ويطابق هذا القول ما رواه الأستاذ الغزي للأستاذ سامي الكيالي صاحب مجلة الحديث كما نشره في مجلة الكتاب «سنة 1947م»؛ إذ يقول: «... وقبل سفره بيوم واحد زارني في منزلي يودعني، وأخبرني أنه عازم في غده على السفر إلى إستانبول لتبديل نيابته؛ أي نيابة قضاء رأشيا. وكنت عالما بكتابه «جمعية أم القرى»، وقد شعرت منه العزم على طبعه، فوقع في نفسي أنه سيعرج على مصر لطبعه ونشره؛ إذ لا يمكنه أن يطبعه في غيرها، وحذرته من ذلك وقلت له: «إياك يا أخي والسفر إلى مصر؛ فإنك متى دخلتها تعذر عليك الرجوع إلى وطنك؛ لأنك تعد في الحال من الطائفة المعروفة باسم «جوز تورك»، ولا يتأخر وسمك بهذه السمة قيد لحظة؛ لما اشتهرت وعرفت به من شدة المعارضة وانتقاد الأحوال الحاضرة!» فقال: «لم أعزم إلا على السفر إلى إستانبول للغرض الذي ذكرته لك.» وقد كتم سر سفره حتى عن أعز أصدقائه، ثم ودعني ومضى، وأنا أسأل الله تعالى أن يرعاه بعين رعايته، وأن يجعل التوفيق رائده والنجاح مرشده وقائده، وكانت مبارحته حلب في أوائل سنة 1316 هجرية «هكذا» ... وبعد أن مضى على مبارحته حلب نحو بضعة عشر يوما لم نشعر إلا وصدى مقالاته في صحف مصر، وأخذت جريدة المؤيد تنشر تفرقة كتاب طبائع الاستبداد الذي لم يطلعنا عليه مطلقا بخلاف كتاب «جمعية أم القرى»، فقد أطلعنا عليه مرارا، ثم إنه طبع الكتابين المذكورين وقام لهما في المابين السلطاني ضجة عظيمة، وصدرت إرادة السلطان بمنع دخولهما إلى الممالك العثمانية ... بيد أنهما رغما عن ذلك كله وصلا إلى حلب على صورة خفية، وقرأناهما في سمرنا المرة بعد المرة.»
فالدراسة التي توفر عليها في الكتابين كانت من مطالعاته وتجاربه ومشاهداته في حلب والآستانة وغيرهما من بلاد الدولة العثمانية، وهي كافية لمن كان في مثل فطنته للإحاطة بظواهر الاستبداد وخوافيه، والعلم بأثر الاستبداد في أحوال الأمم الكثيرة التي كان من اليسير عليه أن يتصل بها بين موطنه وعاصمة السلطنة الكبرى، وليس عليه أن يبحث في غير تجربة واحدة ليعلم كل ما أثبته في الكتاب من أثر الاستبداد في الدين والعلم والمجد والأخلاق والثروة وعوامل التقدم، وتلك هي تجربته لمساعي «أبي الهدى الصيادي» ووسائله في الاستئثار بنقابة الأشراف ومنصب شيخ المشايخ في الدولة، مع ذلك الجاه الذي كان يعينه على اللعب بمظاهر المجد ومداورات السياسة كما يشاء.
وقد صادف الكواكبي التوفيق في موعد وصوله إلى القاهرة، فإنه وصل إليها وهي في فترة من فترات الجفاء المتداولة بين «يلدز» و«عابدين»، ولولا ذلك لتعذر نشر المقالات في صحيفة المؤيد لسان القصر الخديوي، وهو يتحفظ غاية التحفظ في الإشارة إلى الدولة بكلمة تؤيد وشاية الجواسيس فيما اتهموا به الأسرة الخديوية غير مرة من التطلع إلى الخلافة والعمل على إثارة الفتنة في البلاد العربية، ولكن «المؤيد» يومئذ كان في حل من ذلك التحفظ الشديد، ليعرب عن استياء الخديو من خطة الدولة، ويومئ إلى سادة «يلدز» بالمساومة على مواضع الخلاف.
ومع هذا لم يستغن الكاتب عن بعض المصانعة عند عابدين وحاشيتها لتهوين الأمر على الصحيفة وتيسير مقامه في البيئة التي اختارها ولم يكن له بد من اختيارها، فقد حرص على هذه المصانعة إلى أن فرغ من نشر المقالات وأظهرها في أول طبعة، فقال في تقديمها: «أقول وأنا المضطر للاكتتام حسب الزمان، الراجي اكتفاء المطالعين الكرام بالقول عمن قال إنني في سنة ثماني عشر وثلاثمائة وألف وجدت زائرا في مصر على عهد عزيزها ومعزها حضرة سمي عم النبي العباس الثاني الناشر لواء الحرية على أكناف ملكه، فنشرت في بعض الصحف الغراء أبحاثا علمية سياسية في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، منها ما درسته ومنها ما اقتبسته، غير قاصد بها ظالما بعينه ولا حكومة مخصصة، إنما أردت بذلك تنبيه الغافلين لمورد الداء الدفين، عسى يعرف الشرقيون أنهم هم المتسببون لما هم فيه، فلا يعتبون على الأغيار ولا على الأقدار ...»
ولقد كان في وسع الكواكبي أن ينشر مقالاته في صحيفة من صحف الاحتلال التي كانت تجاهر بمحاربة السيادة العثمانية خدمة للسيادة البريطانية، ولكنه لو فعل ذلك لخرج عن صفته الإصلاحية الإسلامية، وعرض نفسه لشبهات الدعاية الأجنبية، ووطن العزم على القطيعة الدائمة بينه وبين البلاد المشمولة بسيادة الدولة والمطالبة بالولاء لها في جوازاتها وشروط الإقامة فيها والرحلة منها وإليها، ويظهر من كتمان اسمه وتوقيعه بالحرف الأول منه أنه لم يكن قد وطن العزم على ذلك عند وصوله إلى القاهرة، وأنه أراد أن يختبر الحالة فيما حوله قبل أن يقطع بالعزم الأخير على المسلك الذي لا رجعة فيه. •••
والمرجح عندنا أنه طوى كتاب طبائع الاستبداد في حلب ولم يطلع عليه أصدقاءه لسبب غير التحرج من خطره والحذر من إفشاء خبره وإعنات أصحابه بكتمان سره، فإنه أطلعهم على كتاب أم القرى وفيه من المحذورات ما لا يقل عن أخطر المحذورات في كتاب طبائع الاستبداد، فقد صرح فيه بالدعوة إلى الخلافة العربية، وأنكر الخلافة على بني عثمان، ورماهم بالتواطؤ مع الدول على التنكيل بمسلمي الأندلس، ومسلمي الإمارات الآسيوية، وقد يرد على الخاطر أنه أغفل هذه المسائل في النسخة المخطوطة واكتفى فيها بالتلميح دون التصريح، وبالإشارة دون الإسهاب، ولكن الكتاب يشتمل بعد إغفال هذه المسائل على مآخذ منكرة أخذها على الأمراء المستبدين، وعزا فيها تخلف المسلمين إلى مساوئهم وسوء سياستهم وتدليسهم على رعاياهم وتقريبهم للمفسدين والدجالين من الولاة ورجال الدين، ولم يقل عن المستبدين كلمة في طبائع الاستبداد إلا كان لها نظير في معناها ومرماها من فصول أم القرى على ألسنة المسلمين الترك والعثمانيين، وهو تصريح بالحكومة المقصودة لم يرد له نظير في طبائع الاستبداد؛ إذ يتيح له عموم القول أن يعلن في تقديم الطبعة الأولى أنه «لا يقصد ظالما بعينه ولا حكومة مخصصة».
فليست الحيطة سر كتمان الكتاب عن أصدقائه الذين أطلعهم على كتاب جمعية أم القرى، وإنما نرجح أنه طواه عنهم؛ لأنه لم يفرغ من وضعه في صيغة النشر والتلاوة، ووقف به عند تدوين العناوين ورءوس التعليقات وإعدادها للتوسع فيها وإفراغها في قالبها الأخير عند تقديمها للطبع أو للنشر في الصحف، ويتبين ذلك من المقابلة بين مقالات المؤيد ومقالات الطبعة الأخيرة بعد تنقيحها، فإن الاختلاف بينهما أشبه بالاختلاف بين عجالة التحضير وبين النسخة المتممة للنشر والتلاوة، وقد ظهرت الطبعة المنقحة في ضعفي صفحات الطبعة الأولى، وقال الدكتور عبد الرحمن الكواكبي حفيده إنه: «ينشر هذا الكتاب للمرة الأولى على العالم العربي منقحا ومزيدا بقلم المؤلف، وهو يختلف كثيرا عن النسخة المطبوعة والمتداولة حتى اليوم.»
ويروي الأستاذ سامي الكيالي عن الدكتور أسعد الكواكبي ابن المؤلف أنه أخبره «بأن والده - رحمه الله - قد أضاف على الكتاب بعد طبعه إضافات كثيرة، والهوامش التي يحتفظ بها بقلم والده تؤلف كتابا مستقلا بحجم الكتاب المطبوع، وهو يعتزم طبع هذه النسخة قريبا ليطلع العالم العربي على ثمرة أفكار والده في الحرية الاستعباد».
ونجتزئ في المعارضة بين الطبعة الأولى وبين النسخة التي طبعها الدكتور أسعد وصدرت منذ سنتين، بالمقابلة بينهما في موضوع واحد يدل على سائر المواضيع: وهو كلامه على التربية.
ففي الطبعة الأولى وردت مقالة الاستبداد والتربية بالنص الذي ننقل منه ما يلي؛ إذ يقول:
صفحة غير معروفة