فنحن يخيل إلينا اليوم، أننا لو كنا في عصر الردة لوضح لنا يومئذ ما يتضح لنا اليوم، ولم نتردد في متابعة أبي بكر إلى القتال على يقين أنه الصواب كل الصواب أو أنه الواجب الذي لا مثنوية فيه.
ولكننا لو حضرنا ذلك العصر، لجاز كثيرا أن يميل منا الألوف - بل ألوف الألوف - إلى القول بالمسالمة والمتاركة حتى حين، وجاز أن يعتقد منا الكثيرون أن التربص بالمرتدين حتى يعود جيش أسامة ويثوبوا إلى الحسنى أسلم وأحزم، فإن لم يثوبوا إلى الحسنى فعدة القتال يومئذ أوفى وأعظم، وقد يجنح بنا إلى هذا الرأي أن الخطر من نكسة المنافقين في مكة والمدينة غير بعيد، وأن الخطر من غلبة المرتدين غير مستحيل، وأن القبائل إن بقيت في باديتها فأمرها مستدرك حتى تعالج بالهوادة أو بالنذير أو بالقتال آخر الأمر على ثقة من الغلبة فيه.
ذلك جائز واضح الجواز، وما كان كذلك فالقول به ليس بالخطأ العظيم، وإن بينت الحوادث أن القول بغيره كان صوابا جد صواب.
وإنما الخلاف في أهل الردة من ضروب الخلاف التي يفضها الفقهاء؛ لأن الرأي وحده لا يكفي ولن يكفي يوما لفض خلاف في مسألة حاسمة من مسائل التاريخ.
وقد شاء القضاء أن يكون أبو بكر بطل الإسلام في حروب الردة غير مدافع، فهو فيها صاحب الشرف الأول بين ذوي الرأي وذوي العمل في تلك الحروب.
وكأنما عمر قد وضع بشفتيه شفاه المسلمين جميعا على ذلك الرأس الجليل يوم انحنى عليه بالتكريم والتقبيل. وحسب المؤرخ والنفساني عبرة أن يلحظ هذه الثروة النفسية في صدر الدعوة الإسلامية: دعوة فيها لكل موقف أبطال، وفي كل بطل منها أهبة لكل حادث طارئ تختلف فيه الأهب والآراء، وفيهم جميعا التعاون والإخلاص مختلفين ومتفقين. •••
وما انتهت حروب الردة حتى بدأت في تاريخ الإسلام مرحلة أخرى أجل وأعظم، تصدى لها الصديق بذلك العزم الذي تصدى به لكل ما عقد النية عليه وآمن بصوابه: إقدام كأنه لا يعرف المبالاة والتدبير، ومبالاة وتدبير، كأنهما لا يعرفان الإقدام.
كانت المرحلة الأولى تأمين الإسلام في عقر داره.
وكانت المرحلة الثانية تأمين الإسلام في حدوده وتخومه، ودفع الخطر من هجوم الأعداء عليه.
ونقول تأمين الحدود ولا نزيد؛ لأننا نعتقد أن الصديق رضي الله عنه أخذ في تسيير البعوث إلى حدود العراق والشام وهو على هذه النية دون نية الفتح بالسلاح، وأنه رضي الله عنه قد التزم في سياسته الخارجية خطة النبي عليه السلام في تلك السياسة، وهي الخطة التي ظهرت في بعثة تبوك ثم في بعثة أسامة بن زيد، وأصدق ما يقال فيها أنها خطة لا هجوم فيها ولا تهجم، ولا باعث لها إلا دفع الأذى وحماية الطريق، والتمهيد لنشر الدين بالحسنى والبرهان إن تيسر نشره بالحسنى والبرهان، فإن قامت العقبة من قوة طاغية تحول دون ذلك فعلى القوة الطاغية حساب تلك العقبة، حيثما حان أوان الحساب.
صفحة غير معروفة