أسلمت مع أبيها، وكانت تخاطر بنفسها لإخفاء هجرته مع رسول الله وتزويدهما بالطعام والميرة في تلك الهجرة، ولم تجد ما تشد به طعامهما فشقت نطاقها وشدته به، فسميت لذلك ذات النطاقين.
وتزوجت الزبير بن العوام وليس له مال ولا مورد، فكانت تعلف فرسه وتدق النوى لناضحه وتستقي له الماء وتخرز له غربه وتنقل النوى على رأسها من الأرض التي أقطعه إياها رسول الله على مسيرة ميلين. وما زالت كذلك حتى علم أبوها بمشقتها في خدمة زوجها اتفاقا فأعانها بخادمة، بعد أن قضت زمنا تخدم بيتها وهي بنت أبي بكر وزوج الزبير، وأم عبد الله من أعظم أبطال الإسلام.
وحوصر ابنها عبد الله في مكة فخذله الناس حتى أهله وولده، وعرض عليه بنو أمية الأمان والولاية والمال. فذهب إليها يعرض عليها أمره، وهو يقول: «... لم يبق معي إلا اليسير ومن لا دفع عنده أكثر من صبر ساعة من النهار، وقد أعطاني القوم ما أردت من الدنيا فما رأيك؟»
فما ضعفت من الهول ضعف النساء، ولا ضعف الأمهات، وإن الأبطال الصناديد ليضعفون في مكانها، فلا يعدمون المعذرة الناهضة، والشفاعة المقبولة، بل ملكت جأشها وملكته جأشه، وأقبلت عليه تقول: «يا ولدي، إن كنت على حق تدعو إليه فامض عليه، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية فيتلعبوا بك، وإن قلت: إني كنت على حق، فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي فليس هذا فعل الأحرار، ولا فعل من فيه خير. كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما يقنع به يا ابن الزبير. والله لضربة بسيف في عز أحب إلي من ضربة بسوط في ذل.»
والتفتت تدعو الله كأنما تناجي نفسها: «اللهم ارحم طول ذاك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأمه! اللهم إني قد سلمت فيه لأمرك، ورضيت فيه بقضائك، فأثبني في عبد الله ثواب الشاكرين.»
مقالة أم جاوزت المائة واصطلحت عليها الملمات، وكف بصرها من الحزن ويئست من نصرة ابنها ومن حياته في جهاده، فناهضت من السن والمرض والخوف والثكل في أحرج الساعات ما تنوء به عزائم الأقيال وتنهد له أركان الجبال.
ثم غلب القوم ابنها المقدام فصلبوه ورفعوا جثته للتمثيل والتشهير، فآلمها أن يصاب في كرامة موته، كما آلمها من قبل أن يصاب في كرامة حياته.
وذهبت إلى الحجاج تسأله في ذلك سؤال الأعزاء، فقادها الدليل إليه حتى وقفت على مقربة منه تقول: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟
قال في غير رفق ولا حياء: المنافق؟
فما همها وهو صاحب طلبتها أن يجيبها أو لا يجيبها، وإنما همها أن تدفع عن ولدها وأن تجزي الشاتم بشتمه، وقالت مغضبة: والله ما كان منافقا، والله ما كان منافقا، وقد كان صواما قواما ...
صفحة غير معروفة