاة زوجة عم فهمي كل ما سبقه، فعادة ما يخرج خبر كهذا مكتوبا بخط اليد على ورقة صغيرة يتم تثبيتها على لوحة الإعلان بشريط لاصق. اعترضت إدارة الأمن، لكن الأمر تم تمريره لأنه يخص عم فهمي فراش مكتب سعادة المدير العام. ولأنه الموت، ذلك المخيف المقدس، فقد خشي الجميع أن يستهجن هذا الإعلان الفخم حتى بينه وبين نفسه، واكتفى المدير العام بقوله: البقاء لله.
سارت الأمور كالمعتاد في المصلحة، لكن عم فهمي لم يمنعه حزنه على الفقيدة ولا مشاغل الدفن والجنازة عن القيام بواجبه، فاتصل بمكتب المدير العام ثلاث مرات يطمئن فيها على حسن سير العمل واستقرار الأوضاع أثناء غيابه! وتجاهل اللهجة الخشنة وألفاظ التهكم التي تم الرد بها على استفساراته، فقد كان يضع سماعة التليفون ملتفتا لمن حوله قائلا: صدق إحساسي، هناك مشاكل لكنهم لا يصرحون بها مراعاة للظروف.
فيهز الكثيرون منهم رءوسهم آسفين ويسترضونه: لا راد لقضاء الله. الضرورات تبيح المحظورات، وغدا تعود لعملك.
البدلة السوداء وربطة العنق اللتان يرتديهما عم فهمي، أصبحتا قالبا للتفكير والسلوك انصهر الرجل بداخله وتوحد به. ملابسه التي حرص على أن تكون نظيفة دائما رغم تواضعها، جعلت مديري العموم الذين تناوبوا على المؤسسة مطمئنين على صحتهم، فاستمر الرجل ينفرد بوظيفة فراش مكتب المدير العام زمنا طويلا. لم تكن كلمات المديح وطقوس الترحيب التي يتقنها عم فهمي تثير اهتمام الكبار على خلاف ما يعتقد، فقد اعتادوا التبجيل من الكبير قبل الصغير.
لم يعهد عن عم فهمي أنه تقول على أحد من المديرين أو انتقده في شيء، لا لخلقه الطيب، بل لأن كل المديرين بالنسبة إليه سواء؛ باشاوات، كبار، العنيف منهم حازم، واللين منهم رحيم، والمرتشي منهم يسعى على لقمة عيشه، ونظيف اليد تقي يعرف الله، ومن شجع منهم النادي الأهلي فالأهلي حديد، ومن انتمى للزمالك فالزمالك فن وهندسة. ومن كال له السباب أو من ربت على كتفه فكلاهما على حق؛ فالأول يعاقب على خطأ والثاني يثيب على معروف.
كان أول من يحضر إلى مقر العمل، يراجع نظافة المكتب ويتأكد أنه قد أعاد كل شيء إلى موضعه، ثم يقف منتصبا أمام مدخل المصلحة يترقب وصول الكبير ويهرول لحمل حقيبته. دائما يجلس على كرسيه الخشبي أمام باب المكتب ما دام المدير العام في المصلحة، ويتجول عادة بين مكاتب المصلحة أثناء تغيبه كي يلم بما يحدث. لم يعرف عنه أنه وشى بأحد من العاملين، أو ربما أن المدير العام كان أكثر ذكاء من أن يلحظ أحد أن عم فهمي ينقل له كل الأخبار.
على كرسيه الخشبي كان يستفسر ممن عليه الدور لمقابلة المدير العام عن سبب مجيئه، ويخشى الكثيرون ألا يستجيبوا لتطفله، وهو يناقش ويقيم ويقترح ويوصي ويؤنب ويشجع، وفي أحيان كان يعرض على البعض أن يتوسط هو لدى المدير العام فيستجيب لمطلبه أو ينال العفو. وفي المناسبات الهامة كحركة الترقيات أو التنقلات أو صرف الحوافز كان يعد المرجع الجامع الصادق للأخبار، وهو لا يكل أبدا في تأكيد دوره الهام في كل القرارات المصيرية التي أصدرتها المصلحة!
كان يتصنع البرود والترفع عن الصغائر، ويسير بخيلاء لا يبخسه إلا قامته القصيرة وجسده النحيف. إنه يظن أنه يستمد مكانته العالية من منصبه الرفيع، فكان أحرص عليه من نفسه ويخشى عليه من أي منافس، مما جعله يؤدي عمله بكل إتقان، وكانت تؤرقه حقيقة يأبى التسليم بصحتها، وهي أن الملايين غيره يمكنهم القيام بنفس عمله وربما بكفاءة أعلى. لا يدري أو يتجاهل أنه لا يستمد مكانته من عمله بل من سيده، وهو لا يملك من الصفات السامية التي لسيده شيئا، إنه يبغي الرفعة والتعالي وهما فعليا ينسحقان تحت أقدام المدير العام، فلا يتبقى له شيء إلا التباهي بحذاء سيده.
يسهب في الحديث عن عبقرية المدير العام، أي مدير عام، وجوده وكرمه ومحتده ونسبه، وكمال زوجته وجمال بناته وبطولة أولاده، ومنزله الفخم وسيارته الأعجوبة وأمواله الطائلة التي ورثها عن أجداده العظماء، فإن شكك أحد فيما ادعى هاج واشتعل غضبا واستل سيفه. وكل المديرين عنده أعلى مرتبة ممن سواهم من المخلوقات، فهم دائما أولاد ناس لا يسلمون أبدا من ألسنة أولاد الكلب.
تبرع له الزملاء ببعض المال ليعينوه على كربه، فأخذ المبلغ بإيماءة شكر بسيطة وكأنه حق مكتسب له. نصحه أقاربه وجيرانه بأن يمسك يده فلا يسرف في الإنفاق على مظاهر لا نفع فيها ولا يأمر الدين بها، وألا يجمع بين مكروهين؛ الموت وخراب الديار، لكن عم فهمي أصر على إقامة سرادق عزاء كبير؛ لأنه: «لا غنى عنه لاستقبال المدير العام وكبار الموظفين، وكذلك الشخصيات العامة التي تعرفت عليها أثناء ترددها المتكرر على مكتب رئيس المصلحة.»
واقتنع الأقارب وقليل من الجيران بمبرراته فأعانوه على ما انتوى، يخفون في داخلهم شوقا لمجالسة هؤلاء الكبار، وحقدا على المنزلة التي بلغها صاحبهم.
انهمك عمال الفراشة في إقامة سرادق كبير بعرض الشارع كله، وبينما هم يعملون أتى مسئولو المرافق وحرروا محضرا بالمخالفة، وبعد تدخل أهل الحي، ولقدسية الموت ولأجل خاطر المرحومة فقط، تغاضوا عن المحضر وأوصوا بتضييق عرض السرادق بما يسمح للسيارات والمارة بعبور الشارع. توقف العمال عن فعل شيء قبل مراجعة صاحب الشأن الذي أتى مسرعا مبديا لامبالاته وترفعه، ومصدرا أوامره الحازمة بإقامة السرادق وفق ما تم الاتفاق عليه من قبل. وسريعا أخرج هاتفه المحمول وكله ثقة وافتخار بأن ولي نعمته سيتدخل فورا لإنهاء هذا الإشكال البسيط، وجاءه الرد سريعا من سكرتير المدير العام الذي وبخه ونبه عليه بألا يحاول أن يشغل الرجل المهم بمثل هذه التفاهات. لم يصدم عم فهمي، فأكبر الظن عنده أن الباشا ليس في مكتبه، وأن الكسالى الحاقدين من الموظفين لا يبغون له خيرا، واعتزم إبلاغ الكبير عند حضوره. واكتمل السرادق، وحرر رجال المرافق محضرهم.
مر المغرب، وترقب عم فهمي حضور الكبار لسرادق العزاء بعد صلاة العشاء، فهم مشغولون دائما وهذا هو الوقت الأنسب للحضور. انتهى المقرئ من الربع الأول بعد العشاء وبدا السرادق مهجورا إلا من قليل من المقربين، ولم يتبق سوى الربع الأخير كاتفاقه مع المقرئ، والوقت شتاء والجو بارد، كما أنه إن طلب ربعا ثالثا من القارئ فسيطلب في المقابل مبلغا كبيرا، وهو قد وجد عنتا في إقناعه بالحضور وكلفه ذلك الكثير، وحتى إن وافق الشيخ مبدئيا فهل يقبل على نفسه وهو المقرئ الذائع الصيت أن يتلو القرآن ولا أحد يستمع إليه، هكذا كان عم فهمي يمعن التفكير ويتدبر أمره، وقد بدأت أحلامه الباهرة تخبو.
تذكر عم فهمي فجأة أن زوجته قد ماتت اليوم! فقد شغلته الطقوس عن السبب الذي أقيمت من أجله، عن زوجته طيبة القلب أم الأولاد، لقد أخطأ في حقها واهتم بمظاهر لا تقدم ولا تؤخر، عليها رحمة الله. شغلته حواراته الداخلية لثوان أفاق بعدها من غفوته، وهرع إلى القارئ يستجديه أن يطيل قراءة الربع الأخير!
أطفئت الأنوار واسود قلب الرجل ووجهه. لم يأت الكبار من المؤسسة أو من خارجها لتقديم واجب العزاء، وكان همه الأكبر وغمه أن المدير العام لم يحضر. ارتمى عم فهمي على أحد المقاعد موجها نظره نحو العمال وكأنه يتابعهم وهم يفككون السرادق ويحملون أجزاءه إلى العربة، لم يكن يراهم، لكنه أراد أن يظن الناس هذا كي يتجنب عناء الرد على تساؤلاتهم، ويتغابى عن فهم تلميحاتهم، ويتعامى عن رؤية الشماتة في أعينهم. «بالفعل كان مأتما.» هكذا تفوه عم فهمي بالعبارة والدموع تكاد تطفر من عينيه.
صاح أحد عمال الفراشة موبخا سائق عربة اندفعت صوب المكان، التفت عم فهمي، كانت سيارة سعادة المدير العام. وكأنه غريق مست قدماه اليابسة، انبسطت أسارير وجهه، واندفع منحنيا يكاد يجثو عند قدميه مهللا ومرحبا بالزائر العظيم. صافحه الرجل وتكرم ففتح فمه مرة أو مرتين، واستدار وركب سيارته وانصرف.
توقع العاملون في المصلحة أن يتغيب عم فهمي ليومين أو ثلاثة كحال من تلم بهم مثل هذه النوازل، لكنه حضر في اليوم التالي مباشرة وفي موعده تماما، وباشر عمله كالمعتاد. تغيب المدير العام في ذلك اليوم عن الحضور وقيل إنه في مأمورية بالوزارة، وأتيحت الفرصة كاملة لعم فهمي أن يتجول بين المكاتب ويردد فيها نفس الكلمات: «رغم مشاغل الباشا الكبير، فقد اعتذر للسيد المحافظ عن استكمال الاجتماع كي يقدم واجب العزاء لصديق قريب، نعم، هكذا قال سيادته عني «صديق قريب»، وبعد أن أدى واجب العزاء أبدى أسفه للتأخير، هذا الرجل شديد التواضع. تصوروا، لقد عرض علي مبلغا كبيرا من المال وأبلغني أنني في إجازة مفتوحة لمدة أسبوع.» (تمت)
الحياة بلا دخان
في رشاقة بالغة كانت تستلقي ناعمة بيضاء، ومن شفتيها الورديتين تتصاعد نكهتها ذات السحر الخاص، فتنسج حولها غلالة من حرير شفاف، تتلوى، وتستطيل، وتستدير، وتعلو، وفي تراقص مثير تتمايل في كل الأركان كجواري الشرق، ويسري عبقها إلى صدرك بلسما لكل الجراح. بدا أن صاحبها لا يطيق فراقها طويلا، ولا يجد حرجا في أن يقبل قدميها بين حين وآخر فينبعث أريجها الفواح معلنا عن رضاها. ومن بين أنامله التي كانت تحتضن خصرها بعشق، أفلتت على استحياء تستجمع أنفاسها وتستريح لبعض الوقت على حافة الطفاية. يا لهذه السيجارة الملعونة!
كنت أرقبها وهي على المنضدة المواجهة، حيث تركها شاب وانشغل عنها باستخراج بعض الأوراق من حقيبته، وانشغلت عنه هي أيضا بإغوائي. يا للعوب! لا تخشى صاحبها ولا تكترث لوجود زوجتي. لا تكف عن البوح بعطرها للجميع حتى تنطفئ شعلة الحياة فيها، فتتقمص روحها سيجارة أخرى. كتب لك الخلود يا عشيقتي، وتقدم بي العمر فما عدت قادرا على ملاحقتك. هجرتني السيجارة، ومعها ضاعت أحلى أيام العمر.
دوما كنت أعاند، أقاوم تقدم العمر ووهن الجسد، وكنت أنفق من جيبي ومن صحتي، في غير بخل، لأشتري إحساسي بالحياة. عنيدا مرة، وعن قناعة مرة أخرى، ودون مبالاة أغلب الوقت، كنت أرفض الإقلاع عن التدخين مهما كانت النصائح وأيا كان من يحذر؛ فالحياة ليوم واحد أفضل من مجرد البقاء أبد الدهر، وما دام الموت قادما لا محالة، فمن الأفضل ألا أموت «خرمان».
التقيت بها للمرة الأولى وأنا ما زلت بعد في الخامسة عشرة من عمري، وكان لمحمود حسنين، جاري وصديقي الذي يكبرني بعامين، الفضل في تدبير تجربتي الأولى معها، وما إن انساب دخانها إلى رئتي حتى سعلت بشدة، لأطرد من صدري إلى غير رجعة براءة الطفولة وحياء العذارى.
ناولني عمي أول سيجارة منه يوم نجاحي في الثانوية العامة، كنت مذهولا، وتلفت حولي خشية أن يراني أحد. كيف لواحد من أعمامي أن يناولني سيجارة وأن يرمقني بزهو وفرح وأنا أدخنها أمامه؟! لم أفهم وقتها أن حصولي على الثانوية العامة كان يشهد على شيء آخر غير تحصيل العلم. وقتها كان عمي نموذجا للرجل في تقديري؛ بنية قوية، مفتول العضلات، ذو شارب كث، وملامح خشنة، وشفاه غليظة تنفرج غالبا عن قهقهة عالية. يعشق سماع أم كلثوم وخطب عبد الناصر ولعب الطاولة، ويدخن النرجيلة ومليون سيجارة في اليوم. يصغي باهتمام واحترام إلى حكم الكبار ولا يلقي بالا بأي منها. يتأنق في ملبسه، ويعشق الليل، وله ألف صديق، ولا يكاد ينام. وكان لتدخين السيجارة معه شأن آخر. تمنيت طويلا أن أكون مثله، ولم أفلح إلا في أمرين؛ التدخين والشارب الكث، لكنهما ضاعا كما ضاع عمي وشبابي.
لم أكن على وفاق مع أبي منذ التحاقي بالمدرسة الثانوية وإلى أن تزوجت، كان يعلم أنني أدخن لكنه تغاضى عن الأمر، وعندما أبلغه أحد الجيران، من ذوي النوايا الحسنة، أنه رآني أدخن، أراد أن يؤكد رجولته وهيمنته على قطيعه أمام أب مثله وكأنهما يتبارزان، فاستدعاني وصفعني على وجهي فسقطت على الأرض، وما نهضت بعدها إلا لأتحداه، وكان إصراري على التدخين أحد أسلحتي.
ألقي القبض علي مع مجموعة من الزملاء على إثر تظاهرة خرجت من الجامعة، وساعتها كنت أظن أن الأمن سوف يعاملنا معاملة حسنة تتناسب مع أهدافنا النبيلة وأسلوبنا السلمي؛ ولهذا انتظرت هادئا دوري في التحقيق، وحسبت أنه لا غضاضة في أن أشعل سيجارة أثناء انتظاري خارج مكتب ضابط الأمن، وعندما حملت من «قفاي» إلى داخل المكتب كانت السيجارة معلقة بشفتي، استقبلني أحد المخبرين بترحاب مبالغ فيه؛ صرخ في وجهي: أتدخل مكتب الباشا والسيجارة في فمك يا ابن ...؟
وصفعني على وجهي صفعة أطاحت بوطنيتي، وصدغي، ونظارتي الطبية، والسيجارة، فتبعثروا شتاتا في المكتب. ولسوء حظي، لا لسوء حظ المخبر، هبطت السيجارة على أحد المقاعد فأصابت الجلد الذي يغطيه بحرق بسيط، فما كان من الضابط إلا أن كال للمخبر ولي السباب، وقذفني بطفاية سجائر كانت على مكتبه تركت فوق حاجبي جرحا لن يندمل.
تحلق الأطباء حولي وأخذوا يحملقون في ويتبادلون الحديث، ثم، وربما بعد أن استقر رأيهم على شيء، ذهبوا بعيدا. التفت إلى أخي وطلبت منه أن يشعل لي سيجارة، فاتسعت عيناه في استهجان ودهشة وتركني وخرج.
هل ظن هذا الصغير أنه امتلك القرار في حياتي لمجرد أنني مريض؟! تحاملت على نفسي ونهضت من رقدتي وخرجت من الغرفة، مضيت إلى أقرب مقعد وجلست، وجالت عيناي تبحثان عن أي شخص أعرفه. أدرك أخي ما كنت أعتزمه، فأشعل سيجارة وناولني إياها دون أن ينطق.
أظن أنني دخنت نصفها، لم أعد أذكر، ولا أذكر إن كنت قد أطفأتها أم لا، فلقد أخذت على غرة وحملوني إلى غرفة العناية المركزة.
ومر عام أو يزيد لم أشعل خلاله سيجارة واحدة لأوامر الأطباء الصارمة، بدعوى المحافظة على حياتي! أي حياة هي التي يحرصون على صونها لي؟
وأنا الآن، كما يدعون، بخير، أتناول طعاما صحيا جدا وأشرب الماء النقي، وأصحو من نومي مبكرا، وألتزم بمواعيد الوجبات الثلاث، وأزاول عملي على النحو المقرر، ولا يعلو صوتي في المكتب أو في المنزل، ولا أسمح مطلقا للدم بأن يصعد إلى رأسي، وأزاول الرياضة الخفيفة، وأصل الأرحام، وأشتري الهدايا لزوجتي في كل مناسبة، وأقرأ جرائد الحكومة وأصدق ما فيها، وأشاهد التلفاز، وأنتظر الموت. (تمت)
أبناء للبيع
مدير مكتبي الأستاذ سمير توحيد أخذ على عاتقه مسئولية أن يكون خط الدفاع الأول عن أعصابي، فهو يستقبل الأخبار ويفرزها ويقرر الطريقة المناسبة لإبلاغي بها، وغالبا ما تكون ملامح وجهه وصوته ووقفته القريبة من المكتب، أو البعيدة عنه، هي محطة الإنذار الأولى بالنسبة لي، والتي أتخذ استعداداتي للمواجهة طبقا لمؤشراتها.
في تلك المرة فشل الأستاذ سمير في الإيحاء لي بما يريد، أو فشلت أنا في استقبال رسالته، فرأى أن يقذف بالخبر في وجهي مباشرة: منذ أسبوع اتصل بي رجل كان يصر على مقابلتكم شخصيا، فأخبرته أن جدول مواعيدكم لا يسمح بذلك في الوقت الحالي، وأننا سوف نقدم له كل مساعدة ممكنة إن كان له مطلب معين. - ولماذا تذكرت أمره الآن بعد مرور أسبوع؟ - تكررت محاولاته أربع مرات خلال الأسبوع الماضي، تغاضيت عن الأمر فكثيرا ما نستقبل مثل تلك الاتصالات، إلى أن قال اليوم شيئا كان ينبغي أن أتوقف عنده، وأن أبلغك به على الفور.
قلت: هذه المقدمة الطويلة لا توحي بخير. - ذكر هذا الشخص أن كريم ما زال حيا، وأنه يعرف مكانه.
سألته: كريم من؟ - ابن سيادتك.
جاء أوتوبيس المدرسة في موعده، وهبط كريم من المركبة تصطحبه المشرفة التي سلمته يدا بيد إلى بواب العمارة، اتصل البواب بالمنزل كي يخبر أمه بعودة كريم كما اعتاد في كل مرة، ولكن أحدا لم يرد على التليفون. كان المصعد معطلا، فتحامل الرجل على نفسه وصعد إلى الشقة في الطابق السادس، دق جرس الباب عدة مرات، ولا أحد يجيب، ظن أنه لا يوجد أحد بالمنزل، فهبط السلم وعاد إلى جلسته على مقعده الخشبي في مدخل العمارة، وأجلس كريم إلى جانبه.
نادرا ما كان كريم يمكث أكثر من ربع الساعة مع البواب في انتظار أمه، ورغم هذا فقد كان يستقبلها باكيا ومعاتبا، في هذه المرة طال انتظاره حتى بدأ يشعر بالخوف، فأخذ يبكي ويعلو صراخه ويرفض كل ما يقدم إليه من حيل لإلهائه. تجمع بعض الجيران يتساءلون عما يحدث، واهتدى أحدهم إلى أنه من الأصوب أن يتصل بي على الفور، وعندما أبلغوا كريم أنني في الطريق إليه صمت بعد عناء، وعاد إلى جلسته بجوار البواب.
المسافة التي كانت تفصل بين منزلي ومقر عملي كانت طويلة، وكان الوقت وقت الذروة، فحاولت الإفلات من الشوارع الرئيسية المزدحمة واللجوء إلى طرق فرعية بديلة، ومع هذا وصلت بعد أكثر من ساعة.
وفقا لما أخبرني به جاري في التليفون، فالأمر بسيط، هكذا ظننت، سوف يهدأ كريم بمجرد رؤيتي، فأحتضنه وأداعبه ونصعد سويا إلى منزلنا، ولن أنسى أن أشكر كل من اهتم بالأمر، لكن ما حدث هو أنني أبصرت حشدا من الناس يسد باب العمارة، وآخرين يتجمعون على الطوار المقابل يراقبون ما يحدث في الناحية الأخرى. انقبض صدري، وأوقفت السيارة كيفما اتفق، وهبطت منها مسرعا واتجهت صوب مدخل العمارة. أسرع البعض يلتفون حولي، لم أفهم ما قالوه، لكن أياديهم التي ربتت على كتفي مستني كصواعق من نار، فاندفعت أشق طريقي بينهم حتى بلغت البوابة. جالت عيناي سريعا في المكان فلم أجد كريم ولا البواب أيضا.
روى لي أحد جيراني ما حدث: أفاق البواب من غفوة قصيرة فلم يجد كريم يجلس إلى جواره على المقعد، فانتفض وظل يجري يمينا ويسارا لكنه لم يعثر عليه، سأل المارة والعاملين في المحال المجاورة فلم يظفر بإجابة مفيدة، أسرع يرتقي درجات السلم وقد تقطعت أنفاسه حتى بلغ سطح العمارة، ولا أثر للطفل. عاد يدق الجرس ثم ظل يهوي بقبضتيه على باب الشقة، ولم يجبه أحد.
انفرجت أساريري للحظة، ربما صعد كريم إلى والدته في غفلة من البواب، لكن الخوف عاد يتملكني سريعا، هل من المعقول أن طرقة رقيقة بيد كريم على باب الشقة أيقظت زوجتي، بينما فشلت كل محاولات البواب؟! المعتاد أنها لا تبرح المنزل في مثل هذا الوقت، فكيف لم تستيقظ مع كل هذه الجلبة؟ صعدت مسرعا ولحق بي بعض الجيران، فتحت الباب فوجدتها قد سقطت على الأرض والدماء تسيل من رأسها. ماذا حل بها هي الأخرى؟ دارت بي الدنيا، فارتميت على كرسي مجاور.
لا أدري من الذي أحضر الطبيب، سألته، أجاب: «غيبوبة سكر داهمتها، فخارت قواها وفقدت الوعي.»
عندما أفاقت زوجتي لمحت في عينيها الحيرة والدهشة؛ فقد كان عدد المحيطين بسريرها يفوق كل توقع. جالت بعينيها في الحجرة ثم جلست تسأل عن ابنها. أخفينا عنها الخبر حتى لا تزداد حالتها الصحية سوءا، وأخبرتها جارة لنا، كما اتفقنا، أنها أبقت على كريم وسط أبنائها كي لا يراها على هذه الحالة، ويبدو ساعتها أنها صدقت ما قيل.
خرجت وصحبني أخي وشقيق زوجتي طاهر لنبدأ رحلة البحث عن كريم، وفي الطريق أبلغت أن زوجتي علمت بحقيقة ما حدث، وأنها نقلت إلى المستشفى في حالة سيئة. وكأن المصائب يستدعي بعضها بعضا.
عندما رأتني أخذت تلطم خديها وتردد: أنا السبب في ضياع كريم.
قلت: لا تحملي نفسك ذنبا لم تقترفيه، كنت في غيبوبة وكدت تفقدين حياتك. - سوف أقتل نفسي إذا لم تعثر عليه.
طرقت كل الأبواب؛ الشرطة والصحافة والإذاعة والتليفزيون وشيوخ الحارات، ورصدت مكافأة كبيرة لمن يعثر على كريم. وقادني اليأس إلى أوكار البلطجية واللصوص، وقبلت أعتاب السحرة والمشعوذين وقارئي الطالع. أنفقت الكثير ولم أكن أبالي؛ فلقد فقدت أعز ما أملك. كان طاهر، شقيق زوجتي، خير معين لي في مأساتي، فصلاته متعددة ومعارفه منتشرون أينما ذهبت، من المكاتب الوثيرة إلى كهوف الشياطين وغياهب السجون.
مرت أيامنا ثقيلة كئيبة، يداوي النسيان جرحا، وينكأ الحزن جرحا آخر، وإخفاقنا في العثور على كريم يسلمنا لليأس، وأملنا في رحمة الله يملؤنا بالإيمان بأن المستحيل يمكن تحقيقه.
بلغ بي الإعياء والحزن حدا جعلني أتمنى لو عجل الله بقضائه فاسترحت. تدهورت صحة زوجتي ولم تفلح كل جهود الأطباء في شفائها، مالت إلى العزلة، لا تخرج عن صمتها إلا لتبكي وتتضرع إلى الله أن يعفو عنها ويعيد إليها ولدها، أهملت شئونها الخاصة وأهملت شئون بيتها وأهملتني، حتى أصبح تدبير أمورنا المعيشية أملا بعيد المنال. تركتني أتحمل وحدي ما لا أطيق؛ حزني على ولدي، وخيبة أملي لإخفاقي في استعادته، وتعثري في العمل، ومشقة المعيشة، ومزاجي الكئيب، وعقلي المشتت، وشقائي مع شريكة عمري. لا أنكر أنني فكرت في تركها، ولولا أنني خشيت لوم كريم ما تراجعت عما اعتزمته مرارا.
وأتت رحمة ربك دون قصد منا وعلى غير انتظار، أخبرها الطبيب أنها تنتظر طفلا، فعادت الحياة تنبت في بيتنا المقفر.
دعوت الله سرا أن يرزقني بولد، فرزقنا بثلاث بنات، فحمدت الله على نعمته راضيا بنصيبي. أما زوجتي فقد أفصحت لي عن شوقها لإنجاب ولد، وأنها لن تكف عن الإنجاب حتى يأتي. واجهتها: كأنك تعاندين إرادة الله!
صدمتها كلماتي، وكأن معناها لم يرد بخاطرها من قبل. بكت طويلا، ثم نهضت فتوضأت وصلت. قالت: أريد أن أحج إلى بيت الله الحرام هذا العام.
اليأس أهون على النفس من أمل يصعب تحقيقه، والجرح الذي ينزف بعد أن التأم قد لا يشفى أبدا. من الصعب جدا أن أصدق أن ولدي سوف يعود إلينا بعد كل هذه المدة، كيف يكون وقع هذا الخبر على أسرتي؟ قد يكون هينا على بناتي الثلاث فلم يسبق لهن مجرد رؤية كريم، ولكن كيف يكون وقعه على زوجتي؛ أمه؟ لقد كنت في شك كبير حين فقدت ولدها أنها سوف تعود إلى رشدها يوما ما، وظننت أنها أوشكت أن تذهب ضحية لحزنها على فقده وإحساسها بالذنب.
ما أدراني أن الشخص الذي اتصل بمكتبي كان جادا فيما يقول، وأن كريم ما زال على قيد الحياة فعلا ويمكنني الوصول إليه؟ لماذا ظل ذلك الشخص صامتا طوال خمسة وعشرين عاما؟ وما الذي دفعه الآن للإفصاح عما أخفاه؟ لم أجد خيرا من شقيق زوجتي طاهر ألتمس عنده المشورة.
تعجب طاهر، ونصحني بألا أخبر أسرتي بالأمر، وأن علي أن أتريث قبل الإقدام على أي خطوة. قال إنه لا بد من مقابلة ذلك الرجل لنستشف نواياه؛ فربما كان أحد الأشقياء وقد علم بأمر اختفاء كريم بمحض الصدفة فسعى لابتزازي ليس إلا. لاحظ طاهر أن معرفة الرجل باسمي ومقر عملي رغم السنوات الطويلة التي مرت، تعني أنه على صلة ما بي، وقد يكون هذا الشخص أقرب إلينا مما نتصور.
كأننا كنا على موعد، فما إن فرغت من الاطلاع على الأوراق الموضوعة أمامي، واسترخيت في مقعدي وأغمضت عيني وأخذت شهيقا عميقا، حتى دخل مدير مكتبي وأشار نحو التليفون وأومأ برأسه يؤكد توقعي. رفعت السماعة وأشرت لسمير توحيد بالجلوس، حولت صوت المكالمة إلى الميكروفون، كنت أريد شاهدا على ما يجري. أصغى سمير لكل ما قيل ونصحني بأن أبلغ الشرطة على الفور.
مراوغة الرجل وتحوطه الشديد لكل كلمة، جعلاني على يقين أنه مجرم محترف. لم يجب على أي سؤال، وأنذرني بألا أغامر بحياة ابني وأبلغ الشرطة، وطلب أن أذهب إليه بمفردي ومعي عشرة آلاف جنيه، هي مقدم الأتعاب كما قال، تصبح بعد ذلك مائة ألف عندما أرى كريم.
رأى طاهر أن أمثال هذا الرجل لا يردعهم شيء، وربما كان صادقا في قوله بأنه قد وجد كريم، فلا يتورع عن إيذائه إن أنا أبلغت الشرطة. رجوته أن يذهب معي، فقال إن من الأفضل أن يكون بعيدا عن أيدي هؤلاء، حتى إذا ما استشعر خطرا يهددني، وجد الفرصة كي يتصرف.
تبعني طاهر بسيارته، وعندما بلغت المكان الذي سألتقي فيه بالرجل، أوقفت سيارتي، فتخطاني طاهر وواصل سيره حتى غاب عن ناظري. كان علي أن أترك السيارة وأستكمل الطريق سيرا على الأقدام، فالحواري والأزقة هناك لا تسمح بمرور السيارات.
كان الوقت ليلا، ولا تكاد تقع عيناك على أي كائن حي حتى يختفي وسط عشش الصفيح التي تتزاحم في بقع متناثرة، ويعلو بعضها فوق بعض كأكوام القمامة. واصلت سيري على غير هدى فقد كنت على ثقة بأن هناك أحدا بانتظاري. أوقفني ثلاثة شبان أكره أن أسرد وصفهم. سألوني عن سبب تواجدي في المكان، فأجبت بما أوصى به الرجل الذي اتصل بي: أبحث عن المعلم شحاتة البرنس.
فحصوني من رأسي إلى قدمي، ولا أدري عن أي شيء كانوا يبحثون. سألني أحدهم عما يربطني بشحاتة، لم أجب خشية إفشاء السر، فصفعني الشاب الثاني على وجهي، وانشغل الثالث بإفراغ جيوبي مما فيها، ثم وضعوا شيئا يشبه المنديل على عيني، وجروني كما تجر البهائم خلفهم إلى حيث لا أعلم.
عندما توقفوا، ركلني شخص ما فأوقعني على الأرض وانقطع تنفسي للحظات، لعنت كريم، وأمه، وطاهر، وبناتي الثلاث، وسمير توحيد، واليوم الذي جئت فيه إلى هذا العالم.
نزعوا المنديل عن عيني، فأبصرت أمامي شابا قصير القامة مكتنز الجسم، ليس بين ملامح وجهه ما يميزه عن المكان وساكنيه إلا آثار جرح غائر يمتد من جبهته إلى ذقنه. سألني : ماذا تريد من شحاتة البرنس؟
لم أرد، وكأنني لم أتعلم الدرس بعد، ركلني في ساقي فصرخت. استعطفته: أنا في مثل سن والدك. صحتي لا تتحمل هذه المعاملة.
لعن أبي وأباه، وببرود كرر: ماذا تريد من شحاتة البرنس؟
سريعا أجبت هذه المرة: قال إنه سوف يدلني على ابني المفقود منذ سنوات. - كم طلب منك؟
أجبته. ابتسم ساخرا، وأمر من حوله بإحضار البرنس على الفور. ثم جلس وأخرج من جيبه زجاجة خمر وسكب بعضا مما فيها في فمه، ومد يده بالزجاجة إلي، أقسمت بالله أني لا أقرب الخمر، فسحبها وأعادها إلى جيبه.
أتى البرنس يهرول، فقبل يد الشاب وركع على الأرض يستجديه العفو، أوسعه الشاب ضربا حتى سقط على الأرض والدماء تفور من فمه وأنفه.
قال الشاب: حذرتك أن تلعب بغير إذني.
حانت من البرنس التفاتة نحوي، فاتسعت عيناه وهتف: مدحت باشا أبو الفدا!
ومضت بذاكرتي صورة شبيهة به. أمعنت النظر إليه. سألني الشاب: أتعرفه؟ - نعم، عم شحاتة، صاحب الكشك المجاور لمنزلي. لم أشاهده منذ سنوات.
تقدم شحاتة نحوي ككلب يلهث، وأشار إلى الشاب القصير القامة: هذا هو ابنك. المعلم بيومي التلت. كريم!
بعد أن قضى شحاتة البرنس مدة عقوبته في السجن، منحته الحكومة ترخيصا بكشك لعله يكون مصدرا لرزقه الحلال، لكنه كان أكثر فسادا من أن ينصلح حاله. اعتاد كريم أن أصحبه أنا أو أمه لشراء ما يحلو له من ذلك الكشك؛ لهذا فقد ذهب بمفرده في ذلك اليوم المشئوم يطلب بعض الحلوى من شحاتة الذي لاحظ أن الطفل بمفرده، فاختطفه لعله يحصل على فدية كبيرة من أهله ميسوري الحال، إلا أنه خشي من نفوذ والده الموظف الكبير، فعدل عن الفكرة وباع الطفل لأحد المجرمين الذي درب كريم على الشحاذة والسرقة وغيرها من الأنشطة المنحرفة، فبرع فيها وفرض سطوته على من حوله.
علل شحاتة البرنس إبلاغي بأمر كريم بعد كل هذه السنوات، بأنه أراد أن يفعل خيرا قبل أن يلقى ربه! ولا بأس عنده أن يكسب من توبته تلك بعض المال يستعين به في أخريات أيامه.
ظل بيومي التلت صامتا ساكنا يستمع لرواية شحاتة حتى فرغ منها، ثم نهض وانقض عليه وظل يكيل له الضربات حتى سقط على الأرض دون حراك، ولا أدري إن كان قد فارق الحياة أم لا، فقد أمر بيومي رجاله فحملوه إلى الخارج.
مرت هذه الوقائع أمام عيني وكأنني أشاهد رواية لا دور لي فيها، لم ألمح كريم ابني الذي أعرفه فيما يجري ويقال هنا ولو لمرة واحدة، بيومي التلت أقصاه تماما عن المشهد. لم تعاودني ذكريات اللحظات الأولى التي علمت فيها باختفائه، ولا ما عانته أمه من آلام، ولا مشاهد طفولته السعيدة وهو ما زال يعيش بيننا. كانت مشاعري تختلج بعنف تجاه ما يدور وما أسمع، لا أدري إن كنت مندهشا، أم خائفا، أم محبطا، فقط كنت أدعو الله أن ينجيني من يد هذا البلطجي الشرس القبيح الخلقة.
خلصني الله من لعنة فرحت أبحث أنا عنها، أبحث عن مجرم تطارده الشرطة، عن شوه تعف العين عن النظر إليه، عن منحل لا دين له ولا ملة ولا خلق، عن عار يلطخ سمعتنا. أهذا من بكته أمه حتى جف الدمع في مآقيها؟ أهذا سند أخواته وحارسهم؟ أهذا فخري في الحياة وذكراي بعد موتي؟ لم أجرم في حقه، فلماذا أدفع غاليا ثمن إجرامه؟
فتح بيومي حافظة نقودي وأخرج منها ورقة مالية قذف بها إلي: تكفيك هذه لأجرة التاكسي.
علق أحد صبيانه: سيارته الملاكي بانتظاره.
ابتسم: قد أصبحت سيارتي منذ الآن. أين الرخصة؟
أجبته: في حافظة النقود، والمفاتيح معكم أيضا. - لتذهب الآن وتخبرهم أن يستعدوا لاستقبالي غدا.
استعطفته أن يرجئ أمر عودته للمنزل حتى نتأكد أنه هو ابني كريم، فأمسك برقبتي قائلا: لا تحاول اللعب معي.
جاهدت لإقناعه. - هو تحليل بسيط في المعمل حتى أتأكد أنك ابني، وحتى تتأكد أنت أيضا أنك تعيش بين أهلك، هكذا تكتمل فرحتنا بعودتك. يمكنك أن تتصل بي غدا لأخبرك عن مكان المعمل وموعد التحليل.
طال انتظار طاهر لعودتي فأوشك أن يبلغ الشرطة، أبلغته عبر هاتفي المحمول بمكاني فأتى مسرعا، سألني عن السيارة، فرويت له كل ما حدث. قال: لعله ليس ابنك كريم. - بل أشعر أنه ابني، لكنني لا أريد رؤيته بعد اليوم.
تعجب طاهر: أتتخلى عنه بهذه البساطة؟! إنك الآن تصدر حكما بموته وأنت تعلم أنه حي يرزق. هل كان كريم لعنة كما تقول عندما كان يعيش في كنفك؟ ماذا كنت تنتظر منه وقد تربى وسط هذه القمامة؟! - إن مجرد ظهوره بيننا سوف يحطم هذه الأسرة. فقط فكر في مصير بنات أختك. - ليس من حقك أن تتخذ قرار موته. لعل وقع الصدمة كان عنيفا عليك. في الغد نعيد النظر في الأمر.
في موعدي تماما عدت من عملي، وما إن فتحت باب الشقة حتى تسمرت في مكاني، كان بيومي التلت يجلس إلى مائدة الطعام وإلى جانبه زوجتي تربت على كتفه والدموع تفيض من عينيها، وعلى أريكة مجاورة تكومت بناتي الثلاث وعلى وجوههن علامات الدهشة والهلع، وما إن أبصرنني حتى أسرعن يلتففن حولي وتتساءل أعينهن عن حقيقة ما يشاهدن.
وكأنها تنعى فقيدها قالت زوجتي: كريم، عاد كريم. أترى؟ إنه بصحة جيدة. كيف لم تخبرني أنك قد اهتديت لمكانه؟ - كنت أنتظر الوقت المناسب، واتفقت مع بيو ... مع كريم على ذلك.
ودخلت إلى حجرتي، فأسرعت زوجتي تلحق بي، تساءلت: ماذا نفعل الآن؟ خطيب ابنتك سيصل بعد قليل، والبنات، أنتركه مع البنات؟ سيسأل الناس عنه، ماذا أقول؟ على الأقل نشتري له بعض الملابس المناسبة. ماذا أقول لخطيب سلوى؟
لحقت بنا البنات. - هل هذا هو أخونا حقا؟! نحن نخاف منه، إنه أشبه بالبلطجية الذين نشاهدهم في الأفلام. لا يمكن أن يقيم معنا، سوف ننتقل إلى منزل جدتنا ونعيش معها.
في سخرية قلت لزوجتي: أليس هذا ما كنت تتمنين؟!
ردت: كنت أنتظر كريم لا ... - هل ما زلت تتمسكين به؟ على أية حال لست متأكدا أنه كريم، إنه مجرم ومن أبلغني عن مكانه مجرم أيضا، لعلنا في كابوس. غدا سوف أعرف نتيجة التحاليل.
عندما خرجنا إلى الصالة كان بيومي قد غادر المنزل .
ظل طاهر رافضا لما اعتزمته، فتركته ينفرد بشقيقته وبناتها، وكنت على ثقة من النتيجة. أدرك طاهر أن الأم وبناتها يبحثن عن سبب منطقي، لا اختيار لهن فيه! كي يبررن نبذهن لكريم.
كان طاهر مجبرا على تقديم العون لنا وإن ظل على موقفه، وضع خطة محكمة: سوف يذهب بيومي معي لمعمل التحاليل، وسوف تخرج النتيجة في كل الأحوال تنكر أي صلة بيني وبينه، هكذا اتفق مع صاحب المعمل، وبالطبع لن نخبر الأم وبناتها، حتى يذرفن الدمع بسهولة وبقليل من الصدق على حبيبهن المفقود الذي لا يعرفن له مكانا!
ناولته صورة من التقرير، وأعربت عن أسفي لكونه ليس ابني كريم. لن أنسى ما حييت نظرات عينيه حينها، أحسست أنني دهسته تحت قدمي. ناولني كريم مفاتيح السيارة قائلا: تركتها أمام باب العمارة.
وصمت لحظات ثم أردف: أبلغ أخواتي أنني لست ذئبا أتى ليفترسهن، وأبلغ أمي التي أبت أن تضمني لصدرها أنني لست مصابا بالجرب.
قلت: أنا ...
قاطعني كريم: أنت مجرم، ولولا أنني موقن أنك أبي لقتلتك. احذر أن أجدك في طريقي بعد اليوم. (تمت)
قبل الطوفان
رغم أن الجميع كانوا منشغلين بمباراة كرة القدم، إلا أن عدد المصلين في الجامع كان كبيرا، فحمدت الله على أن دنيانا ما زالت بخير. فرغت من أداء صلاة العصر، وأسرعت نحو بائع الفاكهة لأشتري لأحفادي ما يشتهونه، فهم نادرا ما يجتمعون عندي. لمحته يضع حبات عطنة داخل الكيس، أنبته: كنت معي في الجامع منذ دقائق، ومن المؤكد أنك سمعت أن الدين ينهانا عن الغش.
أفرغ الرجل ما في الكيس في قفص الفاكهة، وقذفه في وجهي، وصاح وهو يتلفت يمينا ويسارا وكأنه ينذر الجميع: تشتري الفاكهة مرة في السنة، وتريد أن تلقنني درسا في الدين؟!
ثم أمطرني بوابل من السباب، ورفع كفة الميزان ولوح بها مهددا بضربي، نظرت حولي فوجدت عددا من الناس وقد تجمعوا يرقبون ما يحدث، لكن أحدا منهم لم يحاول حتى تهدئة الرجل. استعذت بالله، وخطوت مبتعدا.
كأننا في يوم عيد، أحفادي يجرون ويقفزون ويتشاجرون ويضحكون ويقلبون المنزل رأسا على عقب، ولداي حسن وعلي يلعبان النرد في ركن من الصالون، ويصرخان من آن لآخر لرمية زهر موفقة أو نقلة خاطئة، ولا يكفان عن نداء أمهما مطالبين بسرعة إعداد الطعام قبل بداية المباراة. ابنتي الكبرى ليلى مع أمها تعتكفان في المطبخ لا تغادرانه ولا تكفان عن الثرثرة، الصغيرة سمية لم تصل بعد فقد اعتادت ألا تكلف نفسها عناء شيء، وهي في مثل هذه المناسبات تحضر مع زوجها وابنتها في اللحظات الأخيرة وتكون كذلك أول من ينسحب، أما زوجتا حسن وعلي فكانتا منشغلتين بمناكفات الأطفال وإعداد المائدة.
حضر زوج ابنتي ليلى مثقلا بحمل أكياس الفاكهة وأصناف مختلفة من الحلوى والمأكولات التي يفضلها الأطفال، فوجدت أخيرا شخصا أتحدث معه؛ فمصطفى طيب القلب، مهذب مثقف، وله العديد من الاهتمامات. جلسنا لفترة نتبادل الحديث، وعندما اقترب موعد المباراة استأذن وانضم لحسن وعلي، فنهضت مستسلما ودخلت غرفتي واستلقيت على السرير أتابع نشرات الأخبار.
فجأة ساد الهدوء المنزل، فأيقنت أن المباراة قد بدأت، وبعد دقائق قليلة اشتعل المنزل بالتعليقات والاحتجاجات والصيحات والسباب والتصفيق، وكأنه تحول إلى أحد مدرجات الملعب. نهضت إلى الشرفة أستطلع حال الشارع، فوجدته خاليا أو يكاد، فعدت أدراجي.
اهتزت صورة التليفزيون مرات، ثم توقف بث النشرة الإخبارية، وظهرت على الشاشة لوحة تشير إلى إذاعة نبأ عاجل. نهضت واعتدلت واتسعت عيناي. مهرولا دخل حسن إلى غرفتي يخبرني مندهشا بأن بث المباراة قد توقف، وما إن رأى ما كتب على الشاشة حتى صاح يستدعي أخاه وزوج أخته.
صمت الثلاثة وظلوا يحملقون في الشاشة. أبديت ملاحظة يبدو أنهم كانوا غير ملتفتين إليها: الإرسال لم يتوقف في مصر وحدها، فأنا أشاهد قناة غير مصرية.
وما هي إلا لحظات حتى تسرب الخبر إلى كل من في المنزل، فاجتمعوا يتكومون في الحجرة حولي ويلتزمون الصمت، حتى الأطفال الصغار انتابهم القلق لرؤية آبائهم وأمهاتهم على هذا الحال، فصمت بعضهم، وبكى غيرهم فأجبروا على الصمت. عقب علي: الأطفال مذعورون فلا تزيدوهم رعبا. كل ما في الأمر أن مسئولا كبيرا قد وافته المنية، رحمه الله. كتب علينا أن نتحملهم أحياء وأمواتا!
عقب مصطفى: خبر كهذا لن تذيعه كل القنوات المصرية وغير المصرية.
ظللت لدقائق أقلب القنوات، قلت: مصطفى محق، لننتظر حتى يخبرونا بحقيقة الأمر.
نهض حسن ودخل الشرفة يستطلع الأمر في الشارع، وعاد من فوره وظل يحملق في وجهي، قال: لا أحد في الشارع على الإطلاق.
لم يمض وقت طويل حتى ظهر على الشاشة أحد المذيعين معلنا أن بيانا هاما جدا سوف يذاع بعد دقائق، قال هذه الكلمات وكأنه يؤبن عزيزا لقي مصرعه في حادث مأساوي، سرت همهمات بين الحضور ربما تستهجن التأخير، ثم وجم الجميع وتعلقت كل العيون بشاشة التليفزيون.
دق جرس الباب، لم يبرح أحد مجلسه، فنهضت الأم تستقبل القادمين، كانت سمية وزوجها وابنتهما. لاحظت سمية أن استقبال أمها لها كان فاترا، دخلت وجالت بعينيها في أرجاء الصالة والصالون فلم تشاهد أحدا ممن توقعت وجودهم، تساءل زوجها: لا صوت ولا حركة، أين عمي؟ ألم يحضر أحد؟
اكتفت الأم بأن دعتهم إلى حجرتي، وعندما دخلوا انفرجت أساريرهم وألقوا السلام على الحضور، فجاء الرد مقتضبا جافا غير مرحب، أبدت سمية تعجبها من اجتماع شمل الجميع بحجرة والدها، فلم يعلق أحد. حاول زوجها حث الآخرين على الحديث: هل انتهى الشوط الأول؟
فأشرت إلى شاشة التليفزيون. كان المذيع قد عاود الظهور.
باقتضاب ذكر البيان أن محطات الرصد الفلكي في أنحاء متفرقة من العالم أجمعت على أن كويكبا صغيرا سوف يصطدم بالأرض بعد ساعات، ومن المتوقع أن يحدث هذا الصدام دمارا هائلا، وطلب البيان من المواطنين الهدوء والدعاء إلى الله أن يرفع عنا هذا الخطر.
لطمت الأم خديها وكذلك فعلت سمية، وهرع الأطفال إلى أحضان أمهاتهم يرتعدون، أما الرجال فقد أخذ كل منهم ينظر إلى صاحبه دون أن يتفوه بكلمة. ومن الشرفة المفتوحة هبت صرخات وصيحات وتكبيرات وأدعية، فانتفض من في البيت وأسرعوا نحو الشرفة.
خلال دقائق هرع الناس إلى الشارع لا يلوون على شيء، وكأنهم بعثوا من مرقدهم، كانوا مذهولين زائغي الأعين يتطلعون إلى السماء في رعب. بعد دقائق أخذوا يتبادلون الأحاديث، وعلت الصرخات والصياح والعويل والدعاء، وانفضت جموع منهم وسارت في اتجاهات شتى.
صاح حسن فيمن وقفوا في الشرفة: ماذا تنتظرون؟ هل أعجبكم المشهد؟!
وكأنهم أفاقوا من غفلتهم فأسرعوا بالدخول والتفوا حوله. أربكه تطلعهم إليه وكأنهم ينتظرون المخلص، قال: ينبغي أن نبحث سريعا عن حل.
تدخل مصطفى هادئا: لا يبدو أن هناك حلا، لننتظر قليلا لعل التليفزيون يفيدنا بشيء.
تحول منزل العائلة إلى مأتم؛ فقدت بناتي سريعا تماسكهن، فاحتضنت كل منهن صغارها وانفجرت بالبكاء، وتعالت صرخات الأطفال الذين لا يدركون ما يجري حولهم، وغطت زوجتي وجهها بكفيها تبكي وتسأل الله اللطف في قضائه، وانسحب الرجال يلتفون في وجوم حول التليفزيون الذي ظل يكرر نفس البيان.
اهتزت شاشة التليفزيون مرات، وقطع الإرسال وعاد بعد ثوان، ثم ظهر على الشاشة رجل ينبئ مظهره بأنه ليس مذيعا ولم يسبق لأحد أن رآه على الشاشة من قبل، بلهجة أقرب للعامية قال الرجل وقد تملكه الغضب: هناك نبأ واحد مؤكد، هو أن عددا من الأثرياء وكبار رجال الدولة قد حملوا على متن غواصة حربية انطلقت بهم إلى أعماق البحار.
جرى تعليق ساخر وقح على لسان حسن لم أستهجنه، وانتفض علي هاتفا: نلجأ إلى البحر.
أجلسه مصطفى بهدوء. - حتى لو كان البحر بعيدا عن نقطة الاصطدام؛ فالموجات العاتية «التسونامي» سوف تكتسح ما في البحر وما فوق الأرض. لقد هرب الكبار إلى الأعماق وهي بالفعل قد تكون أكثر أمانا، لكن هيهات أن يبلغها أمثالنا.
علق علي: أولو الأمر نفضوا أيديهم من الأمر.
وظل علي يقلب القنوات، وتوالت الأنباء كارثية: هروب المسئولين والأثرياء على متن سفن وطائرات إلى أماكن غير معلومة، حوادث قتل، سرقات لبنوك ومحلات كبيرة، اقتحام مساكن، حوادث طرق بالجملة. ثم بدأ الإرسال التليفزيوني ينقطع تماما لقناة إثر أخرى.
دخلت سمية على جماعة الرجال صارخة: هل اكتفيتم بمشاهدة التليفزيون؟! ألا تبحثون عن مخرج؟
انقطع التيار الكهربائي، قلت إن المياه ستنقطع بالضرورة، ورفع حسن سماعة التليفون ثم جرب تليفونه المحمول، وبصوت خفيض أخبرنا أن الاتصالات التليفونية قد قطعت.
جذبت سمية زوجها من ذراعه وكذلك ابنتها واتجهوا نحو باب المنزل، فتحته قائلة إنهم سيسافرون بسيارتهم إلى أي مكان، وبعد أن همت بالخروج توقفت تخاطب أمها: لم تعد بك حاجة لمصوغاتك الآن، لكننا سوف نحتاج إليها في ظرف كهذا.
قلت مستهجنا: هل قررت أننا سوف نموت وستبقين أنت على قيد الحياة؟!
سبها حسن ثم استطرد صارخا: هل الذهب ميراث خاص بك وحدك؟
نظرت زوجتي إلي دون أن تنطق تستأذنني فيما عزمت على فعله، استشفت موافقتي، فأسرعت إلى حجرتها وعادت تحمل صندوق مصوغاتها وقذفت به نحو سمية، فتبعثرت محتوياته تحت أقدامها، مالت سمية فالتقطت بعضها وجرت زوجها وابنتها جرا وخرجت وصفقت الباب خلفها. تقدم حسن فجمع متلهفا ما تبقى، ثم مترددا وضعه على المائدة، واستدعى زوجته وأبناءه واقتادهم إلى خارج المنزل دون أن ينطق بكلمة.
تهالكت على أحد المقاعد أكاد أفقد وعيي، فأحضرت لي الأم كوبا من الماء. سألني علي: ما العمل الآن يا أبي؟
أجبت مستسلما: لا راد لقضاء الله.
حول علي وجهه نحو زوج أخته مصطفى. قال مصطفى: البقاء داخل المنازل خطر مؤكد، وقد تكون الأماكن المكشوفة أقل خطرا، والأمر من قبل ومن بعد بيد الله. خذ زوجتك وأولادك يا علي واتجه إلى الميدان في نهاية الشارع، وسوف نلحق بكم.
حول علي عينيه نحوي يلتمس المشورة، وبإيماءة يائسة وافقت على ما رآه مصطفى. فاض الدمع من عين زوجتي وأحاطت بذراعيها أطفال علي وزوجته فتشبثوا بها ينتحبون، خلصهم علي برفق واقتادهم إلى خارج المنزل، وهو يردد بلا انقطاع: سترك يا رب.
طلبت من مصطفى أن يلحق بهم، فرفض الخروج إلا بصحبتي أنا وجدة الأطفال.
كان الليل قد هبط وأخذ ضجيج الشارع في الخفوت، تبقت لدينا شمعة وحيدة تبعث الأمل وسط ظلام المنزل الحالك. كنا على وشك الخروج عندما ارتج باب المنزل بشدة ثم فتح قسرا، اقتحم المنزل أربعة من الشبان يحملون سيوفا ومطاوي وسكاكين كبيرة، ولا يظهر منهم إلا ظلال ملامحهم القبيحة. وقفنا في ذهول نرقب ما يحدث، وتعالت صرخات الأطفال وقد تعلقوا برقبة ليلى. لمح أحدهم الذهب الموضوع على المائدة فأسرع يجمعه في جيبه، وبلهجة آمرة: أين النقود؟
نهرتهم ليلى: سنموت جميعا بعد قليل. هل يفيدكم الذهب والمال بعد الموت؟!
تقدم نحوها أحدهم، قال: لم العجلة؟ مكاننا محجوز في جهنم، فلنستمتع في الساعات التي تبقت من عمرنا بالمال و... والجمال.
واقترب الشاب من ليلى وشدها إليه وهم باحتضانها، فاندفع مصطفى نحوه وقبض على عنقه، فأسرع نحوهما زميل له طعن مصطفى طعنة شقت بطنه وأخرجت أحشاءه فسقط صريعا. رفعت كرسيا وهاجمت به الشاب فخلص الكرسي من يدي وقذف به بعيدا، وبمطواة حادة أحدث بوجهي قطعا طويلا. تعالت صرخات ليلى وأمها والأطفال، فأسرع الأشقياء الأربعة بالخروج.
كان الدم يتدفق من جرحي بغزارة، لكن عيني كانتا مثبتتين على مصطفى وقد أحاطه الجميع يصرخون ويلطمون خدودهم. كنت مهزوما، ضعيفا، يائسا، يتملكني الإحساس بالعار لعجزي عن الدفاع عن أسرتي، تمنيت لو أمتلك سلاحا ناريا أعوض به وهن عضلاتي. وما هي إلا لحظات حتى أحسست بقدمي ترتعشان وتخوران من تحتي، وتهاويت على الأرض.
عندما استيقظت، أبصرت زوجتي تمسح وجهي بمنديل رطب، وليلى إلى جواري يحيط بها أحفادي. أفقت، سألت: ألم يحدث شيء حتى الآن؟
قالت ليلى: لم نجد أحدا ليساعدنا. أنت في حاجة إلى طبيب.
وأنا أنهض متثاقلا قلت: جميعنا في حاجة إلى طبيب.
هل أصبح كثيرا عليك يا مصطفى حتى أن تدفن كما يدفن الآلاف كل يوم؟! لا عليك يا بني، فعما قريب تصير الأرض كلها قبرا. عسير علي أن أتركك على هذا الحال، وقد أبيت أنت منذ ساعتين فقط أن تتركنا وتذهب إلى حالك، علك تنجو وأسرتك من كارثة وشيكة. عشت رجلا ومت رجلا يا مصطفى، رحمك الله يا صديقي.
ساعدتني زوجتي وليلى في حمل جثة مصطفى إلى حجرتي، وعلى فراشي كانت رقدته الأخيرة، وما قطع نحيب ليلى وأمها إلا دعوتي للصلاة على الفقيد. لبعض الوقت أنستنا فاجعتنا في مصطفي النكبة الكبرى التي تحيق بنا، وها قد عدنا نتشبث بالحياة ونفر من الموت.
قبل أن نغادر المنزل نصحت الأم ليلى أن ترتدي ملابس الرجال الواسعة لتخفي معالم أنوثتها، وأن تغطي شعرها بكاب، ودخلتا تبحثان بين ملابس حسن وعلي القديمة عما يصلح لهذا الغرض. وقد استحسنت الفكرة.
تلمسنا طريقنا في الشارع على ضوء النجوم، كان الشارع خاليا حتى من القطط والكلاب، وكان الصمت موحشا مخيفا، والمنازل المهجورة المظلمة على الجانبين بدت كالمقابر الضخمة تتوعد الأحياء بالمصير المحتوم.
عندما بدأت أذناي تلتقطان بعض الأصوات أدركت أننا اقتربنا من الميدان؛ خليط قوامه السواد يخنق الروح، ظلال لبشر بلا ملامح لا تميز فيها بين شيخ وشاب أو بين ذكر وأنثى، وأصوات متداخلة من أدعية وتراتيل ونحيب وصراخ ووعد ووعيد. والغريب وسط هذا المشهد أن تسمع أصوات شجار، والأغرب أن أصوات الشحاذين لا تنقطع وهم يبتزون مشاعر المقبلين على حساب عسير!
ما بين واقف وجالس ومستلق على ظهره يرقب الموت القادم من السماء، ظللنا نشق طريقنا بعنت بالغ، حتى بلغ بي الإعياء مبلغه، فراح عقلي يبرر ما انتويت فعله، تساءلت بصوت مسموع: لماذا نستمر في السير؟! وأي غاية تلك التي نسعى لبلوغها؟ فلنجلس أو نقف حيثما نجد لنا موضع قدم. هتفت الأم: علي، لم نعثر عليه بعد.
قلت: اليوم يوم فراق الأحبة.
تجاوزنا منتصف الليل بساعة ولم تنطبق السماء على رءوسنا بعد، والبعض يعبث بتليفونه المحمول عله يلتقط صوتا، أي صوت، وآخرون يرقبون الطريق الرئيسي من بعيد ليتهم يشاهدون سيارة أو فوجا من المهاجرين يأتونهم بنبأ جديد.
بلغ اليأس أوجه فانحسر الخوف، وطال انتظار الواقعة فعاد الأمل ينبت في القلوب، استنفد الجميع كل جهد ممكن لكبح غرائزهم، ثم توارت الروح خلف جسد يلح في تحقيق مطلبه، بدأ الناس يشعرون بأن شفاههم تتشقق، وأمعاءهم تتلوى من الجوع، والصداع يضرب رءوسهم، وتعجز سيقانهم عن حملهم.
قبل بزوغ الفجر كانت صيحات الباعة الجائلين تطغى على كل صوت، حتى بائعو الترمس والفول السوداني وجدوا زبائنهم، ولا أدري كيف جاءوا ببضاعتهم ، وكيف أحلوا لأنفسهم في هذا الموقف العصيب أن يضاعفوا الأسعار؟ ومن أين أتت كل تلك النقود التي تنفق بسخاء على طعام أو شراب لا يسمن ولا يروي ولا يغني من جوع أو عطش؟ وكيف تسنى للأطفال أن يطلبوا الحلوى؟
تحسست محفظة النقود في جيبي كي نشارك الآخرين مأدبتهم، واكتشفت أنها قد سرقت. ويبدو أن جماعة ممن يجلسون إلى جوارنا قد فطنت للأمر، فمد أحدهم يده لي ببعض الطعام، شكرته ممتنا وتمعنت في وجهه، كان هو بائع الفاكهة الذي وبخني عصر الأمس. هدأ الميدان؛ فالكل على ما يبدو منشغل بمعدته، فلا تكاد تسمع سوى نداءات الباعة.
بدأ ضوء النهار ينساب على رءوس الناس كالنسمة الندية، فهدأ روعهم، واستحالت الكتلة السوداء التي تخلو من الملامح إلى بستان يزهر بألف لون. لملم البعض حاجاتهم البسيطة التي جلبوها معهم واتخذوا طريق العودة إلى منازلهم، وقد أسلموا أمرهم لله أو بعث فيهم الأمل في النجاة. ربما لم يكن الأمر ليروق للمسنين والعجائز واللصوص والشحاذين والباعة وبعض المشايخ، فاليوم كان يومهم، فأخذوا يستحثون الكفرة على العودة إلى سكينة الإيمان والبقاء في أماكنهم حتى الموت.
سرت همهمات سريعة نشطة، وفجأة اشتعل الميدان بصيحات الفرح وتعالت التكبيرات من هنا وهناك، نهض كل الجلوس، ثم رقص البعض وانطلقت الزغاريد في أرجاء المكان، وسجد الكثيرون لله شكرا، وكأن الميدان قد تحول إلى ملعب كرة تتعالى فيه هتافات الجمهور المتعصب معلنة إحراز هدف الفوز. أخيرا التقطت الهواتف المحمولة بشائر النجاة، لقد اصطدم الكويكب المرعب بنيزك ضخم، فانحرف عن مساره وابتعد عن الأرض.
في المدافن، ودعت العزيز مصطفى وبكيت لموته كما لم أبك قط، لقد نجونا وذهب هو. بقت ليلى وأطفالها معنا بالمنزل، وطلب علي أن يمكث معنا هو وأسرته لبعض الوقت، فالخوف ما زال يسكن قلبه.
بعد أن أديت صلاة العصر في اليوم التالي، توجهت لبائع الفاكهة مستبشرا هذه المرة، تكرر ما حدث بالأمس، فما هي إلا دقائق حتى انهالت على رأسي الشتائم وأمسك الرجل بطوق جلبابي، وأيضا لم يتقدم أحد لنجدتي. (تمت)
صفحة غير معروفة