تقديم
1 - اسم وصفة
2 - الصديق الأول والخليفة الأول
3 - صفاته
4 - مفتاح شخصيته
5 - نموذجان
6 - إسلامه
7 - الصديق والدولة الإسلامية
8 - الصديق والحكومة العصرية
9 - الصديق والنبي وصحبه
10 - ثقافته
11 - الصديق في بيته
12 - صورة مجملة
تقديم
1 - اسم وصفة
2 - الصديق الأول والخليفة الأول
3 - صفاته
4 - مفتاح شخصيته
5 - نموذجان
6 - إسلامه
7 - الصديق والدولة الإسلامية
8 - الصديق والحكومة العصرية
9 - الصديق والنبي وصحبه
10 - ثقافته
11 - الصديق في بيته
12 - صورة مجملة
عبقرية الصديق
عبقرية الصديق
تأليف
عباس محمود العقاد
تقديم
في تقديم كتابي هذا عن أبي بكر الصديق، أقول ما قلته في «عبقرية محمد» و«عبقرية عمر» وكل كتاب من هذا القبيل، وفحواه أنني لا أكتب ترجمة للصديق رضي الله عنه، ولا أكتب تاريخا لخلافته وحوادث عصره، ولا أعنى بالوقائع من حيث هي وقائع، ولا بالأخبار من حيث هي أخبار، فهذه موضوعات لم أقصدها، ولم أذكر في عناوين الكتب ما يعد القارئ بها ويوجه استطلاعه إليها، ولكنما قصدت أن أرسم للصديق صورة نفسية، تعرفنا به وتجلو لنا خلائقه وبواعث أعماله، كما تجلو الصورة ملامح من تراه بالعين. فلا تعنينا الوقائع والأخبار إلا بمقدار ما تؤدي أداءها في هذا المقصد الذي لا مقصد لنا غيره، وهي قد تكبر أو تصغر، فلا يهمنا منها الكبر أو الصغر إلا بذلك المقدار، ولعل حادثا صغيرا يستحق منا التقديم على أكبر الحوادث إذا كانت فيه دلالة نفسية أكبر من دلالته، ولمحة مصورة أظهر من لمحته. بل لعل كلمة من الكلمات الموجزة التي تجيء عرضا في بعض المناسبات تتقدم لهذا السبب على الحوادث كبيرها وصغيرها في مقياس التاريخ.
ومن همنا أن تكون الصورة صادقة كل الصدق في جملتها وتفصيلها ... فليس من غرضنا التجميل الذي يخرج بالصورة عن حقيقتها، ولسنا نريد أن يطلع القارئ على تلك الصورة، فلا يعرفها ولا يعرف أبا بكر منها، ولكن تجميل الصورة شيء، وتوقير صاحبها شيء آخر، فإنك إذا صورت أبا بكر ورفعت صورته مكانا عليا لم تكن قد أضفت إليه جمالا إلي جماله أو غيرت ملامحه النفسية بحيث تخفى على من يعرفها، فهذا هو التوقير الذي يخل بالصورة ولا يعاب على المصور، وليس هو بالتجميل المصطنع الذي يضل الناظر عن الحقيقة.
فكل فضيلة أثبتناها لأبي بكر في هذه الصفحات فهي فضيلته التي لا نزاع فيها، وكل عمل استطاعه ووصفناه بقدرته فقد استطاعه بغير جدال، وما من عمل لم يعمله قلنا إنه قد عمله، ولا من قدرة لم تظهر منه جعلناها من صنوف قدرته، ثم يتوسمه القارئ بعد هذا فيرى صورة مميزة بين صور العظماء من أمثاله، فهو محمود موقر، وعمر بن الخطاب في صورته محمود موقر، ولكنهما مع ذلك لا يتشابهان ولا يتراءى أحدهما في ملامح الآخر، وهذا قصاراك من صدق الصورة في تمييز الرجل بين نظرائه، وفي تمثيله بما فيه وما ليس فيه.
إنك حين تعدد ثروة رجل فتقول: إنه صاحب عشرة بيوت، لا يلزمك بعد ذلك أن تقول: ولكنه ليس بصاحب أرض زراعية ولا أوراق مالية ولا معامل صناعية ولا مرتبات حكومية، وإذا أنت سكت عن هذا قاصدا أو غير قاصد لم يجز لأحد أن يلومك أو يظن بك تعمد الإخفاء والسكوت، فحسبك أنك ذكرت ثروته الصحيحة ولم تضف إليه ما ليس من ماله لتكون قد أعلمت من يريد العلم بثروته غاية ما ينبغي أن يعلم.
وكذلك الشأن في ثروات النفوس حين يحصيها المقدرون: تصدق إن ذكرت له ما يملك، ولا يفوتك الصدق إن فاتك أن تحصي كل ما ليس له بملك، فليس هذا بغرض من أغراض الإحصاء أو التعريف.
ومذهبنا الذي نتوخاه في الكتابة عن العظماء الذين حسنت نياتهم في خدمة الإنسان أن نوفيهم حقهم من التوقير، وأن نرفع صورهم إلى مكان التجلة، وإن لم يمنعنا هذا أن نصدقهم الوصف والتصوير.
عبرت عن هذا المذهب شعرا قبل ثلاثين سنة فقلت من أبيات:
لا تلح ذا بأس وذا همة
على ذنوب العصبة الغلب
فليس مقياسك مقياسهم
ولا هم مثلك في المأرب
انظر إلى ما خلفوا بعدهم
من المعالي ثم لم واعتب
من ركب الهائل من أمره
فعذره في ذلك المركب
ونحسب هذا المذهب في زماننا هذا أوجب مما كان في الأزمان الغابرة؛ لأن الأسباب التي تغص من وقار العظمة لم تزل تتكاثر منذ القرن الثامن عشر إلى الآن، وهي مما يحدث عفوا في بعض الأحيان، ومما يأتي قصدا في أحيان أخرى، وقد تفيد الإشارة إليها في اتقائها إذا كان إلى اتقائها سبيل.
بدأت هذه الأسباب بفهم سيئ للمنازعات التي شجرت بين رجال العلم ورجال الدين منذ النهضة العلمية الحديثة. فوقر في بعض الأذهان أن العلم الحديث قد ألغى ما قبله من جهود المصلحين وطلاب المعرفة الإلهية والدنيوية وخلط أناس بين دعاة الأديان الذين أخلصوا العقيدة في الإصلاح، وبين رجال الأديان الذين استغلوا العقائد، وتعمدوا إنكار الحقائق، ووقفوا بعنادهم ولجاجتهم عقبة في طريق التقدم والتهذيب.
فالمصلحون من عظماء الأديان أهل لكل تعظيم واعتراف بالجميل، لا يعيبهم أنهم سبقوا عصر العلم الحديث، بل يزكيهم ذلك، ويضاعف حقهم في الثناء وعرفان الجميل، ويدل على أن الحاجة إليهم كانت أمس وألزم، وأنهم كانوا في خدمتهم الإنسانية أقدر وأعظم، مع ما هو مفهوم من الفارق بين حاجة الناس إلى الدين وحاجتهم إلى العلوم. فهذه حاجة ذهنية وتلك حاجة حيوية أو روحية لا تغني فيها علوم العلماء.
ثم جاءت الديمقراطية وأساء بعض الناس فهمها، كما أساءوا فهم النزاع بين العلم والدين، فظنوا أن حرية الصغير تجعله في صف الكبير، وأن المساواة القانونية تلغي الفوارق الطبيعية، وأن الثورة على الرؤساء المستبدين معناها الثورة على كل ذي مكانة من العظماء، وهو وهم ظاهر البطلان ولكنه قد سرى مسراه إلى الأذهان، فكثر التطاول على كل عظمة إنسانية، وفشت بدعة الاستخفاف والزراية حتى أوشك التوقير لمن يستحق التوقير أن يعاب.
ثم جاءت الشيوعية وهي قائمة على أن الأبطال صنائع المجتمع وليسوا بأصحاب الفضل عليه، وأن تعظيم الأبطال الغابرين يصرف الناس عن عيوب النظم الاجتماعية التي أنشأت أولئك الأبطال فخدموها قاصدين مدبرين أو على غير قصد منهم وتدبير، وأفرط الشيوعيون في تلويث كل عظمة يؤدي توقيرها إلى نقض مذهبهم ومخالفة دعوتهم، حتى بلغ من سخفهم في هذا أنهم غيروا أبطال الروايات في مسرحيات شكسبير وأمثاله فعرضوا «هملت» على المسرح لئيما ماكرا سيئ النية على خلاف ما صوره الشاعر؛ لأن تصوير أمير من أمراء القرون الوسطى في صورة حسنة يخل بما قرروه عن النظم الاجتماعية والسياسية في تلك القرون.
وتكاثرت على هذا النحو أسباب الغض من العظماء حتى صح عندنا أن العظمة في حاجة إلى ما يسمى «برد الاعتبار» في لغة القانون، فإن الإنسانية لا تعرف حقا من الحقوق إن لم تعرف حق عظمائها، وإن الإنسانية كلها ليست بشيء إن كانت العظمة الإنسانية في قديمها أو حديثها ليست بشيء.
ومن ثم مذهبنا في توقير العظمة مع التفرقة بين التوقير المحمود والتجميل المصطنع الذي يعيب المصور ويضل الناظر إلى الصورة. فليس لنا أن نثبت جمالا غير ثابت، ولكن لنا - بل علينا - متى أثبتنا الجمال في مكانه أن نرفع الصورة إلى مقام التوقير.
قال زميلنا الباحث الفاضل الأستاذ أحمد أمين من نقده لكتاب الدكتور هيكل (باشا) في الصديق وكتابي في «عبقرية عمر»: ... بقيت مسألة هامة كثيرا ما اختلفت وجهة نظر الكتاب فيها، وهي أن العظيم مهما عظم له خطآت، وإلا ما كان إنسانا، والعصمة لله وحده. فهل واجب المترجم له أن يعرض لكل ذلك في تفصيل، فيذكر كل ما له ويشيد بذكره، ويذكر خطآته وينقدها، ويعلم بذلك درسا في نواحي مجده، ودرسا آخر في مواضع خطئه، أو واجبه فقط تجلية نواحي العظمة والتأويل والدفاع الدائم عن نواحي الخطأ؟ أنا أرى أن الرأي الأول أوجب، متأسيا بأبي بكر وعمر نفسيهما، والمؤلفان الفاضلان إلى الرأي الثاني أميل.
والواقع أننا إلى الرأي الثاني أميل كما قال زميلنا الأستاذ، ولكنه الميل الذي نحده بما قدمناه من حدود، ونحتج له بما بيناه من أسباب.
ويخيل إلينا أن الأستاذ نفسه يستطيب هذا الميل حين قال في صدر مقاله عن الكتابين: ... إن الأوروبيين قد وجدوا من علمائهم من يشيد بعظمائهم ويستقصي نواحي مجدهم، بل قد دعتهم العصبية أحيانا أن يتزيدوا في نواحي هذه العظمة، ويعملوا الخيال في تبرير العيب وتكميل النقص تحميسا للنفس وإثارة لطلب الكمال. أما نحن فقد كان بيننا وبين عظمائنا سدود وحواجز حالت بين شبابنا وجمهورنا والاستفادة منهم ...
فهذه السدود كثيرة في الشرق، كثيرة في العصر الحاضر حيث كان، وهي التي تجيز لنا - بل تفرض علينا - أن نوفي العظماء حقهم من التوقير، وأن نصورهم كما خلقهم الله، ثم علينا أن نرفع الصورة حيث شئنا بعد الصدق في التصوير.
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
اسم وصفة
عرف الخليفة الأول في التاريخ بأسماء كثيرة: أشهرها أبو بكر والصديق، ويليهما في الشهرة عتيق وعبد الله.
وقيل: إنه عرف بهذه الأسماء أو الألقاب في الإسلام والجاهلية على السواء.
عرف في الجاهلية بلقب الصديق؛ لأنه كان يتولى أمر الديات وينوب فيها عن قريش، فما تولاه من هذه الديات صدقته قريش فيه وقبلته، وما تولاه غيره خذلته وترددت في قبوله وإمضائه.
وعرف بالعتيق لجمال وجهه، من العتاقة وهي الجودة في كل شيء، وقيل: بل من العتق، لأن أمه لم يكن يعيش لها ولد؛ فاستقبلت به الكعبة، وقالت: اللهم إن هذا عتيقك من النار فهبه لي. فعاش فعرف باسم عتيق ... وقيل غير ذلك: إنه أحد ثلاثة أبناء، هم عتيق ومعتق ومعيتيق، سموا بذلك تفاؤلا بالعيش والعتق من الموت.
وعرف كما قيل في بعض الروايات باسم عبد الكعبة في الجاهلية، ثم عبد الله في الإسلام.
وسمي في الإسلام بالصديق؛ لأنه صدق النبي
صلى الله عليه وسلم
في حديث الإسراء، وبالعتيق؛ لأنه عليه السلام بشره بالعتق من النار.
ومن الجائز انه عرف بهذه الألقاب على محملها في الجاهلية ومحملها في الإسلام، ففي حياته وسيرته قبل الإسلام وبعده ما يحقق هذه التسمية أو هذا التلقيب.
ولد للسنة الثانية أو الثالثة من عام الفيل، فهو أصغر من النبي
صلى الله عليه وسلم
بنحو سنتين، وهو عبد الله بن عثمان الذي عرف باسم أبي قحافة، ويلتقي نسبه ونسب النبي
صلى الله عليه وسلم
عند مرة بن كعب، بعد ستة آباء، وكلا أبويه من بني تيم، وهم قوم اشتهر رجالهم بالدماثة والأدب، واشتهرت نساؤهم بالدل والحظوة، وقيل إن بنات تيم أدل النساء وأحظاهن عند الأزواج. وربما كان مرجع ذلك إلى طول عهد القبيلة بحياة المدينة وأشغالها، وأن اشتغالها بالتجارة كان يقوم على المودة وحسن المعاملة، ولا يقوم على بسطة النفوذ وصولة الوفر والغلبة، فبنو أمية - مثلا - كانوا يتجرون وكان زعيمهم أبو سفيان يرسل القوافل بين الحجاز والشام، ولكنها قوافل أشبه بالحملات والبعوث، معولهم فيها على الوفر والوفرة، وليست كذلك تجارة أبي بكر وإخوانه من أبناء البطون القرشية التي لها شرف النسب في غير مكاثرة بالعدد والعدة، ومغالبة بالصولة ودهاء القوة، كمغالبة الأمويين.
ومهما يكن من أثر المعاملة الودية وآداب الأسرة والمدنية في بني تيم، فهذه الآداب واضحة في أسرة الصديق رضي الله عنه أجمل وضوح، لم تذكر لنا قط أسرة كانت في عصره على مودة أجمل من المودة التي اتصلت بينه وبين أبيه وأمه وأبنائه، مدى الحياة. وقد كان له ابن حارب في صفوف المشركين، وأوشك أن يكون بينه وبين أبيه قتال، ولكننا إذا تجاوزنا هذه الفلتة من فلتات السن رجعنا إلى أبوة لا عقوق فيها بعد اهتداء ذلك الابن إلى الإسلام، كما اهتدى إليه سائر ذويه.
عاش أبو قحافة حتى رأى ابنه خليفة يرفع صوته على أناس لم يكن في مكة أرفع منهم صوتا وأعظم خطرا، وكان مكفوف البصر على باب داره بمكة يوم أقبل أبو بكر إليها معتمرا بعد مبايعته بالخلافة، فقيل له: هذا ابنك؛ فنهض يتلقاه، ورآه ابنه يهم بالنهوض فعجل نازلا عن راحلته وهي واقفة قبل أن ينيخها، وجعل يقول: يا أبت لا تقم! ثم لاقاه والتزمه وقبل بين عينيه، ولم ينتظر - وهو في نحو الستين - أن ينيخ راحلته لينزل منها، مخافة على أبيه من مشقة النهوض.
ودعا الخليفة بأبي سفيان لأمر أنكره فأخذته الحدة التي كانت تراجعه في بعض ثورات نفسه، وأقبل يصيح على أبي سفيان وهو يلين له ويسترضيه، فسأل أبو قحافة قائده: على من يصيح ابني؟ فقال: على أبي سفيان ! ... فدنا منه يقول له وفي كلامه من الغبطة أكثر مما فيه من الإنكار، وفيه من دهاء الطيبة أكثر مما فيه من سهو الشيخوخة: أعلى أبي سفيان تصيح وترفع صوتك يا عتيق؟! لقد عدوت طورك وجزت مقدارك!
فابتسم أبو بكر والصحابة، وقال لأبيه المنكر في رضاه الراضي في إنكاره: يا أبت إن الله رفع بالإسلام قوما وأذل به آخرين.
وهذه الطيبة التي لا تخلو من دهائها هي التي ظهرت من هذا الأب الصالح، يوم نعوا إليه رسول الله فقال: أمر جلل. وسأل: ومن ولي الأمر بعده؟ قالوا: ابنك؛ فعاد يسأل: فهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم ... قال: لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع!
بل هذه الطيبة التي لا تخلو من دهائها هي التي ظهرت منه حين هاجر ابنه مع النبي
صلى الله عليه وسلم
فأقبل على أحفاده يسألهم: ما ترك لكم بعد هجرته من المال؟ وهي التي ظهرت منه حين ذهب ابنه ينفق من ماله لإعتاق الأرقاء الذين عذبهم المشركون فكان يقول: لو أنك إذ فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون دونك؟ ويقول له ابنه: يا أبت إني أريد ما عند الله.
ثم عاش الأب الصالح حتى قبض ابنه العظيم فرد ميراثه منه إلى أحفاده وسأل حين بلغته وفاته وهو يقول: رزء جلل، رزء جلل. فمن ولي الأمر بعده؟ قالوا: عمر؛ قال: صاحبه ... يعني صاحب الأمر أو صاحب الصديق، في إيجاز كاف كإيجاز ابنه العظيم.
كثير مما في أبي بكر من هذا الأب الصالح: طيبة في يقظة في استقامة، ويزيد عليه ابنه في كل وصف حميد.
الفصل الثاني
الصديق الأول والخليفة الأول
في رواية من أشهر الروايات عن مرض النبي
صلى الله عليه وسلم
أن مؤذنه بلالا جاءه يوما، وقد اشتد به المرض فقال عليه السلام: مروا أبا بكر فليصل بالناس.
قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس. فلو أمرت عمر ؟
فقال عليه السلام مرة أخرى: مروا أبا بكر فليصل بالناس.
فعادت عائشة تقول لحفصة: قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس. فلو أمرت عمر؟
فأعادت حفصة ما قالته لها عائشة.
وضجر عليه السلام من هذه المراجعة؛ فقال: إنكن أنتن صواحب يوسف. ثم قال لثالث مرة: مروا أبا بكر فليصل بالناس.
وروى عبد الله بن زمعة أنه خرج من عند النبي، فإذا عمر في المسجد وأبو بكر غائب. فقال: يا عمر. قم فصل بالناس. فتقدم فكبر، وكان رجلا مجهرا، فلما سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
صوته سأل: فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون.
ولام عمر عبد الله بن زمعة قائلا: ويحك! ما صنعت بي يا ابن زمعة؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أمرك بذلك. ولولا ذلك ما صليت بالناس.
قال ابن زمعة: والله ما أمرني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بشيء، ولكني حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس.
وموضع العجب في هذه الرواية تردد السيدة عائشة رضي الله عنها في تبليغ أمر النبي بإقامة أبيها مقامه في الصلاة، وقد تكرر الأمر أكثر من مرة.
فهذا التردد عجيب من وجوه: عجيب أن تتردد في تبليغ أمر محمد عليه السلام، وهو الزوج المحبوب والنبي المطاع.
وعجيب أن تتردد في تبليغه، وهو تشريف لأبيها بمقام كريم تتطاول إليه الرقاب.
ويزيده عجبا أن يحدث في شدة المرض والنبي مجهد يطلب الراحة، وهي أشد نسائه سهرا عليه في مرضه، وأرعاهم له بما يريحه، ويخفف الجهد عنه.
نعم، إن عائشة رضي الله عنها كانت أكثر الناس دالة على النبي وأجرأهم على مراجعته، والتلطف في إبلاغه ما يتهيب القوم أن يبلغوه. فلئن كانت هي أولى الناس أن تطيعه وتبلغ أمره، لقد كانت كذلك تعلم من مكانتها عنده ما يبيح لها أن تراجعه وتأمن غضبه، لدالتها عليه وثقته من مضمر حبها له وامتثالها لأمره.
إلا أنها قد بلغت مكان الدالة عند رسول الله بما لها من صفات كثيرة غير الصباحة والجمال، وأول تلك الصفات فرط الذكاء ولطافة الحس وحسن التقدير.
وخليق بمن كانت في مثل ذكائها ولطافة حسها وحسن تقديرها أن تفطن إلى الجد في ذلك الموقف العصيب، وفي ذلك البلاغ الخطير.
وهيهات أن تتردد يومئذ عن دلال في غير موضعه، ولأسباب غير السبب الذي يمكن أن يوحي إليها ذلك التردد، ولا بد له من سبب عظيم.
ولقد كان له سبب عظيم.
بل هو أعظم الأسباب التي يمكن أن توحي إليها ذلك التردد، ولولاه لما أقدمت عليه.
وما نحسب أن شيئا حفظته الروايات التاريخية لنا عن ذكاء السيدة عائشة يدل على قوة ذلك الذكاء، كما دل عليه ترددها في ذلك الموقف العصيب.
يكفي أن نستحضر اليوم ما قيل عن الخلافة بعد النبي عليه السلام لنعلم مبلغ ذلك الذكاء العجيب في مقتبل الشباب، ونكبر ذلك النظر الثاقب إلى أبعد العواقب، ونلتمس لها العذر الذي يجمل بامرأة أحبها محمد ذلك الحب، وأعزها ذلك الإعزاز.
فقد قيل في الخلافة بعد النبي كثير: قيل فيها ما يخطر على بال الأكثرين، وما يخطر على بال الأقلين، وما ليس يخطر على بال أحد إلا أن يجمح به التعنت والاعتساف أغرب جماح.
قيل: إن وصول الخلافة إلى أبي بكر إنما كان مؤامرة بين عائشة وأبيها!
وقيل: إنه كان مؤامرة بين رجال ثلاثة أعانتهم عائشة على ما تآمروا فيه، بما كان لها من الحظوة عند رسول الله، وكان هؤلاء الرجال على زعم أولئك القائلين أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح، وهم الذين أسرعوا - من المهاجرين - إلى سقيفة بني ساعدة ليدركوا الأنصار قبل أن يتفقوا على اختيار أمير أو خليفة لرسول الله.
وقيل: إن هؤلاء الرجال الثلاثة اتفقوا على تعاقب الحكم واحدا بعد واحد: أبو بكر فعمر فأبو عبيدة؛ ولهذا قال عمر حين حضرته الوفاة: لو كان أبو عبيدة حيا لعهدت إليه؛ لأنه أمين الأمة، كما قال فيه رسول الله، وهذا زعم روجه بعض المستشرقين ولى بين القراء الأوروبيين كثيرا من القبول؛ لأنه شبيه بما عهدوه في أمثال هذه المواقف من أحاديث التدبير والتمهيد وروايات التواطؤ والائتمار.
فالسيدة عائشة مسعودة الحظ لا مراء؛ لأنها لم تخالف محمدا قط في أمر خطير، وحين خالفته أو ترددت في تبليغ كلامه في أمر من أخطر الأمور، كان هذا التردد أدل على مكانتها وفضلها وعلى استحقاقها لمنزلة الإيثار في ذلك القلب العظيم.
فهي قد ترددت لتبرئ نفسها من القالة، وتبرئ ذلك الموقف الخطير من المظنة، وتبرئ الخلافة من أسباب الادعاء، وقد يكون فيها إضعاف وإيذاء.
وأشهدت على نفسها أولى الناس بالشهادة في ذلك الموقف الخطير حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.
فإذا علمت حفصة أن عائشة راجعت رسول الله مرتين في تبليغ الأمر إلى أبيها أن يصلي بالناس، فقد علمت ذلك من هي أحق بعلمه من سائر أمهات المسلمين، إذ كان عمر رضي الله عنه أحد اثنين في حق الخلافة لا يذكر أحدهما إلا ذكر الآخر، كما ظهر ذلك من واقع الأمور، أو كما ظهر من قول عبد الله بن زمعة لعمر: «حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس.»
فتردد عائشة في ذلك الموقف الخطير لم يضر بل نفع، وكان أنفع من إسراعها بالتبليغ، وأول ما نفع به أنه أظهر رغبة النبي إظهارا لا مجال للظنة فيه، فكان ذلك من أدعى دواعي الاتفاق على الاختيار وقطع السبيل على الفتنة والشقاق.
نعم إن رواية من الروايات تزعم لنا أن السيدة عائشة رضي الله عنها ترددت في التبليغ؛ لأنها أشفقت أن يتشاءم الناس برؤية أبيها في مقام يذكرهم بالخطر على أحب الناس إليهم في ذلك المقام، وتلك سانحة يجوز أن تسنح لها وهي أشد الناس إحساسا بذلك التشاؤم ووقعه في نفوس المسلمين. ولكننا إذا سلمنا أنها رضي الله عنها قد تعمدت الإبطاء في التبليغ، فالسبب الذي أومأنا إليه آنفا أولى وأليق بالمعهود من ذكائها وخلقها الكريم؛ لأنها لا تجهد النبي في مرضه ولا تفوت على أبيها شرف الخلافة حذرا من التشاؤم وحده، ثم هي لا تدعو حفصة إلى تعريض عمر لموقف تصون عنه أباها. فإن كان تعمد للإبطاء في التبليغ فذلك السبب الذي أومأنا إليه آنفا أحق الأسباب أن يرجح على غيره لتفسير ذلك الإبطاء، فهو أدعى أن يبطل به العجب ولا يمتنع مع هذا أن يقترن بغيره من الأسباب. •••
ويقل العجب من تردد السيدة عائشة كلما زاد العجب من تلك الفروض والأقاويل التي خاض فيها من خاض عن «مؤامرة» الخلافة المزعومة، وليس لها سند من التاريخ، ولا من التفكير القويم، ولا من المعهود في أخلاق الرجال والنساء الذين عزيت إليهم تلك المؤامرة بغير بينة قاطعة ولا ظن راجح.
فليس في شيء مما رواه الرواة عن الخلافة بعد النبي عليه السلام كلمة واحدة ترجح تلك الفروض والأقاويل، سواء كان قائلها ممن أسرعوا إلى بيعة الصديق أو تباطئوا في بيعته، أو قضوا حياتهم ولم يبايعوه.
وليس في شيء من خلائق أبي بكر وعمر وأبي عبيدة التي عهدها الناس منهم في حياة النبي أو بعد وفاته ما يأذن لمتوهم أن يتوهم فيهم التآمر على خلافته وهو بقيد الحياة، دون أن يطلعوه على جليلة أو دقيقة مما يفكرون فيه.
وليس في سيرة أبي بكر وعمر بعد أن وليا الخلافة ما ينم على طمع في السطوة، وحرص على زهو الملك يغريهما باستباحة ثقة النبي في حياته بما لا يليق. وهو عندهما بمكان من التجلة والحب لا تتطرق إليه الشكوك ولا ترتفع إليه الشبهات.
وعلى نقيض ذلك تدل الحوادث والروايات التاريخية على أن الأمر قد وقع منهم جميعا موقع المفاجأة التي لم يتدبروا فيها إلا بعد وقوعها، ولم يبرموا فيها الرأي على نحو من الأنحاء قبل اجتماع الأنصار بسقيفة بني ساعدة.
فالأقوال - أو تكاد تتفق - على أن أبا بكر لم يكن قريبا من النبي عليه السلام يوم أمر النبي بلالا أن يدعوه إلى الصلاة بالناس، ولو كان بينه وبين السيدة عائشة اتفاق في هذا الصدد لكان اقترابه من المسجد أو بيت النبي في تلك اللحظة لازما كل اللزوم لإنجاز ذلك الاتفاق، وإلا توجهت الدعوة إلى غيره وخرج الأمر من أيدي المتفقين.
وقد توفي النبي عليه السلام وليس في أصحابه الأقربين من كان يتوقع وفاته، فتركه أبو بكر بعد الصلاة وهو يقول: يا نبي الله! إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحب واليوم يوم بنت خارجة، أفآتيها؟
فأذن له النبي في الانصراف: وخرج أبو بكر إلى «السنح» حيث كان يقيم.
أما عمر فقد دهش لنعي النبي تلك الدهشة التي لم يكن لها على أهبة، ولو كان على أهبة لها لقد كان الأحرى أن يؤكد الوفاة ولا يستغربها، تمهيدا لذلك الاتفاق المزعوم الذي سيتلوها.
وبلغ أبا بكر وعمر أن الأنصار مجتمعون في سقيفة بني ساعدة لاختيار الخليفة منهم، فخرجا إلى السقيفة على غير اتفاق بينهما أيهما الذي يخاطب القوم. فكان عمر يخشى حدة أبي بكر فيهيئ في نفسه كلاما يقوله، وكان أبو بكر يخشى حدة عمر فيستمهله ويخاطب القوم قبله، وليس في ذلك دليل اتفاق قديم.
وكان لقاؤهما أبا عبيدة يومئذ لقاء مصادفة في الطريق.
وجاء في رواية مشهورة أن عمر فاتح أبا عبيدة قبل ذلك فقال له: «ابسط يدك فلأبايعك. فأنت أمين هذه الأمة على لسان رسول الله.»
فقال له أبو عبيدة: ما رأيت لك فهة قبلها منذ أسلمت. أتبايعني وفيكم الصديق وثاني اثنين! ...
فإذا صحت هذه الرواية فهي تنفي ما قيل عن تفاهم هؤلاء الرجال الثلاثة على مبايعة أبي بكر وتعاقب الخلافة بعده، وقد يكون عمر فاتح أبا عبيدة عازما على مبايعته، أو فاتحه لاستطلاع ما عنده من الرأي والرغبة، فعلى كلتا الحالتين لا تفاهم من قبل على ذلك الرأي ولا اتفاق.
هكذا تلقى الصحاب الأجلاء نعي النبي، وهكذا كانوا في أثناء شدة المرض عليه، فمتى كان التفاهم المزعوم؟ أقبل أن يمرض رسول الله يعقل عاقل أن يجتمع صفوة أصحابه والمؤمنين برسالته للتآمر على وراثته واغتنام موته؟ إن جاز في عقل عاقل هذا ، فمن أدراهم إذن أن القرآن الكريم لا يوحي برأي في الخلافة غير الذي رأوه؟ ومن أدراهم إذن - سلفا - أن النبي عليه السلام يفارق هذه الدنيا، ولا يوصي في أمر الخلافة بوصاة يشهدها الناس عامة وتخالف ما اتفقوا عليه؟
إن الأمر لم يكن قابلا لأن يحصل فيه غير ما حصل، بعد حسبان كل حساب، واستقصاء كل فرض، وتمحيص كل رواية.
ولم يكن فيه اتفاق مدبر على صورة من الصور، وإنما هو كما قال عمر رضي الله عنه: «إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ... ألا وإن الله وقى شرها.»
وما حاجة الأمر إلى تمهيد وقد كان في غنى عن التمهيد؟
لقد كان اختيار أبي بكر للخلافة «خيرة الواقع» الذي لا يحتاج إلى تدبير، بل يقاوم كل تدبير.
فمن غير أبي بكر كانت تجتمع له شرائط كما اجتمعت له، وتتلاقى عنده الوجهات كما تلاقت عنده؟
كانت تجتمع له شرائط السن، والسبق إلى الإسلام، وصحبة النبي في الغار، والمودة المرعية بين أجلاء الصحابة، ومعظمهم ممن دخلوا في الدين على يديه.
وكانت أمارات استخلافه ظاهرة من طلائعها الأولى قبل مرض النبي عليه السلام بسنوات. فكان أول أمير للحج بعث به النبي عليه السلام وهو بالمدينة.
وكان ذلك سنة تسع من الهجرة، واتفق في طريقه أنه دعا إلى صلاة الصبح فسمع رغوة ناقة وراء ظهره، فوقف عن التكبير وقال: هذه رغوة ناقة النبي
صلى الله عليه وسلم
الجدعاء فلعله أن يكون رسول الله فنصلي معه. فإذا علي بن أبي طالب على الناقة. فسأله أبو بكر: أمير أم رسول؟ قال: لا، بل رسول، أرسلني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ببراءة أقرؤها على الناس.
فلما قدموا مكة قام أبو بكر فخطب الناس محدثا عن المناسك، وقرأ علي سورة براءة حتى ختمها، ثم كان يوم عرفة فخطب أبو بكر وقرأ علي السورة، وهكذا حتى انتهت المناسك.
وكان قتال بين جماعة من الأوس، فذهب النبي عليه السلام يصلح بينهم وقال لبلال: إن حضرت الصلاة ولم آت؛ فمر أبا بكر فليصل بالناس.
وأثبت البخاري عن جبير بن مطعم أن امرأة أتت النبي
صلى الله عليه وسلم
فأمرها أن ترجع إليه. قالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك ... كأنها تريد الموت.
قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر ...
وهذه أمارات مشهودة متفق عليها، وغيرها أمارات شتى بعضها أصرح وبعضها أحوج إلى التأويل، لا ضرورة لاستقصائها؛ لأنها لا تبلغ في الجزم والتوكيد مبلغ ما قدمناه. •••
واقترنت بتلك الأمارات جميعا أمارات أخرى لا تقل عنها صراحة وتواترا تدل على رغبة قوية في اجتناب كل ما يثير العصبية، ويلبس الأمر على الجهلاء والمغرضين بين دعوة النبوة وطلب السلطان والاستعلاء.
فلا نحسب أن محمدا عليه السلام دل بعمله وقوله ومضامين رأيه على شيء واضح مطرد كما دل على هذه الرغبة القوية، ولا ظهر منه الحرص على شيء كما ظهر حرصه على تنزيه النبوة من مطامع السيادة الدنيوية ومفاخر العصبيات.
فأبغض شيء كان إلى نفسه الكريمة قول من كانوا يقولون: إن النبوة تمهيد لدولة هاشمية أو وراثة دنيوية.
ولهذا أثر عنه أنه لم يول أحدا من قرابته ولاية أو عمالة في مكة والمدينة أو في غيرهما.
بل لهذا أصهر إلى أبي سفيان، واتخذ معاوية كاتبا للوحي، وأمر يوم فتح مكة مناديا ينادي في الناس: «... من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» ليمحو من نفوس بني أمية حزازة العصبية بينهم وبين بني هاشم، ولا يدع في سرائرهم مجالا للظن بأنها غلبة أسرة على أسرة، أو بطن من قريش على سائر بطونها.
وقال عليه السلام: «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين» ولم يقل «في بني هاشم» أو في بني عبد المطلب، ولو شاء لقال.
ولا ريب أنه عليه السلام لم يؤثر قريشا بالأمر يومئذ؛ لأنه يؤثر العصبية لبني قبيلته وقومه، ولكنه آثرهم للحكمة السياسية البينة التي لا يسهو عنها الهداة المسئولون عن مصائر الأمم في عصر من العصور. فقريش هم أصحاب السيادة في مكة وهي كعبة الإسلام وعاصمة الدول الإسلامية في ذلك الحين. ولن تفلح دولة يكون أهل العاصمة فيها أول الثائرين عليها والمنكرين لذويها.
ويغلب على اعتقادنا أنه عليه السلام ترك أمر الخلافة بغير وصية ظاهرة؛ لأنه علم أن الخلافة منتهية إلى مثل ما انتهت إليه، ولا سيما بعد تقديمه أبا بكر للصلاة بالناس.
ونص على «قريش» ولم يتجاوز ذلك؛ لأنه علم أن قريشا تتفق على مثل ما اتفقت عليه، وأن الخلاف إنما يجيء - إن جاء - من جانب الأنصار أهل المدينة. فالحاجة ماسة إلى هذا التخصيص لدفع الخلاف المنظور، ومع هذا التخصيص اللازم وصية مكررة بإكرام الأنصار أوصى بها المسلمين بعده، وهي وصية معناها الواضح في هذا المقام أنه عليه السلام كان يترقب أن تئول الخلافة إلى المهاجرين فهم الذين تتجه إليهم الوصية بإكرام مثوى إخوانهم الأنصار، ولولا ذلك لما اتجهت الوصية لفريق منهما دون فريق.
ونقول: إن النبي علم بمصير الخلافة على الوجه الذي صارت إليه، لأننا لا نستطيع أن نفهم أنه عليه السلام ترك هذه المسألة وهو يتوقع فيها الفشل والفتنة، ولم يبرم فيها حكما يدفعهما به ما استطاع.
فإذا انحصرت الخلافة يومئذ في قريش؛ فهي صائرة إلى أبي بكر دون غيره ولا حاجة إلى تدبير لن يغير مصير الأمور.
وإلا فكيف كانت الخلافة صائرة إلى غير ما صارت إليه وهي محصورة يومئذ في قريش؟
وإلى من كانت تصير؟
إن الذين تولوها بعد أبي بكر من صحابة النبي هم عمر وعثمان وعلي ومعاوية. فأي هؤلاء كان أظهر حقا، وأقرب طريقا، وأدنى من الصديق إلى اتفاق المسلمين عليه؟
أهو عمر؟ لقد كان أصغر من أبي بكر بنحو عشر سنين، ولم تكن له سابقة في الإسلام وفي صحبة النبي، ولم تكن ألفة الناس له كألفتهم لأبي بكر، وليس هو بأقوى عصبة منه بين بطون قريش، وليس هو بالذي يشغب على أبي بكر ويعصيه لطمع في الخلافة إذا تقدم إليها بل كان هو أول من بايعه وحث الناس على بيعته. وقال له: أنت أفضل مني.
فقال أبو بكر: وأنت أقوى مني.
فعاد عمر يقول: وإن قوتي لك مع فضلك.
وكان هذا فصل الخطاب ومرجع الاختيار الذي لا تفويت فيه لفضل ولا قوة، ولا تضييع فيه لفرصة أبي بكر التي لا فرصة بعدها. أما عمر فله بعد ذلك فرصته حين يأتي أوانها.
أفكانت تصير إذن إلى عثمان بن عفان؟
إن عثمان رضي الله عنه أسلم على يدي أبي بكر، وقد كانت معه عصبية بني أمية وهي عصبية قوية، ولكن زعامة تلك العصبية كانت في يد أبي سفيان يومذاك، ولا طريق له إلى الخلافة وإن طمع فيها، وتنزه عثمان مع هذا أن يركن إلى تلك العصبية ليزاحم أبا بكر في حق لا ينكره ولا ينفسه عليه.
أفكانت تصير إذن إلى علي بن أبي طالب؟!
إنما كانت تصير إليه بحجة بني هاشم وهي الحجة التي اتقاها النبي جهده كما قدمنا، وكان بنو هاشم مع هذا لا يتفقون على اختيار واحد من رؤسائهم الثلاثة: العباس وعلي وأخيه عقيل، ولم يكن علي بعد هذا وذاك قد جاوز الثلاثين إلا بسنوات قلائل، وهي عقبة من العقبات التي لا يسهل تذليلها في أمة ترعى حق السن ومكانة الشيوخ إلا بوصية ظاهرة من النبي عليه السلام. ولم تكن هناك وصية من هذا القبيل كما اتفق عليه كل سند وثيق.
أفكانت تصير إذن إلى معاوية بن أبي سفيان؟
ما نحسب أن معاوية نفسه قام بخلده أن يرشح نفسه لخلافة النبي في تلك الآونة. ولو توافرت له السن وتوافرت له الذرائع التي تقربه من ذلك الأمل لآثرت قريش بالمبايعة كل بطن من بطونها غير بطن بني أمية؛ لأن الخلافة في بني أمية معناها دولة بني أمية، لاستطاعتهم بالخلافة وقوة العصبية أن يفرضوا دولتهم على سائر البطون وسائر القبائل ... أما الخلافة في بني تيم، رهط أبي بكر، فهي خلافة قريش كلها ومعهم جميع المسلمين، لتعذر قيام الدولة ببطن واحد من البطون الصغيرة واحتياج الحاكم إلى اتفاق هذه البطون من حوله. ويقال مثل ذلك في بني عدي رهط عمر، وفي سائر البطون القرشية ما عدا هاشما وأمية.
فإذا كان انتخاب أبي بكر للخلافة هو رأي قريش الذي محيد عنه، وهو نية النبي التي ظهرت من أعماله وإشاراته، فما الحاجة إلى التدبير بين السيدة عائشة وأبيها، أو بين الرجال الثلاثة أبي بكر وعمر وأبي عبيدة؟ ومن أين يأتي تخيل التدبير ولا موجب له من الفروض ولا من الإسناد؟
ربما كان الدليل الذي هو أقطع من كل دليل على نفي التدبير المزعوم أن تقدر أن التدبير لم يحصل قط فماذا كان يحصل بعد امتناعه، أكان يقع في مسألة الخلافة شيء غير الذي وقع؟ وما هو؟ وما حيلة التدبير في منعه؟
فإن كان الجواب أن التدبير وترك التدبير يستويان. وأن الحاجة إليه لا تخطر على بال عاقل، ففي ذلك غنى عن الأدلة الأخرى التي تنقضه وتلقي به في مراجم الظنون والأوهام.
نظر النبي إلى ذلك كله بالبصيرة الثاقبة التي تكشف له ما لا ينكشف لغيره، فسكت بالقدر اللازم، وأشار بالقدر اللازم، وعلم أنه قد أشار بما فيه الكفاية، وأن ما زاد على ذلك فهو زيادة على الكفاية.
وما نشك لحظة في أنه عليه السلام قد أحاط بكل ما يحاط به هذه المسالة خلال مرضه وقبل مرضه، وقد اطمأن إلى كل ما يوجب الاطمئنان في تقديره، وأنه لو رأى حاجة إلى المزيد من التصريح بالقول القاطع لصرح وقطع بالقول، لأننا لا نستطيع أن نفهم أنه عليه السلام يترك الإسلام والمسلمين عرضة للفشل والفتنة، ثم لا يدفع ذلك بما في وسعه. فاكتفاؤه بما صنع هو الدليل على علمه بما سيحدث واستغنائه عن المزيد من التدبير.
وقد نظر عليه السلام - ولا ريب - إلى كل ما يستحق النظر في مسألة الخلافة وهو يرشح لها أبا بكر ذلك الترشيح الأبوي الذي يؤنس بالرأي ولا يقحمه على القلوب.
نظر إلى حق أبي بكر كما نظر إلى مصلحة المسلمين.
فحق أبي بكر في قيامه مقام النبي ظاهر، ما فيه خلاف، ولا موجب لتخطيه إلى غيره على وجه من الوجوه.
ومصلحة المسلمين في ولايته راجحة في كل حساب؛ لأن المسلمين كانوا يومئذ أحوج إلى عهد يكون امتدادا لعهد النبي حتى يحين وقت التوسيع والتصرف، وأحوج إلى ألفة غير مخشية ولا منفوسة تعوضهم من طاعتهم للنبي بتعاونهم بينهم على النصيحة والمودة. وكل أولئك ميسور لأبي بكر قبل تيسره لغيره من جلة الصحابة الأقربين. فهو في حرص شديد على الاقتداء بالنبي، حرفا حرفا، وخطوة خطوة، لن يكون عهده إلا امتدادا للعهد النبوي حتى تتغير الأحوال فتأذن بالتغيير، وهو في ألفته واجتماع القلوب إليه خير من يخلف الطاعة بالمودة ويعالج الفرقة والانقسام بالرفق والتؤدة، فإن جد ما يدعو إلى التصرف أو يدعو إلى الشدة؛ فهناك الأعوان المخلصون له وللدين، وهناك المشيرون الذين يقلبون الرأي على جميع الوجوه: فضله مع قوتهم وقوته مع فضلهم، نعم العون ونعم الكفيل باجتماع أسباب الحول والحيلة، كما ألمع إلى ذلك عمر بن الخطاب.
ثم حانت الساعة التي تهيأت لها مشيئة القدر وتهيأت لها مشيئة الناس على ذلك النحو المستقيم.
فتم في يوم واحد كل ما ينبغي أن يتم في يوم.
ولاح للوهلة الأولى أن الخطر عظيم، وأنه موشك أن يعصف بكل شيء، وأن يخرج على كل سواء.
إذ اجتمع الأنصار يتحدثون بحقهم في الخلافة دون المهاجرين، وهمت الفتنة أن تنطلق بغير عنان في طريق لا تعرف عقباه، ولكنها فتنة مكبوحة قدر لها ألا تقوى على الانطلاق من باب السقيفة التي نجمت فيها.
فكان سعد بن عبادة زعيم القوم مريضا لا تؤاتيه في ذلك اليوم حركة النفس التي لا غنى عنها في ذلك المقام؛ لأنها تعدي بالهيبة والثقة من يستمعون إليه. فحملوه من بيته إلى السقيفة وهو لا يملك زمام عزمه ولا يقدر على الكلام، فجعل يخاطبهم بلسان القريبين منه، وجعلوا يصغون إليه إصغاءهم إلى مريض يشعرون بضعفه، لا إلى زعيم يشعرون بقوته وبأسه.
وكان القوم فريقين متنافسين منذ زمن قديم، وهم الخزرج والأوس وبينهما ملاحاة دائمة تهون معها كل ملاحاة بين الأنصار والمهاجرين.
وكانت يقظة عمر وأصحابه أسرع من فتنة القوم. فبلغوا السقيفة في إبانها وعالجوا الأمر حق علاجه، وقال كل منهم كلمة كانت أنفذ من سهم وأقهر من جيش. قال أبو بكر: «إن هذا الأمر إن تولته الأوس نفسته عليهم الخزرج، وإن تولته الخزرج نفسته عليهم الأوس، ولا تدين العرب لغير هذا الحي من قريش ... نحن الأمراء وأنتم الوزراء لا تفتاتون بمشورة، ولا تقضى دونكم الأمور.»
وقال عمر: «إن العرب لا تمنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم.»
وقال أبو عبيدة: «يا معشر الأنصار! كنتم أول من نصر وآزر؛ فلا تكونوا أول من بدل وغير.»
ونادى أبو بكر القوم: هذا عمر وهذا أبو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوه.
فقال عمر وقال أبو عبيدة مثل مقالته: «لا والله! لا نتولى هذا الأمر عليك، فإنك أفضل المهاجرين، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة، والصلاة أفضل دين المسلمين، فمن ذا الذي ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك.
ابسط يدك نبايعك.»
فبايعه زعيم من الأوس، بشير بن سعد، وهو يقول: «كرهت أن أنازع قوما حقا جعله الله لهم.»
وقال النقيب أسيد بن حضير: «والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم نصيبا أبدا فقوموا بايعوا ...»
وبايع عمر وأبو عبيدة فكأنما بايع المهاجرون معهما، ولم يبق للخزرج الحاضرين عزم خلاف، فتزاحموا على البيعة حتى أوشكوا أن يطئوا زعيمهم المريض، وماتت الفتنة في مهدها؛ لأنها ولدت بعلة الموت.
ولدت بعلة الموت فماتت وما اصطدمت بأكثر من ثلاثة رجال، لم يستعدوا لها بأكثر من استعداد الساعة. بل لعلهم أفلحوا في القضاء عليها؛ لأنهم كانوا أولئك الثلاثة بعينهم ولم يكونوا جمعا حاشدا من المهاجرين المناظرين فلاحوا للقوم هداة ينصحون ولم يلوحوا غزاة يقتحمون، وكان ذلك أدعى أن يستمعوا إليهم كما يستمعون إلى الضيف الناصح دون أن تثار فيهم نخوة الغاضب لذماره، المطروق عليه في عقر داره.
ولو أن سعد بن عبادة كان صحيحا غير مريض، وكان الأنصار حزبا واحدا غير منقسم، وكان المهاجرون الثلاثة متخلفين عن الموعد الحاسم، أو كانوا غير أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، أو كانوا جمعا كثيرا يحفز العداء والمقاومة، لجاز أن يتغير مجرى الأمور وأن يكون للتاريخ الإسلامي شأن غير شأنه الذي عرفناه.
ولكننا نخطئ كثيرا إذا نسينا فضل الأنصار أنفسهم فيما صارت إليه الأمور، فقد كانت لهم فيه مشيئة مستورة إن لم نقل مشيئة ظاهرة.
كانوا على الأرجح يقضون حق المجاملة لسعد بن عبادة، ولا ينوون الزيادة أو يجدون في الكفاح لانتزاع الخلافة: كانوا مسلمين قبل كل شيء ولم يكونوا طلاب ملك قبل كل شيء، وكانوا يحسون ما أحسه المسلمون جميعا؛ إذ قالوا: إن النبي قد ائتمن أبا بكر على الدين بتقديمه للصلاة فكيف لا يؤتمن على الدنيا؟
وكانوا يعلمون أن المهاجرين مقدمون في القرآن على الأنصار:
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان [التوبة: 100]. فلم يكن إيمانهم بحقهم في الخلافة إيمان من يغضب لفواتها ويستميت في طلبها، ولم يكن حرصهم على السلطان أشد من حرصهم على الدين ومصلحة المسلمين، ولم يكن أملهم فيها إذا نازعتهم قريش عليها بالأمل الذي يطغى على كل تفكير، فما هو إلا أن أشار بعضهم إلى منازعة المهاجرين حتى قالوا: «منا أمير ومنهم أمير» قبل أن تستفيض بينهم حجج المهاجرين. ثم تمت البيعة فلم يعودوا إلى تمحل الأسباب للخروج على صاحب الأمر كما يفعل كل حريص على السلطان لجوج فيه.
فهم ولا ريب أصحاب مشيئة فيما صارت إليه الأمور، على هذا النحو من المشيئة التي قد يجهلها صاحبها وهي حاضرة.
وهم ولا ريب إخوان يطلبون حقا في الإرث المشروع إن ثبت لهم حق فيه، وليسوا بأعداء ينظرون إلى أسلاب العدو ويستحقونها بالغلبة عليها، كائنة ما كانت ذريعتهم إليها من حق أو باطل.
على أنهم لو كانوا غير ذلك وكان نزاعهم إلى السلطان نزاعا طاغيا لا يبالون فيه بالحقوق والحرمات لبطل في هذا النزاع كل تدبير سابق لأبي بكر وصاحبيه، ولكان مآل الفتنة إلى حكم الواقع الذي لا تغني فيه الخطط السابقة ولا العظات البالغة؛ إذ قصارى التدبير من أبي بكر وصاحبيه أن يجمعوا حولهم كلمة قريش ورؤسائها وبطونها، فأما أن يخضعوا بالتدبير من لا يخضع لغير السيف، وأن يدفعوا بالاتفاق بينهم ما ليس له دافع، فذلك هو المحال بعينه، أو ذلك هو الاتفاق على أناس خارجين من نطاق الاتفاق.
وصفوة القول أن خلافة أبي بكر كانت نتيجة لكل مقدمة سبقتها من فعل الحوادث، أو من فعل أحد عامد أو غير عامد.
وغير هذه الخلافة ما كان ليكون، إلا الفتنة التي لا يجدي فيها اختيار هذا ولا اختيار ذاك. ولا يغني فيها تدبير ولا تقدير.
ولسنا نحب أن يفهم من هذا أن أحدا من كبار الصحابة كان يعاف الخلافة ولا يسره أن يختار لهذا المقام العظيم، وأن يراه الناس أهلا للاضطلاع بعبئه الجسيم. فخلافة النبي شرف لا يأباه أحد يحبه ويعظمه ويتتبع خطاه، وأقل من هذا المقام الأسنى كان حقيقا عند الصحابة أن يستشرفوا له، ولا يكتموا طموحهم إليه.
جاء أهل نجران إلى النبي عليه السلام فقالوا: «ابعث لنا رجلا أمينا.»
فقال: «لأبعثن إليكم أمينا حق أمين» فاستشرف لها الناس، فبعث أبا عبيدة بن الجراح.
وروى أبو بكر هذه القصة حيث قال: «قدم إلينا وفد نجران فقالوا: يا محمد ابعث لنا من يأخذ لك الحق ويعطيناه.»
فقال: «والذي بعثني بالحق لأرسلن معكم القوي الأمين» فما تعرضت للإمارة غيرها. فرفعت رأسي لأريه نفسي، فقال: قم يا أبا عبيدة.
ولقد ساء أبا بكر بعد مبايعته الأولى أن ينقبض أناس عنه فظهر منه الاستياء حيث قال: «أيها الناس! ألست أحق الناس بها؟ ألست أول من أسلم؟»
وغير ذلك - أيضا - لم يكن ليعقله العقل ولا بالذي يجمل بالكريم، فكل رجل كريم يسوءه أن ينقبض أناس عنه وهو جدير منهم بغير الانقباض.
ولكن الغبطة بالخلافة شيء والاحتيال لها بالحيلة والدسيسة شيء آخر، فهذا الذي ننكره؛ لأننا لم نجد دليلا واحدا عليه، ووجدنا أدلة كثيرة على نقيضه.
كذلك دبر أبو بكر وأصحابه كل ما يحمد تدبيره بعد قيامه بالخلافة لتوطيد أركانها وحماية الإسلام غوائل عصيانها والتمرد عليها، وجهدوا أن يفرقوا كل اجتماع يخشون مغبته على وحدة المسلمين؛ فاقترحوا على العباس بن عبد المطلب أن يجعلوا له نصيبا يكون له ولعقبه من بعده ليمنعوا الاتفاق بينه وبين علي ابن أخيه، إن سعى إليهما من يسعى إلى التأليب والتخريب، كما هم أبو سفيان أن يفعل باسم البطون القوية في قريش: بني هاشم وبني أمية، وصنع أبو بكر وأصحابه نظائر ذلك في سبيل الوحدة العربية والجماعة الإسلامية، ولكن الذي صنعوه هو التدبير الواجب الذي لا يضير، وقد يكون في تركه ضير كبير.
لقد كان أبو بكر الخليفة الأول لأنه كان الصديق الأول، ولأن شروط الخلافة التي اجتمعت له لم تجتمع لأحد غيره، وليس له من منازع فيها بين أهل عصره؛ ولأن المزايا التي قد يرجحه بها أنداده وقرناؤه لا تضيع على الإسلام بولايته عليهم ومعونتهم إياه.
فكان اختياره أصح اختيار عرف في تاريخ الولاية، وكانت التوفيقات فيها غنية عن التدبير والتمهيد.
فإن لج بعض المكابرين مع هذا في دعوى التدبير فأنعم به تدبيرا ينقطع به الخلاف، ويتم به أصح استخلاف.
الفصل الثالث
صفاته
كان أبو بكر في جملة ما وصفوه به أبيض تخالطه صفرة، وسيما، غزير شعر الرأس، خفيف العارضين، ناتئ الجبهة، غائر العينين معروق الوجه، نحيفا مسترخي إزاره عن حقويه حمش الساقين، ممحوص الفخذين خفيف اللحم في سائر جسمه.
وكان أجنأ - أي منحني القامة - وقيل في وصف آخر: إنه حسن القامة لا يلحظ عليه انحناء، ولعله كان كذلك أيام الشباب، ولم يرد في أخباره وصف قاطع عن الطول والقصر، ولكنه على ما يؤخذ من بعض تلك الأخبار كان أميل إلى القصر، ولا سيما أخبار الهجرة مع النبي عليه السلام.
فقد جاء في خبر الهجرة أن النبي عليه السلام «كان على بعير، وأبو بكر على بعير، وعامر بن فهيرة على بعير، فكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يثقل على البعير فيتحول عنه إلى بعير أبي بكر، ويتحول أبو بكر إلى بعير عامر، ويتحول عامر إلى بعير رسول الله
صلى الله عليه وسلم ...»
فكان هو أخف من عامر بن فهيرة، وكان عامر بن فهيرة أخف من رسول الله عليه السلام.
وكان رسول الله كما علمنا من وصفه ربعة في الرجال فوق القصير ودون الطويل، ولم يكن بين الامتلاء، بل معتدلا لا إلى السمن ولا إلى النحافة، فلو كان أبو بكر رضي الله عنه أطول من الربعة لما كان أخف كثيرا من رسول الله، وأخف كذلك من عامر بن فهيرة، بحيث يظهر الفرق بينه وبينهما في حركة البعير الذي يتعاقبون ركوبه.
أما صفاته الخلقية فقد اتفقت فيها أقوال واصفيه، ودلائل أعماله في الجاهلية والإسلام، فكان أليفا ودودا حسن المعاشرة، وكان مطبوعا على أفضل الصفات التي تتألف له الناس فيألفونه، ومنها التواضع، ولين الجانب. فلم يتعال على أحد قط في جاهليته ولا في إسلامه، وكان في خلافته أظهر تواضعا منه قبل ولايته الخلافة. فإذا مدحه مادح قال: اللهم أنت أعلم مني بنفسي، وإذا سقط منه خطام ناقته وهو راكب نزل منها ليأخذه، ولم يأمر أحدا بمناولته إياه. وبلغ من بغضه الخيلاء أنه كان يبغضها حتى حيث يغتفرها الناس من ربات الحجال. فدخل يوما على السيدة عائشة رضي الله عنها وهي تمشي وتنظر إلى ذيل ثيابها فقال: يا عائشة! أما تعلمين أن الله لا ينظر إليك الآن؟ قالت: ومم ذلك؟ قال: أما علمت أن العبد إذا دخله العجب بزينة الدنيا مقته ربه عز وجل حتى يفارق تلك الزينة؟ فلما نزعت تلك الزينة التي أعجبتها فتصدقت بها قال: عسى ذلك يكفر عنك.
ولم يكن تألفه الناس محض مجاملة باللسان مما يستهله معظم المشهورين بالتودد والمجاملة، ولكنها كانت ألفة النجدة والكرم والسخاء، فكان كما قال ابن الدغنة لقريش، وقد هم أبو بكر أن هجر بلده: «أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟»
فهو ودود كريم لا يضن بماله وجاهه في سبيل الكرم والسخاء.
ومع هذه المودة وهذه الألفة كانت فيه حدة يغالبها، ولا يستعصي عليه أن يكبح جماحها. ووصف بها نفسه ووصفه بها أقرب الناس إليه وأصدقهم في وصفه. فقال في خطبة من أوائل خطبه بعد مبايعته: «... اعلموا أن لي شيطانا يعتريني فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني ...»
وقال عمر بن الخطاب: «وكنت أداري منه بعض الحد - أي الحدة - وذلك حين أعد كلاما يقوله في سقيفة بني ساعدة، مخافة أن يحتد أبو بكر في ذلك المقام.»
وسئل عنه ابن عباس فقال: «كان خيرا كله على حدة كانت فيه.»
إلا أنها كانت حدة تنم على سرعة التأثر فيه، فإذا لم تكن غضبا يغالبه ويكبحه فهو سريع التأثر إلى الرحمة والرفق في جملة أحواله، يميل إلى الحزن والأسى ويعطف على الحزين والأسوان، أو كان كما وصفته عائشة رضي الله عنها: «غزير الدمعة، وقيذ الجوانح، شجي النشيج» ... «أسيفا متى يقم مقامك - تخاطب رسول الله - لا يسمع الناس.» •••
وكان في جاهليته وإسلامه وقورا جميل السمت يغار على مروءته ويتجنب ما يريب، فلم يشرب الخمر قط؛ لأنها مخلة بوقار مثله، وسئل: لم كان يتجنبها في الجاهلية. فقال: «كنت أصون عرضي وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيعا في عقله ومروءته»، ومن مروءته أنه كان يتقي كل ما يورده موارد الشبهات. دعاه رجل في الجاهلية أن يستصحبه لحاجة يعينه عليها، فرآه يمر في طريق غير التي يمر منها فسأله: أين تذهب هذه الطريق؟! ... قال الرجل: إن فيها أناسا نستحي منهم أن نمر عليهم. قال رضي الله عنه: تدعوني إلى طريق نستحي منها؟ ما أنا بالذي أصاحبك.
وكان لمروءته يتحاشى السقط من الكلام، فلا يتكلم إلا أن يدعوه داع إلى قولة خير فيقولها إذن ويصدق في مقاله. ومن وصاياه لبعض عماله: «إذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضا.»
وقد اشتهر بالصدق في الجاهلية والإسلام، فكان «ضامن» قريش المقبول الضمان. لا يعد أحدا إلا وفى وصدق الدائن والمدين. ووكلت إليه الديات والمغارم فلم يكن يحمل شيئا منها إلا اطمأن إليه الناس، فإن احتملها أحد غيره خذلوه ولم يصدقوه.
وما امتحن صدقه بشيء إلا كان صدقه أثبت وأقوى. فخطب رسول الله ابنته عائشة حين ذكرتها له خولة بنت حكيم. وكان المطعم بن عدي قد خطبها قبل ذلك لابنه، فقال أبو بكر لزوجه أم رومان: «إن المطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه، والله ما أخلف أبو بكر وعدا قط ...» ثم أتى مطعما وعنده امرأته، فسأله: ما تقول في أمر هذه الجارية؟ فأقبل الرجل على امرأته ليسألها: ما تقولين؟ فأقبلت هي على أبي بكر تقول: لعلنا إن أنكحنا هذا الصبي إليك تصبئه وتدخله في دينك الذي أنت عليه. فلم يجبها أبو بكر وسأل المطعم بن عدي: ما تقول أنت؟ فكان جوابه: أنها تقول ما تسمع.
فتحلل أبو بكر عند ذلك من وعده، ولم يتحلل منه قبل ذلك على ما في نسب الرسول من شرف، وما في قلبه من إعزاز له يفوق كل إعزاز.
وكانت شجاعته كفاء صدقه ووفائه بوعده: سواء منها شجاعة الرأي وشجاعة القتال. فلما أسلم لم يبال أن يعلن إسلامه وأن يجهر بصلاته ودعائه، يصيبه في ذلك ما يصيب، ولما وجب القتال كان هو أقرب المقاتلين إلى رسول الله في كل غزوة وكل مأزق من مآزق الجلاد، وانهزم كثير من الشجعان في بعض الملاحم الحازبة، ولم تذكر له قط هزيمة في ساعة من ساعات الشدة، ولا ثبت نفر قط حيث يصعب الثبات إلا كان هو بين أول الثابتين. ولم تكن وقعة قط أشد على المسلمين من وقعتي أحد وحنين، ولى فيهما من ولى، واستشهد من استشهد، وتردد في صفوف العسكرين أن الرسول عليه السلام كان بين المستشهدين. فذعر الضعيف وقال القوي: ما تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه رسول الله.
ففي وقعة أحد - أشد هاتين الوقعتين - كان أبو بكر في طليعة الثابتين، ونظر إلى حلقة من درع قد نشبت في جبين صديقه وصفيه ونبيه فشغله أن يصاب هذا المصاب، وانكب عليها لينزعها، لولا أن أقسم عليه أبو عبيدة ليسبقنه هو إلى نزعها، فجذبها بثنيته جذبا رفيقا حتى نزعها وسقطت ثنيته. •••
وعلى هذا الحظ الوافر من المزايا الخلقية كان له قسط محمود من المزايا العقلية التي يمتاز بها ذوو الأقدار من أهل زمانه، فقيل فيه وفي صاحبه أبي عبيدة: إنهما «داهيتا قريش.» وأثر عنه أنه كان أسرع الناس إلى الفطنة لما يوحي به النبي عليه السلام بالتلميح دون التصريح. ومما جاء في الحديث الشريف عن علمه وفطنته أنه عليه السلام قال: كأني أعطيت عسا مملوءا لبنا فشربت منه حتى امتلأت، فرأيتها تجري في عروقي بين الجلد واللحم، ففضلت منها فضلة فأعطيتها أبا بكر. قالوا: يا رسول الله! هذا علم أعطاكه الله، حتى إذا امتلأت فضلت فضلة أعطيتها أبا بكر. قال
صلى الله عليه وسلم : «قد أصبتم.» •••
وكان لأبي بكر حظ وافر من الملكة الروحية إلى جانب ما عنده من هذه الملكة الذهنية، وتلك الملكة الخلقية، ونعني بالملكة الروحية ما نسميه اليوم بيقظة الضمير.
ومناط الضمير أن يرعى الإنسان حق غيره، وأن يحسن ولا يسيء وهي خصلة كانت ملحوظة في أبي بكر من أيام الجاهلية قبل أن يدين بالدين الذي يأمر بالخير وينهي عن الشر، ويدعو إلى اتباع الحق واجتناب الباطل. فلما جاء هذا الدين بنى منه على أساس قديم، وبلغت به نفسه قصارى ما تبلغه نفس طيبة من رعاية حقوق الناس: ومن كلف بالخيرات وسخط على الشرور.
قال ربيعة الأسلمي: «جرى بيني وبين أبي بكر كلام فقال لي كلمة كرهتها وندم، فقال: يا ربيعة! رد علي مثلها حتى يكون قصاصا. قلت: لا أفعل! قال: لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله
صلى الله عليه وسلم . فقلت: ما أنا بفاعل. فانطلق أبو بكر وجاء أناس من أسلم فقالوا لي: رحم الله أبا بكر، في أي شيء يستعدي عليك وهو الذي قال لك ما قال؟ فقلت: أتدرون من هذا: أبو بكر الصديق؟ هذا ثاني اثنين، وهذا ذو شيبة في الإسلام. إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فيغضب لغضبه، فيغضب الله لغضبهما فيهلك ربيعة، وانطلق أبو بكر وتبعته وحدي حتى أتى رسول الله فحدثه الحديث كما كان، فرفع إلي رأسه فقال: يا ربيعة! ما لك والصديق؟ قلت: يا رسول الله، كان كذا وكذا، فقال لي كلمة كرهتها، فقال لي: قل كما قلت حتى يكون قصاصا فأبيت. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أجل لا ترد عليه، ولكن قل: قد غفر الله لك يا أبا بكر ...»
وهو يكره أن يسيء؛ لأنه يكره أن يساء، ويعلم ما توقعه الإساءة في النفس من ألم يغلبها على الحلم والأناة حتى في المحضر الذي تراض فيه على غاية الحلم وغاية الأناة.
بينما رسول الله جالس ومعه أصحابه وقع رجل بأبي بكر فآذاه، فصمت عنه. ثم آذاه الثانية فصمت عنه. ثم آذاه الثالثة فانتصر منه. فقام رسول الله حين انتصر أبو بكر. فقال: أوجدت علي يا رسول الله؟ فقال رسول الله: نزل ملك من السماء يكذبه بما قال، فلما انتصرت وقع الشيطان.
ولا شك أنه درس من الدروس النبوية يداوي به نوازع الحدة في صاحبه الأمين؛ لأنه كان يهيئه لأمر عظيم: أمر ينبغي لمن تولاه أن تؤلمه إساءته إلى الناس فوق ألمه لإساءة الناس إليه.
ومن يقظة الضمير فيه أنه لم يطق أن تستقر في جوفه لقمة يشك في مأتاها؛ فكان له مملوك يغل عليه، فأتاه ليلة بطعام فتناول منه لقمة. قال المملوك: ما لك كنت تسألني كل ليلة ولم تسألني الليلة؟ قال: حملني على ذلك الجوع ... من أين جئت بهذا؟ فأنبأه المملوك أنه مر بقوم كان يرقي لهم في الجاهلية فوعدوه، فلما أن كان ذلك اليوم مر بهم فإذا عرس لهم فأعطوه ذلك الطعام!
قال الصديق: إن كدت لتهلكني.
وأدخل يده في حلقه فجعل يتقيأ - وجعلت اللقمة لا تخرج - فقيل له: إن هذه لا تخرج إلا بالماء ...
فدعا بطست من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها.
قيل له: يرحمك الله! كل هذا من أجل لقمة؟ فقال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها.
وما نحسب أن يوما مر به دون أن يطيع فيه دواعي الإحسان، وسليقة البر والمودة سئل عنها أو لم يسأل.
فكان من عادة النبي عليه السلام أن يسأل أصحابه حينا بعد حين عما ابتدروه من الخيرات فلا يكتموه شيئا لأنه يسأل ويريد أن يجاب، ليتبع جوابهم عظة من العظات، أو يعقبه بحديث يؤثرونه عنه.
صلى النبي الصبح ذات يوم فلما قضى صلاته سأل: أيكم أصبح اليوم صائما؟
قال عمر: أما أنا يا رسول الله فقد بت لا أحدث نفسي بالصوم، وأصبحت مفطرا.
وقال أبو بكر: أنا يا رسول الله، بت الليلة وأنا أحدث نفسي بالصوم، فأصبحت صائما.
ثم سأل النبي: أيكم عاد اليوم مريضا؟
قال عمر: إنما صلينا الساعة ولم نبرح، فكيف نعود المريض؟
وقال أبو بكر: أنا يا رسول الله. أخبروني أن أخي عبد الرحمن بن عوف مريض وجع، فجعلت طريقي عليه، فسألت عنه، ثم أتيت المسجد.
ثم سأل النبي: فأيكم تصدق اليوم بصدقة؟
قال عمر: يا رسول الله. ما برحنا معك مذ صلينا فكيف نتصدق؟!
وقال أبو بكر: أنا يا رسول الله، دخلت المسجد، فإذا سائل يسأل وابن لعبد الرحمن بن أبي بكر معه كسرة خبز، فأخذتها فأعطيتها السائل.
فقال النبي: فأبشر بالجنة. أبشر بالجنة!
لا جرم يقول عمر: ما سبقت أبا بكر إلى خير قط إلا سبقني إليه.
ولا جرم يقول علي: هو السباق. والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر. •••
لقد وصف لنا الصديق بأوصاف نستطيع أن نعيدها اليوم بما ألفناه من أساليب العصر فنراها على وفاق لحقائق تلك الأوصاف ودلالاتها، وذلك أبين البينات عن صدق ما وصفوه به في الجاهلية أو الإسلام.
فمن جملة الملامح والسمات التي وصف بها يتبين لنا أنه كان من أصحاب المزاج العصبي الناشئين في وراثة كريمة. فهو عصبي كريم النزعات والطوايا.
ولا يندر في أصحاب هذا المزاج أن يتميزوا بحدة الذكاء وسرعة التأثر والطموح إلى المثل العليا والحماسة لما يعتقدونه، والتعلق بما يؤمنون به ويصدقونه، والتقدم في العقائد والدعوات.
بل هذا هو الغالب فيهم، كما نشاهد اليوم في كل دعوة دينية أو اجتماعية أو سياسية، لن تخلو من أناس في مزاج أبي بكر وخلائقه الجسدية والنفسية، ينصرونها ويتشبثون بها ويؤمنون بدعاتها ولا ينكصون عن سبيلهم أو سبيلها.
وإذا كان الرجل من بيت من بيوت الشرف والوجاهة فشأنه - إذ يكون على هذا المزاج - أن يعتصم بالوقار ودواعيه، وأن يستزيد من خلائق الصدق والمروءة التي ركبت فيه.
ولم يكن أبو بكر على ما علمنا صاحب «الشخصية الباطشة» التي تروع الناظر إليها لأول وهلة.
ولم تكن سيادة بيته سيادة جبارين يملكون الناس بالبأس والسطوة.
فسبيله إذن أن يعتصم بصدقه ومروءته ليحفظ بهما كرامة الشرف الذي ينتمي إليه، وأن يستزيد من ذلك الصدق وتلك المروءة بما يزيدهما في التمكين ويملي لهما في الثبات والرسوخ، وأن يتجنب فلتات الطبع واللسان ويتنزه عن كل مخل بالوقار مزر بالصيان؛ لأن وقاره وصيانه هما الحجاز القائم بينه وبين كل مهانة واستخفاف، ولو كان باطش المظهر أو باطش السيادة لقد يستغني عنهما بعض الاستغناء في بعض الأحيان. أما وهو بعيد من البطش في مظهره وسيادته فليس من شأنه أن يغفل عن سمت الوقار والمروءة طرفة عين.
وقد عرف الصديق بالحدة وهي أيضا من خلائق هذا المزاج التي يغالبها من يحرصون على وقارهم ومروءتهم أن يستهدفا لجرائر الحدة أو يندفعا في غير عمل حميد.
إلا أن يمس الرجل فيما هو من أخص الخصائص التي يقوم عليها مزاجه وتستقيم عليها عاداته وسماته فعندئذ تعسر المغالبة وتبرز الحدة من مكمنها، وهي على حق إذن في بروزها.
لهذا نرجع إلى حوادث أبي بكر في الحدة والصرامة على خلاف عادته من الرحمة والألفة، فإذا هي كلها مما يمس الصدق والتصديق أو يمس الإيمان، أو يجري مجرى الاستهزاء الذي يمس الوقار.
بلغ أقصى ما بلغ من غضب وحدة في عقاب الفجاءة بن إياس بن عبد ياليل، وبقي طوال حياته يندم على حدته في ذلك العقاب ...
وماذا صنع الفجاءة حتى هاج منه تلك الحدة التي كان يغالبها أقوى مغالبة؟ أثاره في مكمن الثورة فيه ...
كذبه الأمانة، وخدعه وخدع المسلمين، وقتل من قتل من الآمنين، وقلما غضب إنسان كما يغضب الصادق لصدقه المخدوع، ولا سيما الخديعة التي فيها غدر وسفك دماء.
جاءه يطلب سلاحا ليحارب به المرتدين، فأخذ السلاح وحارب به المسلمين الآمنين، وعاث في الطريق ينهب ويسلب ويهدر الدماء، فلما وقع في الأسر لم يجزئه عنده إلا أن يقذف به في النار.
وجاء له رجل من أحبار اليهود اسمه فنحاص في الآية:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة [البقرة: 245]، فقال فنحاص مستهزئا بالله والنبي: «لو كان عنا غنيا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم. ينهاكم عن الربا ويعطيناه!»
هذا هو الاستهزاء.
وهذا هو المساس بالإيمان.
وكلاهما لا يطيقه الرجل المؤمن الوقور وتغلبه فيه الحدة إن هو غلبها في غير ذلك من الأمور.
ولقد عاش أبو بكر ما عاش أليفا مؤلفا لقومه، محبا محبوبا فيمن حوله، رحيما بالغرباء فضلا عن الأبناء، إلا أن هذا الرجل الرحيم الأليف نهض إلى مبارزة ابنه ودعا عليه بالهلاك حين شهد الحرب مع المشركين، ورأى البر به - غاية البر - أن ينهض هو لمبارزته ولا يدعه لأحد غيره من المسلمين.
كان ذلك يوم بدر، وكان ابنه عبد الرحمن من أشجع الشجعان بين العرب، ومن أنفذ الرماة سهما في قريش. فتقدم الصفوف يدعو إلى البراز، وقام أبوه يجيب دعوته، لولا أن استبقاه النبي عليه السلام، وهو يقول له: متعني بنفسك.
ولما أسلم عبد الرحمن قال لأبيه: لقد أهدفت لي يوم بدر فضفت عنك - أي عدلت عنك - ولم أقتلك، فقال أبوه: لكنك لو أهدفت لي لم أضف عنك.
وهكذا نعلم أين تبدر الحدة وأين تبدر الصرامة من خليقة أبي بكر المسالم الوديع، فحيثما روى راو أنه احتد أو اشتد؛ فلنعلم عن يقين أن في الأمر شيئا يمس التصديق والإيمان، أو يمس المروءة والوقار، فلا تأتي الحدة أو الشدة يومئذ في غير موضعها من الطبيعة التي ولد بها ومرن عليها.
رجل له خصائص المزاج العصبي في البنية الدقيقة.
ورجل من عنصر كريم وأرومة طيبة.
ورجل له قدم في السيادة واعتصام بالوقار والمروءة.
فكل ما روي عنه فهو موافق لهذه الخصال، منتظم في هذه الخصائص، معقول في هذا التركيب في الخلق والخليقة، وهو من ثم دليل على صحة الوصف وصحة السيرة على الإجمال.
ولن يكون هذا الرجل على هذا التكوين إلا كما وصفوه ونقلوا عنه: حديد الطبع، مستمسك الخلق، سريع التأثر، قوي العاطفة، محبا للاعتقاد، حمسا في اعتقاده، صادقا في وعده، كما نستطيع أن نعرف ممن طبعوا على هذا المزاج ونراهم بيننا رأي العين، أو نعرفهم على السماع معرفة اليقين.
ونحن فيما نتوخاه من المضاهاة بين أوصاف السابقين وأوصافنا نحن المعاصرين إنما نريد أن نفضي إلى المقياس الصحيح للتصديق أو التكذيب، والمحك الصالح للتشكيك أو التغليب. فإذا كانت الأوصاف التي نقرؤها مطابقة للأوصاف التي نعقلها والتي نعهدها فذلك هو برهان الصحة في كل مقياس.
وإنه لمن واجبنا في عصرنا هذا أن نقضي على آفة العصر التي أوشكت أن تغلب فيه على كل آفة، وهي الظن الشائع بين المتفيهقين والمتهجمين أن البراعة كل البراعة في التكذيب، وأن الجهالة كل الجهالة في التصديق، وليست الجهالة كلها في الحقيقة هنا، ولا البراعة كلها في الحقيقة هناك.
فكثيرا ما تكون الغفلة في التكذيب أعظم من الغفلة في التصديق، وكثيرا ما يكون بخس الشيء الثمين أدل على الغباء وأضيع للمنفعة من إغلاء الشيء البخس، في تسويم التجارة أو تسويم الضمائر والعقول.
خذ مثلا لذلك حسنات أبي بكر اليومية التي سأله عنها النبي عليه السلام فاتفق في يوم سؤاله عنها أنه كان قد أهداها جميعا على وجه من الوجوه.
تلمح على وجه المتفيهق المتشكك مسحة التردد وهو يتابع ذلك الخبر كأنه مما لا يجوز ولا يتكرر على هذا المنوال.
فإذا سألته: لم التردد وفي وسعك أن تبلغ بالخبر إلى مقطع اليقين؟ لم تقف هنا ولا تتابع الطريق إلى منتهاه؟ إنك لتعلم إذن أن التردد سخف حين يكون اليقين منك على مد اليدين تتناوله إن شئت متى مددتهما إليه.
ماذا يكون إن صدقنا الخبر؟
وماذا يكون إن كذبناه؟
إن صدقنا الخبر فكل ما هنالك أن إماما في الدين مطبوعا على الكرم والكرامة قد جري على سنة نبيه وهاديه، فأصبح صائما وعاد مريضا وتصدق على فقير بكسرة خبز وجدها في يد حفيده.
وليس هذا بممتنع، بل هذا أقرب الأشياء أن يقع، ولا سيما إذا أضفناه إلى جملة أخبار أبي بكر من إحسانه في الجاهلية والإسلام، ومن إنفاقه المال كله في سبيل الخير حتى مات وهو فقير.
فإن كذبنا الخبر فماذا يتقاضانا تكذيبه من جهد للعقل واعتساف للتفكير والتخمين؟
إن كذبناه وجب أن نعتقد أن أبا بكر رضي الله عنه قد أجاب النبي عليه السلام بغير الحق، وأنه يتجافى صدق المقال في أقمن المواضع بصدق المقال، فلو جاز أن يكذب على كل إنسان لما جاز أن يكذب على الرجل الذي صدقه، وخاطر بالمال والبنين والحياة في سبيل تصديقه. فمن الذي يقبل هذا الفرض ولا يرى أن كل فرض دونه أدنى إلى القبول؟
ومن الذي يعقل ثم يخيل إليه أن العقل يميل به إلى هذا التكذيب ولا يميل به إلى ذلك التصديق؟
ونقول: إن هذا جائز لنتمادى مع التفيهق إلى أقصى مداه فما الذي يتقاضانا جوازه مرة أخرى من جهد واعتساف؟
يتقاضانا أن نقبل شيئا يقرب من المستحيل.
إن الرجل الذي يجترئ على الكذب في هذا المقام لا ينطبع على الصدق، ولا يخفى كذبه على الناس، فكيف به وهو مشهور بالصدق في كل ما قال، والوفاء بكل ما وعد؟ وكيف به وهو مشهور بالصدق في شئون الضمان والمغارم، وهي شئون لا يخفى التدليس فيها إلى زمن طويل؟ وكيف به وهو مشهور بالصدق قبل أن يدين بالدين الذي يحضه عليه؟
أيجوز أن أكذب الكاذبين، بأمر الدين وبغير أمر الدين، يشتهر بأنه أصدق الصادقين؟
تصديق هذا غفلة أدعى إلى السخرية من كل غفلة! ولا سيما إذا لجأ الإنسان إليها فرارا من القول بأن إماما شبيها بالأنبياء يصوم أيامه ويعود مرضاه ويعطي مسكينا كسرة من الخبز، وهو قد أعطى الألوف وأنقذ المعسرين وضمن من ليس له ضمان.
وعلى هذا النحو نتوخى التصحيح والترجيح فيما نأخذ به من أوصاف هؤلاء العظماء. أقرب المقاييس إلينا أن يكون تكذيب الوصف أصعب من تصديقه في تقدير العقل والبديهة، وفيما نعهده اليوم من حقائق هذه الأوصاف.
وكذلك أوصاف الصديق كما نقلها الناقلون وكما يفهمها اليوم الفاهمون، فإن الأقدمين ذكروا أوصافا متفرقة لم يقصدوا أن نجمعها نحن، ولا قصدوا بعد جمعها أن نعرضها على علم النفس ووقائع الحياة، كما وضحت لنا بمصباح العلم الحديث.
ولكننا جمعنا تلك الأوصاف وعرضناها على علم النفس فوجدنا بينها ذلك التناسب الذي يقضي بتصديقها، وينفي الظنة عن استقامتها في جملتها.
فأبو بكر كما وصفوه رجل لا محالة من أصلاء المزاج العصبي النابتين في منبت الشرف والمروءة، وقد قالوا: إنه كان يجود بماله، ومثل هذا الرجل خليق أن يجود بماله، وقالوا: إنه يحتد ويعطف، ومثل هذا الرجل معهود في حدته وعطفه، وقالوا: إنه يروض نفسه على السمت والكرم، ومثل هذا الرجل لا يستغني عن هذه الرياضة ولا يعجز عنها، وقالوا: إنه يشتد في اعتقاده، وليس فيما شهدناه وخبرناه أشد من اعتقاد مثله.
قالوا ذلك فلم يقولوا عجبا ولم يقل أحد ما ينقضه وينفيه وله حجة فيه.
فإذا كانت للعقل أمانة فالأمانة في تقرير هذه الأوصاف كما فهمناها بالاستقراء وكما رواها الرواة في مجمل الأنباء، وإذا كانت للعقل مهانة فمهانة العقل أن نعطله عن فهم حقيقة ماثلة، لغير شيء من الأشياء.
الفصل الرابع
مفتاح شخصيته
كان أبو بكر كما رأينا رجلا عصبي المزاج دقيق البنية، خفيف اللحم صغير التركيب.
تكوين يغلب على أصحابه أحد أمرين: إن كانوا من كرام النحيزة فهم مطبوعون على الإعجاب بالبطولة، والإيمان بالأبطال.
وإن كانوا من لئام النحيزة فهم مطبوعون على الحسد والكيد، وهما ضرب من الإعجاب المعكوس يؤدي إليه انعكاس الطبيعة، والإحساس بالعظمة في غير معاطفة بينهم وبينها ولا ارتياح إليها.
فالحسد هو إعجاب اللئيم عند شعوره بالعظمة، أو هو التحية التي يؤديها اللئيم إلى العظمة حسبما عنده من التواء وارتكاس.
ولهذا يصح أن يقال: إن أصحاب البنية الدقيقة والمزاج العصبي مطبوعون على الشعور بالعظمة على حال من الأحوال، فإن كانوا كراما شعروا بها مغتبطين مؤيدين، وإن كانوا لئاما شعروا بها محنقين مثبطين، ويندر فيهم جدا من يشذ عن هذه أو تلك من الخصال.
ولقد كان أبو بكر رجلا كريما أليفا من أهل الخير والمودة، فلا جرم كان الإعجاب بالبطولة طبعا متأصلا فيه، مقرونا بكل ما في الإعجاب من حب وثقة وإيمان، ولا جرم كان هذا الإعجاب «مفتاحا لشخصيته» مفسرا لكل ما يلتبس من أعماله، مميزا لكل ما يتشابه بينه وبين غيره من الصفات.
قلنا في كتابنا عن «عبقرية عمر»:
إن مفتاح الشخصية هو الأداة الصغيرة التي تفتح لنا أبوابها، وتنفذ بنا وراء أسوارها وجدرانها، وهو كمفتاح البيت في كثير من المشابه والأغراض. فيكون البيت كالحصن المغلق ما لم تكن معك هذه الأداة الصغيرة التي قد تحملها في أصغر جيب، فإذا عالجته بها فلا حصن ولا إغلاق.
وقلنا:
وليس مفتاح البيت وصفا ولا تمثيلا لشكله واتساعه، وكذلك مفتاح الشخصية ليس بوصف لها ولا بتمثيل لخصائصها ومزاياها، ولكنه أداة تنفذ بك إلى داخائلها، ولا تزيد.
فشخصية الصديق لها مفتاح قريب المتناول وهو هذا المفتاح، مفتاح الإعجاب بالبطولة.
وهذا الإعجاب بالبطولة هو الوسم الذي يتسم به كل عمل من أعماله وكل نية من نياته، وهو السر الذي نراه كامنا في كل رأي يرتئيه وكل قرار حاسم يستقر عليه.
والإعجاب بالبطولة في التاريخ الإنساني شيء عظيم؛ ليس بعد البطولة منزلة يشرف بها الإنسان أشرف من منزلة الإعجاب بها والركون إليها؛ لأن الفضيلتين معا لازمتان جنبا إلى جنب في كل أمر جليل تم في تاريخ الإنسان، وكل طور من أطوار التقدم ارتقى إليه.
وليقل أصحاب التحليل العلمي ما يشاءون.
وليقل أصحاب القياس المنطقي ما يحبون.
فشاءوا أو لم يشاءوا، وأحبوا أو لم يحبوا، لقد تم بغير التحليل العلمي وبغير القياس المنطقي كثير من العظائم في تاريخ الإنسان، ولم يتم قط - ولن يتم فيما نرى - أمر عظيم واحد بغير البطولة وبغير الإعجاب بالأبطال.
لها برهانها من الواقع كبرهان الأقيسة المنطقية والتجارب العلمية. فالرجل الذي ينهض له البرهان النفساني على الثقة ببطل من الأبطال فيثق به ويعينه على عمله ليس بالرجل الذاهب على غير هدى أو الآخذ بغير دليل. كلا، فعمله ونتيجة عمله كلاهما برهان يغنيه عن مصنع التحليل، وعن قضايا المنطق، ويغني العالم كذلك عنهما إذا نظرنا إلى العمل ثم نظرنا إلى النتيجة، ونظرنا قبل هذا وبعد هذا إلى طبائع الإنسان.
خذ لذلك مثلا حديث الأعاجيب التي سمعها أبو بكر في أيام الدعوة المحمدية فصدقها لأنه يصدق صاحبها ويركن إليه.
هبه قد ثاب إلى معمل التحليل فقال له المعمل إنه لم يسمع بأمثال هذه الأعاجيب، وليس لديه مسبار لها يصلح للتأييد أو التفنيد.
وهبه قد ثاب إلى قضايا المنطق فقالت له: إنها لا تعرف هذه الأقيسة ولا هذه المقدمات ولا هذه البراهين.
وهبه قعد في مكانه بعد هذا وذاك؛ لأن معمل التحليل لا ينشط به إلى الحركة في هذا الطريق، ولأن قضايا المنطق لا تزجيه إلى الجهاد في هذا الميدان - أفكاسب هو إذن؟ أفعاقل هو إذن؟ أفحق ما انتهى إليه وما انتهت إليه الجزيرة العربية من جراء سكونه وإحجامه؟
إن الجزيرة العربية لا تربح شيئا بذلك التمحيص المزعوم، وإن العالم الإنساني لا يزيد عقلا ولا علما ولا تحليلا ولا قضايا منطق بذلك الإحجام الذي استقر عليه، وإن أبا بكر لن يكون خيرا من أبي بكر، والدنيا لن تكون خيرا من الدنيا، والتفكير لن يكون خيرا من التفكير، بل كل من أولئك فاقد وخاسر ومنقوص.
وقصارى ما في الأمر أن رجلا شك فلم يعمل شيئا، ولم يدر أحد بأنه شك ولا بأنه لم يعمل، ولم ينتفع عقل الإنسان بما كان.
أفيفهم فاهم من هذا أننا نقول: إن العمل على خطأ خير من الشك على صواب؟
كلا! ... ليس هذا ما نقوله، وليس هذا ما نحن مضطرون إلى قوله بضرورة من الضرورات.
وإنما نقول: إن الشك إذن هو الخطأ، وإن برهان خطئه نفساني يقام له وزنه كما يقام الوزن للتحليل العلمي والقضايا المنطقية، وإنما الخطأ أن تحوج البطولة إلى الدخول في المعمل لتثبت لك قدرها، وتثبت لك حقها في الإعجاب، وحقها في العمل، وحقها في تحويل تاريخ الإنسان، ثم تثبت لك قدرتها عليه!
ليس المعمل محل هذا.
محل هذا نفس الإنسان.
وساءت الدنيا إن كانت نفس الإنسان لا تغنيه في تقويم النفوس، ولا سيما أعظم النفوس.
أفلا يروعني البطل إلا خلال الأنابيق والأنابيب؟
أفلا تملكني نخوة الإعجاب إلا بوثيقة من إيساغوجي؟
أفيروقني الطائر المنطلق فأعلم لم يروقني، ويتراءى لي الروح العظيم فأقول: مكانك حتى أرجع على مائدة التشريح أو إلى قارورة الكيمياء؟!
ما قال ذلك قائل قط أمام روح عظيم.
والسبب واضح مستقيم.
السبب أن الروح العظيم كان قبل أن تكون مائدة تشريح وقارورة كيمياء، وأن الإنسانية ألهمت خيرا ألا تؤجل الإعجاب بكل روح عظيم إلى أن يظهر المشرحون والمحللون.
ليظهروا «على مهلهم» ولتأخذ العظمة الروحية حقها من الإعجاب قبل إذنهم، فلا مناقضة للعلم ولا للمنطق في ذلك.
إنما المناقضة أن نعلق دوافع النفوس وبواعث الفطرة على شيء لا تتعلق به ولا تتوقف عليه، وأن نخطئ الواقع ثم نخطئ الواقع الصالح ولا سند لنا أوثق من الواقع على كل حال. ولا شفاعة عندنا أكرم من شفاعة الواقع الصالح في كل مآل.
أفيقولون: إن البديهة قد تخطئ في الإعجاب؟
قد تخطئ ولا جدال.
ولكن كذلك يخطئ العقل، وكذلك تخطئ التجربة، وكذلك تخطئ العلوم وتمضي في خطئها مئات السنين. ولم يقل أحد إن قبولها للخطأ ينفي قبولها للصواب، ولا نسي أحد أنها إذا أخطأت مرة فلها امتحان من العواقب يأبى على الخطأ أن يدوم.
على أن تمحيص القضايا المنطقية أو العلمية شيء وتمحيص الشمائل النفسية شيء آخر، وربما كانت وسائل الصديق أقل من وسائل المحللين والمشرحين في العصر الحاضر في باب القضايا المنطقية أو العلمية، أما في باب الشمائل النفسية فوسائله ليست بأقل من وسائلهم بحال، وقدرته على أن يحس من حوله عظمة النفس الإنسانية ليست بأقل من قدرة أحد من المحللين والمشرحين.
وهو قد قال: هذه نفس عظيمة لا شك في عظمتها، فالخير في متابعتها، إن لم يكن بد من افتراق الطريق بينها وبين أعدائها.
وهو فيما قال قد أصاب.
أصاب منطقا وأصاب علما وأصاب حسا وأصاب بكل مقياس من مقاييس الصواب.
هو فيما قال أصوب ممن يخالفه رأيا، ولو استند إلى كل حجة من حجج التحليل والتشريح.
وهاديه فيما اهتدى إليه هو إعجابه بالبطولة.
وهو إعجابه بالبطولة التي تستحق الإعجاب؛ لأن الإعجاب طبقات تتفاوت، كما أن البطولة نفسها طبقات تتفاوت. وقد كان هو من طبقات هذا الإعجاب في أرفع مكان؛ لأنه لم يعجب ببطل تروعه منه سطوة العتاة المتجبرين، ولم يعجب ببطل تروعه منه مظاهر الزخرف والخيلاء، ولم يعجب ببطل تروعه منه جلبة الصيت الفارغ والمواكب الجوفاء، ولم يعجب ببطل يزدهي بالوفر والثروة أو بالعصبة أولي القوة.
لا. لم يكن شيء من هذا هو الذي راعه من بطولة محمد عليه السلام؛ لأن محمدا عليه السلام لم يكن ذا سطوة، بل كان عرضة للأذى من المسلطين عليه، ولم يكن من أصحاب الزخرف والخيلاء؛ بل كان أعداؤه هم أصحاب الزخرف والخيلاء. ولم يكن وراءه أحد يتبعه ولا معه مال يصل به من يصل إليه، بل كان وحيدا يطرده الأكثرون، فقيرا يعينه الموسرون، وأولهم أول صديقيه والمقبلين عليه.
إنما البطولة التي أعجب بها أبو بكر هي البطولة التي ليس أشرف منها؛ بطولة تعرفها النفس الإنسانية، هي بطولة الحق، وبطولة الخير، بطولة الاستقامة، وهي بعد هذا، وفوق هذا، بطولة الفداء يقبل عليها من أقبل وهو عالم بما سيلقاه من عنت الأقوياء والجهلاء.
تلك هي بطولة محمد.
وذلك هو إعجاب الصديق. خير لبني آدم أن يبقى لهم هذا الإعجاب من أن يزول ويبقى بعده كل شيء، وأي شيء! •••
ولقد أجدى ذلك الخلق الكريم أكبر جدواه؛ لأنه تهيأ له بسليقته ونشأته وتوشج تركيبه عليه.
فظهر منه إيمان القلب، وروية الفكر، وفي سياسته العامة، وفي سياسته الخاصة، وما تشتمل عليه من أدب سلوك وعلاقة بالناس.
أحاط به أناس من المشركين يتهكمون به ساخرين عابثين: هل لك إلى صاحبك؟ إنه يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس!
وكان أناس قد ارتدوا بعد إسلام لما سمعوا بحديث الإسراء ولم يتبينوه. فأما أبو بكر فما زاد على أن قال: أوقد قال ذلك؟ لئن قال ذلك لقد صدق!
فغاظهم منه أنهم لم يبلغوا منه موقع التشكيك فيما أربى عندهم على حدود التصديق، وعادوا يسألونه: أتصدق أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وعاد قبل أن يصبح؟
قال: نعم! إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك من خبر السماء في غدوة أو روحة. ثم ذهب إلى النبي عليه السلام فطفق يسمع منه ويصدقه ويقول: أشهد أنك لرسول الله.
وهذا هو البرهان النفساني كما دعوناه، وهو برهان لا خلل فيه من وجهته التي يستقيم عليها، وإن لم يكن هو البرهان الذي تعوده المناطقة والعلماء.
وهنا موضع صالح للتفرقة بين هذه البراهين في ظواهرها، وللتوفيق بينها فيما تنتهي إليه من نشدان الحقيقة الكبرى: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك من خبر السماء.
وفحوى ذلك: إني لأصدقه لأنه أهل للتصديق.
هذا هو أساس الإقناع في منطق الإعجاب والإيمان، فإن كان للمنطق أو للتجربة العلمية أساس آخر، فليس معنى ذلك أن الأساسين متناقضان متدابران، وإنما معناه أنهما نحوان مختلفان.
ولكننا إن فرضنا مع هذا أنهما قد تناقضا وتدابرا فليس الخطأ إذن في جانب الصديق، ولكنه على التحقيق في جانب العالم أو المنطيق.
إن قال العالم أو المنطيق: إنني لا أصدق حديث الإسراء ولهذا أبطل الدعوة الإسلامية وأبطل قبلها العظمة المحمدية، فهو المخطئ في برهانه، وهو الذي تعدى به حدود قياسه؛ لأنه نظر إلى المسألة في غير جانبها الذي ينظر إليه، من حيث كان أبو بكر على صواب كل الصواب في نظرته إليها من جانبها الأوفى، أو جانبها الذي هو مناط التأييد والإنكار.
أبو بكر يأخذ النفس العظيمة مأخذا واحدا ويصدق الخبر فيها جملة واحدة ولا يجزئها قطعة قطعة وخبرا خبرا، فيبطلها كلها بخبر من أخبارها وجزء من أجزائها.
وأبو بكر ينظر إلى المسألة في أساسها فيطمئن إليها عند ذلك الأساس ويبني عليه كل ما فوقه من الإضافات والمزيدات، والمسألة في أساسها هنا هي مسألة الصلاح والفساد، ومسألة التوحيد وعبادة الأصنام.
ومسألة المقابلة بين الأخلاق الجاهلية والأخلاق التي تأمر بها الدعوة المحمدية، ومسألة الثقة بالمقاصد العظيمة والمساعي الكريمة، أو الثقة بالجهل الشائع والعادات الذميمة.
فإذا كان أبو بكر قد نظر إلى هذا الأساس فهو المصيب.
وإذا كان العالم هو والمنطيق لم ينظرا إليه فهما المخطئان، وهما المقيمان للقياس على غير أساس قويم؛ إذ كان خليقا بهما أن ينظرا إليه ولا يغفلا عنه، وهو أولى بالتقديم والاعتبار، سواء أخذناه بالإحساس والإيمان، أو بالتجربة وبالتفكير.
ترى لو مثل العالم والمنطيق والصديق أمام عرش «الحق» السرمد بعد ذلك اليوم بعشر سنين فسألهم فأجابوه كل على ما أجملنا آنفا، فأيهم كان يسخطه وأيهم كان يرضيه؟
يمثل العالم أو المنطيق بين يدي الحق فيسأله: ماذا سمعت قبل عشر سنين؟
فيقول: سمعت من رأى أنه أسري به من مكة إلى بيت المقدس فلم أظفر منه ببرهان.
فيسأله: فماذا صنعت بعد ذلك؟
فيقول: كذبته وصدقت المشركين، ثم نقضت الدعوة الإسلامية، وبقيت حتى اليوم على سنة الجاهلية.
فما يختلف اثنان إذن في الجواب الذي يلقاه ذلك العالم، أو ذلك المنطيق، ليقولن الحق له إذن: إنك أخطأت وخالفت العلم والمنطق فيما صنعت؛ لأن تلك المقدمة لا تنتهي بك إلى تلك النتيجة، وحديث الإسراء على أي معنى فهمته لن يجعل النفس العظيمة لغوا، ولن يجعل عملها العظيم مستحقا للإبطال.
ويمثل الصديق بين يدى الحق فيسأله: ماذا صنعت قبل عشر سنين؟ فيقول: سمعت من رأى أنه أسري به من مكة إلى بيت المقدس فلم أشك فيما رآه.
فيسأله: ولم لم يخامرك الشك فيه؟
فيقول: لأنني صدقته في أمر السماء فما يكون لي أن أكذبه فيما دون ذلك.
فيسأله: فلم صدقته في أمر السماء؟
فيقول: لأنني أعتقد فيه الخير ولا أعتقد فيه السوء، ولأنني أعتقد السوء في منكريه ولا أعتقد فيهم الخير.
ليقولن الحق له إذن: إنك أصبت وتأديت إلى التصديق من طريق صالح للتصديق، ووافقت المنطق والعلم أخيرا، وإن لم تأت معهما في الطريق، وإن هذه السنين العشر لتشهد لك بصدق الوعي ولا تشهد به لمن خالفوك: أخذت في المنطق والعلم بالنتيجة ولم تبال بالمقدمة، وأخذ المخالفون إياك بالمقدمة ولم يبالوا بالنتيجة، فأنت في سبيلك أهدى وأنت إلى المنطق والعلم أقرب وأدنى.
أفيفهم فاهم من هذا أننا ندين بقول القائلين: «إن النجاح هو برهان الصلاح؟»
كلا! ليس هذا ما ندين به، وليس هذا بالذي يقتضيه ما قدمناه، وكل ما هنالك أننا نقرر حقيقة لا شك فيها حين نقول: إن أبا بكر كان أفهم للعظمة المحمدية ممن أنكروها؛ لأنهم شكوا في حديث الإسراء، وإن المنطق والعلم لا يقضيان بمحاربة الدعوة المحمدية كائنا ما كان فهم الفاهمين لحديث الإسراء. فإن قال قائل: إن المنطق والعلم يقضيان بذلك فهو يظلم المنطق والعلم فيما ادعاه عليهما بغير برهان؛ وهو الذي يخالف البرهان النفساني في آن.
ولا حاجة بنا هنا إلى إلغاء البراهين العلمية أو البراهين المنطقية، وإنما حاجتنا كلها ألا تلغى البراهين النفسانية؛ لأنها قد تتناول العظائم الإنسانية في عمومها فينطوي فيها العلم والمنطق معا، وتأتي الأيام بعد ذلك بتفصيل هذا الإجمال وتوضيح هذا الإبهام.
يقول قائل: وما مرجعنا في البراهين النفسانية؟ أنصدق كل من يدعيها؟ أنأخذ بها حيثما رأيناها؟ أندين بالإعجاب حيثما هتف هاتف بإعجاب؟ فأقرب ما عندنا من جواب أن عظمة النفوس مستحقة للإعجاب كما يستحقه جمال الوجوه.
فماذا عسانا قائلين لمن يسألنا: وما مرجعنا في جمال الوجوه؟ ... ولا حاجة هنا إلى مرجع، ولا فائدة في المرجع إن وجدناه.
فجمال الوجوه لا يتوقف على مرجعه الذي نسهب أو نوجز في توضيحه ... وعظمة النفوس من باب أولى قائمة في الدنيا بغير مرجعها الذي نسوقها إليه، ولا خوف عليها من قلة المراجع عندنا، فهي تأتي حين تأتي بآياتها وبراهينها، وحيثما ظهرت عظمة معجبة ظهر لها صديقون معجبون، وأقبل عليها مقبلون، وأعرض عنها معرضون، ولن ينفعها المرجع شيئا إن لم يكن فيها ما يغنيها عنه.
وقد كان في وسعنا أن نجتزئ بهذا ولا نزيد عليه. ولكننا نود أن نستريح بالعقل إلى سند ما أمكننا أن نريحه. فغاية ما نستريح بالعقل إليه في هذا الصدد مأخوذ من كلام الصديق نفسه رضي الله عنه. وذلك إذ يقول: «إن خير الخصلتين لك أبغضهما إليك.» ... فالدعوة التي تزين لنا ما نستنيم إليه ليست بدعوة عظيم، والدعوة التي ترفعنا فوق أنفسنا وتنهض بنا إلى ما يشق علينا هي الدعوة العظيمة في أصدق مقاييسها، وهي التي تفرحنا بالواجب ولا تفرحنا بالهوى، وحسبها ذلك «برهانا نفسانيا» لا نهتدي إلى خير منه، فكل ما عظم بنا فقد كلفنا ما يشق علينا وانتقل بنا إلى طور فوق طورنا، فإن كنا على استعداد لهذا الانتقال مالت إليه نفوسنا كما يميل الجسم إلى النمو وإن كان نموه ليكلفه عنتا عند الولادة، وعنتا عند التسنين، وعنتا عند المراهقة، وعنتا عند بلوغه سن الرشد والاستقلال ... وإن لم نكن على استعداد كرهناه وحسبنا الراحة في كراهته، وهي في الحقيقة داء يمنع النماء.
مرجع «البرهان النفساني» الصادق في تقدير العظمة أنه سبيل الفداء في طريق النماء، وكل ما تركنا كما نحن أو تحدر بنا دون ما نحن فيه فبينه وبين العظمة حجاب، وليس له من ضمائر النفس برهان.
بهذا البرهان النفساني واجه أبو بكر مسألة الدعوة المحمدية من حيث تنبغي مواجهتها، ونظر إليها من جانبها الأصيل الذي تنحصر فيه النظرة الأولى؛ أمحمد إمام خليق بالاتباع؟ أهو بطل جدير بالإعجاب؟ إن كان كذلك فهو معجب به متبع إياه، وإن لم يكنه فلا إعجاب ولا اتباع ... وكل ما وراء ذلك فضول وانحراف عن الجانب الأصيل .
ومحمد بطل جدير بإعجابه، إمام خليق باتباعه، فامتلأ به إعجابا ولازمه اتباعا، وعرف طريق الخير من بداءة الأمر أنه أشق الطريقين، وعوده كرم النحيزة من قبل أن المجد تكليف وجهد، وأن الحق صبر وجهاد، فكانت سنته فيهما أن يحمل المغارم وأن يأخذ بيد المهيض، وأن يجور على نفسه وفاء بحق غيره، فلم تطرقه الدعوة الإسلامية من باب غريب، ولم يصادفه الجهاد للدين على غير تأهيب وتدريب، بل زاده يقينا من طبعه واستواء على نهجه، وجعله في صدر هذه الدعوة مثل الإعجاب والإيمان، وأبرزه للأجيال عنوانا «للشخصية» التي يبلغ بها الولاء للبطولة ذروة مجدها وغاية تمامها، ويستخرج منها كوامن قواها وأحاسن مزاياها، ويستقيم بها على سوائها، ويرتقي بها إلى سمائها، فهو هو أبو بكر في تصديقه وولائه على أحسن ما يكون.
وهو هو الصديق.
برهانه في تصديق الغيب كبرهانه في تصديق الشهادة؛ لأن المرجع فيه إلى شخص القائل لا إلى الشيء الذي يقال.
فلما ارتد بعض المسلمين من حديث الإسراء بالنبي إلى بيت المقدس قال أبو بكر قولته تلك: إني آمنت به في أمر السماء فلم لا أومن به فيما دون ذلك؟
ولما تشاور المسلمون في صلح الحديبية رضي من رضي وأبى من أبى، وظهر هنا منطقان متقابلان: منطق عمر بن الخطاب يقول: إننا على الحق فلم نعطي الدنية؟ ومنطق أبي بكر يقول: إني أشهد أنه رسول الله فلم لا أتبعه فيما ارتضاه؟
ولما اختلف المختلفون في بعثة أسامة كان أمام أبي بكر خطط متعددات يختار منها ما يشاء: منها أن يحتفظ بالجيش لحراسة المدينة، وأن يحتفظ به لحرب أهل الردة، وأن يبعث به إلى العراق ترصدا للفرس المنذرين بالإغارة، وأن يبعث به حيث أراد رسول الله، وإن قال بعض القائلين: إن الحال قد تبدل، وإن المقام يؤذن بالمراجعة فيما أراد - فشاء أبو بكر الخطة التي شاءها محمد عليه السلام، وأبى أن يأذن فيها بمراجعة أو تبديل.
ولما جاءوا بالأعطية يقسمونها كانت التفرقة بين الأقدار أدنى إلى التصرف، وكانت التسوية بين الأقدار أدنى إلى الاتباع. وكان عمر يقول: أنعطي من حارب الرسول كما نعطي من حارب مع الرسول؟ وكان أبو بكر يقول: أنأجرهم على إيمانهم فنعطيهم بمقدار ذلك الإيمان؟ فكان عمر عنوان التصرف وكان أبو بكر عنوان الاقتداء.
ومن أصالة الإعجاب بالبطولة فيه أنه كان مثلا في أدب الملازمة وقدوة في أصول المصاحبة، وكان بفطرته خبيرا بالمراسم التي نسميها اليوم «بالبروتوكول»؛ لأن أدبه في توقير العظمة أدب الطبع الذي يهتدي من نفسه بدليل.
انظر إليه وهو يستأذن أسامة في استبقاء عمر بن الخطاب!
انظر إليه وهو يأبى إلا أن يركب أسامة وهو يشيعه سائرا على قدميه!
انظر إليه وهو ينادي بنته عائشة: يا أم المؤمنين!
هو في كل أولئك المعجب المؤدب بأدب المصاحبة الخبير بمراسم المعاملة، الذي يدري بوحي نفسه كيف يكون التعظيم؟ وكيف يكون السلوك؟ وكيف تصان حقوق المراتب والدرجات؟
قيل: إنه كان إذا قدم على الرسول وفود القبائل علمهم كيف يسلمون وكيف يتكلمون بين يديه عليه السلام.
وكان عليه السلام يوما في المسجد قد أطاف به أصحابه إذ أقبل علي بن أبي طالب فوقف فسلم ثم نظر مجلسا. والتفت عليه السلام يرى أيهم يوسع له، وكان أبو بكر على يمينه فأسرع فتزحزح عن مجلسه وهو يقول: ها هنا يا أبا الحسن! فبدا السرور في وجه النبي، وقال: «يا أبا بكر. إنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل.»
وكأنما خلق أمينا لسر، فما تعوزه صفة واحدة من صفات الأمناء للعظماء الذين يعجبون بهم ويغارون عليهم. ومنها هذا الأدب، ومنها قلة الكلام، ومنها الكتمان عنهم في خاصة شئونهم، وكان أبو بكر في كتمانه عن النبي يتصدى للملام ولا يبوح بكلام.
تأيمت حفصة بنت عمر فعرضها على عثمان، ثم على أبي بكر، ثم خطبها النبي عليه السلام.
قال عمر: «فقال عثمان: سأنظر في أمري، فلبث ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا. ولم يرجع إلي أبو بكر شيئا، فكنت أوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فأنكحتها إياه ... فلقيني أبو بكر فقال: لقد وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قلت: نعم! لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أنني كنت علمت أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله ولو تركها رسول الله قبلتها.»
فهو في هذا الكتمان قد جرى على خير سنة يجري عليها أمناء الأسرار! أشفق أن يذيع سر الرسول عليه السلام فيبدو له في العدول، فتكون في ذلك ملامة، فآثر هو أن يلام على أن يعرض صاحبه لملام.
ومع هذا الكتمان وهذا الكلام النزر كانت له خبرة بكياسة القول هي القدوة العليا لمن جبلوا على مخاطبة العظماء.
فسأل رجلا يحمل ثوبا: أتبيعه؟
فأجابه: لا عافك الله ...
قال: هلا قلت: وعافك الله!
تلك نفس ملكتها شمائل الوقار والتوقير، وامتزجت بها سليقة الإعجاب والتعظيم، حتى فاضت على جوارحها، وسرت مرتجلة إلى جميع حالاتها، فهي هنالك تستشفها في بواطن الضمير وتلمسها فيما ظهر من الأعمال والمعاملات، وتتلقاها من خلجات الذهن وبوادر اللسان، وهي هنالك مفتاح الشخصية كلها تنفذ بنا إلى خفاياها، وتفتح لنا ما استغلق من أسرارها، وتميز لنا بين خصائصها وخصائص الأنفس التي تناظرها في المقام، وتخالفها في المزاج والتركيب.
لقد كان عمر بن الخطاب معجبا بمحمد غاية إعجابه محبا له غاية محبته ولكن «الإعجاب بالبطولة» كان صفة من صفاته ولم يكن صفته الأولى التي تغلب على جميع الصفات، وخليقته الشاملة التي تنطوي فيها جميع الخلائق. فإذا قضى حق الإعجاب بقيت له بقية للمناقشة والمراجعة، واستطاع أن يجمع بين التوقير والاستفسار والتفسير، فكانت له طريق إلى الإيمان تصاحب طريق الإعجاب وتنتهي معها إلى مثل نهايتها آخر المطاف.
أما أبو بكر فقد كان الإعجاب أقرب طرقه إلى الإيمان، وأكبرها على السواء. وهما بعد هذا وذاك ملتقيان.
فإذا كان عمر ثاني المتصرفين بعد نبيه وأستاذه وهاديه، فأبو بكر أول المقتدين بغير سابق، وبغير نظير.
وهما بعد قرينان يتقابلان في كل حركة من حركات التاريخ، وكل ظاهرة من ظواهر الأمم، ولا سيما في إبان الدعوات.
الفصل الخامس
نموذجان
النموذجان المتقابلان في الملكات والأخلاق ظاهرة معهودة في كل أمة، ولا سيما خلال النهضات التي تبرز فيها كوامن الملكات وتمتحن فيها حقائق الأخلاق.
وعهد التاريخ بها في شئون الضمير كعهده بها في شئون المعرفة والحكمة، أو في شئون السياسة والتشريع، أو في كل شأن له أثر بين في أعمال الناس.
فاصطلح النقاد على تسمية هذين النموذجين في المعرفة والحكمة بالنموذج الأفلاطوني نسبة إلى أفلاطون، والنموذج الأرسطي نسبة إلى أرسطاطاليس، أو النموذج الذي يتمثل في النظريات ويتعلق بما وراء الطبيعة، والنموذج الذي يتمثل في التجربة والمشاهدة ويتعلق بالطبيعة وظواهرها المحسوسة.
وفي الأدب والفن يوجد المثاليون عشاق المثل الأعلى، والواقعيون طلاب الواقع الذين يأخذون الدنيا كما هي ويصفون الناس على ما هم عليه.
وفي السياسة محافظون ومجددون، وفي التشريع حرفيون ومعنويون، وفي العقيدة أو فقه العقيدة مقتدون ومجتهدون، وفي ميول الناس ومشاربهم عاطفيون وعقليون، وأصحاب أثرة أو أصحاب إيثار.
وليس المقصود بالنموذجين المتقابلين هنا تقابل الضدين اللذين يتناقضان كما يتناقض الصواب والخطأ، والخير والشر، والعلم والجهل، والهدى والضلال.
ولكن المقصود هو التقابل الذي يتمم فريقا بمزايا فريق، ويعين قوة نافعة بقوة أخرى تكافئها، ويزدوج في عناصر الأمة كما يزدوج الجناحان اللذان يستقل بهما الطائر، ولا يستقل بفرد جناح.
هذان النموذجان معهودان، لازمان.
معهودان على الخصوص حيثما نهضت أمة من الأمم بجميع قواها وجميع مزاياها، وجميع ما فيها من عدد الأهبة والحيطة وبواعث الإقدام والإحجام.
ولازمان في النهضات على الخصوص حيثما تقدمت النهضة في طريقها واحتجب عنها إمامها وهاديها، وأصبح لزاما بعده أن تتقابل القوى، وتتعاون الجهود.
ومن تمام الدعوة المحمدية أنها كشفت هذه النماذج المتقابلة في الأمة العربية بين عشية وضحاها، فإذا الأمة العربية كلها كأنما هي حشد مستعد بكل عدة، متزود بكل زاد.
ظهر فيها أقطاب الشجاعة وأقطاب الدهاء، وظهر فيها المتقدمون والمتحذرون، وظهر فيها الخياليون والعمليون، وظهر فيها كل طرف وما يقابله من طرف يوازنه ويستند إليه.
وبين هذه النماذج كلها نموذجان من الطراز الأول، يوشك أن يجتمع فيهما كل ما تفرق في غيرهما من الملكات والشمائل والميول.
نموذجان كبيران تغيب في أطوائهما جميع النماذج الصغار.
وهما نموذج الصديق ونموذج الفاروق.
بين هذين الرجلين العظيمين تقابل كثير الشعب متعدد الأنحاء؛ تقابل ينتهي إلى التجاذب والإخاء ولا ينتهي إلى التدافع والنفار؛ لأنهما كانا يحومان معا في نطاق كوكب واحد، أو نظام كوكبي واحد كما تحوم السيارات والأقمار حول شمس واحدة هي لها جميعا مركز أصيل لا تنفصل عنه.
وربما دخل في وجوه التقابل بين هذين الرجلين العظيمين أكثر مما أجملناه من الفوارق التي تختلف بها نماذج الناس؛ العقل والعاطفة، والمحافظة والتجديد، والواقع والمثل الأعلى، وما لا يحصى من الألوان والشيات، والأطراف والحدود.
ولكنها على تعددها واختلافها فوارق متناسبة متوافقة تقبل التلخيص في فارق واحد يطويها في معظم نواحيها، وهو الفارق بين نموذج الاقتداء ونموذج الاجتهاد.
كان أبو بكر نموذج الاقتداء في صدر الإسلام غير مدافع.
وكان عمر في تلك الفترة نموذج الاجتهاد دون مراء.
وكلاهما كان يحب النبي ويطيعه ويحرص على سنته ويعجب به غاية ما في وسعه من إعجاب.
ولكنهما في ذلك طريقان يتوازيان، وإن كانا لا يتناقضان ولا يتحدان.
وإن بينهما في ذلك لفرقا لطيف المأخذ، عسير التمييز، نحاول الإيضاح عنه جاهدين، ونرجو أن نبرزه بأوفى ما يستطاع له من إبراز، ونحسب أننا موفقون حين نقول: إن تقديم وصف على موصوف يكفي في الإبانة عن هذا الفرق الدقيق الذي لا ينفسح حتى يتسع لأكثر من هذا التفريق.
فأبو بكر كان يعجب بمحمد النبي.
وعمر كان يعجب بالنبي محمد.
ونزيد القول إيضاحا فنقول: إن حب أبي بكر لشخص محمد هو الذي هداه إلى الإيمان بنبوته وتصديق وحيه.
وإن اقتناع عمر بنبوة محمد هو الذي هداه إلى حبه والولاء له والحرص على سنته، وعلى رضاه.
ولهذا كان أبو بكر صاحبا آمن بصاحبه الذي يطمئن إليه ويحمد خصاله، وكان عمر عدوا رده الاقتناع إلى مودة الرجل الذي كان ينكره ويعاديه.
ولهذا كان أبو بكر يطيع محمدا فيفهم القرآن، وكان عمر يأخذ بالقرآن أو بما يفهم من مشيئة الله فيناقش محمدا حتى يثوب إلى الفهم الصحيح.
هما قريبان جد قريبين.
ولكنهما ليسا بشيء واحد على كل ما بينهما من اقتراب.
أو هما كما قلنا في ختام الفصل السابق: أبو بكر أول المقتدين، وعمر ثاني المجتهدين، وبذلك يتكافآن ولا نقول يتفاضلان.
نعم يتكافآن ويتعادلان، وهذا الذي نريد أن نؤكده ونجتنب فيه سوء الفهم والتفسير.
فليست المقابلة بين هذين الرجلين العظيمين مقابلة بين قوة وضعف، وقدرة وعجز عن قدرة.
كلا، هذا أبعد ما يخطر على بال أحد يدرك فضائل الرجلين العظيمين ويعرف ما لكل منهما من خلق مكين وعمل جليل.
فإن الضعف «سلبي» لا يجنى منه عمل عظيم.
وصلابة أبي بكر في حرب الردة لم تكن صلابة «سلبية» تقول «لا» في موضع «نعم» ولا تزيد.
ولكنها كانت صلابة تثوب إلى قوة لا شك فيها: قوة مصدرها الاقتداء. هذا لا يهم في وصفها بالقوة وإبعادها من صفة الضعف والعجز عن القدرة ... وإنما المهم أنها قوة فعالة، وأنها قوة عظيمة لا مراء.
ليست المقابلة إذن بين هذين الرجلين مقابلة بين قوة وضعف، وقدرة وعجز عن القدرة.
ولكنها مقابلة بين القوة من نوع والقوة من نوع آخر، وكلتاهما فعالة، وكلتاهما ذات أثر في الإسلام، وفي العالم، جليل.
وليس من الضروري اللازم أن يكون كل مقتد أقل في الشأن والأثر من كل مجتهد برأيه، فقد يكون من المقتدين من هو أكبر وأقدر من المجتهدين، وقد يكون الاقتداء وكله خير، ويكون الاجتهاد ولا خير فيه. ولعلنا نوضح هذه الحقيقة بالمثل المحسوس، لأنه أقرب إلى المشاهدة والإقناع.
فالمصابيح الكهربائية منها ما هو أم مستقل بمفتاح، ومنها ما هو تابع موصول بمفتاح غيره.
ويتفق مع هذا أن يكون «المصباح الأم» أصغر حجما وأضعف نورا من المصباح الذي يتبع غيره ويضيء بمفتاحه، وهما أقرب مثل محسوس للاجتهاد والاقتداء.
كذلك الكوكب الثابت والسيارات التي تدور حول غيرها: لا يلزم أن يكون كل كوكب ثابت أصغر من كل سيار دائر، وإن تكرر هذا في العيان وسبق إلى الأذهان.
وعلى هذا النحو كان الفرق بين الصديق والفاروق، بين أول المقتدين وثاني المجتهدين. فهو فرق بين قوة من نوع، وقوة من نوع آخر، ولا محل للضعف في الموازنة بين هاتين القوتين. •••
وهناك مقابلة أخرى بين الصديق والفاروق لا تفوتنا الإشارة إليها؛ لأنها مقابلة أصيلة فيما تئول إليه من الصفات والآثار.
ونعني بها المقابلة بينهما في تكوين البنية وتركيب المزاج، وهي أيضا مثل عجيب من أمثلة التقابل بين هذين الرجلين العظيمين.
فكان أبو بكر نموذج القوة في الرجل الدقيق.
وكان عمر نموذج القوة في الرجل الجسيم.
ومن عجيب المصادفات أن هذا كان غزير الشعر بين الغزارة فيه، وهذا كان أصلع، بين النزارة فيه، ليتم بينهما التقابل حتى في الصفة التي لا يقتضيها اختلاف البنية بين الرجل الدقيق والرجل الجسيم.
قلنا في كتابنا «عبقرية عمر»:
إن العالم الإيطالي لومبروزو ومدرسته التي تأتم برأيه يقررون بعد تكرار التجربة والمقارنة أن للعبقرية علامات لا تخطئها على صورة من الصور في أحد من أهلها. وهي علامات تتفق وتتناقض ولكنها في جميع حالاتها وصورها نمط من اختلاف التركيب ومباينته للوتيرة العامة بين أصحاب التشابه والمساواة. فيكون العبقري طويلا بائن الطول، أو قصيرا بين القصر، ويعمل بيده اليسرى أو يعمل بكلتا اليدين، ويلفت النظر بغزارة شعره أو بنزارة الشعر على غير المعهود في سائر الناس، ويكثر بين العبقريين من كل طراز جيشان الشعور وفرط الحس، وغرابة الاستجابة للطوارئ فيكون فيهم من تفرط سورته كما يكون فيهم من يفرط هدوءه، ولهم على الجملة ولع بعالم الغيب وخفايا الأسرار على نحو يلحظ تارة، في الزكانة والفراسة، وتارة في النظر على البعد أو الشعور على البعد، وتارة في الحماسة الدينية أو في الخشوع لله.
تلك جملة الخصائص العبقرية التي أجملناها من كلام لومبروزو وأشياعه، فكأنما شاء القدر أن يتفق الصاحبان في جوهر العبقرية ويختلفا في أعراضها اختلاف المقابلة ، حتى في غزارة الشعر ونزارته على غير ما يقتضيه هذا الاختلاف.
والمقابلة بين الصديق والفاروق في تكوين البنية وتركيب المزاج كان لها أثر كبير في المقابلة بين الرجلين العظيمين في الخلائق والجهود، فعمر، بما نشأ عليه من الجسامة والهيبة، لم ينشأ وله منبه من البنية ينبهه أبدا إلى وجوب التهدئة والترويض، فمضى بتلك البنية كما يمضي راكب الفرس الجموح غير متوجس من جماحه؛ لأنه مطمئن آخر الأمر إلى العنان.
وأبو بكر، بما نشأ عليه من الدقة والنحول، قد نشأ وله منبه إلى غوائل الحدة التي تعهد من أصحاب هذا التركيب ولا تؤمن غوائلها عليهم، فراض نفسه على التهدئة والترويض، ومضى بتلك البنية كما يمضي راكب الفرس الجموح عودها قبل الدخول في المضمار أن تدع الجماح، وأن تشعر بالعنان القابض عليها في كل حين.
وهنا لا تكون التفرقة أيضا من قبيل التفرقة بين القوة والضعف، وبين القدرة والعجز عنها، ولكنها على ما قدمنا تفرقة بين قوة وقوة تكافئها، أو بين طرازين من القدرة يتقابلان.
فلو كان أبو بكر ضعيفا قليلا لجمحت به الحدة، ولم يعتصم من عزمه إلى كابح قدير على الكبح، فتحطم كما يتحطم الضعفاء.
ولو كان شعوره بنفسه شعور ضعف وقلة لاستقر على هذا الشعور واستكان إليه، ولم يأخذ نفسه بالسمت والوقار، ولا بمناقب السيادة والمروءة، ورضي له ولذويه بما يرضى به الضعفاء.
ولكنه شعر من نفسه بقوة يعتصم بها ويقوى على رياضتها، فكان مثلا للقدرة الرائضة والنفس المروضة كما تكون في الرجل الدقيق النحيل. •••
في حياة الصاحبين موقف من المواقف النادرة التي يظهر فيها الرجل كله، ولا يتفق في التجارب النفسية أن يواجهها الإنسان مرتين في حياته، وهو الموقف الذي فاجأهما بموت النبي عليه السلام.
ليس للصاحبين غير صديق واحد بمنزلة محمد عندهما من المحبة والتجلة، وهما لا يروعان كل يوم بنبأ فاجع يسوءهما كما يسوءهما نبأ موته وانقضاء عشرته والأنس بقربه، فالموقف نادر، والبلية به خليقة أن تبتلي الرجل في كل ما ينطوي عليه من بديهة وروية .
وابتلي به عمر فغضب غضبته المرهوبة وثار بالنعاة يتوعدهم ليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أن محمدا قد مات.
غضب غضبة الرجل المملوء بقوته وحميته، الذي لم ينبهه منبه قط إلى ترويض غضبه، والمبالاة بعواقب ثوراته، وكأنما قام في دخيلة نفسه أنه يستكثر حتى على الموت أن يجترئ على الصديق الذي يحبه ذلك الحب، ويجله تلك التجلة، ويعتقد فيه تلك العقيدة، وينتظر حتى من الموت أن يتحامى جانب ذلك الصديق، ويرعى له حرمة لا يرعاها لسائر الأحياء.
وأبو بكر يحب محمدا كما يحبه عمر، ويأسى لفراقه كما يأسى، ويرفعه مثله درجات فوق مقام الأحياء من قبله ومن بعده، ولكنه رجل راض نفسه وقمع حدة طبعه، وعرض الصبر على ما ليس يدفعه دافع ولا تغني فيه حيلة، فإن كان تسليم فهذا أحق المواقف بالتسليم وأولاها بطول ما ارتاض عليه من صبر، وما تأهب له من أسوة.
بذلك أدى كل من الرجلين ضريبة طبعه ومزاجه الذي لا معدى له عن مطاوعته والاستجابة لدواعيه.
ثم زالت الغاشية الأولى. فظهر الرجلان في حالة القرار كما ظهرا في حالة المفاجاة: ظهر أن عمر لم يكن ثورة كله، بل كانت فيه إلى جانب الثورة روية تفرغ للأمر في أحرج أوقاته، وظهر أن أبا بكر لم يكن روية كله، بل كانت فيه إلى جانب الروية مطاوعة لسليقة الحب والألفة قد تشغله عن العواقب إلى حين.
فبينما هو مشتغل بتجهيز رسول الله إذا بالأنصار يجتمعون في سقيفة بني ساعدة ليتخذوا لهم أميرا دون إخوانهم من المهاجرين، وإذا عمر يتأهب للأمر أهبته، ويعالج الخطب قبل استفحاله، ويأخذ أبا بكر من بيت رسول الله إلى سقيفة بني ساعدة ليبايعه هناك بالخلافة ... ويتقي الحدة من أبي بكر فيهيئ في نفسه كلاما يصلح لذلك المقام يمهد به لكلامه. وفي بعض الروايات أنه فكر في أمر المبايعة قبل ذلك حين لم يفكر فيها أحد من المهاجرين، وأنه شاور أناسا وشاوروه فيما يكون بعد وفاة رسول الله. فما كانت غضبته الثائرة إلا ريثما قبض على العنان بكلتا يديه، ثم كان عنانه ذلك أطوع عنان.
كلا الرجلين العظيمين فيه روية وفيه حدة: تأتي الروية أولا أو تأتي الحدة أولا، ذلك هو موضع الفارق من بوادر المزاج والتركيب، ولكن الروية هناك قائمة في المزاجين حين تراد. •••
وقد نلمس هذه الجوانب المتقابلة من مزاج الصاحبين في كل مسألة ذهبا فيها مذهبين، ونزعا فيها إلى رأيين مختلفين.
من ذلك مسألة الردة، ومسألة خالد بن الوليد، ومسألة الأعطية والنوافل للمؤلفة قلوبهم ولغيرهم من عامة المسلمين.
في كل مسألة من هذه المسائل كان لكل من الصاحبين عند طبعه ومزاجه، أو عند المعهود من وصفه واستقصاء أحواله، دليل أصدق على خلوص الرأي وصراحة الضمير والتوجه إلى الأمر بما يستدعيه عندهما من مقدماته وموجباته، في غير حيد ولا انحراف عن سواء السبيل.
ففي مسألة الردة جنح أبو بكر إلى الصرامة وجنح عمر إلى الهوادة، وفي ظاهر الأمر أن هذا اختلاف على غير المنظور من طبيعة الرجلين، ولكن الواقع أنه لا يخالف المعهود إذا مضينا فيه إلى ما وراء الظاهر القريب.
فقد كان أبو بكر عند طبعه حين أبى أن يترك عقالا مما كان يأخذه رسول الله من فريضة الزكاة، وكان كذلك عند طبعه حين استثاره الاستخفاف به والجرأة عليه، كأنهم يستصغرونه ويتقحمونه، وهو الذي توقر طول حياته من مكانة من يستصغر ويتقحم؛ لدقة في تكوينه وقوة في نفسه تعاف أن تحسب عليه الدقة في التكوين صغرا في المقام.
وقد كان عمر عند طبعه حين أخذ بالتصرف والاجتهاد على حسب اختلاف الأحوال، ووثق من مصير الأمور على الخير بأية حال. •••
أما مسألة خالد بن الوليد فقد كان السؤال فيها: هل يحاسب أو لا يحاسب؟ فكان جواب الصاحبين على حسب المعهود فيهما من مزاج وخليقة، ولم يكن منظورا أن يقضي أحد منهما بغير ما قضاه.
قتل خالد مالك بن نويرة وبنى بامرأته في ميدان القتال على غير ما تألفه العرب في جاهلية وإسلام، وعلى غير ما يألفه المسلمون وتأمر به الشريعة.
أفيحاسب على هذا أو لا يحاسب عليه؟
أول جواب يبدر إلى عمر عن هذا السؤال هو المحاسبة بغير وناء. ولم لا؟ ما الذي يتقى؟ ما الذي يكون؟ إن المبالاة بعقبى حسابه ليست مما يروع عمر ويثنيه، بل لعلها مما يحفزه إلى التحدي والإسراع فيه.
أما أبو بكر فقد استشار هنا طبيعة الاقتداء، وطبيعة الإعجاب بالبطولة وطبيعة اللين والإغضاء، وهي تشير عليه بالإعفاء من الحساب أو بالإمهال به إلى حين.
فهو لا يعزل قائدا من قواد رسول الله وسيفا من سيوفه، وهو لا ينسى بطولة خالد وإن زل أو أخطأ التأويل، كما قال، وهو يؤثر اللين؛ لأنه في عامة أحواله مطبوع عليه ما لم يمسه الأمر فيما يثير. •••
وجاءت مسألة الأعطية فأبى أبو بكر أن يتصرف في تمييز الأقدار وأقدم عمر على التصرف والاجتهاد.
وجاءت مسألة المؤلفة قلوبهم فأعطاهم أبو بكر متبعا سابقة الرسول وأنكر عمر عطاءهم؛ لأنهم كانوا يأخذون ما أخذوه والإسلام ضعيف ...
فأما الآن فماذا عساهم أن يصنعوا إن لم يأخذوا ما يصنعونه كائنا ما كان لا يكرثه ولا يثنيه. •••
وهكذا نستقصي علل الخلاف بين الصاحبين في كل مسألة من المسائل، فإذا هي في مردها خلاف بين قوتين من نوعين، أو خلاف في تناول الأمور على طريقتين، ولم تكن قط خلافا بين قوة وضعف، أو بين حرص وتفريط، أو بين أثرة وإيثار.
ومن المسلم أن القوة ضروب، وأن العظمة صنوف، وأن اللين لا يلين أبدا، والشديد لا يشتد أبدا، فلا بد من اختلاف بين العظيم والعظيم، ولا بد من اختلاف بين عمل العظيم الواحد في أوقات، وليس العجب أن يجري كل منهم على خطته وأسلوبه، وإنما العجب أن تتعدد ضروب القوة وتتعدد صنوف العظمة ثم تتوحد الخطة والأسلوب.
وموضع العبرة - بل موضع الإعجاز فيما تقدم - هو تلك الدعوة التي شملت هذه القوة كلها في طية واحدة، وضمت هؤلاء الرجال جميعا حول رجل واحد، وجذبت إليها أكرم العناصر التي تأتي بالعظائم وتصلح للخير وتقدم على الفداء.
فأوجز ما يقال في تلك الدعوة أنها خاطبت خير ما في الإنسان فلباها أمثال الصديق والفاروق، وأقبل عليها الأقوياء المخلصون من كل طراز، فليست هي بالدعوة التي تخاطب الضعف والضعة، ولا بالدعوة التي تخاطب الطمع والأثرة، ولا بالدعوة التي قوامها الترهيب والترغيب، ولكنها الدعوة التي يجيبها أكرم سامعيها، ويتخلف عنها أقلهم سعيا إلى الخير واقتدارا عليه.
والصديق والفاروق خير نماذج الرجال في الجزيرة العربية، ففي خلائق هذين العظيمين دليل على السر الذي من أجله نادى محمد قومه ومن أجله أجيب، ومن قال من المكابرين والمتعنتين: إن دعوة محمد لم تكن بالدعوة الصالحة فليقل: أي صلاح كان يلقى في الجزيرة العربية مجيبين أكرم وأقدر من هؤلاء المجيبين؟ وأي هداية بين الناس أشرف من الهداية التي تجمع إليها أقوى الأقوياء وأطيب الطيبين، على ما بينهم من تقابل في المزاج والرأي كأعجب ما يكون التقابل بين المختلفين المتفاوتين؟ وأي إقناع أقنع الصديق؟ وأي إقناع أقنع الفاروق؟ الخشية؟ المتعة؟ الشر؟ الطمع؟ لقد كانا إذن آخر من يجيب، وكان خصومهما إذن أسرع المجيبين وأسبق المؤمنين!
الفصل السادس
إسلامه
قيل إن أبا بكر رضي الله عنه كان أول من أسلم، واتفقت الأقوال على أنه كان أول من أسلم من الرجال، وأن السيدة خديجة رضي الله عنها كانت أول من أسلم من النساء، وكان علي رضي الله عنه أول من أسلم من الصبيان، وكان زيد بن حارثة أول المسلمين من الموالي، وهو الذي تبناه النبي عليه السلام.
وقال النبي عليه السلام: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت منه عنده كبوة ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر، ما عكم عنه حين ذكرته له، وما تردد فيه»، فلم سهل إسلام الصديق هذه السهولة التي لم تؤثر عن أحد غيره كما جاء في ذلك الحديث الشريف؟
لعلنا نختصر الطريق على جواب هذا السؤال إذا نحن سألنا عن الموانع دون الإسلام، قبل أن نسأل عن الموجبات ...
لأننا إذا بحثنا عن العقبات فلم نجدها، أو بحثنا عنها فوجدناها قليلة العدد هينة التذليل، بدت لنا سهولة الطريق من غير جهد كبير في البحث عن الموجبات، وعرفنا أنه «لا مانع» فعرفنا أنه لا صعوبة ولا محل للتردد والمقاومة فما الذي كان يمنع أبا بكر أن يجيب دعوة الإسلام؟
بل ما الذي يمنع إنسانا من الناس - كائنا من كان - أن يجيب الدعوة إلى عقيدة جديدة؟
موانع شتى
ومن الحقائق الملحوظة أن هذه الموانع كانت أقل ما تكون في أبي بكر الصديق، فلا نعرف أحدا في عصر النبي كانت موانعه دون إجابة الدعوة الجديدة أقل من موانع هذا الرجل الصادق المصدق، المستعد لإجابة النبي إلى هدايته كأنما كان معه على ميعاد.
يمنع الإنسان أن يصغي إلى دعوة العقائد الجديدة موانع شتى من آفات العقل والخلق والبيئة، تجتمع وتتفرق، ويبتلى الرجل الواحد بها جميعا، وقد يبتلى بمانع واحد منها فيحول بينه وبين الإصغاء والإجابة.
يمنعه أن يجيب الدعوة إلى المصلحين غطرسة، أو سيادة مهددة، أو مصلحة في بقاء القديم ومحاربة الجديد، أو ذهن مغلق لا يتفتح للفهم والتفكير، أو مغامسة للشهوات تحبب إليه أن يستنيم إلى العرف الذي يبيحها ويعزف عن الهداية التي تحظرها وتقف في سبيلها، أو تعصب غضوب للعقيدة التي درج عليها، أو شعور بقوة سلطان تلك العقيدة في أبناء قومه، سواء منهم المتعصبون لها والقابلون لها على المجاراة والمداراة، أو جبن ينهاه أن يخرج على المألوف ويتصدى لسخط الساخطين وإن تبين طريق الاستقامة والسداد، أو إيغال في الشيخوخة يصد الإنسان عن كل تغيير ويميل به إلى كل تواكل ومتابعة وتقليد، أو حداثة سن تجعله تابعا لغيره في الرأي والخليقة وتجعل له شرة تحجبه عن التروية والمراجعة، أو ذلة مطبوعة تلحقه بمن أذله وبسط سلطانه عليه.
فالغطرسة خلة تأبى على صاحبها أن يستمع إلى قول أو يصيخ إلى دعوة، أو يتنزل إلى متابعة إنسان، ترفعا عن الإصغاء قبل أن يهديه الإصغاء إلى موافقة أو إنكار.
والسيادة المهددة توحي إلى صاحبها كراهة التجديد؛ لأنه يحس بالبداهة أن صاحب الجديد أولى منه بالسيادة إن شاع ما جدده بين الناس، فتبطل سيادته ببطلان القديم الذي قامت عليه، وقيام الجديد الذي نسخه وعفاه.
والمصلحة في حالة من الحالات المستقرة تجعل الرجل محبا لتلك الحالة حبه للمنفعة، كارها لتبديلها كراهته للخسارة، ميالا إلى محاربة الدعوة الجديدة قبل أن يبحث فيها ويتعرف وجوه الخير الذي قد يصيبه منها.
والذهن المغلق يجهل ما يقال، ويعادي ما يجهل، وينفر من كل ما يشق عليه، وأول ما يشق عليه أن يفهم شيئا على وجهه السوي، أو يتهيأ للفهم بأية حال. ومغامسة الشهوات تبغض إلى المرء سلوانها والإقلاع عنها، وتقرن عنده دعوات الإصلاح والاستقامة بشؤم التنغيص والتكدير، فيتبرم بها وينزعج لها، كما ينزعج النائم المستغرق أيقظته من نومة لذيذة قد استراح إليها.
والتعصب الغضوب لما اعتقده المرء يثيره أن تمس عقيدته كما يثور لحماية الحوزة أو الذود عن الآباء والأجداد؛ لأنه يحسب عقيدته ملكا له ولآبائه يرد عنها من يهجم عليها، كما يرد صاحب البيت من يهجم عليه.
والعقيدة إذا كانت قوية السلطان غلبت عزتها على عزة العقل والفؤاد، فأصر عليها من كان خليقا أن يعافها ويعرف عيبها لو دعي إلى تركها وهي تتداعى وتتزعزع وتؤذن بالزوال.
والجبن يخيف صاحبه أن يجهر بالحق ويبتعد به عن طريق المخافة، فلا يدنو إلى الصوت الذي عسى أن يقوده إلى الإصغاء فالإيمان فالجهر بما يضير.
والشيخوخة عدو لكل طارق، والحداثة بين طيش يدعو إلى التمرد وطاعة تدعو إلى متابعة الأولياء، والذلة حجاب بين الذليل ونفسه يحجبه وراء من أذله، فلا تصل إليه الدعوة إلا من تلك الطريق.
هذه موانع الإصغاء إلى كل دعاء جديد.
أو هذه أعم الموانع التي تحول بين معظم الأسماع والإصغاء إلى ذلك الدعاء.
ومن الحقائق الملحوظة - كما أسلفنا - أن أبا بكر كان براء منها جميعا، أو كان كأبرأ الناس منها في عهد الدعوة المحمدية.
فلم يكن متغطرسا، بل كان مشهورا بالدعة والتواضع، مؤلفا لقومه كما قال واصفوه «محبا سهلا ...» وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته.
ولم يكن مهددا في سيادة مضروبة على أعناق الناس، فكان من ذوي الشرف في قريش، ولكنه لم يكن من قبائلها الساطية التي تستطيل بالبغي والطغيان، كان من «تيم» وهي بيت قرشي معدود، ولكنه لم يمنع أبا سفيان أن يقول كما قال لعلي بن أبي طالب يستثيره حين بويع أبو بكر بالخلافة: «ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش وأقلها؟» ولم تكن «تيم» أذل قبيلة في قريش كما قال أبو سفيان، ولكنها على أية حال لم تكن بمقام السطوة والسيادة التي تطمس الضمائر والألباب.
ولم تكن لأبي بكر مصلحة في دوام الجاهلية؛ لأن عمله فيها كان ضمان المغارم والديات، وربما كان هذا العمل أدنى إلى الخسارة منه إلى المنفعة والغنيمة، فلا راحة ولا أسف عليه. أما التجارة فلا خوف عليها من الدعوة الجديدة، وصاحبها الداعي إليها تاجر يبيحها ويزاولها ويحض عليها.
ولم يكن مغلق الذهن ولا وصفه أحد بهذه الصفة من محبيه أو شانئيه، بل كان معروف الذكاء يلمح اللحن البعيد فيدركه ويسبق الحاضرين إلى فهمه والفطنة لموضع الإشارة فيه، كما حدث غير مرة والنبي عليه السلام يتحدث أو يعظ الناس.
ولم يكن مغامسا للشهوات، بل كان يكره ما شاع منها بين الجاهلين من ذوي الأقدار والأخطار، فلم يشرب الخمر ولم يركب الدنس ولم يشتهر قط بوصمة يعيبه بها من أسرعوا إلى معاتبته يوم هجر عقيدة الجاهلية وجنح إلى عقيدة الإسلام.
ولم تكن عبادة الأوثان عقيدة مكينة السلطان في عهد الدعوة المحمدية، بل كان أناس يهملونها وأناس يبحثون عن غيرها، وأناس يؤثرون عليها المسيحية واليهودية، فلا يصابون بمكروه في أكثر ما سمعنا من أخبار أولئك المتمسحين أو المتهودين.
وعلى هذا لم يكن أبو بكر متعصبا للجاهلية وعباداتها، بل لعله كان مزدريا لها مستخفا بالأصنام وبأحلام عابديها، وإذا صح ما جاء في «أنباء نجباء الأبناء» فهو لم يسجد لصنم قط: وقال: «لما ناهزت الحلم أخذ أبو قحافة بيدي فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام فقال: هذه آلهتك الشم العوالي، وخلاني وذهب، فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني! فلم يجبني. فقلت: إني عار فاكسني! فلم يجبني. فألقيت عليه صخرا فخر لوجهه.»
ولم يكن الصديق بالجبان، ولا بالشجاع الذي نصيبه من الشجاعة قليل، بل كانت شجاعته تفوق شجاعة الأبطال المعدودين في الجاهلية والإسلام. فثبت مع النبي في كل وقعة حين ولى من ولى وأبطأ من أبطأ، وغامر بحياته في حروب الردة وله مندوحة عن خوضها، ولم يذكر في أخباره قط خبر نكول أو خوف على حياة ومال.
ولم يكن شيخا فانيا متابعا لكل قديم، ولا حدثا صغيرا تطيش به شرة الشباب حين دعاه محمد إلى دينه وهداه، بل كان رجلا ناضجا في بسطة الرجولة، يفقه الأمور ويعتدل بين الصبا الباكر والكهولة المولية، ويزن القول بفهم نافذ وحكم صادق، وعقل راجح يعرف الترجيح. •••
تلك جملة الموانع التي تحول بين الإنسان وقبول الدعوات الجديدة إلى الإصلاح، وكلها هنا غائبة على الأقل إن لم نقل: عن جانب الدواعي في مكانها أوضح من جانب الموانع، ومعنى ذلك أن الصديق لم تكن بينه وبين الإسلام عقبات تصده عن وروده، وأن طريقه إليه كانت ممهدة مفتوحة يخطو فيها خطوته الأولى فلا يلبث أن يتبعها بخطوات.
على أن الأمر لم يقتصر على قلة الموانع في طريق الصديق إلى الإسلام. فقد كانت هناك الدواعي التي أشرنا إليها في مكان تلك الموانع، وكانت للصديق خلائق عاملة تقربه من العقائد القويمة، وتجعله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا حاجة به إلى أكثر من ذلك ليفرق بين سنن الجاهلية وسنن الإسلام، ويميز بين ما هو حقيق بالترك والإعراض، وما هو حقيق بالحرص عليه والإيفاض إليه.
كان الرجل صادق الطبع مستقيم الضمير، لا يلتوي به عما يعلم أنه الحق عوج ولا سوء دخلة، وعرف باسم الصديق إذ عرف الناس فيه الصدق من أيام الجاهلية قبل أن يدين بالإسلام؛ لأنه كان يضمن المغارم والديات فيصدقونه ويعتمدون على وعده ويركنون إلى وفائه، وقيل: إنه سمي الصديق لتصديقه النبي في كل ما أنبأه به من المغيبات والبشائر ولكنهم لم يختلفوا في تصديق ضمانه والاعتماد على وعده، وإن اختلفوا في سبب التسمية وفي ميقاتها من الجاهلية أو الإسلام.
ومن كان على هذا الصدق في الخليقة فلا حجاز بينه وبين دعوة إصلاح، وليس من شأنه أن يصم أذنيه عن قول صادق ودعاء مستقيم، ولا أن يعادي الحق ويلج في عدائه، شنشنة المكابرين المستكبرين.
وكان مطبوعا على الحماسة لما يعتقد فيه الخير والصلاح، يطلب العقيدة ويطلب المعتقدين بها والمهتدين إليها. يبدو ذلك من إسراعه إلى التبشير بالإسلام ساعة أن اهتدى إليه، فدخل في الدين على يديه نخبة من أسبق الصحابة وأخلصهم للنبي عليه السلام وأعظمهم أثرا بعد ذلك في قيام الدولة الإسلامية، كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبد عبيد الله، وجعل لا يهدأ ولا يستريح حتى أدخل في دينه أمه وأباه وذويه.
وتبدو حماسته لاعتقاده من إلحاحه على النبي أن يظهر بالمسلمين في نواحي المسجد وهم دون الأربعين عددا، ومن قيامه بينهم خطيبا يجهر بالدعوة إلى الله، والمشركون متربصون ثائرون، حتى أصابه من ذلك أذى شديد خيف عليه الموت منه، وتركه المشركون وهم لا يشكون في أنه مات أو أنه مائت عما قريب.
وتبدو هذه الحماسة من اتخاذه مسجدا لصلاته وتلاوته على قارعة الطريق، يسمعه حين يقرأ كل عابر، ويتوعده المشركون فلا يفزع من وعيد. ولما جاءه الرجل الذي أجاره من المشركين على أن يكتم إسلامه فخيره بين الكتمان أو رجع الذمة إليه، لم يتردد في رد ذمته وقال له: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل.
ورجل مطبوع على سماع الحق وتصديقه والدعوة إليه والحماسة له غير عجيب أن يسرع إلى العقيدة الجديدة هذا الإسراع.
وإلى هذا كان قريبا من السليقة الدينية التي تتراءى في مكاشفة الغيب واستطلاع الرؤى والهواتف وانفتاح النفس لإشارات الإيحاء والاستيحاء، ويروى عنه أنه رأى قبل البعثة وهو بالشام رؤيا تنبئ بقرب ظهور النبوة في البلاد العربية، ويعرف عنه على التحقيق أنه كان يعبر الرؤيا بين يدي النبي عليه السلام ويستأذنه في تفسيرها ويحتفل هو بما يراه في منامه.
وإلى هذه القربى من الإيمان بالغيب كان لطيف الحس خاشع النفس عظيم الرفق والمودة، لا ترين على قلبه تلك الغلظة التي تغلق أبواب القلوب وإن تفتحت الأذهان، فكان خشوعه يبكيه وفرحه يبكيه، وسليقته الدينية كاملة لا يعوزها إلا القبس الذي يلمسها، فتضيء ثم لا ينطفئ لها ضياء.
وكان مع الصدق وحماسة العقيدة ومقاربة الغيب وموحياته ونجاواه بليغا متذوقا للبلاغة، كثير الرواية للشعر والاسترواح للكلام الحسن الفصيح، فكان في ازدرائه لكلام المتنبئين غضب تلمح فيه عيفان الذوق البليغ كما تلمح فيه عيفان المؤمن الناقم على الضلال، سمع فقرات من قرآن مسيلمة الكذاب فما عتم أن ابتدر قارئيه مشمئزا من سخفه وإسفافه: «ويحكم، إن هذا لم يخرج من إل ولا بر!»
ولا جرم يكون هذا الذوق المستقيم سببا قريبا بين صاحبه وبلاغة القرآن وبلاغة النبي عليه السلام.
إلا أن سبب الأسباب جميعا في التقريب بين الصديق وبين الدعوة المحمدية هو ذلك السبب الغالب على كل ما ذكرناه؛ لأنه يمتزج بأطواء نفسه ويصبغها بصبغته وينحو بها أبدا في منحاه، ونعني به الإعجاب بالبطولة، ذلك الإعجاب الذي نحسبه ملاكا لأخلاقه ومفتاحا لشخصيته كما فصلناه في غير هذا الباب.
فالرجل المعجب بالبطولة يعرف بطله، ثم يثق به، ثم يرتقي بالثقة إلى ما فوقها وما هو أمكن منها؛ لأن الثقة استناد إلى وثيقة تدعو إليها على حسب ما فيها من بيناتها وبراهينها، أما الإعجاب فهو الرغبة في الثقة وكراهة التحول عنها، هو البحث عن الثقة والتذاذها إذا وقف الواثقون عند الانتظار أو مجرد التأمين والموافقة بعد الانتظار.
وقد تواترت أنباء مختلفة بصداقة أبي بكر للنبي عليه السلام قبل الدعوة المحمدية بسنين، وذكر المؤرخون الثقات أنه كان معه عليه السلام حين ذهب في صحبة عمه إلى الشام واجتمع بالراهب بحيرا وسمع منه ما سمع عن الدين والبشارة بالنبوة. وقد شك بعض المؤرخين من الأوروبيين في اتصال المودة بين الصفيين قبل الدعوة المحمدية بزمن طويل، إلا أن الدليل الذي يغني عن وثائق التاريخ أن أبا بكر كان باتفاق الأقوال أول المستجيبين لدعوة محمد من غير أهله، ولن يكون ذلك بغير معرفة سابقة بين الرجلين حببت إلى النبي عليه السلام أن يبدأ به ويترقب منه الإصغاء إليه، وأيسر ما يستلزمه ذلك السبق إلى الإسلام أن يكون أبو بكر معروفا بصفاته لمحمد وأن يكون محمد معروفا بصفاته لأبي بكر. فلما سمع دعوته سارع إلى تصديقه وهو معجب به وباستقامة طبعه ونقاء سيرته وبلاغة حديثه، وأعانه على التفرقة بينه وبين خصومه، والتمييز بينه وبين منكريه أنه كان نسابة قريش لا يفوته مغمز من مغامزهم قديمها وحديثها في الأنساب والأخلاق، ومحمد عنده مطهر من كل ذلك براء. •••
من جملة ما تقدم تتبين لنا سهولة اتجاه الصديق إلى الدعوة المحمدية، سواء من ضعف العقبات في طريقه أو من قوة الدواعي التي تجذبه إليه، فقد اجتمعت هذه وتلك على تفسير تلك الأعجوبة النادرة في تاريخ الدعوات الجديدة: أعجوبة رجل في سمت الرجولة يقال له: تعال إلى دين جديد غير دين آبائك وأجدادك، فلا يتوانى ولا يتردد في إجابة الدعوة، وما هو إلا أن يسمعها حتى يلبيها وينقطع لها، ويصبح من أقوى دعاتها بعد صاحبها.
ومن تمام الجلاء في تفسير تلك الأعجوبة أن نفهمها على حقيقتها في جميع أحوالها وملابساتها، وأن نفهم الفارق بينها وبين نظائرها لو جرت في عصرنا الحاضر، أو بيئة أخرى غير البيئة التي جرت فيها ...
فنحن نسمع بقصة أبي بكر وتصديقه السريع للدعوة المحمدية فنحضر في أخلادنا رجلا من المسلمين أو المسيحيين أو الإسرائيليين في عصرنا الحاضر يقال له: تعال إلى دين غير دينك ودين آبائك وأجدادك، فيجيب الداعي لتوه وساعته كأنها تحية وجوابها.
وهي أعجوبة عندنا يوشك أن يأباها العقل وأن تمتنع على التصديق.
ولكن إسلام أبي بكر لم يكن من هذا القبيل، ولم يكن الدين الذي تحول عنه كالدين الذي يؤمن به المسلم في هذه الأيام.
لم يكن دين المشركين من قريش دينا من أديان الروح وعقيدة من عقائد الضمير.
لم يكن له شأن بالحياة الصالحة ولا بالحياة الباقية ولا بالنظر إلى الكون في أسرار خلقه ولا بالجماعة الإنسانية في قوام أمرها ومناط الخير والشر فيها والصلاح والفساد بين رجالها ونسائها.
ولم يكن التابعون له ينظرون إليه هذه النظرة أو ينظرون هذه النظرة إلى دين آخر أو عقيدة أخرى.
ولكنهم كانوا ينظرون إلى عقائدهم نظرتهم إلى الموروثات المألوفة والعرف المتفق عليه، أو نظرتهم إلى العادات التي ترتبط بها مصالح العيش ومصالح السيادة والجاه، وكان يعز عليهم أن يقال لهم: إن آباءهم وأجدادهم هالكون، وإن الدين الذي نشئوا عليه وماتوا دين سخف ومهانة وضلال. فكانوا في ثورتهم على الدعوة الجديدة أشبه الناس بأبناء القرى والمدن الذين يثورون على رجل يبتدع في الولائم والأفراح والجنائز بدعة تخالف المألوف وتهدد مصالح الوجهاء أو ما يسمونه «شرف الأسرة» وسير البلدة وعادات الناس، وتهدد مع تهديدها الوجهاء مصالح العاملين في شئون الزواج وشعائر الوفاة، وما إلى ذلك من الرسوم والعادات.
وكان المشركون لا يبالون أن يخرج على دينهم من يخرج عليه ناجيا بروحه خاليا بنفسه بينه وبين ربه، فعاش بينهم اليهود والمسيحيون والمتهودون والمتنصرون وهم في دعة وأمان إلا من أذى الأقارب المخالفين لهم في قليل من الأحيان، وإنما كانوا يثورون على الدعوة العامة التي تبدل العرف كله، وتخرج الجماعة من مألوفاتها وقواعدها التي استقرت عليها. فكان الثائرون في وجه الدعوة المحمدية من مشركي قريش بين رجل من ثلاثة لا يعدوهم إلى رابع: رجل صاحب سيادة تتصل سيادته ببقاء الأمور على ما هي عليه، ورجل من الأذناب الذين لا يعقلون ولا يحسون الظلم والفساد ولا يفعلون إلا ما يأمرهم به السادة المسيطرون، ورجل لم يصغ إلى الدعوة الجديدة حق الإصغاء، ولم يتسع له الوقت للتفرقة بينها وبين العرف القديم.
وما عدا هؤلاء جميعا فهو قريب من الدعوة المحمدية لا يمنعه مانع أن يتجه إليها متى أصاب الوجهة التي تهديه في طريقه، وليس معنى ذلك أن التغلب على العرف الجاهلي كان من الهنات الهينات أو كان أهون من التغلب على سائر العقائد والأديان، فليس أصعب ولا أعضل في الحقيقة من التغلب على عرف ترتبط به مصالح السيادة وغباوة الدهماء وتراث الأجداد والآباء، وإنما معناه أن الأمر لا يعم جميع المشركين ما لم يكن واحدا من أولئك الثلاثة، وهم ألوف وألوف.
وأبو بكر رضي الله عنه لم يكن واحدا من هؤلاء.
وكان مع هذا رجلا يحس بالروح والضمير، ويحس الخواء الذي تتركه العقائد الجاهلية في حياة الروح والضمير.
وقد عافاه الله من سبب قوي من أسباب الثورة على الدعوة المحمدية بين المشركين المعتزين بالآباء والأمهات. «أأبي على الضلال؟ أأمي مع الهالكات؟» تلك خاطرة كانت تهجس في نفس المشرك من قريش فيغضب ويثور ويحسب الدعوة الجديدة في عداد السباب الموجه إلى أقرب الناس إليه وأعزهم عليه.
أما أبو بكر فقد عافاه الله من ذلك إبان الدعوة المحمدية؛ لأنها ظهرت وأبوه وأمه بقيد الحياة مفتوح لهما باب النجاة، فما زال بهما حتى دخلا معه في دينه، واطمأنت نفسه على أبيه وأمه وبنيه.
وفيما عدا هذا قيل له: دع هذه البقايا الفاسدة وأقبل ومن تحب على دين جديد فيه الخير والصلاح والهداية إلى خالق الأرض والسماء.
فلم لا يترك تلك البقايا الفاسدة؟ ولم لا يقبل على الدين الجديد؟
إنه لا يحب بقايا الجاهلية، ولا يربطه بها شح ولا كبرياء ولا ذلة ولا غباء، وإنه ليفهم ويعقل ويحب الخير والصلاح ويحس في قلبه جيشان الروح والضمير، وإن الذي يدعوه لكريم حليم صادق قويم حبيب إلى النفس مبرأ من العيب يحق له أن يجاب، وإنه لا يخاف لأنه شجاع، ولا يقابل الأمر بفتور المستخف لأنه رجل حي الفؤاد مطبوع على الحماسة لما يؤمن به والإعجاب بمن يستحق عنده الإعجاب.
فالعجب أن يدعى إلى تلك الدعوة فلا يجيبها أسرع ما يكون الجواب، وليس العجب أن يسرع إلى إجابتها كما أسرع فأجاب.
وهكذا يبين لنا في إسلام أبي بكر كما بان لنا في إسلام كل رجل ذي بال من السابقين إلى الدعوة المحمدية أنها دعتهم إليها بأسبابها المعقولة فاستجابوا إليها بأسبابهم المعقولة التي توائم كلا منهم أصدق المواءمة، ولا تحوج أحدا من المعللين والمفسرين إلى الخوارق المكذوبة، أو إلى تفسير الأمر بالوعد والوعيد ورغبة الجنة ورهبة السيف.
وكما قلنا في كتابنا «عبقرية محمد»:
إن الأقوياء لم يسلموا خوفا؛ لأنهم أقوياء، وإن الضعفاء لم يسلموا خوفا؛ لأن الإسلام عرضهم للقتل والعذاب ولسيوف المشركين الذين لهم عليهم سيادة وطغيان، وما كفر الذين كفروا لزهد ولا شجاعة فيقال: إن الذين سبقوهم إلى الإسلام قد فعلوا ذلك لشغب بلذات الجنة وجبن عن مواجهة القوة، ولكنهم اختلفوا حيث تطلب طهارة السيرة وصلاح الأمور فمن كان أقرب إلى هذه الطلبة من غني أو فقير ومن سيد أو مستعبد فقد أسلم، ومن كان به زيغ عنها فقد أبى، وهذا هو الفيصل القائم بين الفريقين قبل أن يتجرد للإسلام سيف يذود عنه، وبعد أن تجرد له سيف تهابه السيوف، وما يقسم الطائفتين أحد فيضع أبا بكر وعمر وعثمان في جانب اللذة والخوف، ويضع الطغاة من قريش في جانب العصمة والشجاعة إلا أن يكون له هوى كهوى الكفار ... •••
كان الصديق إذن أول رجل من شرفاء العرب دان بالإسلام بعد نبيه عليه السلام. دان به سريعا إلى دعوته لتلك الأسباب التي تليق به وتليق بالدعوة المحمدية، وكتب له في اللحظة الأولى أن يكون ثاني اثنين حين يكون النبي هو أول الاثنين. فكان ثاني اثنين في الإسلام، وثاني اثنين في غار الهجرة، وثاني اثنين في الظلة التي أوى إليها النبي يوم بدر الذي لا يوم مثله، وثاني اثنين في كل وقعة من الوقعات بين المسلمين والمشركين، وأقرب صاحب إلى النبي في شدة الإسلام ورخائه، وفي سره وجهره، وفي شئون نفسه وشئون المسلمين.
ومن اللحظة الأولى وهب للإسلام كل ما يملك إنسان أن يهب من نفسه وآله وبنيه. فأخذ أمه إلى النبي لتسلم على يديه وهي بين الحياة والموت، وجاءه بأبيه بعد فتح مكة ليسلم على يديه وقد جلله الشيب وابيض رأسه كأنه ثغامة ، وحمل ماله كله وهو يهاجر في صحبة النبي يؤثر به الدين على الآل والبنين.
والروايات في توجيه الدعوة إليه مختلفات: منها ما يؤخذ منه أن النبي عليه السلام وجه الدعوة إليه خاصة فلباها، ومنها ما يؤخذ منه أنه عليه السلام قصد الناس في المسجد بالدعوة العامة فاتصل نبؤها بأبي بكر فجاءه يسأله: يا أبا القاسم! ما الذي بلغني عنك؟
فسأله النبي: وما بلغك عني يا أبا بكر؟
قال: بلغني أنك تدعو إلى توحيد الله، وزعمت أنك رسول الله.
قال: نعم يا أبا بكر. إن ربي جعلني بشيرا ونذيرا، وجعلني دعوة إبراهيم، وأرسلني إلى الناس جميعا.
فما أبطأ أبو بكر أن قال: والله ما جربت عليك كذبا، وإنك لخليق بالرسالة لعظم أمانتك، وصلتك لرحمك، وحسن فعالك. مد يدك فإني مبايعك.
والصدق والأمانة وصلة الرحم وحسن الفعال صفات يفهمها أبو بكر؛ لأنه يحبها ويتصف بها، ويحب أهلها. فهو صادق أمين رحيم حسن الفعال، وتلك أقرب الآيات إلى لبه وقلبه، وهي أولى الآيات بالتصديق عند الصادقين المصدقين، فمن الجائز أن تخدعنا الخوارق وليس من الجائز أن يخدعنا من يصدق ويبر ويؤدي الأمانة، ويستقيم على سواء الطريق في فعاله وخصاله.
وأصبح الإسلام منذ تلك اللحظة دينا عند أبي بكر يقابل الدنيا بما وسعت من خيرات وطيبات. أصبح عنده غنيمة يفتديها بكل غنيمة يضن بها المرء من حياة أو آل أو ذرية ومال، ولو قاسه بمقياس دنيا. لقد كان الإسلام بلية عليه لا يطلبها عاقل، ولكنه قاسه بمقياس دين فعلم أنه أربح الرابحين وأرشد الراشدين.
طلبه دينا وكفى. فصبر فيه على ما يجزع منه طالب الدنيا، ويأبى أن يستهدف له أو يشارفه من بعيد.
كان المسلمون دون الأربعين يوم أشار على النبي أن يجتمعوا في المسجد ويجهروا بالدعاء. فلما وقف بينهم في المسجد يدعو إلى الله ورسوله وثب عليهم المشركون يضربونهم ويؤذونهم ويوسعونهم إهانة مع الضرب والإيذاء، وتصدى عتبة بن أبي ربيعة لأبي بكر فجعل يضربه بنعلين مخصوفين حتى ورم وجهه، وخفي على الناظر إليه مكان أنفه. وتسامع أهله من بني تيم فأقبلوا يتعادون ويجلون المشركين عنه، ثم حملوه في ثوب إلى بيته وما يشكون في موته.
وصاح منهم صائحون في المسجد: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة.
ثم أحاطوا به يكلمونه حتى أفاق وأجاب، فكان أول ما فاه به وهو في تلك الحال: ما فعل رسول الله؟
فلاموه وعنفوه، وسألوا أمه أن تطعمه أو تسقيه شيئا يرد إليه نفسه فأبى أن يأكل أو يشرب حتى يعلم ما فعل رسول الله.
قالت: والله ما أعلم بصاحبك.
قال: فاذهبي إلى بنت الخطاب فاسأليها عنه.
فلما جاءتها أنكرتها وأشفقت أن تكون عينا من عيون المشركين عليها وعلى رسول الله. فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله! ثم عرضت عليها أن تذهب إلى أبي بكر لتسمع منه وتطمئن إلى مقاله. فوجدته صريعا دنفا قد برح به الألم، فغلبها الإشفاق فأعلنت بالصياح وهي تقول: إن قوما نالوا منك لأهل فسق، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك.
فما زاد على أن كرر سؤاله الذي لزمه مذ أفاق من غشيته: ما فعل رسول الله؟
قالت وهي لا تزال حذرة من أمه: هذه أمك تسمع!
قال: لا عين عليك منها.
قالت: سالم صالح!
فلم يكفه ذلك حتى يراه بعينه، وسألها: أنى هو؟ فأعلمته بمكانه من دار الأرقم بن أبي الأرقم، وأحب أن يذهب إليه، وكأنه أحس من أمه ممانعة في خروجه وهو بتلك الحال، حتى يتبلغ بشيء ويذوق شرابا يرويه ويقويه، فأقسم لا يذوقن طعاما ولا شرابا أو يرى رسول الله.
وأكبرت المرأتان العطوفان حبه لصديقه ونبيه، فأمهلتاه حتى هدأت الرجل وسكن الناس، وخرجتا به يتكئ عليهما ولا يقدر على حمل نفسه. ثم دخلتا به على رسول الله وهو بتلك الحالة فانكب عليه يقبله، ورق الرسول لصديقه وصفيه رقة شديدة، فقال الصديق الصفي: بأبي أنت وأمي! ليس بي إلا ما نال الفاسق من وجهي، هذه أمي برة بوالديها فادعها إلى الله! وادع لها عسى أن يستنقذها بك من النار.
ولبث بين المشركين يستهين بالخطر على نفسه، ولا يستهين بخطر يصيب النبي قل أو كثر حيثما رآه واستطاع أن يذود عنه العادين عليه، وإنه ليراهم آخذين بتلابيبه فيدخل بينهم وبينه وهو يصيح بهم: «ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟» فينصرفون عن النبي وينحون عليه يضربونه ويجذبونه من شعره فلا يدعونه إلا وهو صريع.
ولما أذن له النبي في الهجرة إلى الحبشة بعد ما ابتلي به من عنت المشركين غضب لرحلته الأكرمون من القوم ولحق به ربيعة بن فهيم المعروف بابن الدغنة فقال له: إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج. إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار. ارجع واعبد ربك ببلدك.
وطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش يبلغهم أنه أجار أبا بكر فعرفوا له جواره وقالوا له: مره فليعبد ربه في داره يصلي فيها ويقرأ ما يشاء، ولا يؤذينا ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
إلا أن أبا بكر بنى بفناء الدار مسجدا يصلي فيه ويرتل القرآن، ويستمع له النساء والأطفال فيجتمعون إليه. منهم من يسخر ومنهم من يعجب ويسأل عن الخبر. ففزع المشركون وطلبوا إلى ابن الدغنة أن ينهاه أو يسترد منه ذمته، فأبى أبو بكر أن ينتهي عن الجهر بالصلاة والقراءة، وقال لابن الدغنة: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل!
وبقى بمكة طوال مقامه بها يعمل لدينه ولنبيه ولا يعمل لنفسه إلا ما ليس عنه غنى من طلب المعاش، يدعو وجوه الناس ويعرض الأمر على القبائل، ويغني في الدعوة بصلاح سيرته ورجاحة قدره ويقين الناس باستقامة قصده، ما قل أن يغنيه دليل العقل أو نقاش الجدل والملاحاة. وكان يتعرض للأذى فلا يعنيه أن يتقيه كما يعنيه أن يقي منه النبي وسائر المسلمين. فكان يعين الفقراء ويعتق الموالي الذين يسامون العذاب في سبيل الله، أو يحمل المغارم ويهيئ لمن أراد الهجرة وسائلها، ولا يكون عمل من الأعمال ينفع الدين الجديد وينفع أهله إلا وله سهم فيه.
ثم كانت هجرته إلى المدينة فكانت أخطر هجرة أقدم عليها مسلم من أهل مكة؛ إذ كان كفار قريش يقيمون لكل مهاجر من الأرصاد والعيون كفاء قدره، وكانت أرصادهم وعيونهم على النبي أكثر ما استطاعوا من عدة وكيد وحيطة. فكانت الهجرة في صحبة النبي شرفا من شرفين، لا يدري المرجح بينهما أيهما أحق بالإعظام: إما مجازفة بالحياة، وإما يقين لا يخامره الريب أن النبي ناج في حماية ربه، ولو كان في الهجرة ما فيها من فراق الموطن أو الهجوم على فراق أرهب منه وأقسى، وهو فراق الدنيا.
فتلقى أبو بكر الإذن بهذه الهجرة كما يتلقى البشارة بالسلامة. قالت بنته عائشة رضي الله عنها: «ما شعرت قبل ذلك أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي حين أذن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بصحبته.»
وقالت بنته أسماء رضي الله عنها: «لما هاجر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وهاجر أبو بكر معه احتمل أبو بكر ماله كله خمسة آلاف درهم أو ستة. فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره. وقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله كما فجعكم بنفسه. قلت: كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا، وأخذت أحجارا فوضعتها في كوة البيت الذي كان أبي يضع فيه ماله، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده وقلت: يا أبت، ضع يدك على هذا المال. فوضع يده عليه وقال: لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكني أردت أن أسكن الشيخ.» •••
وكذلك أقبل الصديق على الإسلام وهو عالم بالذي هو مقبل عليه. لم يقل له أحد ولا قال هو لنفسه: إن الأمر أهون مما توقع، وإن البلاء بعقيدته التي تحول إليها أخف ما وجد، فلم يجد نصبا وكان يرجو الراحة، ولم يجد غرما وكان يرجو المنفعة، ولم يجد عداء من قومه وكان يرجو منهم المودة، ولم يجد خطرا وكان يرجو السلامة، وإنما دخل في شيء يتوقع ما هو ملاقيه فيه، ويراه دون حقه من المصابرة والحفاظ والاحتمال؛ لأنه الدين، لأنه الحياة الفانية والحياة الباقية، لأنه الحق ودونه الباطل، والهدى ودونه الضلال.
فما أقبل إنسان قط أصدق من هذا الإقبال، وما تأهب إنسان قط لبلاء في سبيل ضميره وربه أعظم من هذه الأهبة، وما نفس الصدق عند إنسان قط أغلى من هذه النفاسة. فهي سلامة النفس وسلامة الآباء والأبناء وسلامة المال والعتاد وسلامة الدنيا بأسرها يعلقها بكلمة صدق من رجل صادق، وإن أناسا ليصدقون غاية التصديق ثم لا يخاطرون في سبيل الصدق برزق يوم ولا براحة ساعة.
إنه الصديق.
وما وصف بكلمة واحدة هي أجمع لخلائقه من كلمة الصديق.
ولقد رأينا أناسا من الناقدين يستنكرون على عربي في الجاهلية أن يقوم الهداية الدينية بهذه القيمة التي لا تعلوها قيمة.
ولكنهم مخطئون.
لأن العربي الجاهلي عرف «الحق» وعرف بيع الحياة في سبيل «الحق» كما يراه: حق الجوار أو حق العرض أو حق الشرف والذمار.
وأبو بكر خاصة كان ممن يرعون الحقوق ويكفلونها لأهلها، وكان ممن يكرهون البغي وينقمونه على أهله.
فإذا عرف «الحق» الأكبر فغير عجيب أن يرعاه هذه الرعاية وأن يكفله هذه الكفالة، وهو مهيأ لعرفانه بكرم الخليقة وطيب النحيزة واستقامة الفطرة وصفاء القريحة.
وقد عاش أبو بكر في زمن كان عقلاؤه في كل أرض يتطلعون إلى هداية من السماء، ويخيل إلينا أن انتظار الهداية من السماء لم يطل في زمن من الأزمان، ولا سيما الزمن الذي يعم فيه الفساد وتعيا به حيلة الإنسان، وحسبنا أننا بعد الإسلام رأينا أناسا يترقبون «المهدي» الذي ينشر العدل كلما عم الجور، ويأمر بالعرف كلما فشا المنكر، ويهدي إلى سواء السبيل كلما استحكم الضلال.
وقبل البعثة المحمدية كان أناس ينتظرون الهدى من نسل داود أو ينتظرونه من نسل إسماعيل بن إبراهيم.
وسمع أبو بكر ما سمع من هذا في رحلته إلى اليمن، ورحلته إلى الشام، وفي حديثه مع ورقة بن نوفل، وحديثه مع المنكرين لظلام الجاهلية والمستشرفين إلى كل نور جديد.
وهذا محمد بن عبد الله يدعوه دعوة إبراهيم؛ دعوة الأب الأكبر الذي يشمل العرب جميعا، ومن فوقها دعوة الله التي تعم جميع الناس.
فمن أولى منه بالدعوة، ومن أولى منه بالتصديق؟
إنه استشار خلقه القويم فهداه، وإن مشورة العقل وحدها لتهدية هذه الهداية، حيثما وازن وقابل فأحسن الموازنة والمقابلة بين جميع ما ينتظم فيها من شئون ذلك الزمان.
كان أبو بكر في اهتدائه إلى الإسلام هو أبو بكر في نشأته وسليقته وجملة أحواله وأحوال قومه وعهده.
وكان أبو بكر في إسلامه هو أبو بكر فيما وصف به وفيما جد عليه من إيمان المصدق بدينه وحماسة المعجب ببطله.
كان إسلامه إسلام الرجل الكريم السمح الودود، يستمسك بالصدق والتصديق ويخلص في الإعجاب بالبطل الذي هداه إخلاصا لا شية فيه. فهو يلين في كل حالة ويشتد في حالة واحدة هو فيها أشد الأشداء؛ مرجعها إلى كل ما اتصل عنده بقوة التصديق وقوة الإعجاب.
قال بعد مبايعته بالخلافة: «إنما أنا متبع ولست بمبتدع»، فجمع إسلامه أجمع صفة وأحسنها في هذه الكلمات.
وربما عرض له من الأمر ما ليس يتضح فيه طريق الاتباع، فيخرج إلى الناس يسألهم ثم يقول: «الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علينا سنة نبينا.»
فلا يبتدع إلا بعد استقصائه كل مرجع من مراجع الاتباع.
وفي هذا هو شديد غاية الشدة، بعيد من اللين والهوادة غاية البعد، وهو الرجل الذي اتسم في حياته كلها باللين والهوادة.
فتصديق المؤمن وإعجاب المعجب ببطله العزيز عليه، هما تفسير كل شدة يشتدها الصديق الحليم الودود.
هو شديد في تسيير جيش أسامة؛ لأن النبي عليه السلام ولاه وأمر بتسييره، وما يكون له أن ينزع رجلا استعمله رسول الله «ولو تخطفته الذئاب ولم يبق في القرى أحد غيره.»
وهو شديد في حرب الردة؛ لأنه لا يترك عقالا كان رسول الله يأخذه من المرتدين.
وإذا رأيناه يتردد بين الهوادة والشدة في محاسبة بعض الناس، فالشدة التي مرجعها التزام جادة الرسول والاقتداء بقدوته في كل شيء هي أقرب التفسيرين إلى فهم عمله، وهي أغلب في طبعه من اللين والهوادة، على اشتهاره بهما في كل ما عدا ذاك.
فالهوادة ليست هي التي تفسر لنا عمله في ترك جزاء خالد بن الوليد على البناء بامرأة مالك بن نويرة، والبناء ببنت مجاعة في حرب بني حنيفة وتوزيع الأموال وتأخير الحساب، وإنما الذي يفسر لنا هوادته معه أنه سيف من سيوف الله، ولا يعزل أبو بكر من استعمله الرسول وله مندوحة عن عزله.
ويتبين لنا مناط الشدة واللين عنده في جناية واحدة استصغر فيها العقوبة على امرأة واستكبر العقوبة نفسها على امرأة أخرى، وذلك إذ كتب إليه المهاجر بن أبي أمية المخزومي يقول له: إن مغنيتين تغنت إحداهما بثلب رسول الله، وتغنت الأخرى بثلب المسلمين، فقطع يديهما ونزع ثناياهما لتكفا عن الغناء. فخطأه أبو بكر؛ لأن الأولى كانت أحق بالقتل، وأن الثانية كانت أحق بالصفح ... وأوصاه أن يقبل الدعة وأن يحذر المثلة «فإنها مأثم ومنفرة إلا في قصاص.»
ففي تعظيم النبي كل شدة قليلة، وفي أمر غيره كل صفح جائز مستحب محمود، وليست هي المحبة التي يعوزها التفكير قد فرقت هذه التفرقة بين العقابين؛ لأن هجو النبي قدح في لباب الدين وأس النظام، وهجو المسلمين وزر قد يأتيه المسلم في خلاف بينه وبين قومه، ولكنها على هذا حادثة قد عرضت لنا طبع أبي بكر في حالتيه: لين وهوادة، وإعظام لا لين فيه ولا هوادة، وإنما هي الشدة كأشد ما تكون. •••
وربما تهيب الأمر فيه نفع لا شك فيه إذا لم يسبقه النبي عليه السلام إلى صنعه أو صنع مثله؛ لفرط اتقائه أن يصنع ما ترك أو يترك ما صنع، كما تهيب جمع القرآن في المصحف حين أشار به عمر، فقال: «كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟» ثم استصوب جمعه لما فيه من خير.
فسماحة أبي بكر كانت طبيعة فيه؛ لأنه طبع على الرفق والأناة والأخذ بالحيطة واستبقاء المودة.
وشدة أبي بكر كانت طبيعة فيه؛ لأنه طبع على تصديق من هو أهل لتصديقه، والإعجاب بمن هو أهل لإعجابه، ولن ترى شدة في إنسان كشدة الرجل السمح في تنزيه صفيه وحبيبه وموضع إعجابه، ولا حرصا في إنسان كحرصه على القدوة بذلك الصفي الحبيب المعجب به، واجتناب التخلف عنه والحيد عن طريقه.
وفيما عدا هذه الشدة لم يكن أبو بكر إلا حلما غالبا ورحمة غالبة، ولم تنفرج أمامه طريقان: إحداهما إلى العفو، والأخرى إلى البطش، إلا أخذ بالأولى وأعرض عن الثانية.
شاوره النبي عليه السلام في أسرى بدر فقال: «يا نبي الله؛ هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذنا منهم قوة، وعسى الله أن يهديهم فيكونوا لنا عضدا.»
وشاوره حين اجتمعت قريش لصده وصد المسلمين عن البيت فنادى بالناس: «أشيروا أيها الناس علي. أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن فاتونا كان الله قد قطع علينا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين؟»
فقال أبو بكر: «يا رسول الله، خرجت عامدا لهذا البيت، لا تريد قتال أحد ولا حربا، فتوجه له فمن صدنا قاتلناه ...» يقاتل من صده عن البيت ولا يقاتل من لم يصده.
وشيع جيش أسامة فلم ينس أن يوصيه بالضعفاء، وهو ذاهب إلى القتال: «لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاه ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة. وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منها شيئا بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها، وتلقون أقواما قد فحصوا أوساط رءوسهم، وتركوا حولها مثل عصائب فأخفقوهم بالسيف خفقا. اندفعوا باسم الله.»
وليس أكثر من الشواهد التي تشهدنا على قوة الدين في نفوس من آمن به. إلا أننا لا نعلم بينها شاهدا أصدق في الدلالة على تلك القوة من أن يدين المرء نفسه بالدين أمام أعدائه، كما يدينها به أمام إخوانه في اعتقاده. ومن شواهد ذلك في إسلام الصديق أنه كره المثلة بأعدى الأعداء في ميدان القتال، فلما بعث إليه عمرو بن العاص برأس بنان بطريق الشام أنكر فعله أشد إنكار، ولم يخفف من إنكاره قول عقبة بن عامر له: إنهم يصنعون ذلك بنا، بل قال: أيستنون بفارس والروم؟ لا يحمل إلي رأس. إنما يكفي الكتاب والخبر.
فهو مسلم مع من يحب ومع من يكره ولو في قتال. وهذا بلاغ الدين القويم في نفس إنسان. •••
وهكذا كان مسلكه مع إخوانه وأعدائه، وفي لينه وشدته، وفي مفترق كل طريقين: إحداهما إلى الشدة وأخراهما إلى اللين، فقال النبي عليه السلام يصفه ويصف عمر: «... إن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال:
فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم
ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال:
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ... وإن مثلك يا عمر مثل نوح قال:
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا . ومثلك مثل موسى قال:
ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم .»
ولم يكن عمل من أعماله في قضاء حقوق دينه وأداء فرائضه إلا يدل على هذه الخليقة التي اتصف بها في جملة حياته الإسلامية، وهي المبادرة في كل ما فيه قدوة بالنبي عليه السلام، والأخذ بالحيطة في كل ما يحتمل التعجيل والتأجيل.
سأله النبي: متى توتر؟ قال: من أول الليل.
وسأل عمر: متى توتر؟ قال: من آخر الليل.
فقال لأبي بكر: أخذت بالحزم، وقال لعمر: أخذت بالعزم.
وصلاة الوتر كما لا يخفى تقضى من بعد العشاء إلى ما قبل الفجر، ويرى بعض الأئمة أنها فريضة، ويرى بعضهم أنها سنة يقتدى فيها بالنبي.
فأبو بكر يبادر إلى أدائها ويأخذ بالحيطة مخافة أن يفوته أوانها إذا أجلها، وعمر الشديد على نفسه الواثق من عزيمته يعلم أنها لن تفوته وأنه لن يغلبه عليها غالب من النوم، فيؤجلها إلى ما قبل الفجر، وهو واثق من أدائها في أوانها.
لهذا قال النبي لأبي بكر: إنه أخذ بالحزم وهو الأحوط، وقال لعمر: إنه أخذ بالعزم وهو الأقوى، وعرف صاحبيه في هذه الفارقة الصغيرة كما عرفهما في كبار الأمور وصغارها.
وإن العقيدة التي تتسع لهذين الرجلين ولهذين الخلقين ولهذين العقلين، ثم يكون كلاهما إماما فيها، عظيما في اتباعها، لهي عقيدة تتسع لكثير.
الفصل السابع
الصديق والدولة الإسلامية
قلنا في كتابنا «عبقرية عمر»:
إن الدولة الإسلامية تأسست في خلافة أبي بكر رضي الله عنه لأنه وطد العقيدة وسير البعوث. فشرع السنة الصالحة في توطيد العقيدة بين العرب بما صنعه في حرب الردة، وشرع السنة الصالحة في تأمين الدولة من أعدائها بتسيير البعوث وفتح الفتوح. فكان له السبق على خلفاء الإسلام في هذين العملين الجليلين.
إلا أننا نسمي عمر مؤسسا للدولة الإسلامية بمعنى آخر غير معني السبق في أعمال الخلافة؛ لأننا «أولا» لا نجد مكانا في التاريخ أليق به من مكان المؤسسين للدول العظام؛ ولأننا من جهة أخرى لا نربط بين التأسيس وولاية الخلافة في إقامة دولة كالدولة الإسلامية؛ إذ الشأن الأول فيها للعقيدة التي تقوم عليها وليس للتوسع في الغزوات والفتوح. وعمر كان على نحو من الأنحاء مؤسسا لدولة الإسلام قبل ولايته الخلافة بسنين، بل كان مؤسسا لها منذ أسلم فجهر بدعوة الإسلام وأذانه وأعزها بهيبته وعنفوانه ...
إلى أن قلنا: ... إنه كان في يوم إسلامه آخذا في تشييد هذا البناء الذي تركه وهو بين دول العالم أرسخ بناء.
والذي قلناه عن عمر في تأسيسه بناء الدولة الإسلامية قبل خلافته يصدق على أبي بكر بهذا المعنى منذ يوم إسلامه قبل سائر الصحابة وسائر الخلفاء.
ويكفي من ذلك أن نذكر الذين أسلموا على يديه من عظماء القوم وضعفائهم على السواء. فقد كان لإسلامه أثر بالغ بين السادة، كما كان له أثر بالغ بين العبيد والأتباع، وما هو إلا أن علم الوجوه والعلية من فضلاء قريش أن أبا بكر رضي الإسلام دينا حتى كان للقدوة به حجة عندهم، أقوى من حجة البيان والإقناع.
إن الدين الذي يرتضيه رجل كأبي بكر في مروءته وصلاحه وشرفه واستغنائه واستقامة قصده وسلامة صدره لدين جدير بالاستماع إليه والنظر في دعوته، وإن النظر في دعوته وفيما بينها وبين عقائد الجاهلية من البون الشاسع لكاف وحده لكسب القلوب وتحويل الأذهان، ولا سيما عند من خلا من الغرض في دوام العقائد الجاهلية وإحباط الدعوة الجديدة أو كل دعوة جديدة كائنا ما كان حظها من الخير والفلاح.
فأسلم على يديه رهط من أكبر السادة وأكبر القادة في الإسلام، أسلم على يديه عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن مظعون، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عبد الأسد أبو سلمة، وخالد بن سعيد، ومنهم من أسلم وهو يفع أو شاب ناشئ كسعد والزبير، فكانا فتوة للإسلام حين جد الجد واشتدت سواعده بسواعد فتيانه الأبرار.
واشترى نفرا من العبيد المرهقين: منهم بلال بن رباح مؤذن النبي عليه السلام. وكان سيده يخرجه في حمارة القيظ؛ فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ويلقي بصخرة عظيمة على صلبه ويدعه وهو يقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد. فلا يزيد على أن يقول: أحد، أحد، ويرددها حتى يوشك أن يغيب عن وعيه من ألم العذاب. اشتراه أبو بكر أو استبدله بما يساوي خمس أواق ذهبا فقيل له: لو أبيت إلا أوقية لبعناك! وقال: ولو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته، ومضى في شراء العبيد والإماء بما يطلبه سادتهم من ثمن يغالون فيه ليعجزوه ويدخلوا الندم على نفسه. وهو لا يبالي ما يبذل من ماله وجهده لينقذ أولئك المساكين من أيدي المشركين ويريحهم من قسوة السادة المتجبرين؛ فكان كسبه لقلوب الضعفاء أربح للإسلام وأجدر بسمعته ورحمته من كسبه قلوب العلية الأعلام وأبلغ في التدين والفضيلة من إقناع بنافذ الحجة وإبلاغ بصادق الكلام. ولعل الدعوة الجديدة كسبت بين الأمم بهذه الرحمة أضعاف ما كسبته بهداية الشرفاء الذين اقتدوا به وذهبوا إلى النبي من طريقة.
ولم يزل في كل عمل من أعماله منذ أسلم إلى أن تولى الخلافة مؤسسا لهذا البناء الشامخ الذي كان هو أول من قام عليه بعد بانيه. فالدعوة الصريحة إلى الإسلام في المسجد بمسمع من قريش، والهجرة مع النبي من داره، وبذل المال في البعوث وغير البعوث، وتيسير القدوة للمقتدين بإسراعه إلى التلبية والتصديق كلما التبس الأمر واضطربت الأفكار، ومحاربته قريشا بعلمه واطلاعه على الأنساب كما حاربهم بماله وسلاحه ومشورته ورأيه بل كل ما عمل منذ أسلم إلى أن تولى الخلافة، فهو في جملته ركن من أركان الدولة الإسلامية يجعله بالحق مؤسسا لها مشاركا في بنائها، بسلطان العقيدة قبل سلطان الحكومة والكلمة المسموعة. •••
ثم كانت البيعة بالخلافة.
وكانت بعثة أسامة بن زيد، وكانت حروب الردة، وكانت بعوث العراق والشام، فقام على هذه المآثر الثلاث التي لا تقضي حقها من الإكبار كل ما قام بعد ذلك من بناء.
بعثة أسامة، وما بعثة أسامة؟ ... يستصغرها بعض المؤرخين المحدثين ويقولون: إنها من نوافل البعثات؛ لأنها بدأت وانتهت بغير فتح وبغير ثمرة وبغير حظ كبير من الغنائم تلجئ إليه ضرورة من الضرورات.
وإنهم لمخطئون.
وإن الصديق لعلى صواب.
ولقد يكون في صوابه إلهام أو تكون فيه روية وقصد مرسوم، ولكنه سداد على كل حال، ووجهة قويمة هي أدنى الوجهتين إلى النفع والصلاح.
بعثة أسامة كانت العنوان الأول لسياسة عامة في الدولة الإسلامية هي في ذلك الحين خير السياسات.
كان قوامها كله طاعة ما أمر به رسول الله.
وكانت الطاعة - جد الطاعة - مناط السلامة وعصمة المعتصمين من الخطأ الأكبر في ذلك الحين.
وحيث يكون التمرد هو الخطأ الأكبر فالطاعة - بل الطاعة الصارمة - هي العصمة التي ليس من ورائها اعتصام.
وقد كان التمرد هو الخطر الأكبر في ذلك الحين لا مراء: كان النفاق يطلع رأسه في مكة والمدينة، وكانت القبائل البادية تتسابق إلى الردة في أنحاء الجزيرة، وكان جند أسامة نفسه يود لو استبدل به أميرا غيره، وكان أسامة أول من يشك في طاعة القوم إياه ويترقب أن يخلفه على البعثة أمير سواه.
تمرد، أو نذير بتمرد، في كل مكان.
وطاعة واجبة هنا حيث نبغ التمرد، أو لا سبيل إلا واجب بعد ذلك يطاع.
طاعة أو لا شيء.
فإن بقيت الطاعة فقد بقي كل شيء.
وهنا تسعفه الصديق طبيعة هي أعمق الطبائع فيه، أو هي العبقرية الصديقية في أوانها، وعلى أحسن حال تكون.
هنا تسعف القدوة القويمة بالبطل المحبوب.
وهنا يقول وقد خوفوه الخطر على المدينة والجيش يفارقها: «والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله! ولو أن الطير تخطفتنا، والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة.»
كلمة لو قالها غير أبي بكر لكانت كبيرة، ولكن الذي يقولها أبو بكر وبنته أعز أمهات المؤمنين.
فلا خطر إذن أكبر من خطر الاجتراء على حق الطاعة في تلك الآونة، ولو جرت الكلاب بأرجل البنات والأمهات.
ومن المؤرخين المحدثين من قال ما فحواه: إن بعثة أسامة إنما أرسلت ثأرا لأبيه زيد الذي قتل في معركة مؤتة، وإن قاتله في تلك المعركة قد مات لتوه، أفما كان إرجاء البعثة من المستطاع وقد أدرك ثأر القائد القتيل؟
ومن المهاجرين والأنصار من كان يرى الرأي في بقاء البعثة بالمدينة بعد موت النبي عليه السلام وفي مقدمتهم أسامة.
ومنهم من كان يرى أن يتقدم للقيادة من هو أسن منه وأخبر بفنون القتال، ومنهم عمر بن الخطاب.
أما أبو بكر فقد رأى العصمة - حق العصمة - في رأي واحد لا رأي قبله ولا بعده، وهو الطاعة في غير لي ولا هوادة ولا إبطاء، ولو لم يكن التمرد هو الآفة المحذورة في تلك الآونة لقد كان غير ذلك الرأي أصوب، ولكنه كان آفتها التي لا آفة مثلها، ثم لا خطر إن سلمت الدولة من شرها، فلتكن الطاعة إذن هي الصواب، وهي الملاذ.
وقد ضرب المثل الأول في الطاعة التي أرادها. فشيع البعثة وهو ماش على قدميه وعبد الرحمن بن عوف يقود دابته بجواره. فقال أسامة: يا خليفة رسول الله. والله لتركبن أو لأنزلن. فقال: والله لا تنزل، ووالله لا أركب. وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة.
ثم استأذن أسامة قائلا: إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل، فعاد عمر بإذنه: بإذن القائد الذي هو في مقام الطاعة هناك، حتى على الخليفة وعلى أكبر الصحابة من بعده.
ثم قال لأسامة: اصنع ما أمرك به رسول الله
صلى الله عليه وسلم ... ولا تقصرن في شيء من أمر رسول الله.
أفكان المؤرخون المحدثون على صواب في أمر هذه البعثة حين قالوا: إنها من النوافل بعد مقتل القاتل لزيد أبي أسامة؟
إنهم لعلى خطأ في كل تقدير قدروه ولو جاريناهم فحصرنا أغراض البعثة في ذلك الغرض الوحيد؛ لأن مقتل قائد في معركة ليس بالجريمة الفردية التي يعاقب عليها القاتل وحده، وإنما المسألة هنا مسألة الجيش كله، وهيبة الأمة التي أرسلت ذلك الجيش وتمثلت فيه بقوتها ومناعة حوزتها، فإن لم يقع في روع الأعداء المقاتلين أن ذلك الجيش قوة تهاب وتنال حقها من الثأر فقد بطل الغرض كله من القتال.
وفي هذه البعثة بعينها، ماذا كان يحدث لو أن قبائل غسان وقضاعة استضعفت شأن المسلمين وفي أيديها الطريق بين بلاد العرب وبلاد الروم؟
كل شيء جائز أن يكون.
وأوله إغراء الروم بالهجوم ولهم عون من تلك القبائل ومن يجتمع إليها من المجترئين والمتحفزين، ولما تقعدهم عن الاجتراء والتحفز هيبة جيوش الإسلام.
ولقد أدرك أناس في عصر أبي بكر صواب الرأي في إنفاذ تلك البعثة بعد إنفاذها وعودتها. فشاع في الجزيرة العربية خبرها، وروى مؤرخو تلك الفترة أنها كانت لا تمر بقبيل يريدون الارتداد إلا تخوفوا وسكنوا: وقالوا فيما بينهم: لو لم يكن المسلمون على قوة لما خرج من عندهم هؤلاء.
فإذا كان بقاء أسامة بالمدينة جائزا لدفع خطر، فإرساله كذلك جائز لدفع خطر مثله، وفازت الدولة بين هذا وذاك بدرس الطاعة، وهو يومئذ ألزم الدروس. •••
ثم تكرر هذا الدرس في أوسع نطاق؛ لأنه نطاق الدولة الإسلامية كلها في ذلك الحين، وجاءت حروب الردة التي هي مفخرة أبي بكر الكبرى غير مدافع، أو هي مفخرته الخاصة التي انفرد بها في تاريخ الدعوة الإسلامية بغير شريك. فكان «هو نفسه» كما يقول الغربيون في تعبيراتهم حين يذكرون الأعمال التي تدل على صاحبها بجميع خصائصه ولباب شعوره وتفكيره، وتبرزه على حقيقته التي لا مماراة فيها، خلافا لأعمال أخرى قد تكون فيها هذه «الحقيقة» موضع التباس أو اختلاف.
ففي حروب الردة كان أبو بكر رضي الله عنه هو أبا بكر علي سوائه وجلائه، ولم يكن موقفه غريبا كما يسبق إلي الذهن للوهلة الأولي حيثما يخطر للذهن أنه الرجل الوديع الرفيق، وذلك الموقف أولى المواقف بالصلابة الصارمة والبأس الشديد.
غضب الصديق رضي الله عنه في حروب الردة غضبته التي لا بد أن يغضبها، وإلا فما هو بغاضب.
أثارته ردة المرتدين؛ لأنها مسته في كل ما يثيره، وأصابته في كل ما يعزه ويغار عليه.
فهناك الصديق المحب لصديقه، والمعجب الغيور على ذكرى بطله، يثيره أن يغدر الغادرون بعهد ذلك الصديق وذكرى ذلك البطل، ولما تمض له في قبره أيام أو أسابيع.
وهنالك المسلم «الصديق» الذي آمن ببشارة النصر ولو كره الكافرون، كما آمن من قبل بانتصار الروم على الفرس بعد بشارة القرآن فخاطر على ذلك النصر بالمال والميثاق، ولم يخامره الشك لحظة أنه الرابح لا محالة في ذلك الخطار. وكذلك غضب في حرب الردة غضبة الواثق من الحق، الواثق من الغلبة، الواثق من العاقبة؛ لأنه سمع البشارة السماوية لينصرن الله الإسلام على الدين كله، فإذا حارب في سبيل الإسلام فهو لا محالة على حق وهو لا محالة منصور.
وهناك الرجل «الدقيق التكوين» يقابل بالاستخفاف في أول خلافته وقد راض نفسه طوال حياته على المروءة والكرامة والوقار، أنفة من الاستخفاف وكراهة للصغر والاستصغار، فإذا بهم يستقبلونه بما أشاح عنه طوال حياته، وإذا بالأمر صريح بالمقال فضلا عن صراحته بلسان الحال: هم يستكثرون عليه كنيته أبا بكر فيكنونه أبا الفصيل؟ وأعوانه يردون عليهم ذلك الاستهزاء متوعدين: لترونه غدا أبا الفحول.
وهنالك الرجل الذي فيه من وثاقة العزم ما قمع به ثورة الحدة وهي أصيلة في تركيبه، ومن كان له ذلك العزم فهو منجده حين يحتاج إليه، وما كان محتاجا إليه قط لو أنه استغنى عنه في فتنة الردة، وهي تفاجئه بالغضب المثير.
وهنالك الرجل الذي كان مثلا في الاقتداء بالرسول حيثما سبقت سابقة يقاس عليها، وقد سبقت هذه السابقة في فريضة من فرائض الإسلام وإن لم تكن فريضة الزكاة: سبقت في فريضة الصلاة، وذهب أناس من المثقفين يعرضون على النبي إسلامهم على أن يعفيهم من الصلاة، فقال عليه السلام: «إنه لا خير في دين لا صلاة فيه.» وكذلك لا خير في دين لا زكاة فيه، فإذا جاء المرتدون يزعمون أنهم مسلمون يقبلون فرائض الإسلام ولا يقبلون الزكاة فليس أبو بكر بالذي يقبل منهم ما يزعمون.
إنما كان أبو بكر إذن أصدق ما كان لنفسه وسرائر مزاجه يوم قابل الردة بدرس الطاعة التي لا هوادة فيها، ولم يكن في باطن الأمر غريبا عن المعهود فيه، وإن لاح في ظاهر الأمر أنه جاء بالغريب من رجل وديع رفيق.
ولقد أكثر المؤرخون من الكتابة عن حروب الردة ما لم يكثروا قط في حادث من حوادث صدر الإسلام، وكانوا على حق حين وازنوا بين دعوة الإسلام الأولى في مقاومة الشرك ودعوة الإسلام الثانية في مقاومة الارتداد، فإنما كانت الغلبة على فتنة المرتدين فتحا جديدا لهذا الدين الناشئ، كأنما استأنفت الدعوة إليه من جديد.
ولكنهم لم يكونوا على حق حين حاولوا أن يصبغوا الردة بغير صبغتها وأن يفهموها على غير وجهها، ولا سيما النقاد المغرضين الذين انحرفوا بها عمدا ليتسللوا منها إلى الطعن في نشأة الإسلام؛ فقالوا: إن ارتداد الأعراب إنما كان دليلا على أنهم قد أسلموا مكرهين، فما عتموا أن وجدوا سبيلا إلى النكصة على أعقابهم حتى نكصوا مسرعين.
والمسألة أوضح من هذا لو أراد أولئك النقاد طريق الوضوح.
المسألة أقرب شيء إلى طبائع الأمور في أشباه هذه الأطوار من كل دين ومن كل مذهب ومن كل دعوة تتناول الناس عامة وخاصة، بل من كل فكرة تخامر الأذهان والقلوب حتى ما كان من قبيل الحكمة والفلسفة والدراسات العلمية التي يعنى بها خاصة الباحثين ولا تتسرب دعوتها إلى السواد. فماذا حدث في الحكمة بعد سقراط؟ وماذا حدث في مذهب النشوء بعد داروين؟ وماذا حدث في علم الأخلاق بعد كانت أو بعد بنتام أو بعد برجسون؟
فالذي حدث من ردة العرب هو الطبيعي المنظور أن يحدث، والذي تخيله النقاد المغرضون واجبا مقررا هو الغريب الذي لم يحدث قط في دعوة من الدعوات.
وإلا فما هو ذاك الذي كان يتخيله أولئك النقاد المغرضون؟ أكانوا يتخيلون أن دينا جديدا يملك الناس جميعا في الجزيرة العربية فيسري إلى كل نفس، ثم يسري من كل نفس إلى جميع بواطنها وخفاياها فلا يبقي فيها بقية للنكسة والارتداد؟ أكانوا يتخيلون ذلك الدين مقتلعا في مدى تلك السنوات القليلة كل أثر لأطماع الخليقة الآدمية وكل حنين في قلوب الزعماء إلى الجاه القديم، وكل فضلة من فضلات الجاهلية، وكل باب من أبواب الدسائس التي تنفذ إلى جزيرة العرب من طريق الدول الأجنبية والعصب الداخلية؟ ... أكانوا يريدون من الأعراب بعد بضع سنوات أن يوغلوا في الإسلام أشد من إيغال قبائل نجران أو الغساسنة في الدين المسيحي بعد بضعة قرون؟
إن تخيلوا ذلك فاللوم على الخيال المضلل وليس على الواقع ولا على العقل السليم ولا على الإسلام.
وما من شيء هو أحرى أن يدل على النشأة الطبيعية في الإسلام من هذه العوارض الطبيعية التي عرضت له في حياة نبيه وبعد موته، وأولها حرب الردة وما اقترن بها من عوامل النكسة والاضطراب.
لقد كان النبي مناط الاستقرار في الجزيرة العربية بعد نجاح دعوته ودخول العامة والخاصة في دينه، أو كان كما قال الشاعر:
فإنك موضع القسطاس منها
فتمنع جانبيها أن يميلا
وإذا غاب «مناط الاستقرار» أو موضع القسطاس فماذا يكون؟ بل ماذا يمكن أن يكون؟
يكون نقيض الاستقرار لا جرم.
أو يكون الميل هنا والميل هناك ولو كان العارض الذي طرأ قد عرض لأجسام من المادة لا تعرف الدين باختيار، ولا تعرفه باضطرار.
فلما غاب «مناط الاستقرار» أول مرة حدث ما لا بد أن يحدث، وطرأ التقلقل الذي لا مناص منه في كل بيئة ريثما يزول الأثر الطارئ وترجع الأمور إلى نصاب.
فعرض لكل طائفة من الناس تقلقل يناسبها ويجري في مجراها.
تقلقل الأنصار وهم مسلمون حق مسلمين، واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يبتون بتهم في مصير الخلافة؛ لأنه مصير لا بد لهم من البت فيه.
وتقلقل المهاجرون من بايع منهم أبا بكر ومن لم يبايعوه، ومنهم عترة النبي وأقربهم إليه وأعظمهم إيمانا بدينه والغيرة عليه.
وتقلقل في مكة أناس قريبو عهد بالنفاق، فهموا بالعصيان لولا نذير من ولى السلطان.
أما القبائل فيما وراء ذلك فكان لكل منها نصيب من التقلقل يناسب نصيبها من القرب والبعد والمودة والجفاء.
فأقربهم إلى مهد الإسلام كانوا يخلصون للنبي ويخرجون على من ولي الحكم بعده.
أطعنا رسول الله مذ كان بيننا
فيا لعباد الله ما لأبي بكر؟
وأناس منهم آمنوا بالزكاة ولم يؤمنوا بمن يؤدونها إليه، واحتجوا بآيات من القرآن الكريم حرفوها إلى المعنى الذي أرادوه، ومنها:
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم [التوبة: 103] ... قالو: فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا! وأبوا أن يدفعوها وإن علموا أن دفعها فريضة من فرائض الدين، فهم لم ينكروا الفريضة ولكنهم أنكروا الجباة.
أما الأبعدون من مهد الإسلام فكان لهم تقلقلهم الذي يعرض لكل بعيد لم يسكن قط إلى قرار، وإنما هو في اضطراب مستور يتربص أن يثب إلى الجهر ما تهيأ له وثوب.
فأبناء اليمن كان لهم ملك قديم، وكانت لهم أسر معرقات في الحكم تتداوله تارة بسلطان الحبشة، وتارة بسلطان فارس، وحينا بين هذا وذاك بسلطان أهل البلاد، وكانت لهم كهانة تمتزج بكل عقيدة من العقائد الكتابية وغير الكتابية، فلما اضطرب بينهم ميزان الأمور برز كل عامل من هذه العوامل في الفتنة بأثر من آثاره، ونجح بينهم الأسود العنسي صاحب النبوة فيهم - وهو مسخ مشوه - لأن التشويه كان من آلات الكهنة والسحر عندهم ولم يكن من عوائق النجاح في أمثال هذه الدعوات. فكان وفاقا لشروط الكهانة اليمنية على شبه من كاهنهم «سطيح» الذي قيل فيه: إنه كان لحما بغير عظم، أو كان من لين العظام بحث يدرج جسمه كما يدرج الثوب خلا جمجمة رأسه، وهي مع هذا تمس باليد فيؤثر فيها المس الخفيف لفرط لينها، وعلى شبه من كاهنهم «شق» الذي سمي بهذا الاسم لأنه أشبه بنصف إنسان مشقوق لنحافته وانسلاخ أعضائه فكانت حقارة الأسود العنسي آلة من آلات نجاحه تبطل العجب ولا تدعو إليه، كلما استعظم أحد أن يظفر مثله بما ظفر به من الفوز العاجل في بداية الفتنة اليمنية.
وحيثما رجعت الفتنة إلى مطامع العنسي وأمثاله من المشعوذين الطامحين إلى الصولة فقد بدأت طلائعها من أيام النبي عليه السلام في أنحاء متفرقات من الجزيرة؛ لأن هؤلاء المشعوذين لم يفهموا الإسلام ولم يعقلوا قط أنه دعوة إصلاح لخير الناس، وكل ما عقلوه أنه حيلة كاهن أفلحت فحق لهم أن يطمعوا في الفلاح؛ لأنهم كهان لا تعوزهم وسائل السحر وحبائل الخديعة. فتطلعت رءوس الفتنة من هنا وهناك والنبي عليه السلام بقيد الحياة، إلا أنها لم تتفاقم ولم تبلغ مداها من الانتشار في حياته عليه السلام.
ولكنها تجمعت إلى يوم الرجة التي ارتجتها الجزيرة العربية بعد فراقه هذه الدنيا، وهي رجة لا محيص عنها. فما كان معقولا ولا منظورا أن يحدث هذا الحادث الجلل بغير رجته التي تقترن به لا محالة، وإذا وقعت الرجة فما كان معقولا ولا منظورا أن تقع على غير هذا المثال.
وغاية ما يفهم من هذه الرجة التي لا غرابة فيها أنها الأثر المعقول المنظور لمطامع الطامعين وخلائق الأعراب وذوي الجهالة من أهل البادية في كل جيل. فما عرف التاريخ قط أناسا منقطعين للبداوة الأولى إلا عرف منهم الاستعداد لأمثال هذا الانتقاض كائنا ما كان الدين الذي ينتحلونه والزمن الذي قضوه في انتحاله. وربما مضت مئات السنين على قبيلة من البادية المغرقة في البداوة وهي تدين بالمسيحية أو الإسرائيلية ثم تنقلب مثل انقلاب الردة في رجة من الرجات النفسية أو الاجتماعية التي تشبهها، ولا يستغرب العالمون بطبائع الناس هذا الانقلاب بعد مئات السنين كما استغرب أناس أن ينقلب بعض أهل البادية على الإسلام أو على دولة الإسلام، ولما ينقض على دخولهم فيه عشر سنين.
على هذه الحقيقة أن تفهم فتنة الردة إنصافا للتاريخ إن لم يكن إنصاف الدعوة المحمدية مما يعني أولئك المستغربين.
ولإنصاف التاريخ ينبغي أن تفهم هذه الفتنة على أنها أصدق امتحان للدعوة المحمدية خرجت منه دعوة من الدعوات.
فإذا كانت فتنة الردة قد كشفت عن زيغ الزائغين وريبة المرتابين فهي قد كشفت كذلك عن الإيمان المتين والفداء السمح واليقين المبين فحفظت للناس نماذج للصبر والشجاعة والإيثار والحمية تشرق بها صفحات الأديان، وجاءت الشهادة الأولى على لسان رجل من أصحاب طليحة سأله: ويلكم ما يهزمكم؟ فقال له: أنا أحدثك ما يهزمنا. إنه ليس رجل منا إلا وهو يحب أن يموت صاحبه قبله، وإنا لنلقى قوما كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه!
وقد امتحنت دعوة الإسلام وامتحنت جميع الدعوات التي نهضت لمنافسته بقوة السلاح وقوة الدهاء وقوة العصبية فقضت له بالبقاء وقضت عليها بالفناء. ولو كان نجاح الدعوة الإسلامية نجاح سلاح أو دهاء أو عصبية لقد كان أصغر متنبئ من أدعياء الردة خليقا أن يطمع في مثل ذلك النجاح؛ لأنهم بدءوا دعوتهم ومعهم من جموع القبائل التي تعتز بعصبياتها ما لم يتهيأ لصاحب الدعوة المحمدية قبل عدة سنين، وصدقهم أناس كانوا يقولون: إن نبيا كاذبا منهم خير من نبي صادق من مضر أو قريش.
وأصدق من هذا كله في امتحان الدعوة المحمدية أنها خرجت من فتنة الردة وهي بشهادة الواقع والحق بنية حية تسير على سنن الحياة الصحيحة التي لا زيف فيها ولا اصطناع: يعرض لها الخطر من أسبابه، وتعرض لها السلامة من أسبابها، وتنجو كما تنجو البنية الحية القوية حيثما تجمعت فيها عناصر النجاة.
فليست هي جسما محجبا بالأوهام كما زعم طليحة الكذاب لجسمه أنه لا يعمل فيه السيف ولا تصيبه السهام. ولكنها جسم صحيح يعمل فيه السيف وله مع ذلك ما يدفع الطعن ويبرئ من الجراح.
ولا شك أن المسلمين لم يواجهوا جوانب الخطر كلها في حروب الردة دون المرتدين الذين أشعلوا الفتنة وصلوا بنارها. فقد كانت حروب الردة فتنة كجميع الفتن التي لا يؤمن خطرها على الفريقين المشتركين فيها، فكان فيها جانبها الخطر على أهل الردة كما كان فيها جانبها الخطر على الإسلام. وما كان منها خطرا على فريق فقد كان فيه للفريق الآخر أمان.
وقد كان أمانها على الإسلام أن المرتدين متفرقون لا تؤلف بينهم وحدة معلومة المقاصد في السياسة ولا في الدين، وأنهم هددوا المدينة بجموع البادية فأثاروا فيها سليقة الدفاع ووحدوا بين صفوفها وهي موشكة أن تتصدع بين الشيع والأهواء. فعلم أهل المدينة كما علم أهل مكة أنهم مهددون بجائحة من البادية لا يطمئون بعدها إلى مصير، وهبوا يتعاونون ويتكاتفون لاتقاء تلك الجائحة سواء من بايع الخليفة ومن تثاقل عن البيعة في أوائلها. وتقدم على رءوس المدافعين أناس كانوا في يوم البيعة متخلفين، وجرى القضاء بوقوع أهل الردة في خطأ من أخطاء العجلة كان فيه نفع - أي نفع - للمسلمين. فهجموا على المدينة مغترين بكثرتهم وقلة المدافعين عنها، ولم يحسنوا الأهبة للهجوم كما أحسن المسلمون الأهبة للدفاع. فثارت حمية الأنصار والمهاجرين معا للدين الذي آمنوا به، وثارت حميتهم معا للجوار الذي روعوا فيه، وكانت هذه الهجمة وبالا على الردة وفاتحة من فواتح الهزيمة، ولو أنهم قنعوا بالبقاء في باديتهم والتوغل في صحرائهم لقد كان ذلك أدنى إلى الحزم من ناحيتهم، وإن لم يكن حتما لزاما أن يفضي بهم آخر الأمر إلى النجاح.
وزاد في بواعث الطمأنينة إلى جانب المسلمين أن عاد جيش أسامة سالما موفورا ولما ينقض على مبعثه شهران على أرجح الأقوال: عاد بالأسلاب والغنائم من تخوم الروم ولم يقتل منه أحد ولا بدا عليه عناء أو مشقة مما كان فيه، ولا تجهل قبائل البادية ما هي دولة الروم التي اجترأ الجيش على تخومها في غير مبالاة. إنهم يعلمون ما هي دولة الروم بالعيان أو يعلمون ما هي دولة الروم بتهويل السماع، وجيش يذهب إلى تخوم تلك الدولة ثم يعود غير مسحوق ولا منقوص بل يعود بالغنائم والأسلاب، كيف تستخف به قبيلة هائمة في عرض صحراء؟ وكيف تخفى دلالة هذا الحادث على أناس اشتهروا بتنسم الأخبار كما اشتهروا باستطلاع الدلائل على القوة والضعف وعلى الخطر والأمان؟
إن جيش أسامة قوة ذات بال في الجزيرة العربية، ولكنه فعل بسمعته ومعناه ما لم يفعله بقوته وعدده. فأحجم من المرتدين من أقدم، وتفرق من اجتمع، وهادن المسلمين من أوشك أن ينقلب عليهم، وصنعت الهيبة صنيعها قبل أن يصنع الرجال وقبل أن يصنع السلاح. •••
تلك فتنة الردة بجملتها، وبجانبي الخطر والسلامة فيها.
قابلها أبو بكر رضي الله عنه بأحزم ما تقابل به من مبدئها إلى منتهاها، وعالجها علاجها في كل خطوة من خطواتها وكل ناحية من نواحيها.
فبادرها بالحزم من صيحتها الأولى، وتعقبها بالحزم يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة حتى أسلمت مقادها وثابت إلى قرارها.
وأحزم الحزم في تلك الفتنة عقابه للمرتدين الذين مردوا على العصيان ولم يستجيبوا نصيح المودة ولا استجابوا نذير الجزاء؛ فقد كان العقاب أليق شيء بالوزر الذي اجترموه ومردوا عليه: أناس قد استوهنوا سلطان الدين وبخلوا بالمال فبلغ من شحهم به أنهم أنكروا حقوق الدين كله في سبيل حصة من الزكاة، فجزاؤهم أن يشهدوا من بأس ذلك السلطان ما يعتبرون به ولا ينسونه مدى الحياة، وأن يفقدوا المال الذي من أجله تبادروا إلى الفتنة واستبقوا إلى العصيان. فاستبيحت ديارهم ومراعيهم ومساقيهم ووهبت عطايا للمجاهدين، ولان خالد في بعض المواقع وأبو بكر الوديع الرفيق لا يلين، ووضع القصاص فيمن تجاوزوا منع الزكاة إلى قتل المسلمين بين ظهرانيهم، فلم تأخذه فيهم هوادة بعد إصرارهم على العصيان واعتدائهم بالقتل وإعراضهم عن النصيح والنذير جزاء حق؛ لأنه من جنس العمل.
استهانة يقابلها بأس، وبخل بالمال يقابله ضياع للمال، ونفس بنفس، ومجاهدون مخلصون يؤثرون الإيمان على عروض الدنيا أخذا بثأرهم من عصاة غادرين يؤثرون عروض الدنيا على الإيمان. •••
قال أبو رجاء البصري: «دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين ورأيت رجلا يقبل رأس رجل ويقول له: أنا فداؤك، ولولا أنت لهلكنا، قلت: من المقبل ومن المقبل؟ قالوا: هو عمر يقبل رأس أبي بكر في قتال أهل الردة إذ منعوا الزكاة حتى أتوا بها صاغرين.»
وأبو رجاء من ثقات الرواة، وكلا الرجلين جدير بما روي عنه من مودة وإكبار، عمر جدير بإكبار أبي بكر، وأبو بكر جدير بإكبار عمر إياه، فالخبر صحيح أو هو كالصحيح، إن لم يكن فهو حري أن يكون.
هنالك ولا ريب أعظم رجلين واجها حروب الردة بين عظماء المسلمين في ذلك الحين.
وما كان اثنان قط أقرب منهما في القصد، ولا كان اثنان قط أبعد منهما في الرأي بما أشارا أول الأمر في شأن أهل الردة.
ولا ينتهي العجب في موقفهما هذا عند فرط الاقتراب وفرط الابتعاد، ولكنه عجب عاجب من غير ناحية فيه، فإذا قدر لهما أن يتفقا مقصدا ويختلفا رأيا فقد كان المظنون أن يتجه عمر إلى جانب الشدة، وأن يتجه أبو بكر إلى جانب اللين، فجاء اختلافهما يومئذ على غير المظنون.
ومهما يكن من حق الدراسة التاريخية في هذا الموضوع فحق الدراسة النفسية يساويه إن لم يزد عليه، أو ربما كان حق الدراسة التاريخية مطلوبا لما ينتهي إليه من هذه العجيبة النفسية التي هي غاية العلم الذي نصبو إليه؛ إذ ليس للتاريخ ولا لغيره من العلوم غاية أشرف ولا أنفس من تعريف الإنسان بالإنسان.
كان عمر يقول لصاحبه: يا خليفة رسول الله؛ تألف الناس وارفق بهم! كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه؟!»
وكان أبو بكر يقول: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا لقاتلتهم على منعها» ... ويملكه الغضب فيصيح بصاحبه: «يا ابن الخطاب، رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك؟ أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام؟ إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أوينقص وأنا حي؟»
فكيف اختلف الصاحبان هذا الاختلاف؟
أما أن يختلفا فلا عجب، وأما أن يتصارحا بالاختلاف فلا عجب فيه كذلك.
وإنما العجب - عند النظرة الأولى - أن يجيء منهما الاختلاف على هذا النحو الذي خالف المنظور كما خالف المعهود من طبائع الرجلين، وهذا الذي يستوقف النظر في طليعة ما يستوقف الأنظار من حروب الردة، ومن جميع ما أعقب وفاة النبي عليه السلام وقيام الخلافة الأولى.
وصفوة ما يقال في تفسير هذه العجيبة حقيقتان غير عجيبتين: أولاهما أن المعهود من أخلاق الإنسان ليس هو الإنسان كله، بل في الإنسان شيء كثير مما ليس يعهده الناس منه في عامة أحواله. والحقيقة الثانية أن الخلق المعهود قد يفسر على وجوه كثيرة بعضها موافق للمتبادر إلى الذهن وبعضها لا يوافق المتبادر إلى الذهن إلا بعد إنعام واستقصاء.
فالشدة في أبي بكر موجودة تظهر في مناسباتها.
واللين في عمر موجود يظهر في مناسباته.
وأولى المواقف أن يظهر فيها هذان الخلقان هو الموقف العصيب؛ لأنه موقف المراجعة الذي لا يذهب فيه الإنسان مع الخاطرة الأولى.
فالموقف العصيب هو الموقف الذي يراجع فيه الإنسان نفسه ويثوب إلى المكنون من أخلاقه فيصل منها إلى القرار الذي يخفى على الناس في عامة الأحوال ولا يظهر لهم للوهلة الأولى. فيشتد اللين ويلين الشديد، أو يبدو كل منهما على الحالين بجميع ما فيه من شدة ولين.
ومن ثم يبدو ما لم يكن بمعهود في عامة الأحوال ...
على أن الموقف الذي وقفه عمر في حرب الردة معهود فيه إذا علمنا أن الخلق الإنساني يفسر نفسه على عدة وجوه.
فعمر متصرف بالرأي.
وعمر جريء فيما يرى.
وعمر وثيق الإيمان .
وعمر عادل متحرج في عدله.
وهل كان موقفه من المرتدين خلوا من خلق من هذه الأخلاق؟
ألم يكن فيه تصرف حين أراد أن يؤجل أمر الزكاة إلى يوم تتبدل فيه الأحوال؟
ألم يكن فيه جرأة حين جهر بهذا الرأي ولم يحفل بمداراته؟
ألم يكن فيه ثقة بأن المصير إلى ثبات الإسلام، وإن ضل من ضل وزاغ في الطريق من زاغ؟
ألم يكن فيه تحرج من قصاص لم يتضح له حقه فيه حتى وضح له ذلك الحق فبطل الحرج ووافق صاحبه في كل ما ارتآه؟
فهذا هو عمر المعهود، ولكن بعد إنعام واستقصاء.
أما أبو بكر المعهود فنحسب أننا قد بيناه فيما تقدم، فبينا أن ما صنع من قتال أهل الردة كان أقرب الأعمال إلى «الصديقيات» المطبوعة، وإن بدا في النظرة الأولى على غير ذلك، ونحن لا نفهم الإنسان حقا إذا فهمنا أنه يعيش حياته كلها ولا يأتي بشيء يخالف ما عهدناه وانتظرناه. ونحن لا نستغرب الموقفين من أبي بكر وعمر إذا أحضرنا هذه الحقيقة التي هي أقمن شيء بالإحضار في دراسة النفوس الإنسانية، وبخاصة نفوس العظماء.
وقد وضح كل الوضوح أن أبا بكر كان على صواب عظيم.
ولكن لم يتضح كل الوضوح أن عمر كان على خطأ عظيم.
فنحن يخيل إلينا اليوم، أننا لو كنا في عصر الردة لوضح لنا يومئذ ما يتضح لنا اليوم، ولم نتردد في متابعة أبي بكر إلى القتال على يقين أنه الصواب كل الصواب أو أنه الواجب الذي لا مثنوية فيه.
ولكننا لو حضرنا ذلك العصر، لجاز كثيرا أن يميل منا الألوف - بل ألوف الألوف - إلى القول بالمسالمة والمتاركة حتى حين، وجاز أن يعتقد منا الكثيرون أن التربص بالمرتدين حتى يعود جيش أسامة ويثوبوا إلى الحسنى أسلم وأحزم، فإن لم يثوبوا إلى الحسنى فعدة القتال يومئذ أوفى وأعظم، وقد يجنح بنا إلى هذا الرأي أن الخطر من نكسة المنافقين في مكة والمدينة غير بعيد، وأن الخطر من غلبة المرتدين غير مستحيل، وأن القبائل إن بقيت في باديتها فأمرها مستدرك حتى تعالج بالهوادة أو بالنذير أو بالقتال آخر الأمر على ثقة من الغلبة فيه.
ذلك جائز واضح الجواز، وما كان كذلك فالقول به ليس بالخطأ العظيم، وإن بينت الحوادث أن القول بغيره كان صوابا جد صواب.
وإنما الخلاف في أهل الردة من ضروب الخلاف التي يفضها الفقهاء؛ لأن الرأي وحده لا يكفي ولن يكفي يوما لفض خلاف في مسألة حاسمة من مسائل التاريخ.
وقد شاء القضاء أن يكون أبو بكر بطل الإسلام في حروب الردة غير مدافع، فهو فيها صاحب الشرف الأول بين ذوي الرأي وذوي العمل في تلك الحروب.
وكأنما عمر قد وضع بشفتيه شفاه المسلمين جميعا على ذلك الرأس الجليل يوم انحنى عليه بالتكريم والتقبيل. وحسب المؤرخ والنفساني عبرة أن يلحظ هذه الثروة النفسية في صدر الدعوة الإسلامية: دعوة فيها لكل موقف أبطال، وفي كل بطل منها أهبة لكل حادث طارئ تختلف فيه الأهب والآراء، وفيهم جميعا التعاون والإخلاص مختلفين ومتفقين. •••
وما انتهت حروب الردة حتى بدأت في تاريخ الإسلام مرحلة أخرى أجل وأعظم، تصدى لها الصديق بذلك العزم الذي تصدى به لكل ما عقد النية عليه وآمن بصوابه: إقدام كأنه لا يعرف المبالاة والتدبير، ومبالاة وتدبير، كأنهما لا يعرفان الإقدام.
كانت المرحلة الأولى تأمين الإسلام في عقر داره.
وكانت المرحلة الثانية تأمين الإسلام في حدوده وتخومه، ودفع الخطر من هجوم الأعداء عليه.
ونقول تأمين الحدود ولا نزيد؛ لأننا نعتقد أن الصديق رضي الله عنه أخذ في تسيير البعوث إلى حدود العراق والشام وهو على هذه النية دون نية الفتح بالسلاح، وأنه رضي الله عنه قد التزم في سياسته الخارجية خطة النبي عليه السلام في تلك السياسة، وهي الخطة التي ظهرت في بعثة تبوك ثم في بعثة أسامة بن زيد، وأصدق ما يقال فيها أنها خطة لا هجوم فيها ولا تهجم، ولا باعث لها إلا دفع الأذى وحماية الطريق، والتمهيد لنشر الدين بالحسنى والبرهان إن تيسر نشره بالحسنى والبرهان، فإن قامت العقبة من قوة طاغية تحول دون ذلك فعلى القوة الطاغية حساب تلك العقبة، حيثما حان أوان الحساب.
ففي غزوة تبوك - كما قلنا في «عبقرية محمد»:
عاد الجيش الإسلامي أدراجه بعد أن أيقن بانصراف الروم عن القتال في تلك السنة، وكان قد سرى إلى النبي نبأ أنهم يعبئون جيوشهم على حدود البلاد العربية، فلما عدلوا عدل الجيش الإسلامي عن الغزوة على فرط ما تكلف من الجهد والنفقة في تجهيزه وسفره.
أو كما قلنا في «عبقرية عمر»:
إن دولة الروم كانت ترسل البعوث إلى تخوم الجزيرة وتهيج القبائل لحرب المسلمين من عهد النبي عليه السلام، وكان المسلمون يعيشون في فزع دائم من خطر هذه الدولة وأتباعها، يدل عليه كلام عمر وهو يتحدث عن أزواج النبي حيث يقول: «... وكنا تحدثنا أن غسان تنتعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته فرجع عشاء فضرب بابي ضربا شديدا وقال: أثم هو! ففزعت فخرجت إليه، وقال: حدث أمر عظيم ... قلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا. بل أعظم منه وأطول؛ طلق النبي
صلى الله عليه وسلم
نساءه!
وهو حديث يتبين منه مبلغ الفزع من تهديد الروم للجزيرة العربية بالليل والنهار.
فلما تولى الصديق رضي الله عنه الخلافة أنفذ بعثة أسامة التي يصح أن تسمى بلغة العصر الحاضر بعثة تأديبية لردع القبائل التي تعيث في الطريق بين الحجاز والشام تأمينا لتلك الطريق وتوطيدا لهيبة الإسلام في نفوس تلك القبائل. فلم تجاوز البعثة هذا الغرض المحدود ولم تلبث أن قفلت إلى المدينة بعد أربعين يوما في قول بعض المؤرخين وسبعين في قول آخرين.
أما غزوة فارس فقد كانت استطرادا لحروب الردة في أطراف البحرين، فكانت القبائل التي تدين لسلطان فارس توالي الإغارة على أرض المسلمين فيدفعونها ويقتصون منها ويتعقبونها في بلادها، وكان الصديق رضي الله عنه يجهل اسم القائد المقدام الذي كان يتولى الدفاع والتعقيب في تلك الأنحاء، فسأل عنه في شيء من العجب: من هذا الذي تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه؟ فعرفه به قيس بن عاصم قائلا: هذا رجل غير خامل الذكر ولا مجهول النسب ولا ذليل العماد: هذا المثنى بن حارثة الشيباني!
فكان هذا الاستطراد في حرب الردة بداءة الاشتباك بفارس ومن والاها من قبائل البحرين والسواد، ومضت الحوادث شوطا قبل أن تنقلب إلى الحرب الضروس بين العرب وفارس في أوسع نطاق، فلما أرسل الصديق خالدا لنجدة المثنى أمره أن «يتألف أهل فارس ومن كان في ملكهم من الأمم.» وتقدم خالد في تأمين الطريق فصالح أهل الحيرة وغيرهم على «أن لا يخالفوا ولا يعينوا كافرا على مسلم من العرب ولا من العجم، ولا يدلوهم على عورات المسلمين ... فإن هم خالفوهم فلا ذمة ولا أمان، وإن هم حفظوا ذلك ورعوه وأدوه إلى المسلمين فلهم ما للمعاهد، وعلى المسلمين المنع لهم ... وأيما رجل منهم وجد عليه شيء من زي الحرب سئل عن لبسه ذلك، فإن جاء منه بمخرج وإلا عوقب بقدر ما عليه من زي الحرب ...»
فمن طلائع الغزوة الفارسية يلوح للمتتبع أنها غزوة فرضتها الحوادث على الخليفة الأول، فاستجاب لها بما ينبغي أن يستجيب، وقبل المناجزة حين لم يكن له من قبولها مناص ولا متحول، ولم ينس مع هذا أن يتألف الأمم، ويسالم الأمراء ويدعوهم إلى السلام والإسلام، ويشخص إليهم من يعلمهم ما هو وصف الدين الذي يدعوهم إليه. فإن أصاخوا إليه فلا حرب ولا عداء، وإن جردوا له السيف رجع معهم إلى حكمه الذي نزلوا عليه. •••
وهكذا قدر للخليفة الأول أن تتوطد على يديه دعائم الدولة الإسلامية الناشئة في سياستها الداخلية وسياستها الخارجية، فما صنعه فقد استمر فيه على خطة النبي عليه السلام، وما صنعه الذين لحقوا به فإنما هو نتيجة لازمة لما بدأ فيه.
وشاء الله أن يشهد سداد رأيه بعينه وهو حظ لا يتاح للكثيرين ممن يفتتحون الدول العظام ولا سيما الشيوخ. فشهد سداد رأيه فيما تم من أعماله وفيما هو آخذ في التمام؛ وفارق الدنيا وهو يعلم أنه قارن التوفيق في حرب فارس كما قارنه في حرب الردة، وليس بينهما تفاوت في الإقدام ولا في ثقة الإيمان .
ويحق لمن يؤرخ تلك الحوادث، ولمن يبحث في صفات الصديق ومناقبه، أن يسأل: ما مبلغ تلك الثقة من الإيمان؟ وما مبلغها من الحساب؟
إنه سير البعوث لإخضاع الجزيرة العربية وهي ترتج رجتها الكبرى، وليس معه من الجند إلا قلة محدودة من أهل تلك الجزيرة.
وإنه سير البعوث إلى تخوم فارس والروم وليس معه من قوة غير المسلمين من العرب، مستثنى منهم في أول الأمر كل من تابوا بعد ردة، وإنه لتفاوت بين القوتين أعظم من التفاوت بين جيش الخليفة وجيوش المرتدين.
أفكانت مجازفة؟
أفكانت يقينا لا تصحبه الروية وهي في الدين الإسلامي مطلوبة مع اليقين؟
لا ريب أن اليقين كان أكبر العدد التي تقدم بها الصديق في بعوث الردة وفي بعوث فارس والروم على السواء.
ولا ريب أنه أقصى المسلمين الذين تابوا بعد ردة فلم يلحقهم بالجند الموجهين إلى تخوم الدولتين؛ لأنه علم أن العدة الكبرى في أولئك الجند هي عدة اليقين الذي لا يتزعزع ولا يدركه الوهن والطمع.
ولا ريب أن يقين الصديق بنصرة الإسلام على الدين كله في يوم من الأيام قد كان أقوى يقين سكن في قلب إنسان أو سكن إليه قلب إنسان.
فكل وعد من وعود القرآن قد كان عنده حقيقة عيان، بل أمكن من حقيقة العيان.
وكل كلمة سمعها من النبي بخبر من أخبار الغد المجهول، فهي عنده شاهد من شواهد الحاضر الملموس باليدين.
نزل القرآن الكريم بغلبة الروم على الفرس في بضع سنين فذهب الصديق إلى مشركي قريش يكبتهم بنبأ هذا النصر القريب؛ لأنهم كرهوه كراهة منهم في كل أهل كتاب، وأحبوا نصر فارس حبا منهم لكل عابد وثن، وقال لهم: ليظهرن الروم على فارس! أخبرنا بذلك نبينا ... فصاح به أبي بن خلف الجمحي: كذبت يا أبا فصيل! قال الصديق: أنت أكذب يا عدو الله، ودعاه أبي أن يراهنه على عشر قلائص. فعاد إليه يقول: بل على مائة إلى تسع سنين؛ لأنه سمع وعد القرآن، ووعد القرآن حقيقة عيان، بل أمكن من حقيقة العيان .
ولما تعقب جاسوس المشركين سراقة بن جعشم ركب النبي عليه السلام في الهجرة سمعه الصديق يقول لسراقة: كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟
فما شك الصديق أن الإسلام غالب الأكاسرة في يوم من الأيام، وأنه منصور على الدين كله كما جاء في الكتاب، وفي حديث صديقه الرسول الأمين.
ذلك كله لا ريب فيه.
سينصر الإسلام على الدين كله في يوم من الأيام. ذلك خبر عيان بل أمكن من خبر العيان.
ولكن أي يوم! ومتى يحين الأوان؟
هنا تبدأ الروية إلى جانب اليقين، بل تجب الروية على ولي الأمر في الإسلام كما يجب اليقين.
ونعتقد نحن أن الخليفة الأول قد أعطى الروية حقها، كما أعطى اليقين حقه، فما كان أبو بكر بالرجل الذي ينسى الحيطة كلما وجبت الحيطة على ولي الأمر، وهي هنا كأوجب ما تكون.
وحسبنا من ذلك حيطته في حراسة المدينة وتبييت الجند بالمسجد حين تجرد لكفاح أهل الردة، ثم وصيته لخالد بن الوليد - وقد علم حنكته في فنون الحرب وقدرته على قيادة الجيوش - فلم ينسه هذا العلم أن يزوده بالنصح حين خرج لحرب المرتدين، فيدير هذا النصح كله على الحيطة واليقظة كما قال من كلام رصين وجيز: «إذا دخلت أرض العدو فكن بعيدا عن الحملة؛ فإني لا آمن عليك الجولة، واستظهر بأفراد، وسر بالأدلاء، وقدم أمامك الطلائع ترتد لك المنازل، وسر في أصحابك على تعبئة جيدة، واحرص على الموت توهب لك الحياة، ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيات فإن في العرب غرة ... وإذا لقيت أسدا وغطفان فبعضهم لك، وبعضهم عليك، وبعضهم لا عليك ولا لك، متربص دائرة السوء ينتظر لمن تكون الدبرة فيميل مع من تكون له الغلبة، ولكن الخوف عندي من أهل اليمامة، فاستعن بالله على قتالهم، فإنه بلغني أنهم رجعوا بأسرهم، فإن كفاك الله الضاحية فامض إلى أهل اليمامة، سر على بركة الله.»
وأدل من هذه الوصية على الحيطة والاحتراس في كفاح الأجانب وصيته ليزيد بن أبي سفيان في فتوح الشام حين يقول: «إذا قدم عليك رسل عدوك فأكرمهم وأقلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به، ولا تريثهم فيروا خللك ويعلموا علمك، وأنزلهم في ثروة عسكرك، وامنع من قبلك من محادثتهم، وكن أنت المتولي لكلامهم، ولا تجعل سرك كعلانيتك فيختلط أمرك ... وأكثر حرسك، وبددهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك، فمن وجدته غفل عن محرسه فأحسن أدبه وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم بالليل واجعل النوبة الأولى أطول من الأخيرة فإنها أيسرها لقربها من النهار ...»
ولم ينس قط ما بين جنده وجند العدو الأجنبي من فروق العدة. فكان يعمل في تدارك هذا الفرق ورأب هذا الصدع ما استطاع. فذهب يوما يتفقد جنده الذين هموا بالخروج لغزو الشام فلم تعجبه عدتهم وسأل من حوله: ما ترون في هؤلاء إن أرسلتهم إلى الشام في هذه العدة؟ فقال عمر: ما أرضى هذه العدة لجموع بني الأصفر، وقال بقية أصحابه: نحن نرى ما رأى عمر، فكتب إلى أهل اليمن يستكمل العدة ويستنهضهم إلى الجهاد ليخفوا إليه بما يسد هذا النقص من جند وسلاح.
فالرجل الذي لا تفوته فائتة من شأن القبائل التي يرسل إليها بعوثه، والرجل الذي يختار القائد فيحسن اختياره، ثم لا ينسى مع ذلك وصيته وتحذيره وإتمام عدته بما يقارب عدة عدوه، والرجل الذي يقرن ذلك كله بالحيطة في مدينته بما في وسعه ليس هو الرجل الذي يزجي البعوث إلى تخوم فارس ولم يأخذ للأمر مثل هذه الحيطة ولم يعمل فيه مثل هذه الروية، وليس بالذي يجازف وله مندوحة عن المجازفة من إرجاء أو مسالمة إلى حين.
وإنما يرجو الغلبة بالقليل على الكثير؛ لأنه يعتمد على «عدة الإيمان» ويعلم كما قال ليزيد بن أبي سفيان: «قد نبأنا الله أن الفئة القليلة مما تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله، وأنا مع ذلك ممدكم بالرجال في أثر الرجال حتى تكتفوا ولا تحتاجوا إلى زيادة إنسان.»
وإننا لنعلم اليوم أن الصديق لم يجازف قط بتجريد البعوث إلى تخوم فارس والروم، ونعلم أن عوامل النصر كانت كلها أو معظمها في صفوفه، وأن عوامل الهزيمة كانت كلها أو معظمها في صفوف أعدائه.
نعلم اليوم أن الفرس قد انهزموا؛ لأنهم كانوا يدفعون العرب عن دولة حطمتها الحروب الخارجية والفتن الداخلية، وباخت نارها التي تعبدها في قلوب أهلها قبل أن تبوخ في معابدها ومشاغلها، وشاع فيهم الخوف من الثبات في القتال حتى قيدوا بعضهم إلى بعض بالسلاسل ليحولوا بين هارب وهربه، وقلت الدربة في قادتهم حتى تخيروا أسوأ المواقع وأسوأ الأوقات للهجوم في معارك كثيرة.
ونعلم أن الروم قد انهزموا؛ لأنهم كانوا يدفعون العرب عن دولة حطمها ما قد حطم الفرس من الحروب الخارجية والفتن الداخلية، وباخت عقائدها في صدورها لفرط ما أرثها من الجدل العقيم والمحال الدميم، واستكانت إلى الذلة زمنا حتى رضيت بالجزية تؤديها لبرابرة الهون والأبارة، واشتملت على أمم كثيرة تعاديها وتتربص بها الدوائر كلما طمع الطامعون فيها.
نعلم اليوم ذلك من الواقع الذي وقع وبطل الشك فيه، ومن التاريخ الذي تفتحت أمامنا صفحاته وقد زال عنها الحجاب.
ولكن الصديق لم يكن قد رأى هذا الذي رأيناه، ولا تصفح هذا الذي تصفحناه، فهل معنى ذلك أنه أقدم بغير علم، وأنه نسي ما طبع عليه من الحيطة والحزم، وأنه سها عن واجب الروية وقد تهيأ له واجب اليقين؟!
لا، فإن الذي كان يعلمه الصديق قد كان يكفيه ويغنيه عن هذا الذي علمناه.
كان يعلم أن الفرس قد خسروا قبل الإسلام وقعة ذي قار وهم أقوى صولة، والعرب أضعف شأنا من شأنهم بعد الإسلام.
وكان يعلم أن الروم قد صبروا على بعثتين عربيتين بلغتا من بلادهم إلى التخوم، وأوغلتا في بعض الأطراف، ثم فترت همتهم عن مقابلة ذلك بالقمع والقصاص السريع.
وكان يعلم أن العرب إن طلبوا الدين حاربوا صادقين في القتال، وإن طلبوا الدنيا حاربوا صادقين في القتال، وأنهم موعودون بالنصر ومؤمنون بصدق الوعد ومقبلون بنفوس تحب الموت كما يحب أعداؤها الحياة، وأنهم خفاف لا تثقلهم العدد محميون من وراء ظهورهم بالصحراء إن وجبت الرجعة، مقدمون على أرض خبرتها طلائعهم وهونت عليه خطبهم، وأبلغته من أخبار فتنها ومفاسدها ما يملي له في الإيمان بالقدرة عليها.
فإذا علم هذا فهو حسبه من الروية مقرونا بذلك اليقين الذي لو سها عن كل روية لكان له بعض العذر، وكان به جل الغناء. •••
وفي أقل من ثلاث سنوات قصار أنجز ما أنجز من تلك المآثر الطوال ... وفي أقل من ثلاث سنوات أنفذ بعثة أسامة وفي سبيلها ما فيه من صعاب، وقمع الردة وحولها ما حولها من خطر، ووطئ حدود فارس والروم ولها ما لها من هيبة ومنعة؛ ثلاثة أركان للدولة الإسلامية لم يكن ليقوم لها ركن قبل أن تقوم، ولو أنها حسبت لثلاثين سنة - ولم تحسب لثلاث سنوات قصار - لجللتها جميعا بالثناء والفخار.
ولم يتسع الزمن لإقامة نظام للدولة الإسلامية في عهد أبي بكر على مثال النظم السياسية والإدارية التي تقام للدول الكبار في حداثة نشأتها. أو لعل المسألة هنا ليست مسألة اتساع الوقت وضيقه في عهد الخلافة الأولى، ولكنها مسألة الحاجة إلى تلك النظم وقلة الحاجة إليها، ففي عهد الخليفة الأول بعد النبي عليه السلام لم يطرأ على إدارة الدولة الإسلامية ما يدعو إلى نظام جديد غير النظام الذي كانت تجري عليه عهده عليه السلام؛ لأن الجزيرة العربية عادت بعد حروب الردة إلى مثل ما كانت عليه في أيام النبوة، ولأن الأرجاء الأجنبية التي زحفت عليها بعوث المسلمين لم تزل إلى آخر خلافة الصديق في دور الغزو والفتح، ولم تبلغ بعد إلى دور التوطيد والتنظيم، فكل ما جرى عليه النظام في أيام النبوة، فقد كان صالحا للاتباع في أيام الخلافة الأولى، وههنا تتجلى حكمة النبي عليه السلام في إسناد الخلافة الأولى إلى أصلح الناس لمتابعة العهد النبوي على حاله الذي كان عليه. حتى إذا حان وقت التوسع والتصرف وجد الوقت من هو أصلح وأقدر عليه، وكأنه كان معروفا من قبل موكولا إلى حينه الذي يترقبه ويستدعيه، ولن يكون إلا عمر بن الخطاب كما سماه عليه السلام حيث قال: «أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين نزعا ضعيفا، والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غربا، فلم أر عبقريا يفري فريه حتى روي الناس وضربوا بعطن.» •••
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الأداة الحكومية - أو الإدارية - لم تكن في عهد الصديق محتاجة إلى نظام غير النظام الذي اتخذه النبي عليه السلام، واكتفى به في إدارة الشئون العامة بمكة والمدينة والجزيرة العربية، مع التعديل الذي اقتضاه توزيع العمل وتفرقة العبء الكبير بعد وفاة النبي، وغياب المرجع الأعلى الذي ترتفع إليه جميع الأمور.
فتولى بيت المال رجل سماه النبي عليه السلام «أمين الأمة» وهو أبو عبيدة بن الجراح، وتولى القضاء رجل لم يشتهر أحد بالعدل اشتهاره وهو عمر بن الخطاب، وتولى الكتابة كاتب النبي عليه السلام زيد بن ثابت، وكانت ولاياتهم أقرب إلى الارتجال والتداول منها إلى التكليف الدائم والعمل المرسوم.
وكان قادة الجند يفتحون البلدان ويقيمون فيها الولاة والقضاة على النحو الذي ألفوه في الجزيرة العربية، ومن عرضت له مشكلة من مشكلات الإدارة في بلد أجنبي تركها على النحو الذي كان مألوفا في ذلك البلد، إلا ما كان فيه خلاف للدين.
وكل من ولاه النبي عليه السلام في حياته عملا من الأعمال العامة أبقاه الصديق في مكانه، أو رده إليه إن كان قد تحول عنه، أو استأذنه في تحويله عنه إن بدا له من مصلحة المسلمين ما أوجب تحويله، كما كتب إلى عمرو بن العاص:
إني كنت قد رددتك إلى العمل الذي كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولاكه مرة، وسماه لك أخرى: مبعثك إلى عمان، إنجازا لمواعيد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقد وليته ثم وليته، وقد أحببت - أبا عبد الله - أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك.
وأشار عمر بن الخطاب بعزل خالد بن الوليد بعد أن قتل مالك بن نويرة على غير بينة قاطعة في رأي عمر، وتزوج بامرأته في ميدان القتال وهو أمر تكرهه العرب قبل الإسلام وبعد الإسلام. فاختلف الفاروق والصديق اختلافهما الذي يرجع من كل منهما إلى أصل أصيل في الطباع والنظر إلى الأشياء والرجال: والفاروق وديدنه أن يوقع الجزاء بمن يستحقه كائنا من كان، والصديق وديدنه أن يتألف ويستبقي ولا يبتدئ شيئا بغير سابقة، وساعده على إبقاء خالد سابقة للنبي عليه السلام معه في حرب بني جذيمة. فإنه تعجل يومئذ في قتل بعض الأسرى فوداهم النبي عليه السلام حتى رد إليهم ميلغة الكلب، ورفع يديه يبرأ إلى الله مما صنع خالد، ولكنه لم يعزله من الإمرة أو القيادة. فكانت هذه السابقة أمام الصديق يوم لام خالدا على ما بدر عنه ثم أبقاه.
وما من شيء يدل على تكافؤ العظمة بين الرجلين، كما تدل عليه الحجة التي يعتمد عليها كل منهما حين يختلفان. فما اختلفا قط بحجة تضعف من ناحية، وحجة تقوى من الناحية الأخرى، بل كان لكل منهما حجته الناهضة فيما يجنح إليه، وإن كانت هذه حجة اقتداء، وهذه حجة ابتداء.
جاءت الغنائم والأنفال إلى بيت المال لتوزيعها بين من يستحقونها من الرجال والنساء. فكان الفاروق يجنح إلى تمييز الأنصبة على حسب المآثر والأقدار، وحجته أنه لا يسوي بين من قاتل رسول الله، ومن قاتل مع رسول الله، وكان الصديق يجنح إلى التسوية بين الأنصبة بغير تمييز، وحجته أن «الأعمال شيء ثوابه على الله، وهذا معاش فالأسوة فيه خير من الأثرة.»
وما اختلفت حجة الابتداء وحجة الاقتداء - أو ترك الابتداء - كما اختلفت هاتان الحجتان على مساواة في النهوض والإقناع.
وقد جرى الصديق في سياسة الدولة على سنة النبي عليه السلام من مشاورة ذوي الرأي والثقة في كل ما جل أو دعا إلى السؤال، ولكنه كان يستقل بالرأي حين تكون التبعة فيه تبعته دون غيره، كما استقل بالرأي في اختيار الخليفة من بعده، واستقام له بعد المشاورة والروية أن يعهد بالخلافة إلى عمر بن الخطاب.
فخلاصة ما يقال في سياسة الصديق للدولة الإسلامية على عهده أنها كانت سياسة المقتدي المقتدر الفعال الذي يصغي إلى النصح ممن يرون التصرف والتمييز والابتداء، ولم يكن قط مقتديا على ضعف وتواكل وإلقاء بالتبعة على غيره، بل ربما اقتدى ليعمل ما هو أصعب وأعضل وأنهض بالتبعة من أعمال المتصرفين.
وإذا حسبت لأبي بكر بعوث أسامة، وبعوث الردة، وبعوث فارس والروم، فلا بد أن يحسب له عمل آخر لا يدخل في باب البعوث، ولكنه أقوم للدولة الإسلامية من جميع هذه البعوث؛ لأنه دستور هذه الأمة التي لم تقم لها قائمة بغيره، وهو جمع القرآن.
وقد كانت سنته في جمع القرآن سنته الواضحة التي لا محيد عنها: وهي سنة الاقتداء والإصغاء إلى القويم من الآراء. فلما مات من مات من حفاظ القرآن في حروب الردة وخيف على من بقي منهم أن تأتي عليهم حروب فارس والروم كبر الأمر على عمر فأشار على الخليفة بجمع القرآن. فأحجم بادئ الرأي، وهو يقول: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله؟ ثم انشرح صدره لما أشار به عمر فتجرد له بجميع عزمه؛ وانقضت خلافته على القول الأشهر، والقرآن مجموع مفروغ من كتابته في المصاحف كما نقرؤه الآن.
وكانت الدولة الإسلامية بهذه المثابة أمانة أعظم بها من أمانة تنوء بها كواهل الرجال. يقول من شاء ما شاء في دراسة هذه الفترة الخالدة، إلا شيئا واحدا لا يقوله عارف بما يقول، وهو أن أحدا كان يتلقى تلك الأمانة خيرا من تلقيه أو يسلمها خيرا من إسلامه، منذ أن تلقاها بيد من النبي عليه السلام حتى أسلمها بيد إلى عمر بن الخطاب.
الفصل الثامن
الصديق والحكومة العصرية
قلنا في الفصل السابق عن الصديق والدولة الإسلامية: إن الحاجة لم تدع في عهده إلى نظام غير النظام الذي سنه النبي عليه السلام لسياسة الجزيرة العربية، وإنه رضي الله عنه قد توفي ولما تستقر الأمور في البلاد المفتوحة على حال تدعو إلى اتباع نظام شامل لكل قطر من أقطار الدولة الإسلامية.
إلا أن الصديق كان أول خليفة قام بالحكم الإسلامي بعد عهد النبوة فمن الطبيعي أن نسأل عن نوع الحكم الذي توصف به حكومته وحكومة الخلفاء من بعده، وأن نعرف وجه المشابهة بين تلك الحكومة وحكومات العصر التي قامت على المبادئ الدستورية الحديثة.
فأي حكومة هي حكومة الصديق أو حكومة الإسلام في عهده؟ وأي العناوين هو أقرب إليها من عناوين الحكم في هذا العصر الحديث؟
الديمقراطية - ولا ريب - هي أقرب النظم إلى نظام الحكم في عهد الصديق.
ولكن الديمقراطية أشكال تختلف في العصر الواحد بين أمة وأمة، ولها قواعد دستورية ومقدمات تاريخية من العسير أن نوحد بينها وبين قواعد الخلافة ومقدماتها، ومن السهل جدا مع هذا أن نصدف عن هذا التوحيد دون أن نغض من نوع الحكومة في صدر الإسلام.
فليس من المحقق أن حكومة الإسلام يومئذ توصف بالديمقراطية على المعنى الذي نفهمه من هذه الكلمة في هذه الأيام.
ولكن من المحقق أن الحكومة الإسلامية على النحو الذي جاء به القرآن الكريم واتفق عليه المسلمون كانت بعيدة كل البعد من جميع أنواع الحكومة المعيبة أو جميع المبادئ التي تستند في تقرير حكم الشعوب على أساس معيب.
فإذا كانت حكومة الخلافة لم تقرر الديمقراطية على أساسها العصري المعروف بيننا فهي - بلا ريب - قد أبعدت مبادئ الأوتوقراطية، ومبادئ الثيوقراطية، ومبادئ الأليجاركية، ومبادئ حكومة الغوغاء، وسائر المبادئ التي لا تستقيم مع حرية الفرد ومع الفطرة السليمة.
فالأوتوقراطية، وهي حكومة الفرد المستبد ممنوعة في الإسلام؛ لأن القرآن الكريم يأمر النبي أن يشاورهم في الأمر وينص على أن:
وأمرهم شورى بينهم [الشورى: 38].
وإذا كان النبي الذي يتلقى الوحي الإلهي لا يجل عن مشاورة أتباعه والرجوع إلى رأيهم في سياسته، فغيره من ولاة الأمر أولى أن يتقيد بالشورى ويتجنب حكومة الطغيان.
والثيوقراطية، وهي الحكومة التي يدعي فيها الحاكمون صفة إلهية ممنوعة كذلك في الإسلام؛ لأن القرآن الكريم يعلم المسلمين أن النبي بشر مثلهم ويبطل الكهانة والوساطة بين الإنسان وربه، وقد نهى النبي ولاته وأمراء جيشه أن يبرموا العهود باسم الله أو باسم رسوله، فكان يقول لمن ولاه: «... لا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله.»
ولما قيل للصديق: يا خليفة الله، أنكر ذلك وقال: إنما أنا خليفة رسول الله، وسأل الناس أن يقوموه ويرشدوه.
والأليجاركية، وهي حكومة الفئة القليلة من الأعيان والسروات ممنوعة كذلك من المسلمين؛ لأن بيعة الخاصة في الإسلام لا تغني عن بيعة العامة وليس في الإسلام سيادة نسب كما جاء في الحديث الشريف:
اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة.
وحكومة الأهواء سواء كانت أهواء الوجوه أو أهواء السواد ممنوعة كما منعت الحكومات التي أسلفناها.
فليست أهواء المحكومين مغنية عن أصول الحق والعدل ودستور الشريعة والنظام، وفي ذلك يقول القرآن الكريم:
فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا [المائدة: 48].
وإذا امتنعت كل هذه المبادئ المعيبة في حكم الناس فقد صلحت الحكومة بما شئت من الصفات والعناوين: إذ الحكومة على تعدد أنواعها إنما تنحصر في نوعين اثنين هما النوعان اللذان فرق بينهما أرسطو في أصول السياسة: أو هما الحكومة الصالحة لمصلحة المحكومين، والحكومة الفاسدة لمصلحة الحاكمين. وكل ما عدا ذلك من الصفات والعناوين فهو داخل في أحد هذين النوعين.
فإذا لم تكن حكومة الصديق ديمقراطية حديثة فالديمقراطية لا تتوخى من الحكم غاية أفضل من الغاية التي تتوخاها حكومة الخلافة، ولا تبعد من المبادئ شيئا غير المبادئ التي أبعدتها الحكومة الإسلامية بما نص عليه القرآن الكريم أو الحديث الشريف أو اتفاق المسلمين. •••
أما الحكومة من حيث علاقتها بشخص الخليفة وخلائقه النفسية فخلائق أبي بكر التي عرفناها دليل عليها: عفه وصدق ودعة وحزم وأناة وكيس، وكل ما يعهد من هذه الخلائق فهو معهود من الخليفة الأول في جميع ما حكم به وتولاه.
ولي الخلافة فأصبح ذات يوم وعلى ساعده أبراد يذهب بها إلى السوق، فلقيه عمر فسأله: أين تريد ؟
قال: إلى السوق.
قال: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟
قال: فمن أين أطعم عيالي؟
فأشار عليه أن يذهبا إلى أبي عبيدة أمين بيت المال ليفرض له قوته وقوت عياله. ففرضت له ستة آلاف درهم في السنة.
وكان يقيم بالسنح على مقربة من المدينة فتعود أن يحلب للضعفاء أغنامهم كرما منه ورفقا بهم. فسمع جارية تقول بعد مبايعته بالخلافة: اليوم لا تحلب لنا مفاتح دار.
فسمعها فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم.
فكان يحلبها وربما سأل صاحبتها: يا جارية! أتحبين أن أرغي لك أو أصرح؟ فربما قالت: أرغ، وربما قالت: صرح. فأي ذلك قالته فعل.
ثم تكاثرت أعمال الحكومة فانتقل إلى المدينة ورأى أن يعين نفسه على النفقة بالتجارة حيثما استطاعها. فلما حضرته الوفاة أمر أن يحصى ما أخذه من بيت المال فيرد من ماله وأرضه، وقال لعائشة رضي الله عنها: فإذا أنا مت فردي إليهم صحفتهم وعبدهم ولقحتهم ورحالهم، ودثارة ما فوقي اتقيت بها البرد، ودثارة ما تحتي اتقيت بها نز الأرض، كان حشوها قطع السعف.
ومما روي عن عفته وزهده أن امرأته اشتهت حلوا واستفضلت من نفقتها في عدة أيام ما تشتريه به، فلما علم ذلك رد الدريهمات إلى بيت المال وأسقط من نفقته كل يوم ما فضل منها لثمن الحلوى.
وما كان صديق النبي وصفيه ليبيح لنفسه ما لم يبحه النبي، وإن استطاع من خاصة ماله، فضلا عن بيت مال المسلمين.
وكان حكمه إلى الرفق والأناة والكياسة، غير غافل عن اليقظة والحزم حيثما وجبت يقظة وحزم.
فكان يتقصى أخبار الولاة ويسأل الرعية: هل من أحد يتشكى ظلامة؟ فإن وجد ظلامة أنصف المظلوم على سنته التي استنها، وهي أن الكبير صغير حتى يأخذ الحق منه.
وكان يوصي قائده: «ألا تغفل عن أهل عسكرك فتفسده، ولا تتجسس عليهم فتفضحهم، ولا تكشف الناس عن أسرارهم واكتف بعلانيتهم.»
أو يقول: اقبل علانيتهم وكلهم إلى سرائرهم، ويأمره مع ذلك ألا يغفل عن استطلاع أمرهم لإصلاح ما فسد منه.
وإلى كياسته يرجع الفضل في تغليب مبدأ من أسلم مبادئ القضاء قديمها وحديثها، أخذ به رجال المسلمين في قضائهم واتبعته الحكومات العصرية جميعا في قضائها، ونعني به المبدأ الذي يحرم على القاضي أن يحكم بعلمه في إقامة الحدود، وقد آثره الصديق رضي الله عنه فقال: «لو رأيت رجلا على حد من حدود الله لم آخذه حتى يكون معي شاهد غيري». •••
وما حفظت له وصية قط إلا ظهر فيها خلقاه الغالبان: الكياسة والصدق، فإذا حذر الولاة أن يكشفوا عن أسرار الناس لم ينس قط تحذيرهم من إخلاف الوعد والوعيد، وجماع ذلك قوله لعكرمة: «مهما قلت إني فاعل فافعله، ولا تجعل قولك لغوا في عقوبة ولا عفو، ولا ترج إذا أمنت ولا تخافن إذا خوفت، ولكن انظر ماذا تقول وما تقول، ولا تعدن معصية بأكثر من عقوبتها، فإن فعلت أثمت وإن تركت كذبت.»
وجرى حكمه كله على هذه السنة من الرفق والصدق ومن اليقظة والحزم، ومن الكيس والفطنة، لم تؤخذ عليه إلا بادرة واحدة هي إحراقه الفجاءة في ساعة من ساعات الحدة التي كان يغالبها جهده، حتى غلبته مرة في عقاب هذا اللص الخاتل السفاح.
وكان الفجاءة هذا - أو إياس بن عبد ياليل - قد جاء الصديق فاستعانه بالسلاح لقتال المرتدين، فلما أعطاه السلاح أخذه ليقطع الطريق ويعيث في الأرض ويثخن فيمن صادفه قتلا ونهبا من المسلمين كان أو المرتدين، وتفاقم شره وعظم بغيه حتى وقع في الأسر وجيء به إلى الخليفة وهو يرى أنه قد استحق جزاء أكبر من جزاء القتل؛ لأن جرمه أكبر من جرم قاتل. وقد استثاره هذا الرجل بكل ما يثيره ويذهب بحلمه ورفقه: استثاره بكذبه عليه وهو يمقت الكذب، واستثاره بخداعه إياه وهو يكره أن يعبث به أحد، واستثاره بتسخيره في قتل المسلمين بما أعطاه من سلاح وعدة، فأكبر جرمه بمقدار ما يكبر عنده الصدق والكرامة والغيرة على دماء المسلمين، وأمر به أن يلقى في نار توقد له في مصلى البقيع.
خطأ ولا ريب ...
ولكنه خطأ له عذره، وخطأ في رأي أبي بكر نفسه قد ندم عليه بعد فورة الغضب التي ذهبت بحلمه ورفقه، وقد ظل يذكر هذا الخطأ ويأسف له إلى أن قال وهو يجود بنفسه: «وددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمى وأني كنت قتلته سريحا أو خليته نجيحا ...»
ومهما يكن من رأي الأقدمين أو المحدثين في هذا الحادث فالخطأ الذي لا جدال فيه أن ندين به الإسلام كله أو ندين به أبا بكر كله في جميع حالاته. ففي كل عصر تقع الحوادث من أشباه هذا الحادث المفرد، ولا تحسب على دين أو دولة سواء في العصر القديم أو العصر الحديث ...
إنما يحسب على الإسلام ما هو قاعدة من قواعده، ويحسب على أبي بكر ما هو سنة مطردة في حكومته، وما عدا ذلك فهو نبوة عارضة عذره فيها فداحة الجرم وشفيعه فيها طول الندم، فمن غلا في المؤاخذة حتى فتح من هذا الحادث المفرد بابا للمقارنة بين عصر وعصر، وبين حاكم وحاكم فقد أضاف إلى سوء النية جهله بالعصر الحديث.
وعلى هذا يثبت من شاء هذا الحادث لحكومة أبي بكر ويحذفه من شاء منها، فلا تزال على الحالين قدوة لأصلح الحكومات العصرية في مزيتين جامعتين: إحداهما إبطال المبادئ الضارة التي تفسد الحكومة على اختلاف صفاتها وعناوينها ودعاواها، والثانية تقرير الغاية التي تفضلها غاية لحكومة إنسانية: وهي حرية الفرد ومصلحة المحكومين.
الفصل التاسع
الصديق والنبي وصحبه
سئل النبي عليه السلام: يا رسول الله: أي الناس أحب إليك؟
قال: عائشة.
قالوا: إنما نعني من الرجال.
قال: أبوها.
وكان عليه السلام يقول: ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه بها ما خلا أبا بكر، فإن له يدا يكافيه الله بها يوم القيامة.
ويفسر ذلك قوله عليه السلام: ما أحد أعظم عندي يدا من أبي بكر: واساني بنفسه وماله، وأنكحني ابنته.
وكان عمر بن الخطاب يقول: أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
وهذه حقيقة لو لم يؤيدها لسان المقال لأيدها ما يسمونه بلسان الحال. فإن أبا بكر كان ألزم الناس للنبي وأعرفهم بسره وجهره وأقربهم إلى ثقته وحسن رأيه، وكان النبي عليه السلام يسمر عنده في شئون المسلمين ويركن إلى مشورته في كثير من الأحايين، وإذا بلغ من شأن رجل أن يكون أحب الناس إلى النبي عليه السلام فهو أهل لحبه وأهل لثقته لا مراء؛ لأن هذا الحب في النفوس العظيمة قرين الثقة والتقدير لا يخلو منهما ولا ينفصل عنهما، فمن استحق منها الحب الراجح فقد استحق عندها الثقة الراجحة في آن.
فلم يكن حب النبي أبا بكر حب الرجل يجزي به من يحبه ويخلص له ويوليه الجميل من ذات نفسه وماله ثم لا مزيد. ولكنه كان كذلك حب الرجل من يستحق منه الحب لفضيلته وكفايته واقتداره على معونته فيما تجرد له من عمل عظيم لا يضطلع به كل معين.
وحين قدمه للإمامة من بعده لم تكن وسيلته إليها حب الإخلاص والجزاء، بل كانت وسيلته إليها حب الثقة والروية وحب الدعوة التي تجرد لها وحب المسلمين الذين آمنوا بتلك الدعوة. فإن نبيا كمحمد عليه السلام لا يجعل مستقبل دينه مكافأة لصداقة إنسان، وإنما يكل هذا المستقبل لمن هو أهل لأمانته وأقدر على صيانته، وهو من أجل ذلك أهل للحب وأهل للبقيا والادخار.
أما حب أبي بكر محمدا فهو كما قدمناه حب الإيمان والإعجاب والولاء، وهو الحب الذي تهون فيه على المرء نفسه وماله وذووه، وينزعه من ماضيه ليستولي على حاضره كله وما هو أعز عليه من الحاضر وما فيه، وهو الأمل فيما يشهد والأمل فيما وراء الغيب، بل الأمل في حياة لن تبيد.
فمنذ اللحظة التي انعقدت فيها الصداقة بينهما رضي الصديق الأمين أن يسخو في سبيل هذه الصداقة بكل نفيس عنده وكل أثير لديه وأنفق ماله وفارق وطنه وأبناءه وهاجر من مكة مخاطرا بحياته، فما همه وهو محفوف بالخطر في طريقه إلا صاحبه الذي معه يفديه بما وسعه من فداء؛ ليسبقه تارة ويخلفه تارة أخرى ليدرأ عنه الشر من حيثما توقعه واتقاه، ثم يقيم على هذا العهد ما أقام في دنياه، غير باخل بعزيز، ولا ناكص عن محذور ولا نادم على مبذول أو مفقود.
ومن فضول القول أن يقال: إنه أقام على عهده هذا بعد موت النبي، كما أقام عليه طوال حياته، فكل حركة تحركها وكل كلمة قالها شهيد بذلك له عند من ينصف ويعقل، بل عند من يعقل ولو لم يكن من المنصفين.
إذ ليس من العقل أن يقدح قادح في ولاء الصديق للنبي بما حرم فاطمة رضي الله عنها من ميراث أبيها. فلئن حرمها لقد حرم عائشة مثلها؛ لأن الأنبياء في شرعة محمد لا يورثون، وما أراد أبو بكر أن يضن بميراث محمد على وارثيه ومنهم بنته وأحب الناس إليه، ولكنه أراد أن يضن بدينه ويضن بوصاياه، وهي أولى أن تصان من المال ومن البنين، كذلك لا يقال: إنه حرم عليا رضي الله عنه حقا في الخلافة، فما كان في وسعه أن يحرمه شيئا لو كان عليه السلام قد وصى له بشيء، وما كانت فاطمة بغائبة عن سرير أبيها في مرض موته فيقال: إنهم قد كتموا عن النبي بعض ما قال، ولا كان علي بالذي يعوزه المنطق لو أنه أراد البرهان من القرآن الكريم أو أراد الحجة من الحديث الشريف. ومن أين لأبي بكر تلك القوة التي ينتزع بها الخلافة انتزاعا من آل النبي ومن الأنصار والمهاجرين بغير حجة وبغير برهان؟ لئن استطاع ذلك غير محتال ولا مغتال ولا سافك دم لكفى بذلك آية له أنه أحق المسلمين بولاية أمر الإسلام وأقدرهم عليها، وما استطاعه بعد ذلك من تثبيت الدين وقمع الفتنة وافتتاح الدولة لهو الآية بعد الآية والتمكين فوق التمكين.
لقد حدث بعد النبي ما لا بد أن يحدث، وما ليس بكثير أن يحدث في موقف مقتضب لم يمهد له بسابق متبوع ولا بقدوة مأمومة، فتأخر علي على المبايعة أشهرا وقيل: إنه لم يتأخر غير أيام بل ساعات، فلا هو ولا أبو بكر صنعا ما يعاب في هذه الفترة طالت أو قصرت؛ لأن أبا بكر كان يندب عليا للمهمات في حراسة المدينة وعلي كان يلبي ندبة أبي بكر تلبية الصدق والنجدة. ولو صح أن أبا بكر أخفى حقا يشينه إخفاؤه لما أقر علي له ببيعة، ولا رضي له ولا لمن بعده بصحبة، فكيف لو صح ما تهوس به بعض المتهوسين من إخفاء آيات من القرآن أو كلمات من الحديث؟
جهد ما يقال في أحداث تلك الفترة أنها مدعاة أسف لا يؤسى عليها؛ لأنها أقل ما يؤسف له إلى جانب الغبطة التي يغتبط بها من أحاط بالموقف وأحاط بدواعي الخطر فيه ودواعي السلامة منه.
أما عهده لعمر من بعده فلا محل هنا للموازنة بين استخلاف عمر واستخلاف علي في تلك الآونة، ولكننا نقول: إن الصديق قد جهد في مسألة العهد جهد رأيه، وإنه كان يود أن يكل الأمر إلى المسلمين يختارون من يشاءون، فجمع إليه نخبة من أهل الرأي وقال لهم فيما قال: «... قد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة مني كان أجدر ألا تختلفوا بعدي.»
فلم يستقم لهم أمر كما جاء في رواية الحسن البصري، ورجعوا إليه يقولون: «إن الرأي يا خليفة رسول الله رأيك» فاستمهلهم حتى «ينظر لله ولدينه ولعباده.»
ثم استقر رأيه على استخلاف عمر بعد مشاورة عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وسعيد بن زيد وأسيد بن الحضير.
وسأل عليا فقال: «عمر عند ظنك به ورأيك فيه، إن وليته - مع أنه كان واليا معك - نحظى برأيه ونأخذ منه، فامض لما تريد، ودع مخاطبة الرجل، فإن يكن على ما ظننت إن شاء الله فله عمدت، وإن يكن ما لا تظن لم ترد إلا الخير.»
وأملى أبو بكر كتاب العهد على عثمان بن عفان فكتبه وختمه وخرج به مختوما ونادى في الناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ ... وقيل إن أبا بكر أشرف من كوته فقال: «يا أيها الناس! إني قد عهدت عهدا أفترضونه؟ فقالوا: رضينا يا خليفة رسول الله . وقام علي فقال: لا نرضى إلا أن يكون عمر.»
ثم كانت البيعة التي أجمع عليها المسلمون. •••
فالمسألتان اللتان حسبتا من قبيل الخلاف بين الصديق وعترة النبي عليه السلام هما هاتان المسألتان: الميراث والخلافة.
ففي مسألة الميراث ما كان له أن يبرم فيها غير ما أبرم وقد علم أن النبي لا يورث كما قال عليه السلام، وكان حكم عائشة في هذا كحكم فاطمة رضي الله عنهما، وقد حضرته الوفاة وهو يوصي عائشة أن تنزل للمسلمين عما وهب لها من ماله، وإنه لحل لها بالهبة والميراث.
وفي مسألة الخلافة لا تحمد المجاملة حيث تكون المجاملة إخلالا بالذمة التي بينه وبين ربه، وإخلالا بالوحدة الإسلامية ومصالح المسلمين مجتمعين.
وفيما عدا هاتين المسألتين لم يكن من أبي بكر في حق علي وفاطمة إلا أحسن المجاملة والإجمال، ولم يكن منه تقصير قط في تعهد البيت النبوي بما يصون وقاره، ويحمي جواره، بل كان منه في حق أهل البيت كل ما يرضي ويريح.
وجرى أبو بكر في معاملته لصحابة النبي على طبعه الذي فطر عليه، وهو الرفق والمروءة والحياء، فأحسن صحبتهم وأثبت لهم ما أثبته النبي لهم في حياته، ولم يكن منه في حقهم ما يشكونه إلا ما شكا منه بعضهم حين التسوية بينهم وبين العبيد والنساء في حصة بيت المال، وذلك رأي له قدمنا حجته فيه، فأقدارهم عند الله يجزيهم عليها الله، وهذا معاش تحسن فيه المساواة بين الناس.
وكان أقربهم إليه وأجمعهم لثقته وحسن ظنه عمر بن الخطاب؛ عرفه على حقيقته التي جهلها بعض الصحابة، وعرف ما في باطن نفسه من رحمة تخفيها خشونة ملمسه وشدته في عمله. فلما سأل عنه عبد الرحمن بن عوف أجابه: «إنه أفضل من رأيك فيه، ولكن فيه غلظة» فقال عن خبرة به: «هو كذلك لأنه يراني رقيقا، ولو أفضي الأمر إليه لترك كثيرا مما هو فيه.»
وقد آثر أبو بكر أن يبقى عنده نخبة الصحابة في المدينة فلا يقصيهم في الولايات ولا يفرقهم بين الأقطار؛ لأنهم أحق الناس أن يستشيرهم ويرجع إليهم ويشركهم معه في رقابة العمال والولاة، وسئل في أهل بدر: لم لا يوليهم عملا فقال: أكره أن أدنسهم بالدنيا، ولعله يريد بالتدنيس تعريضهم لفتنة الدنيا وشهوة الحكم وغواية المال والمتاع.
ولا ندري على التحقيق أي الصاحبين كان صاحب الفكرة الأولى في هذه السياسة التي اتفقا عليها ولم ينحرفا عنها قط في عهديهما إلا لضرورة نادرة. ونعني بها سياسة الإقلال من إسناد الأعمال إلى كبار الصحابة.
فعمر كان مشتدا في اتباع هذه السياسة حتى ليخطر على البال أنه هو صاحب الفكرة السابقة فيها، وكان أبو بكر يخالفها حينا فيحاول عمر أن يرده إليها. قال: «لما خرج معاذ بن جبل إلى الشام أخل خروجه بالمدينة وأهلها في الفقه وما كان يفتيهم به، ولقد كنت كلمت أبا بكر رحمه الله أن يحبسه لحاجة الناس إليه، فأبى علي، وقال: رجل أراد جهادا يريد الشهادة فلا أحبسه، فقلت: والله إن الرجل ليرزق الشهادة وهو على فراشه.»
إلا أن أبا بكر كان يحاذر انطلاق بعض الصحابة محاذرة الرجل الذي امتلأ بيقين رأيه ولم يستمده من مشورة غيره. فلم ينس أن يحذر عمر هذا التحذير في وصيته إياه بعد استخلافه حيث قال: «واحذر هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الذين انتفخت أجوافهم، وطمحت أبصارهم، وأحب كل امرئ منهم لنفسه، وإن منهم لحيرة عند زلة واحد منهم، فإياك أن تكونه، واعلم أنهم لن يزالوا منك خائفين ما خفت الله ...»
وفاض هذا الرأي من لسانه حين أحس من بعض المهاجرين طمعا في الاستخلاف دون عمر بن الخطاب، فقال لعبد الرحمن بن عوف وقد دخل عليه يعوده: «... ما لقيت منكم أيها المهاجرون أشد علي من وجعي، إني وليت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر دونه، ورأيتم الدنيا قد أقبلت، ولما تقبل، وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج وحتى يألم أحدكم بالاضطجاع على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم إذا نام على حسك السعدان. والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فيضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض غمرات الدنيا. ثم أنتم غدا أول ضال بالناس يمينا وشمالا، لا تضيعوهم عن الطريق. يا هادي الطريق جرت!»
فهذا كلام رجل ممتلئ النفس باليقين مما يقول، فليس هو برأي انتقل إليه من غيره استحسنه وارتضاه، ولكنه - فيما نرجح - رأي اتفقا عليه وقلباه بينهما فازداد كل منهما يقينا به فوق يقين. •••
على أن هذه النصائح القوية بين يدي الموت تكشف من حياة أبي بكر ما ليست تكشفه الأخبار المطولة والأقوال المستفيضة، فهي تشهد له أنه قد سار في حياته تلك السيرة التي يريدها من الصحابة ويحث عليها أناسا في منزلة عبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب، وأن تلك السيرة كانت من البدائه المعروفة التي يصدر عن صاحبها النصح فيسمعه أمثال هذين الصحابيين الكبيرين. وقد كانت هذه في الواقع منزلة أبي بكر بين الصحابة عامة وخاصة: استحقها بينهم بسابق إسلامه وقديم صحبته للنبي صلوات الله عليه، واستحقها برياضة نفسه على الكرامة والوقار حتى امتلأت النفوس حوله بكرامته ووقاره، ولم يكن أحد غير أبي بكر يسكت عمر بن الخطاب وقد ثار ثورته بعد موت النبي، أو يسكته وقد نهض للكلام أول مرة في سقيفة بني ساعدة، وما أسكته يومئذ لأنه خليفة فما كان يومئذ بالخليفة ولا كان عمر بالذي تسكته هيبة منصب أو سطوة سلطان، ولكنه رجل وقور يستمع له رجل حق. وناهيك بمن يهابه عمر بن الخطاب! إنه لأحق امرئ بين الصحابة أن يهاب.
الفصل العاشر
ثقافته
تعرف ثقافة الرجل المثقف بعلامات كثيرة، ولو لم تكن لها بالفكر والاطلاع صلة ظاهرة.
وندر أن يظهر من الإنسان أثر محسوس إلا كان فيه علامة من العلامات على نصيبه من ثقافة زمانه.
على أن هذه العلامات تتفاوت في الدلالة كما تتفاوت في القيمة، وأدلها وأقومها - فيما نرى - كلام الإنسان ورأيه في كلام غيره؛ لأن الكلام صورة نفسية وقدرة عقلية في وقت واحد. فهو يكشف عن نفس قائله كما يكشف عن قدرة عقله ومبلغ عرفانه بتصوير خلجات قلبه وخطرات ذهنه، فتقديره لكلامه وكلام الناس ميزان صادق لتقدير الرجل في جملة أحواله وأفعاله، وعلامة على الثقافة الروحية والفكرية قلما تضارعها علامة أخرى.
وتقدير الكلام من أصدق العلامات على ثقافة الصديق، سواء نظرنا في وزنه لكلامه أو في وزنه لكلام غيره، أو في وزنه للكلام عامة من حيث هو جزء من «الشخصية الإنسانية» يحرص عليه المرء كما يحرص على مقومات نفسه.
فالصديق كان أحرص الناس على كلام يبدر من لسانه، وكان أعلم الناس بموضع كلام الرجل من مروءته وشرفه، فكان قوله نزرا، ووصيته بالإقلال من المقال أسبق وصاياه إلى ولاته وعماله.
قال لخالد بن الوليد: «أقل من الكلام فإنما لك ما وعي عنك.»
وقال ليزيد بن أبي سفيان: «إذا وعظتهم فأوجز، فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضا.»
وكان يقول: «إن البلاء موكل بالمنطق» ويجتنب التزيد في المقال كما يجتنب التعرض للبلاء.
كان أقرب الصحابة إلى النبي عليه السلام وألزمهم له في نهاره وليله، ولكنه على هذه الملازمة لم يرو من الأحاديث النبوية إلا نيفا ومائة وأربعين حديثا لم يتجاوز ما أثبته البخاري ومسلم نحو سبعها.
وقيل في تعليل ذلك أنه رضي الله عنه مات قبل تدوين الأحاديث.
وهو تعليل يرد عليه أنه كثيرا ممن سمعوا الأحاديث النبوية ماتوا كذلك قبل الاشتغال بتدوينها، وإنما هي قلة كلامه فيما نرى أقلت ما سمع الناس عنه فحرروه ونقلوه.
ذلك وزنه للكلام عامة من حيث هو ملكة نفسية وجزء من الشخصية الإنسانية.
أما كلامه هو فمن أرجح ما قيل في موازين الكلام، سواء في ذلك موازين البلاغة أو موازين الخلق والحكمة، وله من جوامع الكلم أمثلة نادرة تدل الواحدة منها على ملكة صاحبها فيغني القليل منها عن الكثير كما تغني السنبلة الواحدة عن الجرين الحافل، حين تكون المسالة مسألة الدلالة على المنبت والنبات.
فحسبك أن تعلم معدن القول من نفسه وفكره حين تسمع كلمة كقوله: «احرص على الموت توهب لك الحياة.»
أو قوله: «أصدق الصدق الأمانة، وأكذب الكذب الخيانة.»
أو قوله: «خير الخصلتين أبغضهما إليك.»
أو قوله: «الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله.»
أو قوله: «إذا فاتك خير فأدركه، وإن أدركك فاسبقه.»
أو قوله: «لا تخزن عن المشير خبرك؛ فتؤتى من قبل نفسك.»
أو قوله: «ليست مع العزاء مصيبة.»
فهي وما أثر عنه من أمثالها كلمات تتسم بالقصد والسداد، كما تتسم بالبلاغة وحسن التعبير، وتنبئ عن المعدن الذي نجمت منه فتغني عن علامات التثقيف التي يستكثر منها المستكثرون؛ لأن هذا الفهم الأصيل هو اللباب المقصود من التثقيف.
وكانت له رضي الله عنه لباقة في الخطاب إلى جانب هذه البلاغة في الكلام، وهذا الجد في وزن المقال.
عزى عمر في طفل احتسبه فقال له: «عوضك الله منه ما عوضه منك»
وسال رجلا يحمل ثوبا: أتبيع هذا الثوب؟
فأجابه: لا عافاك الله!
قال: هلا قلت: لا وعافاك الله.
وهذا تمام البصر بالكلام، قصد في العبارة، ووزن للكلام، وذوق في الخطاب، ولا تتعرف النفس المثقفة إلى الناس بآية هي أقرب من هذه الآية وأحق منها بالتصديق.
ومن السهل على من يملك هذا البيان في كلامه أن يتتبع شواهد البيان في كلام الآخرين.
ولعل الصديق قد ملك هذا البيان؛ لأنه طبع عليه وطبع على حبه فتتبعه في كلام البلغاء من الخطباء والشعراء.
فكان يروي الشعر ويحفظ الأمثال ويراجع النبي عليه السلام في الأبيات التي يبدل مواضع كلماتها ليخرجها عن وزنها، ومنه - لا ريب - قبست السيدة عائشة ذلك القبس من مأثورات الشعر والخطب - فيما كانت تتمثله وترويه، وإليه ترجع السليقة التي ظهرت في ذريته ومنهم ولداه عبد الله وعبد الرحمن وكانا ينظمان الأبيات بعد الأبيات.
وهو نفسه لم ينظم الشعر فيما أجمع عليه الثقات، ولكنه - وإن لم ينظم - قريب السليقة ممن قالوه ولو بالتذوق والحفظ والرواية.
ولهذه الثقافة مراجعها التي ترجع إليها أفضل ثقافات زمانه في الجزيرة العربية.
طبع سليم وملاحظة صادقة وخبرة بالدنيا من طريق المعاملة والسياحة، وإصغاء إلى الحسن من القول، والوثيق من الأخبار، وعلم بالأنساب والتواريخ مشهور بين المشهورين من أربابه، واستيعاب للقرآن كله ولفقه الدين كله، ودراية بما استوعب من معانيه عن فهم وعن سماع ممن نزل عليه القرآن الكريم، صلوات الله عليه.
قرأ يوما:
يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [المائدة: 105].
فقال: إن الناس يضعون هذه الآية في غير موضعها، ألا وإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إن القوم إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، والمنكر فلم يغيروه، عمهم الله بعقابه.»
وسأل أصحابه يوما: ما تقولون في هاتين الآيتين:
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [الأحقاف: 13]. و
الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [الأنعام: 82].
قالوا: لم يلبسوا إيمانهم بظلم الخطيئة.
فقال: لقد حملتموها على غير المحمل: استقاموا فلم يلبسوا إيمانهم بشرك.
وإن فقه القرآن لينبوع يستمد منه الصديق في سلامة طبعه وصفاء ذهنه مددا يرجع بأمداد.
فثقافته في زمانه هي ثقافة الفقيه الأديب المؤرخ بما اصطلحوا عليه من معنى التاريخ في ذلك الزمان.
ولا يتشابه معنى التاريخ عندهم ومعنى التاريخ عندنا كما نتوسع فيه اليوم، ولكن النسب الذي كان يعلمه الصديق كان هو النسب المحيط بالمحامد والمثالب في القبائل العربية كافة، وهو أنفع ما في علم التاريخ حين يراد بعلمه الطموح إلى منزلة الحمد والسمعة الرفيعة والتنزه عن معارض الذم وقالة السوء، وكذلك كان علم الصديق بأنساب العرب أجمعين.
لما خرج النبي عليه السلام ليعرض نفسه على القبائل في أول الدعوة الإسلامية كان معه أبو بكر وعلي بن أبي طالب أسبق الناس إلى الإسلام.
قال علي رضي الله عنه: «فرفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر فسلم، وكان مقدما في كل خير، وكان رجلا نسابة فقال: ممن القوم، قالوا: من ربيعة، قال: وأي ربيعة أنتم؟ أمن هاماتها أو من لهازمها؟
قالوا: من هاماتها العظمى.
قال: وأي هاماتها العظمي أنتم؟
قالوا: من ذهل الأكبر.
قال: فمنكم عوف بن محلم الذي يقال فيه: لا حر بوادي عوف؟
قالوا: لا.
قال: فمنكم المزدلف الحر صاحب العمامة الفردة؟
قالوا: لا.
قال: فمنكم بسطام بن قيس أبو القرى ومنتهى الأحياء؟
قالوا: لا.
قال: فمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ومانع الجار؟
قالوا: لا.
قال: فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالب أنفسها.
قالوا: لا.
قال: فمنكم أصهار الملوك من كندة؟
قالوا: لا.
قال: فمنكم أصهار الملوك من لخم؟
قالوا: لا.
قال أبو بكر: فلستم ذهلا الأكبر. إنما أنتم ذهل الأصغر.»
وكان هذا علمه بأنساب كل قبيلة ومحامد السابقين منها ومثالبهم ولا سيما قريش ومن جاورها. ولهذا كانوا يقولون كلما سمعوا أبياتا من الشعراء المسلمين يردون بها الهجاء على المشركين: هذا تلقين ابن أبي قحافة وما عداه؛ لأنه كان في هذا العلم بين قريش عامة بغير نظير.
ونحن لا ننتظر بداهة من كل رجل تيسرت له هذه المراجع أن يبلغ من الثقافة مبلغ أبي بكر الذي تدل عليه أقواله وأعماله وخلائقه وسجاياه. ولكننا إذا علمنا أن تلك مراجعه وأن ذلك مبلغه فقد علمنا شيئا آخر نقصده ونتحراه، وهو أنه رجل خلق من معدن العظمة والامتياز، ولم يخلق رجلا كسائر الرجال.
الفصل الحادي عشر
الصديق في بيته
من السهل بعد مراجعة يسيرة لحياة الصديق في جملتها أن نعلم أنه «رجل بيت» أو «رجل أسرة» وأن أواصره البيتية لا تستند إلى الشعور بالواجب وحده، ولكنها تستند مع الشعور بالواجب إلى الشعور بغبطة القرابة ومودة الرحم ونعمة الألفة والمصاحبة، فلم يكن ولدا بارا؛ لأن البر بالآباء واجب وكفى، ولا أبا رحيما؛ لأن الرحمة بالأبناء غريزة وكفى، ولا زوجا وفيا لأن الوفاء للأهل واجب وكفى، ولكنه كان كذلك كما كان في جميع أواصره وعلاقاته: رجلا يشعر بالغبطة في جوار أبناء جنسه، ويأنس للصحبة في جو الشعراء والأصدقاء، ويتجلى فيه خلق الإنسان «الاجتماعي بطبعه» على أخلصه وأوفاه.
عرف بره بأبويه في الجاهلية، فلما أسلم وصاحب النبي عليه السلام جمع بين بر الفطرة والحنان وبر الواجب والفريضة، واطمأن إلى هذا البر كما يطمئن صاحب الخير الذي لا جزاء عليه أن يصبح وله من الحظوة الإلهية أجمل جزاء.
وعرف عطفه على أبنائه طوال حياته، فما داخلته في عطفه عليهم قسوة أو شدة إلا أن يكون ذلك بدافع من العقيدة أو وازع من التأديب.
قال له بعض أبنائه - وقد كان يقاتل مع المشركين: إنني كنت أراك فأتحاماك.
فقال له: لكنني لو رأيتك لما تحاميتك.
وكان بين عائشة والنبي كلام. فسألها: من ترضين أن يكون بيني وبينك؟ أترضين بأبي عبيدة بن الجراح؟
قالت: لا. ذلك رجل هين يقضي لك.
قال: أترضين بأبيك؟
قالت: نعم.
فلما جاء أبو بكر قال رسول الله: اقصصي!
فقالت: بل اقصص أنت.
فأخذ رسول الله في إعادة ما جرى بينهما من كلام، وبدرت من عائشة كلمة لا تعنيها فقالت: اقصد، أي التزم القصد ولا تزد في الرواية، فرفع أبو بكر يده فلطمها وانتهرها مغضبا: تقولين يا بنت أم رومان: اقصد! من يقصد إذا لم يقصد رسول الله! وجعل الدم يسيل من أنفها ورسول الله يحجز بينهما ويقول لصديقه: إنا لم نرد هذا. حتى انصرف برضى من رسول الله. فقال لها ما معناه: رأيت كيف أبعدك الله منه! أو قال لمثل هذه المناسبة: «رأيت كيف أنقذتك من الرجل!»
ففي هذا وأمثاله يشتد أبو بكر على بنيه وهي شدة قد تقترن بالرحمة ولا تحجبها إلا إلى حين.
وكان لصدق شعوره بالأبوة يحس ما يحتاج إليه الوليد في نشأة الطفولة ويزوده بتلك الحاجة ولو أغضب الآباء، وهم عنده أصدق الأصدقاء.
فلما أخذ عمر بن الخطاب ابنه عاصما من أمه المطلقة تخاصما إليه فقضى بالوليد لأمه وقال لعمر: «ريحها وشمها ولطفها خير له منك.» فكان غاية الرحمة وغاية العدل في آن، وإن رجلا يعدل حين يهم بالجور عمر لهو من العدل بمكان لا يسامى.
وكادت الصداقة عنده أن تكون أخوة أو بنوة. فكان يتحدث عن عمر يوما فإذا هو يقول كأنما يتحدث إلى نفسه: «والله إن عمر لأحب الناس إلي ...»
ثم خشي أن يكون في قوله ما يمس الصدق الذي فطر عليه فسأل من معه وفيهم عائشة: كيف قلت؟ فأعادت له عائشة ما جرى به لسانه، فاستدرك قائلا: اللهم أعز والولد ألوط، أي ألصق بالقلب وأدنى. •••
وقد بنى أبو بكر بزوجتين في الجاهلية وزوجتين في الإسلام، منهن أم رومان وهي أم ولديه عبد الرحمن وعائشة رضي الله عنهما، ومنهن حبيبة بنت خارجة التي مات عنها وهي حامل، فولدت بعد موته أم كلثوم.
ومن أولاده - غير عبد الرحمن وعائشة - عبد الله الذي كان يأتيه بأخبار قريش حين هاجر مع النبي إلى المدينة. وقد جرح بالطائف ومات بجرحه بعد انتفاضه. وكان فيه شجاعة وأدب ورقة، وله شعر حسن يروى بعضه في زوجته المطلقة عاتكة بنت زيد وقصته معها من أدل أخبار هذه الأسرة على شعور أبي بكر بالأبوة والزوجية والواجب في وقت واحد، وأن المغالبة بين الرحمة والواجب في نفسه كانت مغالبة سجال.
وقد كانت عاتكة من أشهر نساء عصرها بالجمال والعقل والفطنة، ففتن بها عبد الله وشغل بها عن مصالحه وشئونه، فنصح له أبوه بطلاقها فطلقها، فما زال حتى ندم وألح به الندم على فراقها، وقال من شعره فيها:
أعاتك، لا أنساك ما ذر شارق
وما لاح نجم في السماء محلق
أعاتك، قلبي كل يوم وليلة
لديك بما تخفي النفوس معلق
لها خلق جزل ورأي ومنصب
وخلق سوي في الحياء مصدق
ولم أر مثلي طلق اليوم مثلها
ولا مثلها في غير شيء تطلق
فرحمه أبوه وأمره بمراجعتها، فراجعها. فكان أبو بكر في هذا نموذجا مقابلا لنموذج عمر في هذه الناحية من الخلائق والوشائج القلبية، كما كان نموذجا مقابلا له في خلائل شتى ووشائج أخرى؛ إذ كان عمر ينعي على ولده أنه عجز عن طلاق امرأته، وعد ذلك من مآخذه حين رشحه بعضهم للخلافة بعده.
ولم يكن لزوجات أبي بكر ما يشتكينه منه غير الإقلال من النفقة والقصد في المعيشة، ففي اليوم الذي اجتمعت فيه نساء النبي عليه السلام يطالبنه بالمزيد من النفقة كانت بنت خارجة زوجة أبي بكر تطالبه هذه المطالبة، فيغضب منها، ويلوي عنقها، ويذهب إلى النبي فيحدثه بحديثها ليسري عنه وقد رآه بين أمهات المسلمين على مثل تلك الحالة؛ فكأنما كن جميعا على ميعاد.
ولم يكن أبو بكر مقلا من المال، ولا عاجزا عن كسبه قبل الخلافة ولا بعدها، فقد أنفق في سبيل الإسلام أربعين ألف درهم، وما زال ينفق من ماله في شراء الأكسية والأطعمة وتوزيعها على الفقراء ولا سيما في الشتاء، ولكنه آثر متاع روحه على متاع جسده وكره أن يعيش في بيته خيرا من معيشة نبيه وصفيه، وكان يبغض السرف فيقول: «إني لأبغض أهل البيت ينفقون رزق الأيام في يوم ...»
فلو بقى له من المال ما يجاوز به حظه من النفقة لما جاوزه وهو يرى أمامه مثل النبي، ويجب أن يكون مثلا لمن معه، ومن بعده من خلفاء الإسلام، وعامة أتباعه.
وقد تعددت الروايات عما قسم له من الرزق بعد الخلافة وكيف قسم بمشورة من حضر من جلة الصحابة، ومنهم عمر وعثمان وعلي وأبو عبيدة. ولكن الروايات متفقة على قصده في بيته واجتنابه للسرف في معيشته، وأنه كما قال: «لم يعد سد الجوعة ووري العورة وقواتة القوام.»
ومات وليس عنده مدخر يذكر، فقال عمر: «رحمه الله. لقد أتعب من بعده.» يريد أنه ألزمهم قدوة تتعب ولا تريح. •••
ونحسب أن النشأة في حياة أبي بكر البيتية لا تتمثل في شيء كما تتمثل في نشأة بنتيه عائشة وأسماء رضي الله عنهما. فأما عائشة فقد فارقت بيت أبيها وهي في نحو العاشرة أو أكبر من ذلك بقليل كما استخلص بعض المؤرخين من مراجعة التواريخ الكثيرة، فإذا هي في تلك السن قد وعت ما وعته من الشعر البليغ والأمثال السائرة والأخبار النادرة، وقد نضجت لمصاحبة النبي والوعي عنه والدراية بالمأثور من كلامه، وكانت بعد ذلك مرجعا من مراجع الفقه والسنة خليقا باعتماد الثقات الأجلاء.
ومن الناس من تعود أن يتخيل عائشة رضي الله عنها جارية صغيرة حظيت عند زوجها عليه السلام لجمالها وصغرها وصداقة أبيها، ولكنها - ولا ريب - لم تبلغ هذه الحظوة عنده صلوات الله عليه إلا أنها الزوجة الكفء لبلوغها والمحافظة عليها، وكانت تعرف من أدب الزواج ما يجمل بمكانها، وتعرف من ملاطفة الزوج مداخل قلبه ومواطن رضاه، وربما دللت زوجها ولم تترك له وحده مسرة تدليلها. فمن ذلك في روايات تختلف في النقل، وتتفق في هذا المعنى أنه كان عليه السلام يصلح نعله في يوم قائظ فتندى جبينه، وتحدر العرق على خده، وهي تلحظه من قريب وكأن بها وجدا عليه. فسألها: ما لك بهت؟
فقالت: لو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بقوله.
فعاد يسألها: أي قوله؟
فأجابته: حين يقول:
ومبرأ من كل غبر حيضة
وفساد مرضعة وداء مغيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه
برقت بروق العارض المتهلل
فقام النبي إليها يقبل ما بين عينيها، ويقول لها: سررتني يا عائشة سرك الله.
فهي أبعد شيء عما يتصوره النقاد الأوروبيون حين يصورونها لقرائهم لعبة صغيرة بين يدي رجل كبير يدللها ولا تفاهم بينه وبينها، ولكنها الزوجة التي تكافئ الزوج في حياته المنزلية، والمرأة التي تبادل الرجل عما عنده من شعور، والتلميذة التي تتلقى عن أستاذ عظيم فتحسن التلقي عنه، وهي من جميع هذه الجوانب مثل صالح للنشأة البيتية في أسرة الصديق. •••
أما أسماء - ذات النطاقين - فما حمد الناس فضيلة للمرأة بنتا وزوجا ووالدة إلا كانت فيها على أجملها وأسماها وأحقها بالتمجيد والإكبار.
أسلمت مع أبيها، وكانت تخاطر بنفسها لإخفاء هجرته مع رسول الله وتزويدهما بالطعام والميرة في تلك الهجرة، ولم تجد ما تشد به طعامهما فشقت نطاقها وشدته به، فسميت لذلك ذات النطاقين.
وتزوجت الزبير بن العوام وليس له مال ولا مورد، فكانت تعلف فرسه وتدق النوى لناضحه وتستقي له الماء وتخرز له غربه وتنقل النوى على رأسها من الأرض التي أقطعه إياها رسول الله على مسيرة ميلين. وما زالت كذلك حتى علم أبوها بمشقتها في خدمة زوجها اتفاقا فأعانها بخادمة، بعد أن قضت زمنا تخدم بيتها وهي بنت أبي بكر وزوج الزبير، وأم عبد الله من أعظم أبطال الإسلام.
وحوصر ابنها عبد الله في مكة فخذله الناس حتى أهله وولده، وعرض عليه بنو أمية الأمان والولاية والمال. فذهب إليها يعرض عليها أمره، وهو يقول: «... لم يبق معي إلا اليسير ومن لا دفع عنده أكثر من صبر ساعة من النهار، وقد أعطاني القوم ما أردت من الدنيا فما رأيك؟»
فما ضعفت من الهول ضعف النساء، ولا ضعف الأمهات، وإن الأبطال الصناديد ليضعفون في مكانها، فلا يعدمون المعذرة الناهضة، والشفاعة المقبولة، بل ملكت جأشها وملكته جأشه، وأقبلت عليه تقول: «يا ولدي، إن كنت على حق تدعو إليه فامض عليه، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية فيتلعبوا بك، وإن قلت: إني كنت على حق، فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي فليس هذا فعل الأحرار، ولا فعل من فيه خير. كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما يقنع به يا ابن الزبير. والله لضربة بسيف في عز أحب إلي من ضربة بسوط في ذل.»
والتفتت تدعو الله كأنما تناجي نفسها: «اللهم ارحم طول ذاك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأمه! اللهم إني قد سلمت فيه لأمرك، ورضيت فيه بقضائك، فأثبني في عبد الله ثواب الشاكرين.»
مقالة أم جاوزت المائة واصطلحت عليها الملمات، وكف بصرها من الحزن ويئست من نصرة ابنها ومن حياته في جهاده، فناهضت من السن والمرض والخوف والثكل في أحرج الساعات ما تنوء به عزائم الأقيال وتنهد له أركان الجبال.
ثم غلب القوم ابنها المقدام فصلبوه ورفعوا جثته للتمثيل والتشهير، فآلمها أن يصاب في كرامة موته، كما آلمها من قبل أن يصاب في كرامة حياته.
وذهبت إلى الحجاج تسأله في ذلك سؤال الأعزاء، فقادها الدليل إليه حتى وقفت على مقربة منه تقول: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟
قال في غير رفق ولا حياء: المنافق؟
فما همها وهو صاحب طلبتها أن يجيبها أو لا يجيبها، وإنما همها أن تدفع عن ولدها وأن تجزي الشاتم بشتمه، وقالت مغضبة: والله ما كان منافقا، والله ما كان منافقا، وقد كان صواما قواما ...
فعالجها مغيظا من ردها عليه: اذهبي، فإنك عجوز قد خرفت ...
قالت: لا والله! ما خرفت. ولقد سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «يخرج من ثقيف كذاب ومبير، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فأنت هو.»
وهذه هي الأم التي يشرف بها الأبناء والآباء، وتشرف بها سلالة آدم وحواء ...
هذه أسماء بنت أبي بكر.
وتلك عائشة بنت أبي بكر.
فما عسى أن يقول القائل وأن يثني المثني على بيت ينجب هاتين العقيلتين الكريمتين؟
لقد كان لأبي بكر أبناء من خيرة الرجال.
ولكن البيت تدل عليه بناته قبل أن يدل عليه أبناؤه. لأن الفضل في نشأتهن كلها للبيت، من حيث يحسب لغير البيت الفضل في نشأة الأبناء.
وذلك هو بيت الصديق، أكرم به من بيت بين ما حملت الأرض كلها من بيوت.
الفصل الثاني عشر
صورة مجملة
قالت السيدة عائشة في وصف أبيها وقد تناوله بعضهم بما أغضبها: «... سبق إذ ونيتم سبق الجواد إذا استولى على الأمد، فتى قريش ناشئا، وكهفها كهلا، يفك عانيها، ويريش مملقها، ويرأب شعبها، ويلم شعثها، حتى حلته قلوبها، ثم استشرى في دين الله، فما برحت شكيمته في ذات الله عز وجل ...»
وكان نفر من المهاجرين والأنصار يتذاكرون فضائل أهل الفضل عند باب النبي عليه السلام، فخرج عليهم النبي فسألهم: فيم أنتم؟
قالوا: تتذاكر الفضائل.
فقال: «لا تقدموا على أبي بكر أحدا؛ فإنه أفضلكم في الدنيا والآخرة.»
ومن قوله فيه عليه السلام: «أبو بكر خير الناس إلا أن يكون نبي.»
وقال علي رضي الله عنه في تأبينه: ... كنت كالجبل الذي لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف: كنت كما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ضعيفا في بدنك قويا في أمر الله، متواضعا في نفسك عظيما عند الله، جليلا في الأرض كبيرا عند المؤمنين، ولم يكن لأحد عندك مطمع، ولا لأحد عندك هوادة، فالقوي عندك ضعيف حتى تأخذ الحق منه، والضعيف عندك قوي حتى تأخذ الحق له، فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك ...
وفي هذا الثناء كفاية إذا عمدنا إلى الثناء الذي قاله فيه عارفوه.
ولكننا في أمر أبي بكر وأمثاله نستطيع أن نتجاوز الثناء إلى مقالة الأعداء الألداء، ونحن آمنون أن نسمع فيه ما يغض من فضله وينقص شيئا من حقه. إذ ليس على عظيم من العظماء غضاضة أن يختلف فيه مختلفون، وأن يتأول أعماله متأولون، فكل عظيم من عظماء الدنيا قيل له وقيل عليه، وحسنت نيات قوم نحوه وساءت نيات آخرين، فليس هذا بضائره، وليس هذا بعجيب، وإنما الميزان العادل في الحكم له أن عليه دليل القائل وليس مقال القائل، فلمن شاء أن يزعم ما يشاء فيمن يشاء، ولكنه لا يوضع في الميزان إلا بدليل تؤيده الوقائع والأعمال، فهذا الذي يحسب من مقال القائلين ومن خلاف المختلفين.
فليست فضيلة أبي بكر أنه ظفر من الناس جميعا بالثناء الذي لا معقب عليه، إذ ليس هذا بممكن وليس هذا بمعقول ولا بمطلوب.
وإنما فضيلته أنه قد ظفر بالثناء ممن في ثنائه صدق، ولثنائه قيمة، وأن خلاف المخالفين لم يقم قط على دليل، ولم يأت قط من أناس يحسنون ما يقولون.
وكل حكم على أبي بكر مؤيد بدليل معتمد على واقع، فهو مصور له في صورة عامة واحدة لا شك فيها، وهي صورة أمين، وأكثر من أمين؛ لأنه لم يتهم قط بخيانة في الجاهلية أو الإسلام.
وأكثر من الأمين؛ لأن الأمين هو الذي يعطي حق غيره، فأما الذي يعطي الأمانة يزيد عليها، أو يعطي حق غيره، ويعطي من حقه الذي لا يطلب منه، فذلك هو المفضل الذي جاوز قدر الأمانة، فهو أكثر من أمين.
وكان أبو بكر يؤدي الأمانات في الجاهلية ويزيد عليها من عنده فضل المفضل، وإحسان المحسن، وإغاثة المغيث.
ثم تسلم الأمانة الكبرى بعد الخلافة، فترك الدنيا وقد أداها كما هي وزاد عليها.
ولسنا غالين في المجاز حين نقول: إنه صنع مثل ذلك في أمانة الخلق أو أمانة الحياة، فمات خيرا مما ولد، ونشأ ضعيفا في بدنه كما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو يستمد من قوة باطنه لقوة ظاهره ويلقي من مروءته على مرآه، حتى أنشأ من نفسه ما لم ينشأ من بدنه، وبلغ من المهابة بالقوة التي زادها على تكوينه الظاهر فوق ما يؤتاه أمثاله في أمثال هذا التكوين.
للناس أن يعطوه وهم على ثقة أن يستردوا ما أعطوه وزيادة، وللحياة أن تعطيه وهي على ثقة ألا ينقص عطاؤها، وألا يزال معه في ازدياد، وعلى كل أمانة عنده كائنا ما كان معطيها حق مصون، ومزيد مضمون.
صورته المجملة أنه الأمين وأكثر من الأمين.
الأمين في الصداقة، والأمين في الحكومة، والأمين في السيرة، والأمين في المال، والأمين في الإيمان، ثم هو في كل أولئك أكثر من الأمين.
عصمته العواصم من فتنة الغواية فولد كريما تعنيه العزة بين الأقوياء، ولا يعنيه الطغيان على الضعفاء.
وكبر وليس له مأرب في سيادة باغية، ولا في صولة دائمة على من لا يريدها ولا يطمئن إليها.
وكبر في تكوينه حدة الشعور وحماسة اليقين، وسليقة الإعجاب، وعصمة المروءة والوقار.
وكبر وكل فضيلة فيه تكبر إلى آمادها، فلما مات كان أكبر ما كان، وأكبر ما يتأتى أن يكون.
مات وهو صاحب الدعوة الثانية في الإسلام، فكان الثاني حقا بعد النبي عليه السلام في كل شيء من قبول الإسلام إلى ولاية أمر الإسلام إلى تجديد دعوة الإسلام، بعد أن نقضت الردة دعوته الأولى وأوشكت أن ترجع بها إلى الجاهلية الجهلاء.
ثاني اثنين، وأول مقتد، وأول مجيب.
ذلك موضعه في تلك الدعوة الإنسانية التي نشأت في أمة واحدة ثم غيرت ما بعدها في جميع الأمم، سواء منها من علم بها ومن لم يعلم، وهي دعوة صديقه وصفيه ونبيه محمد صلوات الله عليه. •••
قيل: إنه مات بالسم في أكلة أكلها قبل عام من وفاته، وليس لهذا القول مرجع يميل الباحث إلى تصديقه.
وقيل: إنه مات بالحمى؛ لأنه استحم في يوم بارد، وقد مات في شهر قائظ، كما يظهر من مضاهاة الشهور العربية على الشهور الشمسية، فليس لهذا القول سند صحيح.
وأغلب الظن أنها حمى المستنقعات (الملاريا) التي أصيب بها بعد الهجرة إلى المدينة، ثم عاودته في أوانها مرة أخرى وهو شيخ ضعيف، فجددت الإصابة الثانية عقابيل الإصابة الأولى، وانتهت حياة بلغت نهايتها في حيز الجسد، وفي حيز المجد، وفي حيز التاريخ.
صفحة غير معروفة