فامتعضت نفس ددف ولم يشترك في أحاديثهم، وتوعدتهم نفسه الفتية بالظفر والتفوق، واستمرت عملية الكشف والاختبار ثلاث ساعات متوالية، وظل الناجحون ينتظرون حتى أتاهم ضابط من ناحية الثكنات، ألقى عليهم نظرة صارمة وصاح بهم: منذ هذه الساعة ينبغي لكل منكم أن يودع الفوضى وداعا أبديا، ويروض نفسه على النظام والطاعة، كل شيء من الآن فصاعدا يخضع للنظام الصارم، ولا أستثني الأكل والشرب والنوم ...
ورتبهم الضابط صفا واحدا، وسار بهم صوب الثكنات، وأمروا بالدخول واحدا واحدا، وكان كل منهم يمر على كوة مخزن كبير فيعطى صندلا ووزرة وحلة بيضاوين، ثم يتفرقون إلى عنابر كل عنبر يحوي عشرين سريرا في صفين متقابلين، وخلف كل سرير صوان متوسط الحجم على سقفه لوح من الورق في إطار خشبي، طلب إلى كل منهم أن يكتب اسمه عليه بالخط المقدس.
وأحسوا جميعا بجو غريب يخضع للنظام الصارم، وتنبث فيه روح الصرامة والخشونة؛ فقد لحق بهم ضابط، وأمرهم بأن يخلعوا ملابسهم المعتادة ويرتدوا الملابس الحربية، ونبه عليهم بأن يخرجوا إلى الفناء إذا سمعوا صوت النفير ... فصدعوا جميعا بالأمر، ودبت في العنابر حركة سريعة كانت أول ما أبدى أولئك الصغار من النشاط العسكري ... وقد فرحوا باللباس الحربي الأبيض وهللوا له، وحين نفخ في النفير هرعوا خفافا إلى الفناء حيث رتب الضباط جمعهم في صفين مستقيمين.
وحضر على الأثر مدير المدرسة، وهو ضابط كبير برتبة قائد، في لباسه الرسمي المحلى بالنياشين والأوسمة، يحيط به كبار ضباط المدرسة، واستعرضهم بعناية ثم وقف أمامهم وخطب فيهم قائلا: كنتم إلى الأمس أطفالا أحرارا، وأنتم اليوم تبدءون حياة الرجولة الحقة الممثلة في الجهاد العسكري، وكانت أنفسكم ملكا لكم ولآبائكم وأمهاتكم، أما اليوم فهي ملك الوطن وفرعون. واعلموا أن حياة الجندية هي القوة والتضحية، فعليكم بالنظام والطاعة لتقوموا بواجبكم المقدس نحو مصر وفرعون.
ثم هتف المدير باسم خوفو فرعون مصر، وردد الجنود الصغار هتافه، ثم أمرهم أن ينشدوا نشيد: «يا آلهة احفظي ابنك المعبود، وملكه السعيد، من منبع النيل إلى مصبه». وامتلأ جو الفناء الواسع بأصوات العصافير، تغني في حماس دافق وجمال رائع، وتجمع بين الأرباب وفرعون ومصر في نغمة واحدة.
وفي ذلك المساء حين رقد ددف لأول مرة على فراش غريب في جو جديد، مسه السهاد، وجثمت على قلبه الوحشة، فتنهد من أعماق نفسه، ونادت مخيلته إلى ظلمة العنبر أطيافا سعيدة من بيت بشارو، فكأنه رأى زايا وهي تحنو عليه ونافا وهو يضحك ضحكته المرحة وخنى وهو يحدث حديثه المنطقي المتدفق ... وخال جاموركا العزيز يلعق خده ويحييه بذنبه، ولما ارتوت نفسه من الأحلام رنق النوم بجفنيه فنام نوما عميقا لم يستيقظ منه إلا على نفخ النفير عند مطلع الفجر، فقعد في سريره دون تريث، ونظر فيما حوله دهشا، فرأى أقرانه يستيقظون ويغالبون سلطان النوم بصعوبة، وعلت في المكان أصوات التثاؤب والتذمر واختلط بها الضحك أيضا ...
لا راحة بعد اليوم؛ فقد بدأت حياة النشاط والجلاد.
13
وفي ذلك الوقت طلب المعمار ميرابو الحظوة بالمثول بين يدي فرعون، واستقبله الملك في بهو الاستقبال الرسمي. وقد جلس جلالته على عرش مصر الذي تربع عليه خمسة وعشرين عاما حافلة بجلائل الأعمال، وكان مهيبا قويا صارما يرتد البصر عن جلاله وهو كليل، كما ارتدت خمسون عاما تنفس فيها الحياة عن أن تؤثر في صلابة بنيانه أو تدفق حيويته، فأبقت على حدة بصره وسواد شعره وحكمة عقله.
وقد سجد ميرابو بين يديه وقبل حاشية ثوبه الملكي، فقال الملك بعطف: السلام عليك يا ميرابو، قم وتكلم فيما جئت من أجله.
صفحة غير معروفة