على أن تمحيص القضايا المنطقية أو العلمية شيء وتمحيص الشمائل النفسية شيء آخر، وربما كانت وسائل الصديق أقل من وسائل المحللين والمشرحين في العصر الحاضر في باب القضايا المنطقية أو العلمية، أما في باب الشمائل النفسية فوسائله ليست بأقل من وسائلهم بحال، وقدرته على أن يحس من حوله عظمة النفس الإنسانية ليست بأقل من قدرة أحد من المحللين والمشرحين.
وهو قد قال: هذه نفس عظيمة لا شك في عظمتها، فالخير في متابعتها، إن لم يكن بد من افتراق الطريق بينها وبين أعدائها.
وهو فيما قال قد أصاب.
أصاب منطقا وأصاب علما وأصاب حسا وأصاب بكل مقياس من مقاييس الصواب.
هو فيما قال أصوب ممن يخالفه رأيا، ولو استند إلى كل حجة من حجج التحليل والتشريح.
وهاديه فيما اهتدى إليه هو إعجابه بالبطولة.
وهو إعجابه بالبطولة التي تستحق الإعجاب؛ لأن الإعجاب طبقات تتفاوت، كما أن البطولة نفسها طبقات تتفاوت. وقد كان هو من طبقات هذا الإعجاب في أرفع مكان؛ لأنه لم يعجب ببطل تروعه منه سطوة العتاة المتجبرين، ولم يعجب ببطل تروعه منه مظاهر الزخرف والخيلاء، ولم يعجب ببطل تروعه منه جلبة الصيت الفارغ والمواكب الجوفاء، ولم يعجب ببطل يزدهي بالوفر والثروة أو بالعصبة أولي القوة.
لا. لم يكن شيء من هذا هو الذي راعه من بطولة محمد عليه السلام؛ لأن محمدا عليه السلام لم يكن ذا سطوة، بل كان عرضة للأذى من المسلطين عليه، ولم يكن من أصحاب الزخرف والخيلاء؛ بل كان أعداؤه هم أصحاب الزخرف والخيلاء. ولم يكن وراءه أحد يتبعه ولا معه مال يصل به من يصل إليه، بل كان وحيدا يطرده الأكثرون، فقيرا يعينه الموسرون، وأولهم أول صديقيه والمقبلين عليه.
إنما البطولة التي أعجب بها أبو بكر هي البطولة التي ليس أشرف منها؛ بطولة تعرفها النفس الإنسانية، هي بطولة الحق، وبطولة الخير، بطولة الاستقامة، وهي بعد هذا، وفوق هذا، بطولة الفداء يقبل عليها من أقبل وهو عالم بما سيلقاه من عنت الأقوياء والجهلاء.
تلك هي بطولة محمد.
صفحة غير معروفة