1
ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه، والبصريون يطلبون طلحة فلا يجيبهم، فقالوا فيما بينهم: لا نولي أحدا من هؤلاء الثلاثة، فمضوا إلى سعد بن أبي وقاص فقالوا: إنك من أهل الشورى، فلم يقبل منهم، ثم راحوا إلى ابن عمر فأبى عليهم، فحاروا في أمرهم ، ثم قالوا: إن نحن رجعنا إلى أمصارنا بقتل عثمان من غير إمرة اختلف الناس في أمرهم ولم نسلم ... فرجعوا إلى علي فألحوا عليه، وأخذ الأشتر بيده فبايعه وبايعه الناس ... وكلهم يقول: لا يصلح لها إلا علي، فلما كان يوم الجمعة وصعد على المنبر، بايعه من لم يبايعه بالأمس وكان أول من بايعه طلحة بيده الشلاء، فقال قائل: «إنا لله وإنا إليه راجعون.» ثم الزبير، ثم قال الزبير: «إنما بايعت عليا واللج على عنقي والسلام ...»
وهذا الخبر على وجازته، قد حصر لنا أسماء جميع المرشحين للخلافة بالمدينة عند مقتل عثمان ... وربما كان أشدهم طلبا لها طلحة والزبير اللذان أعلنا الحرب على علي بعد ذلك ... فقد كانا يمهدان لها في حياة عثمان، ويحسبان أن قريشا قد أجمعت أمرها ألا يتولاها هاشمي، وأن عليا وشيك أن يذاد عنها بعد عثمان كما ذيد عنها من قبله، وكانت السيدة عائشة تؤثر أن تئول الخلافة إلى واحد من هذين ... أو إلى عبد الله بن الزبير؛ لأن طلحة من قبيلة تيم والزبير زوج أختها أسماء، وفي تأييد السيدة عائشة لواحد منهما مدعاة أمل كبير في النجاح ...
على أن الرأي هنا لم يكن رأي قريش، ولا رأي بني هاشم ... فلو أن عثمان مات حتف أنفه، ولم يذهب ضحية هذه الثورة لجاز أن تجتمع قريش فتعقد البيعة لخليفة غير علي بن أبي طالب، وجاز أن يختلف بنو هاشم ... فلا يجتمع لهم رأي على رجل من رجالهم الثلاثة المرشحين للخلافة، وهم: عقيل، وعلي، وابن عباس. •••
ولكنها الثورة الاجتماعية التي تنشد رجلها دون غيره ولا محيد لها عنه ... فإن ترددت أياما، فذاك هو التردد العارض الذي يرد على الخاطر لا محالة، قبل التوافق على رأي جازم ... ثم لا معدل للثورة عن الرجل الذي تتجه إليه وحده على الرغم منها ...
فطلحة والزبير، كانا يشبهان عثمان في كثير مما أخذه عليه المتحرجون في الدين، وتمرد له الفقراء المحرومون ... كانا يخوضان في المال، ولا يفهمان الزهد والعلم على سنة الناقمين المتزمتين، فإذا طلب الثائرون خليفة على شرطهم ووفاق رجائهم ... فما هم بواجديه في غير علي بن أبي طالب، وقد قال بحق: «إن العامة لم تبايعني لسلطان غالب ولا لعرض حاضر.» ولو شاء لقال عن الخاصة الذين لا يطمعون في الخلافة مقالته عن العامة في انقيادهم إليه بغير رهبة ولا رغبة ... فقد كان أولئك الخاصة جميعا على رأي العامة في حكومة عثمان وبطانته، وإن أخفى بعضهم لومه ... ولم يذهب بعضهم في اللوم مذهب الثوار في النزق وسفك الدماء ...
ونعتقد كما أسلفنا أن هذه الحقيقة هي أولى الحقائق بالتوكيد والاستحضار، كلما عرض أمر من أمور الخلاف والتردد في خلافة علي رضي الله عنه ... فإذا هي فهمت على وجهها، فكل ما عداها مفهوم البواطن والظواهر منسوق الموارد والمصادر ... وإذا هي لم تفهم على الوجه الأمثل أو تركت جانبا، وبحث الباحثون عن العلل والعواقب في غيرها، فالعهد كله غامض مجهول، والموازين كلها مختلة منقوصة سواء في تقدير الرجال أو تقدير الأعمال، وجاز حينئذ أن يرمى علي بالخطأ ... ولا خطأ عنده يصححه غيره في موضعه، وإنما هو حكم الموقف الذي لا محيد عنه، وجاز كذلك أن ينحل خصومه فضل الصواب ولا صواب عندهم؛ لأنهم مضطرون إلى ورود هذا المورد ... فكروا فيه أو طرقوه اعتسافا بغير تفكير ... •••
فلم تكن المسألة خلافا بين علي ومعاوية على شيء واحد، ينحسم فيه النزاع بانتصار هذا أو ذاك.
ولكنها كانت خلافا بين نظامين متقابلين وعالمين متنافسين: أحدهما يتمرد ولا يستقر، والآخر يقبل الحكومة كما استجدت، ويميل فيها إلى البقاء والاستقرار ...
أو هي كانت صراعا بين الخلافة الدينية كما تمثلت في علي بن أبي طالب، والدولة الدنيوية كما تمثلت في معاوية بن أبي سفيان.
صفحة غير معروفة