منهاج مفصل لدروس في العوامل التاريخية في بناء الأمة العربية على ما هي عليه اليوم
تصانيف
حقيقة إن مصر وسورية فقدتا في العهد العثماني ما كانتا تحصلان عليه من مكوس التجارة بين أوروبا وآسيا بسبب استخدام الطرق الملاحية البحرية، ولم يكن الخضوع للحكم العثماني مسئولا عن هذا، فقد بدأ تحول التجارة قبله. ولا نعتقد أن السلطنة المملوكية لو استمرت لاستطاعت أن تطرد البرتغاليين وغيرهم من الأوروبيين من البحار العربية. والغوري قبل اشتباكه بالسلطنة العثمانية أرسل تجريدات بحرية نحو سواحل الهند ثبت عجزها عن قهر البرتغاليين.
ومقابل فقدان المكوس ما غنمته الطوائف المنتجة بسبب زوال السلطنة المملوكية وما صحبها من إسراف شديد ترتب على ما كانت تضطر لإنفاقه لاسترضاء الأمراء الخارجين وعلى حروبها وعلى عماراتها وفخفختها.
إن أسوأ ما كان في الانتقال من دولة المماليك لدولة العثمانيين ينحصر في أنه في ظل الأولى كان يحدث من وقت لآخر أن يتولى السلطنة رجل قوي الشخصية، يكبح عناصر الاضطراب والشغب ويضع كل إنسان عند حده بينما في ظل الثانية رتبت أدوات الحكم على منع ظهور حاكم من هذا النوع. وكان رجاء واضعي النظام العثماني أن التوازن الذي أنشئوه بين مختلف أدوات الحكم ينبغي له أن يؤدي إلى منع التعدي وحفظ الحقوق، ولم يحدث شيء من ذلك.
وبناء على هذا فلا نرى فرقا جوهريا يعتد به بين طبيعة الحكم العثماني وطبيعة الحكم المملوكي، ولا نرى دليلا على ما زعموه من أن الأول يقتضي الجمود ويجافي التطور، بينما الثاني لم يقتض ذلك، ولا نرى وجها لما زعموه أيضا من أن الأول أدى إلى مقاطعة حركات التغيير المعاصرة بينما الثاني لم يقاطعها في زمانه.
ولبنان كانت علاقات أمرائه الدروز والنصارى بالدولة صاحبة السيادة وممثليها في الحواضر السورية واحدة أيام العثمانيين وأيام المماليك.
والنفوذ العثماني في الحرمين وفي جدة وفي السواحل اليمنية والأفريقية لا يختلف في طبيعته جوهريا عن النفوذ المملوكي في تلك الأقاليم.
وأعتقد أن الجديد الذي نتج عن الفتح العثماني نشاهده في النيابات المغربية العثمانية، فإن تلك النيابات في جمعها بين عناصر القوة البحرية وعناصر القوة البرية ، وفي طبيعة علاقاتها بالأقاليم الداخلية وأهليها، كانت تطورا جديدا في تاريخ المغرب.
أما المغرب الأقصى فقد تأثرت السياسة الخارجية لحكومته بمجاورته للنيابات العثمانية وبمحاولة الحكومة العثمانية ونيابة الجزائر التدخل في شئونه الداخلية في أكثر من مناسبة. أما تطور المغرب الداخلي فباستثناء اتخاذ بعض الألقاب التركية ومحاكاة بعض الأنظمة العسكرية العثمانية فكان تأثره بالحضارة العثمانية قليلا نسبيا.
ومما يستحق الذكر فيما نحن بصدد بحثه أن خضوع أكثر العرب للحكم العثماني لم يؤد إلى قيام علاقات ثقافية أو اقتصادية بين مختلف أقطارهم أكثر توثيقا مما كان الحال قبل ذلك الخضوع.
وأخيرا نشير إلى أن اللغة التركية أصبحت لغة التحرير لبعض أنواع المراسلات، ولكنها لم تنتشر بين العرب إطلاقا؛ هذا قبل عصر التنظيمات. أما بعد ذلك العصر فالحال يختلف عن ذي قبل اختلافا تاما، ولا يصعب تفسير ذلك، فقبل عصر التنظيمات والتجديد عمل الحكومة محدود جدا، ويمكن لأغلب المحكومين أن يستغنوا تماما عن تعلم التركية وعن استخدامها. أما ابتداء من عصر التنظيمات فقد اتسع نطاق العمل الحكومي وأصبح يمس حياة الفرد العادي في كل شيء، وأصبح لها نظام تعليمي رسمي يقوم على تدريس التركية، فانتشرت التركية بين العرب خلال القرن التاسع عشر على نحو لم يشهده في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر بالمرة. (3) مبادئ الحكم العثماني في الولايات العربية قبل عصر التنظيمات
صفحة غير معروفة