ومن فوره دخل غرفته، ثم خرج وقد خلع جلبابه وطاقيته البيضاء، وحمل البندقية التي احتفظ بها لسنوات داخل دولابه. وأصدر أمره الصارم: لا يفتح أحدكم باب المنزل قبل شروق الشمس.
واتجه صوب الباب. علت أصوات ترجوه ألا يخرج. جال بهنس بعينيه سريعا فيهم، ثم فتح الباب وخرج.
بعد صلاة العصر، شيعت القرية كلها صالح بهنس إلى مثواه الأخير، وكان ضابط النقطة وبعض أفرادها ضمن المشيعين، وتبادل الناس الحديث عن سيرة المتوفى بقدر كبير من الإعجاب، وتضاربت بعض التفاصيل في واقعة بهنس والذئاب حسبما أملى خيال كل شخص.
عندما حضر رجال الشرطة في صباح ثاني أيام العيد، عثروا على جثث لثلاثة ذئاب في مواضع متفرقة في فناء منزل بهنس وخارج سوره، وعلى جثة ذئب رابع في وسط الحقول، كل ذئب صرعته رصاصة أو رصاصات أطلقت من بندقية نصف آلية. أما المزارع صالح محمد المتولي بهنس فقد وجدوه ميتا وهو جالس على الأرض مستندا إلى جزع شجرة وما زال قابضا على بندقيته، وبفحص جسده لم يعثروا على أية إصابات. (تمت)
عضة كلب
اعتدنا أن نشارك الليل أحلامه وهواجسه، وأن نستر بردائه الأسود عوراتنا وأقبح مثالبنا. وبعيدا عن الازدحام والصخب وآلاف العيون العاطلة التي لا عمل لها إلا التطفل على شئون الآخرين، كنا نلتقي بعد الحادية عشرة مساء ليومين أو ثلاثة من كل أسبوع، نجوب الشوارع، ونفترش الأرصفة، ونردد الأغاني والأشعار، ونتناقش في الفلسفة والسياسة والفن وكرة القدم، لا يثنينا عن حياة الليل هذه إلا عظائم الأمور، ولا ننعم من النوم إلا بأقل القليل.
قليلون هم سكان الليل الذين ألفوا وجودنا؛ ساكنو الشوارع من الأطفال، وبعض راكبي «التريسكل» وأصحاب عربات اليد الصغيرة وهم ينقبون بين أكوام القمامة عن رزقهم من الزجاج والبلاستيك والكرتون، ورواد «الغرز» العائدون من أطراف المدينة، وحراس الأبراج السكنية، وشلل من البلطجية الباحثين عن المشاكل، ورجال الأمن وقد تأكدوا بعد تجربة طويلة أننا نحافظ على النظام.
مجموعنا في المتوسط خمسة، نزيد أحيانا وننقص أخرى تبعا للظروف، أعمارنا تدور حول الأربعين، وأغلبنا متزوجون ولهم أطفال. وقد اعتادت أسرنا على هذا الشكل الأنيق من العبث، وربما وجدت زوجاتنا في تغيبنا لوقت طويل عن المنزل راحة لهن من جدالنا الدائم وحذلقاتنا الكئيبة واهتماماتنا السمجة، وعلى أية حال كنا نعود إلى منازلنا أخف دما وأكثر نشاطا وأقل إثارة للنكد.
ليالي الشتاء الباردة والطرقات الموحلة لم تكن سببا كافيا لكي نزهد في دنيانا شديدة الخصوصية، بل على العكس؛ فبعضنا كان يجد لذته في فرك يديه ورؤية بخار الماء يصعد من فمه وأنفه ومنظر حذائه وقد خاض في الوحل. وكلنا بلا استثناء كنا نجد «سندويتشات» الفول المدمس الساخنة في ليالي الشتاء لذيذة بشكل لا يوصف، وربما لهذا السبب كان عم جمعة صاحب عربة الفول أكثر الغرباء قربا إلينا.
لا نعرف عن عم جمعة إلا القليل، فهو نادرا ما يتحدث عن شأنه الخاص، مظهره يخبر عن أنه تجاوز الستين من عمره، لكنه لا يحترف إسداء النصائح وصب اللعنات على الحاضر والجيل الحالي كما يفعل كبار السن، وهو أحيانا أكثر تمردا على الواقع وثقة في المستقبل من غالبية الشباب. لا نعرف له زوجة ولا ولدا، ولم نسأله عن محل ميلاده أو عنوان مسكنه. توقف في تعليمه عند الإعدادية كما أخبرنا، ومع هذا فهو طلق اللسان يستشهد في حواراته معنا بآيات من القرآن والأحاديث النبوية. يعشق عبد الحليم وأم كلثوم، ويروقه الاستماع إلينا ونحن نردد أشعار نجم وفؤاد حداد، وفي عينيه تختلط الدموع بنظرة الأسى عندما يأتي ذكر جمال عبد الناصر.
صفحة غير معروفة