فهي قد ترددت لتبرئ نفسها من القالة، وتبرئ ذلك الموقف الخطير من المظنة، وتبرئ الخلافة من أسباب الادعاء، وقد يكون فيها إضعاف وإيذاء.
وأشهدت على نفسها أولى الناس بالشهادة في ذلك الموقف الخطير حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.
فإذا علمت حفصة أن عائشة راجعت رسول الله مرتين في تبليغ الأمر إلى أبيها أن يصلي بالناس، فقد علمت ذلك من هي أحق بعلمه من سائر أمهات المسلمين، إذ كان عمر رضي الله عنه أحد اثنين في حق الخلافة لا يذكر أحدهما إلا ذكر الآخر، كما ظهر ذلك من واقع الأمور، أو كما ظهر من قول عبد الله بن زمعة لعمر: «حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس.»
فتردد عائشة في ذلك الموقف الخطير لم يضر بل نفع، وكان أنفع من إسراعها بالتبليغ، وأول ما نفع به أنه أظهر رغبة النبي إظهارا لا مجال للظنة فيه، فكان ذلك من أدعى دواعي الاتفاق على الاختيار وقطع السبيل على الفتنة والشقاق.
نعم إن رواية من الروايات تزعم لنا أن السيدة عائشة رضي الله عنها ترددت في التبليغ؛ لأنها أشفقت أن يتشاءم الناس برؤية أبيها في مقام يذكرهم بالخطر على أحب الناس إليهم في ذلك المقام، وتلك سانحة يجوز أن تسنح لها وهي أشد الناس إحساسا بذلك التشاؤم ووقعه في نفوس المسلمين. ولكننا إذا سلمنا أنها رضي الله عنها قد تعمدت الإبطاء في التبليغ، فالسبب الذي أومأنا إليه آنفا أولى وأليق بالمعهود من ذكائها وخلقها الكريم؛ لأنها لا تجهد النبي في مرضه ولا تفوت على أبيها شرف الخلافة حذرا من التشاؤم وحده، ثم هي لا تدعو حفصة إلى تعريض عمر لموقف تصون عنه أباها. فإن كان تعمد للإبطاء في التبليغ فذلك السبب الذي أومأنا إليه آنفا أحق الأسباب أن يرجح على غيره لتفسير ذلك الإبطاء، فهو أدعى أن يبطل به العجب ولا يمتنع مع هذا أن يقترن بغيره من الأسباب. •••
ويقل العجب من تردد السيدة عائشة كلما زاد العجب من تلك الفروض والأقاويل التي خاض فيها من خاض عن «مؤامرة» الخلافة المزعومة، وليس لها سند من التاريخ، ولا من التفكير القويم، ولا من المعهود في أخلاق الرجال والنساء الذين عزيت إليهم تلك المؤامرة بغير بينة قاطعة ولا ظن راجح.
فليس في شيء مما رواه الرواة عن الخلافة بعد النبي عليه السلام كلمة واحدة ترجح تلك الفروض والأقاويل، سواء كان قائلها ممن أسرعوا إلى بيعة الصديق أو تباطئوا في بيعته، أو قضوا حياتهم ولم يبايعوه.
وليس في شيء من خلائق أبي بكر وعمر وأبي عبيدة التي عهدها الناس منهم في حياة النبي أو بعد وفاته ما يأذن لمتوهم أن يتوهم فيهم التآمر على خلافته وهو بقيد الحياة، دون أن يطلعوه على جليلة أو دقيقة مما يفكرون فيه.
وليس في سيرة أبي بكر وعمر بعد أن وليا الخلافة ما ينم على طمع في السطوة، وحرص على زهو الملك يغريهما باستباحة ثقة النبي في حياته بما لا يليق. وهو عندهما بمكان من التجلة والحب لا تتطرق إليه الشكوك ولا ترتفع إليه الشبهات.
وعلى نقيض ذلك تدل الحوادث والروايات التاريخية على أن الأمر قد وقع منهم جميعا موقع المفاجأة التي لم يتدبروا فيها إلا بعد وقوعها، ولم يبرموا فيها الرأي على نحو من الأنحاء قبل اجتماع الأنصار بسقيفة بني ساعدة.
صفحة غير معروفة