فقال فرعون: إذن فأد واجبك أيها الكاهن!
فوجم من رع وأرتج عليه القول، أما فرعون فقد استطرد: إن لنا - معشر الفراعنة - تقاليد موروثة في احترام الكهنوت ورعايته. لا أحب أن تضطرني إلى خرقها.
يا عجبا! ماذا يريد فرعون بقوله هذا؟ أيريد أن يفهم الكاهن أنه يحترمه ولا يحب أن يقتل ابنه، وأنه لذلك ينبغي أن يقوم هو بالمهمة التي يجفل منها الملك؟ وكيف يتأتى له أن يذبح طفله بيده؟ حقا إن الإخلاص الذي يكنه لفرعون يقضي عليه بتحقيق رغبته الربانية دون أدنى تردد، وإنه ليعلم علم اليقين أن أي فرد من شعب مصر لا يتوانى عن إزهاق روحه لو أحس بأن موته يلقى رضاء فرعونيا ساميا، فهل يلحق بطفله العزيز ويغمد خنجره في قلبه؟
ولكن من الذي قضى أن يكون ابنه خليفة خوفو على عرش مصر؟ أليس هو الرب رع؟ أوليس يعد سعيه لقتل الابن البريء تحديا لإرادة الرب الخالق؟ ومن الذي يجب أن يؤثر بطاعته خوفو أم رع؟ لا يحتاج الجواب إلى روية، ولكن ما عسى أن يفعل وفرعون وزملاؤه ينتظرون كلمته؟ ماذا ينبغي أن يفعل وقد بدءوا يتململون ويغضبون؟
وتراءى له خاطر سريع وسط لجة الحيرة والارتباك كما يلتمع البرق في السحاب المظلم المكفهر، تذكر كاتا وطفلها الذي ولدته في الصباح! وتذكر أنها نائمة في الغرفة التي تواجه غرفة سيدتها على كثب منه، حقا إنها فكرة جهنمية شيطانية يبرأ منها قلب كاهن مثله، ولكن القلب لا يتيقظ إذا تسلط عليه ما يتسلط على قلبه من الانفعالات والاضطرابات، وهيهات أن يصحو ضمير أمام رهبة فرعون ورجاله، كلا لا يستطيع أن يتردد.
وأحنى الكاهن رأسه المثقل احتراما، وذهب ليرتكب أشنع جريمة، فتبعه فرعون، وتبع فرعون الأمراء والكبراء، وصعدوا خلفه إلى الطابق الأعلى، ولكنهم حين رأوا الكاهن يهم بولوج باب الحجرة وقفوا في الردهة وهم سكوت، وتردد من رع لحظة ثم التفت إلى مولاه وقال: مولاي، ليس لي سلاح أقاتل به، فأعرني خنجرا ...
ونظر إليه فرعون دون أن يبدي حراكا ...
وضاق صدر الأمير رعخعوف، فاستل خنجره وأعطاه الكاهن بعنف، فأخذه الرجل بيد مرتجفة وأخفاه في عباءته، ودخل الحجرة لا تكاد تحمله قدماه ...
وانتبهت إليه كاتا فابتسمت ابتسامة امتنان وشكران، واعتقدت أن سيدها جاءها يباركها، فكشفت عن وجه الطفل البريء، وقالت له بصوت ضعيف: اشكر الرب بقلبك الصغير، الذي عوضك عن موت أبيك حنانا مقدسا ...
فجفل الكاهن مذعورا وخذلته نفسه فانقلب مدحورا، وفاضت عواطف قلبه فجرف سيلها زبد الإثم ... ولكن أين المفر؟ وكيف الخلاص؟ إن فرعون واقف بالباب، وليس لديه مهلة للتفكير والروية، واشتدت به الحيرة حتى أذهلته عن وعيه، فزأر زئيرا مخيفا، ونفس عن صدره بتنهدة عميقة، واستل الخنجر يائسا قنوطا وطعن به نفسه فاستقر في قلبه، وانتفض جسمه انتفاضة هائلة، وسقط على أرض الحجرة جثة هامدة ...
صفحة غير معروفة