فإذا جاز أن تخفى على الكواكبي أسباب الفشل الذي مني به المسلمون فيما وعاه التاريخ، أو أحاطت به التجربة والمحادثة، فليس من الجائز أن تفوته أسباب الفشل التي تقتحم عليه داره وتسلبه قراره، ويبتليه بها الصيادي في شرفه ونسبه وعمله واجتهاده، ولا يرضيه منه إلا أن يعترف له بالشرف الذي اغتصبه منه، ويجزيه بالتأييد والتمكين على محاربته إياه.
غير أن الكواكبي لم تعوزه الأمثلة غير هذا المثل في بلدته وفي عاصمة الدولة، فكل من تولى الحكم في حلب كان مثلا كهذا المثل في كشفه عن المساوئ وهدايته إلى مواطن الإصلاح، ووسائل الكواكبي إلى كشف الحقيقة غير قليلة في نطاق حياته ومجال معيشته، إذا صرفنا النظر عن مطالعاته ومحادثاته؛ إذ هي وسائل الرجل المتصل بوظائف القضاء والإدارة ومراكز التجارة وشركات الاحتكار، وهي إلى جانب ذلك وسائل الرجل الذي يحمل تكاليف الوجاهة ويقيمه الناس مقام المسئول عن مرافق البلدة وخفايا الكسب والسعي فيها من مباح ومحظور.
إن المباحث في «أم القرى» تجربة شخصية لعبد الرحمن الكواكبي لا تعوزها الزيادة من تجربة غيرها، فليس في الكتاب فكرة يعز عليه في ذكائه وبحثه أن يستوحيها من مكانه وزمانه، ولا غضاضة على مثله أن يسترشد بعد ذلك بنصائح ذوي الرأي فيما يذاع أو لا يذاع، وفيما يحسن نشره لحينه أو يحسن إرجاؤه إلى حين.
وعلى الجملة، يصح عندنا أن نفهم أن جوهر الكتاب وهو البحث عن علل الأمم الإسلامية وعوامل شفائها عمل خالص للكواكبي، فرغ منه في بلدته قبل هجرته منها.
أما موضع تنقيحه والإضافة إليه والحذف منه فهو شكل الكتاب، وما كتبه فيه أخيرا عن شكل «الجمعية»، كما تخيلها وكما اعتقد بعد رحلاته في العالم الإسلامي أنه أقرب إلى تنفيذها، وقد نشر الكتاب في طبعات متلاحقة فأعيد فيه ما حذف منه، فلا التباس اليوم بين عمل الكواكبي في «أم القرى» وبين عمل الناصحين فيما أبقاه وفيما حذفه منه إلى حين.
الفصل العاشر
طبائع الاستبداد
هذا الكتاب الذي يعد آية الكواكبي، يتألف من سلسلة مقالات نشرها لأول مرة في صحيفة «المؤيد»، وتناول في كل مقالة منها عارضا من عوارض الاستبداد التي يشاهد أثرها في أحوال الأمم والأفراد، وانتهى الكتاب وقد بحث فيه جملة العوارض الاجتماعية التي تصاحب الاستبداد في أحوال الدين والعلم والمجد والثروة والأخلاق والتربية والتقدم، ومهد للمقالات بتعريف الاستبداد، ثم عقب عليها بوسائل الخلاص منه والغلبة عليه.
ومقالات الكتاب جميعا تنبئ عن دراسة وافية للعوارض التي شرحها أو أجمل القول فيها، وتدل على تأمل طويل في موضوعاتها يستفاد من النظر والتجربة كما يستفاد من الاطلاع والمراجعة ؛ ولهذا خطر للأستاذ أحمد أمين - مترجم زعماء الإصلاح - أنها نتيجة دراسته بعد أن «ساح في سواحل إفريقية الشرقية وسواحل آسية الغربية ودخل بلاد العرب وجال فيها واجتمع برؤساء قبائلها ونزل بالهند وعرف حالها، وفي كل بلد ينزلها يدرس حالتها الاجتماعية والاقتصادية وحالتها الزراعية ونوع تربتها وما فيها من معادن ونحو ذلك، دراسة دقيقة عميقة، ونزل مصر وأقام بها، وكان في نيته رحلة أخرى إلى بلاد المغرب يتم فيها دراسته ولكنه عاجلته منيته ... نشر نتيجة دراسته في مقالات كتبت في المجلات والجرائد، ثم جمعت في كتابين اسم أحدهما طبائع الاستبداد، والآخر أم القرى ...»
والواقع أن الكواكبي درس موضوعات الكتابين قبل رحلته المطولة في البلاد الشرقية وقبل هجرته من حلب إلى القاهرة، وقد عني حفيده الدكتور عبد الرحمن الكواكبي بالتنبيه إلى ذلك في مقدمة الطبعة الأخيرة من كتاب أم القرى التي طبعت هذه السنة «1959م» فقال إنه: «لا بد في هذه المناسبة من الإشارة إلى حقيقة تاريخية تلقي ضوءا على موضوع هذا الكتاب، وهي أن جدي - رحمه الله - ألف «أم القرى» وطبائع الاستبداد قبل هجرته إلى مصر، وكان عمي الدكتور أسعد الكواكبي يتولى تبييض أم القرى له في حلب، كما أخبرني أيضا عالم حلب الثقة المرحوم الشيخ راغب الطباخ أن المؤلف أطلعه عليه قبل سفره إلى مصر، ولما كان السيد الفراتي لم يغادر حلب خلال مقامه فيها إلا إلى إستانبول، ولم يقم بجولاته إلى العالم الإسلامي إلا بعد رحيله إلى مصر، فإن المؤتمر الذي عقد في مكة، ويدور عليه موضوع الكتاب إنما هو مؤتمر تخيله المؤلف ليعرض فيه آراءه ...»
صفحة غير معروفة