وكان صوت المنادي لا ينقطع عن النداء، وسيل التلاميذ لا يتوقف عن الدخول من باب المدرسة الكبير، منهم من يبقى في الداخل ومنهم من يخرج مرة أخرى بوجه كاسف ونفس أسيفة.
وكان خنى ينظر إلى هاتيك الجموع بوجه جامد، فلم يرتح ددف إلى مظهره وسأله بقلق: أواجد علي يا أخي؟
فربت الشاب على منكبيه وقال: معاذ الرب يا عزيزي ددف، إن الجندية حياة سامية على شرط أن تكون واجبا عاما، يؤدي كل قسطه منه إلى حين، ثم يعود بعده إلى حياته الإنسانية، فلا يهمل موهبة من مواهبه السامية، ويصون روحه عن التلف، وإني مطمئن يا ددف إلى أنك لن تطمس التشوف الذي أنار روحك في حجرتي. أما الانغمار في الجندية والتفرغ لها فمعناه النزول عن الإنسانية، وتدمير الحياة العقلية، والرجوع القهقرى إلى مراتب الحيوان.
فضحك نافا كعادته وقال: الحق أنك يا أخي تنشد الحياة الطاهرة الحكيمة حياة الكهنوت، أما أمثالي فينشدون الجمال والمتعة، ويوجد غيرنا آخرون - هم هؤلاء الجنود - يمتعضون من التأمل ويعبدون القوة؛ وحمدا للأم إيزيس فإنها وهبتني عقلا يستطيع أن يرى جمالا لكل لون من ألوان هاته الحيوات، ولكني لا أملك إلا أن أوثر في النهاية حياتي. والحق أن الفصل بين هذه الحيوات لا يتأتى إلا لواحد عليم بها غير متعصب لإحداها ... وهيهات أن يوجد هذا القاضي.
ولم يطل الانتظار بددف فسمع المنادي يصيح: ددف بن بشارو. فخفق قلبه، وسمع نافا يقول له: ودعنا يا ددف فلا احتمال لعودتك معنا اليوم.
فعانق الغلام أخويه وسار إلى الباب الرهيب، ثم أدخل إلى حجرة على يمين الداخل حيث تلقاه جندي فأمره بأن يخلع ملابسه، فخلع الغلام ثيابه، وتقدم إلى طبيب مسن ذي لحية بيضاء فحصه عضوا عضوا، وألقى على هيئته نظرة عامة، ثم قال للجندي: «مقبول.» فارتدى الغلام ثيابه فرحا مسرورا، وقاده الجندي إلى فناء المدرسة وتركه يلحق بمن سبقه من المقبولين.
وكان الفناء عظيم الاتساع، تربو مساحته على قرية كبيرة، ومحوطا من ثلاث جهات بسور ضخم مزخرف بالنقوش الحربية، ومحلى بصور الجنود والمواقع والأسرى، وفي الجهة الرابعة تقام الثكنات ومخازن الذخيرة والأسلحة، ومكاتب القواد والضباط، وإصطبلات الخيل، وحظائر العربات، فهو أشبه بحصن منيع.
وقد ألقى الغلام على المكان نظرة دهشة، وسار إلى حيث لحق بزملائه المتجمعين، ووجدهم يتفاخرون بالأنساب ويتنافرون بالآباء والأجداد، وقد سأل أحدهم ددف قائلا: هل أبوك من رجال الحرب؟
فتضايق الغلام وهز رأسه سلبا، ولكنه قال بلهجة ملئت كبرياء: أبي بشارو مفتش هرم الملك.
ولكنه لم يبد على وجه محدثه أنه اقتنع بعظمة المفتش وقال: أبي ساكا قائد فرقة الصقر من المشاة حاملي الرماح.
صفحة غير معروفة