القسم الأول
الجزيرة العربية
العراق
الأردن أو المملكة الأردنية الهاشمية
لبنان
الجمهورية العربية المتحدة
السودان
الأوضاع الراهنة في دول المغرب العربي
أقطار ملحقة بالعالم العربي
الأفكار الاتحادية وتنظيم العلاقات بين الدول العربية
خاتمة
ما نقرأ لفهم مادة هذا القسم
القسم الثاني
استعراض متواز للتاريخ العثماني والتاريخ الأوروبي
ختام هذا الاستعراض
مراحل نحيل عليها من يريد الاطلاع
القسم الثالث
الموضوع الأول
الموضوع الثاني
الموضوع الثالث
الموضوع الرابع
مراجع هذه الموضوعات
القسم الأول
الجزيرة العربية
العراق
الأردن أو المملكة الأردنية الهاشمية
لبنان
الجمهورية العربية المتحدة
السودان
الأوضاع الراهنة في دول المغرب العربي
أقطار ملحقة بالعالم العربي
الأفكار الاتحادية وتنظيم العلاقات بين الدول العربية
خاتمة
ما نقرأ لفهم مادة هذا القسم
القسم الثاني
استعراض متواز للتاريخ العثماني والتاريخ الأوروبي
ختام هذا الاستعراض
مراحل نحيل عليها من يريد الاطلاع
القسم الثالث
الموضوع الأول
الموضوع الثاني
الموضوع الثالث
الموضوع الرابع
مراجع هذه الموضوعات
منهاج مفصل لدروس في العوامل التاريخية في بناء الأمة العربية على ما هي عليه اليوم
منهاج مفصل لدروس في العوامل التاريخية في بناء الأمة العربية على ما هي عليه اليوم
تأليف
محمد شفيق غربال
القسم الأول
العالم العربي في أوضاعه الراهنة
الجزيرة العربية
مساحتها مليون من الكيلومترات المربعة. أما عدد سكانها فلا يعرف على وجه التحديد. فبالنسبة للمملكة العربية السعودية مثلا، قيل إن سكانها بين ثلاثة ملايين وستة ملايين، وقد قدروا أخيرا بأربعة ملايين ونصف مليون. وأما بالنسبة لليمن فمن المؤكد أنه يقطنه أربعة ملايين، وقد يرتفع عدد سكانه إلى ثمانية ملايين. وبالنسبة لأقطار الجزيرة الأخرى - أي عدا السعودية واليمن - يقال إن ساكنيها عددهم بين مليون ونصف ومليونين.
وعلى هذا يكون مجموع عدد السكان للجزيرة 10 ملايين أو تزيد، نصفهم كما رأينا في الجنوب الغربي من الجزيرة؛ أي في اليمن وحضرموت.
ويقال إن ربع أهل الجزيرة بدو، ويقال إن ثلثي السكان أهل زراعة عددهم في المرتفعات الجنوبية الغربية 2 إلى 3 ملايين، وفي عمان 200000، وفي نجد وفي الواحات أهل زراعة كذلك.
ويقال إن
من أهل الجزيرة يسكنون الحواضر، وهاك أهمها: الهفوف 65000، مكة المكرمة 100000، جدة 80000، المدينة المنورة 4500، الرياض 80000، بريدة 30000، صنعاء 20000، مستعمرة عدن 100000، المنامة (البحرين) 30000.
والكثرة الغالبة من أهل الجزيرة عرب مسلمون.
وقد هاجر يهود الجنوب الغربي إلى إسرائيل، وكانوا حتى عهد قريب يبلغون 100000، وأكثرهم كانوا في اليمن.
وفي مختلف الثغور العربية جماعات من الهنود، والهنود الذين يعرف الواحد منهم باسم پارسي، وهم مجوس من أصل فارسي، والأوروبيين.
وأكثر مسلمي الجزيرة من أهل السنة، ونصف عدد هؤلاء على مذهب الإصلاح المقترن باسم محمد بن عبد الوهاب.
وفي عمان وظفار 200000 على المذهب الإباضي.
وفي المرتفعات اليمنية ما بين مليون ومليونين من الزيود، كما يوجد 100000 على المذهب الإسماعيلي في نجران.
وأهم مجموعات القبائل البدوية مجموعة عنيزة ومن فروعها المشهورة في الشمال قبيلة الرولة.
وتنقسم الجزيرة - من حيث الجغرافيا السياسية - إلى الأقسام الآتية: المملكة العربية السعودية، المملكة المتوكلية اليمنية، مستعمرة عدن ومحمية عدن، سلطنة مسقط وإمامة عمان، مشيخات، خليج البصرة ويعرفه العرب المحدثون باسم «الخليج العربي»، البحرين، الكويت، قطر. (1) المملكة العربية السعودية
وهي من خلق الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود، استرد إمارة آبائه بمغامرة كانت أشبه بنوادر الأساطير منها بوقائع الحروب، وتلقب بلقب سلطان نجد وملحقاتها بما في ذلك حايل وكان ذلك في سنة 1921، وأضاف في سنة 1926 إلى ذلك اللقب لقب ملك الحجاز، وأخيرا جمع في سنة 1932 السلطنتين في المملكة العربية السعودية وعاصمتها الرياض، وتلقب بلقب «ملك» المملكة العربية السعودية.
وساحلها الغربي - على البحر الأحمر - يبدأ عند العقبة - وإن كانت هذه تتبع الأردن - وينتهي عند حدود اليمن، وحدودها الجنوبية والجنوبية الشرقية تتصل بحدود اليمن، ومحمية عدن ومسقط وعمان ومشيخات ساحل الصلح على خليج البصرة، وساحل المملكة الشرقي على هذا الخليج يقع عليه إقليم الإحساء، ثم يتجه شمالا نحو الكويت.
وقد توفي الملك عبد العزيز في سنة 1953 وورث الملك ابنه الأكبر الملك سعود. (1-1) علاقات المملكة
وهذه تتشكل بحكم الأحوال الآتية:
أولا:
وجود الحرمين في المملكة، وقيام المملكة عن العالم الإسلامي بأكمله برعاية الحجاج، وهؤلاء يبلغ عددهم سنويا في السنوات الطيبة 100000 حاج، وفي سنة 1952 ألغت الحكومة السعودية ما كان يؤديه الحجاج من رسوم.
ثانيا:
مصالحها المختلفة في الجزيرة نفسها وعلى حدودها، وما يترتب على هذا من مواقف سياسية محلية.
ثالثا:
عضويتها في جامعة الدول العربية، وما تقوم به بحكم تلك العضوية في تشكيل السياسة العربية في القضايا المختلفة.
رابعا:
استثمار مواردها من النفط وتأثير هذا في سياستها عامة.
خامسا:
شروط استخدام حكومة الولايات المتحدة الأمريكية للقاعدة الجوية بالظهران. (2) المملكة المتوكلية اليمنية
ومساحتها 74000 ميل مربع، وتتكون من قسمين يتميز كل منهما عن الآخر تميزا تاما: المرتفعات الداخلية وتهامة على ساحل البحر الأحمر، وحدود اليمن تلتقي بحدود المملكة العربية السعودية غربا في العسير وشرقا في نجران، ويحد اليمن في الجنوب محمية عدن.
والعاصمة الآن - بعد مقتل الإمام يحيى - في تعز. (2-1) علاقات المملكة
وهذه تتشكل بحكم الأحوال الآتية:
أولا:
التردد بين خطا التجديد والمحافظة، ومظاهر التردد تتجلى في الأخذ أحيانا بسياسة العزلة وأحيانا في تخفيف حدتها.
ثانيا:
الرغبة في استثمار الموارد، وخشية ما قد يترتب عليه من فتح باب المطامع الأجنبية.
ثالثا:
مسألة عدن وسائر أقطار الجنوب العربي والعلاقات اليمنية البريطانية.
رابعا:
اتحاد الدول العربية.
وعن دمشق في 16 شعبان 1377، الموافق 8 مارس (آذار) 1958 صدر ميثاق بإنشاء اتحاد للدول العربية يتكون من الجمهورية العربية المتحدة، والمملكة المتوكلية اليمنية، والدول العربية التي تقبل الانضمام إلى هذا الاتحاد.
وينص الميثاق على احتفاظ كل دولة بشخصيتها الدولية وبنظام الحكم الخاص بها، وينص على تساوي مواطني الاتحاد في الحقوق والواجبات العامة، وعلى أن لكل مواطن في الاتحاد حق العمل وتولي الوظائف العامة في البلاد المتحدة دون تفرقة وفي حدود القانون، وعلى كفالة حرية التنقل في الاتحاد في حدود القانون، وينص على أن تتبع الدول الأعضاء السياسة الخارجية الموحدة التي يضعها الاتحاد، وعلى أن يتولى التمثيل السياسي والقنصلي للاتحاد في الخارج هيئة واحدة في الأحوال التي يقرر فيها الاتحاد ذلك، وعلى أن يكون للاتحاد قوات مسلحة موحدة، وعلى أن تنظم الشئون الاقتصادية للاتحاد وفقا لخطط مرسومة تهدف إلى تنمية الإنتاج واستغلال موارد الثروة الطبيعية وتنسيق النشاط الاقتصادي، وعلى أن ينشأ بين البلاد المتحدة اتحاد جمركي وذلك بالشروط والأوضاع التي يحددها القانون، وعلى أن ينظم القانون مراحل ووسائل تنسيق التعليم والثقافة في الاتحاد.
وقد نص الميثاق على أن يكون الإشراف على شئون الاتحاد لمجلس يسمى المجلس الأعلى؛ يشكل من رؤساء الدول الأعضاء، ويعاون هذا المجلس الأعلى مجلس يسمى مجلس الاتحاد.
ويختص المجلس الأعلى برسم السياسة العليا للاتحاد في المسائل السياسية والدفاعية والاقتصادية والثقافية، وإصدار القوانين اللازمة في هذا الشأن، وهو المرجع الأعلى في تحديد الاختصاصات، وتصدر قرارات المجلس بالإجماع.
ويعين المجلس الأعلى القائد العام للقوات المسلحة للاتحاد، وتصدر الميزانية العامة للاتحاد بقرار منه.
ومجلس الاتحاد هو الهيئة الدائمة للاتحاد، ويتولى النظر في الشئون السياسية، ويضع البرنامج السنوي المتضمن للنظم والتدابير المؤدية إلى تحقيق أهداف الاتحاد.
وتعرض قرارات مجلس الاتحاد والبرنامج السنوي الذي يضعه على المجلس الأعلى للاتحاد للتصديق عليها، ويبت المجلس الأعلى في القرارات التي أصدرها مجلس الاتحاد واعترضت عليها إحدى الدولتين أو الدول.
وتتبع مجلس الاتحاد الهيئات الآتية: (أ)
مجلس الدفاع. (ب)
المجلس الاقتصادي. (ج)
المجلس الثقافي.
وتعرض قرارات هذه الهيئات على مجلس الاتحاد للتصديق عليها.
وقد وقع على الميثاق رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر، وعن الإمام أحمد ملك المملكة المتوكلية اليمنية ولي عهد المملكة سيف الإسلام محمد البدر.
وصدر القانون الاتحادي رقم 1 لسنة 1958 بتاريخ 17 شعبان 1377 / 8 مارس سنة 1958 بتشكيل مجلس الاتحاد من اثني عشر عضوا، ويمثل كلا من الجمهورية العربية المتحدة والمملكة المتوكلية اليمنية ستة أعضاء.
وصدر القانون الاتحادي رقم 2 لسنة 1958 بنفس التاريخ السابق بتحديد موارد الميزانية العامة لاتحاد الدول العربية.
وقد نصت المادة 3 منه على أن تؤدي المملكة المتوكلية اليمنية ثلاثة في المائة من إيرادات الميزانية العامة للاتحاد وتؤدي الباقي الجمهورية العربية المتحدة.
وصدر القانون الاتحادي رقم 3 لسنة 1958 بتاريخ 17 شعبان سنة 1377 الموافق 8 مارس سنة 1958 لإنشاء المؤسسة النقدية للمملكة المتوكلية اليمنية، والقانون الاتحادي رقم 4 لسنة 1958 بتاريخ 17 شعبان سنة 1377 الموافق 8 مارس 1958 بتنسيق النظام النقدي في اتحاد الدول العربية، والقانون الاتحادي رقم 5 لسنة 1958 وتاريخه 17 شعبان سنة 1377 الموافق 8 مارس سنة 1958 بالنظام الدفاعي لاتحاد الدول العربية، والقانون الاتحادي رقم 6 لسنة 1958 وتاريخه 17 شعبان سنة 1377 الموافق 8 مارس سنة 1958 بشأن المجلسين الثقافي والاقتصادي.
وصدر قرار المجلس الأعلى لاتحاد الدول العربية وتاريخه 17 شعبان سنة 1377 الموافق 8 مارس سنة 1958 بأن يكون المقر الدائم لاتحاد الدول مدينة الحديدة، على أنه صدر قرار فيما بعد بأن تكون القاهرة مقر الاتحاد بصفة مؤقتة، وقرار آخر في نفس التاريخ بتعيين المشير عبد الحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة للاتحاد.
ملاحظة
نقل هذا الملخص عن العدد 20 مكرر غير اعتيادي من الوقائع المصرية في 9 مارس سنة 1958 الموافق 18 شعبان سنة 1377.
ويلاحظ أن التواريخ المذكورة لا تستقيم، فالميثاق تاريخه 16 شعبان سنة 1377 الموافق 8 مارس والقوانين مؤرخة 17 شعبان الموافق 8 مارس. (3) مستعمرة عدن ومحمية عدن
مساحة المستعمرة والمحمية نحو 112000 ميل مربع، ويمتدان على الساحل الجنوبي للجزيرة العربية من «الشيخ سعيد» إلى حدود سلطنة مسقط، ويبلغ هذا الامتداد نحو 700 ميل.
والحدود البرية للمستعمرة والمحمية ليست محققة تماما، وتختلف سعة الرقعة الواقعة بين الحدود البرية والبحر ما بين 50 ميلا في الغرب و200 ميل في الشرق. (3-1) مستعمرة عدن
رقعة صغيرة من الأرض؛ حوالي 80 ميلا مربعا، سكانها حوالي 100000 نفس، أخلاط على النحو الآتي: 80000 عربي، 8500 هنود مسلمون، 6500 صوماليون، 3500 هنود غير مسلمين، 1500 من اليهود - انتقل بعد ذلك 2000 إلى إسرائيل - 500 أوروبيون، وآخرون.
وضعت الحكومة البريطانية يدها على عدن في 1839. وظلت عدن منذ ذلك الوقت حتى 1923 تتبع الإدارة البريطانية في بمباي، ثم انتقلت تبعيتها لحاكم عام الهند. وفي سنة 1937 أصبحت تتبع وزارة المستعمرات البريطانية، يحكمها حاكم يعاونه مجلس تنفيذي ومجلس تشريعي.
وترجع أهمية المستعمرة حربيا واقتصاديا لوقوعها على الطريق التجاري العالمي الواصل بين الشرق والغرب. وزادت الأهمية بعد وصل البحرين المتوسط والأحمر بحفر قناة السويس وضرورة تموين السفن بالفحم أو بالزيت. أما من حيث الأغراض التجارية فلعدن شأن في توزيع السلع المستوردة أو المصدرة في الأقاليم المجاورة.
ولما استقلت الهند في 1947 أخذت السلطات البريطانية في إبطال استخدام الروبية الهندية في عدن، وأحلت محله استخدام شلن أفريقية الشرقية، ودخلت عدن بذلك في نطاق مجلس النقد الأفريقي الشرقي.
وبالمستعمرة قوة عسكرية محلية قوامها 2000 رجل للخدمة في المستعمرة وفي المحمية. هذا إلى القوات التابعة لسلاح الطيران البريطاني. (3-2) محمية عدن
وهي غربية وشرقية، والغربية مساحتها 42000 ميل مربع والشرقية 70000 ميل مربع (وتقع مستعمرة عدن جغرافيا في المحمية الشرقية).
والقليل من أرض المحمية يصلح للزراعة، وأكثر الأرض صحراء أو مرعى، ويسقط بالمحمية الغربية مطر، وتنمو بها غلات زراعية تكفي ما يلزم أهلها من غذاء، على عكس المحمية الشرقية.
والمحمية بشرقيها وغربيها يقطنها 800000 نفس، تنظمهم قبائل تعيش في وحدات يبلغ عددها نحو ثلاثين وحدة: منها ما هو تحت سلطان أو ما تحت شيخ، وهؤلاء السلاطين والشيوخ عقدوا مع الحكومة البريطانية خلال قرن من الزمان معاهدات، والمعاهدات تتفق في وضع السلطان أو الشيخ تحت الحماية وتختلف في مبلغ إشراف حاكم مستعمرة عدن ووكلائه لدى الوحدات على إدارة السلطان أو الشيخ.
وأهم وحدة في المحمية الشرقية سلطنة المكلا في بيت القعيطي، وصاحبها يلقب بصاحب السمو، وفي الماضي كان يخدم رجال من أهلها في جيش النظام صاحب حيدر آباد في الهند. والواقع أن اتصال تلك الإمارات العربية في ذلك الساحل وفي الخليج العربي بالهند وأقيالها وتجارها وصناعها وعاداتها وأزيائها وثيق.
وفي الشرق من المكلا تقع سلطنة قشم وسقطري.
وأكبر حكام وادي حضرموت شأنا سلطان سيئون.
وقد أنشأت حكومة عدن في 1937 في المحمية الغربية قوة يطلقون عليها اسم «الحرس الحكومي»، وفي سنة 1940 أنشأت في المحمية الشرقية «الفيلق الحضرمي البدوي» على نسق «الفيلق العربي في الأردن».
ولأهل هذا الساحل وساحل الخليج شهرة قديمة في الملاحة العربية في تلك البحار الهندية. ومن الساحلين كانت الهجرات العربية الشهيرة إلى أفريقية الشرقية والهند وجاوة والفليبين وما إلى ذلك.
ونختم الكلام بنبذة عن سلطنة لحج من الوحدات المحمية الكبرى:
وبيت السلطنة في لحج من العبادلة من اليمن وكانوا أصحاب عدن، ضربها الأسطول البريطاني بالمدافع في 1839، وسلم السلطان بفقد عدن في معاهدة عقدها مع البريطانيين وفيها تعهدوا بأن يدفعوا له تعويضا عن الاحتلال ستة آلاف ريال مسانهة؛ كانت بداءة تلك المرتبات التي تدفعها الحكومة البريطانية لأولئك السلاطين والمشايخ في ذلك الساحل.
ثم في سنة 1857 استولى البريطانيون على عدن استيلاء تاما، وأقصوا السلطان وقبيلته عنها، وجعلوا «بوابة» عدن الحدود بينهم وبينه وأن يكون ما دونها بما فيه بلدة الشيخ عثمان من أملاك سلطنة لحج.
وفي سنة 1882 اشترى البريطانيون «الشيخ عثمان» من شقيق السلطان في مقابل مبلغ قدره عشرون ألف ريال، والرجل لا يملك البيع، وأذعن السلطان في النهاية فقبل أن تكون داره - وهي قريبة تبعد نصف ساعة عن الشيخ عثمان - الحدود الفاصلة بين لحج وعدن.
وفي خلال الحرب العالمية الأولى احتل الترك مؤقتا لحج في تلك الفترة المضطربة من العلاقات البريطانية-التركية-اليمنية.
أما الموقف الحالي فهو معقد: نلخصه في رغبة سلطنة لحج في مزيد من الاستقلال، وفي استرجاع أراض من اليمن تدعي أنها لها، وفي الاعتراف بإلحاق الإمارات العربية المجاورة للحج ورفع الحماية البريطانية عنها، وهي الصبيحة والحواشبة والقطيب وأبين والضالع واليافع والعلوي. وهذه والفضلى تكون «النواحي التسع» المحمية.
ومن عناصر الموقف الحالي ما يقال عن رغبة من الحكومة البريطانية في تنظيم محمياتها في اتحاد أو ما يشبه.
ومن عناصره ما بين اليمن والسلطات البريطانية والشياخات في تلك المناطق من كفاح بارد وحام. (4) شياخات الخليج العربي
من حيث الجغرافية السياسية ينقسم الساحل الغربي للخليج العربي ما بين أراض تتبع المملكة العربية السعودية وأراض تكون إمارات عربية، وهذه هي الكويت والبحرين وقطر، ثم الشياخات التي تكون ما يعرف بالإنجليزية باسم
Truical oman
أو عمان الصلح (ولا يعرف للمنطقة اسم بالعربية) - وأحيانا يطلق عليه اسم «ساحل الصلح» - ويتكون من شياخات صغيرة هي: أبو ظبي، دبي، الشارقة، عجمان، أم القيوين، رأس الخيمة، كلبا. وهذه الإمارات السبع جميعها - باستثناء كلبا - تقع على الجانب الغربي لرأس مسندم الذي يفصل الخليج العربي عن خليج عمان، وهذا الجانب الغربي هو الذي ينطبق عليه اسم ساحل الصلح البحري بوجه خاص.
بدأ النفوذ البريطاني في تلك البلاد في القرن السابع عشر عندما حاول البريطانيون أن يحلوا محل البرتغاليين في السيطرة على ذلك الطريق الموصل بين الشرق والغرب، وازدادت أهميته عندما علت كلمة البريطانيين في الهند؛ فأصبح للخليج أهمية عسكرية سياسية تجارية، ومرت السيطرة البريطانية في الأدوار الآتية: دور محاربة النفوذ البرتغالي ثم الهولندي ثم الفرنسي، ودور منع النفوذ الروسي والنفوذ العثماني في الأزمنة الحديثة من بلوغ تلك المياه، وفي تلك الأدوار جميعا منع اتحاد الساحل في حكم إمارة عربية واحدة، أو خضوعه - متحدا - في حكم الدولة العثمانية أو حكم الدولة الفارسية؛ ومن ثم كانت سياسة المعاهدات والحمايات والمرتبات.
هذه السياسة طرأ عليها بعد تكوين الجمهوريتين المستقلتين (الهند وباكستان) شيء من التعديل؛ فاتخذ الاهتمام بأقاليم الخليج العربي أشكالا أخرى، وخاصة بعد أن أصبح معروفا لدى الباحثين أن نصف موارد العالم على الأقل من الزيت تقع فيها، والشركات التي تعمل في استخراجه تجتمع فيها مصالح بريطانية وأميركية وهولندية وفرنسية.
ومنذ سنة 1950 أصبحت القاعدة في تقسيم أرباح استغلال الزيت قاعدة الحصتين المتساويتين بين الشركة وشيخ الإقليم.
وفيما يلي بيان إجمالي بالمبالغ التي دفعت لحكام إقليم الخليج العربي والعراق وإيران مقدرا بملايين الدولارات:
العربية السعودية
الكويت
العراق
البحرين
قطر
إيران
سنة 1950
112
12,4
12,4
3,3
1
44,9
سنة 1951
155
30,30
38,5
3,8
3,8
3,23
سنة 1952
170
139
110
6,3
9 «لا شيء أيام أزمة تأميم الزيت الإيراني المشهورة»
ونظرا لأن الباحثين يقدرون وجود الزيت تحت قاع البحر فقد أصبح لتحديد المياه الإقليمية شأن، ويلحق بالموضوع أيضا تحديد من يملك قاع البحر خارج المياه الإقليمية. (4-1) الكويت
حددت حدودها تحت إشراف الحكومة البريطانية في سنتي 1922 و1923 والإمارة في الغرب تجاور العراق، وفي الجنوب الغربي تجاور إقليم الإحساء، وهو جزء من المملكة العربية السعودية، وبين هذه المملكة والإمارة أرض محايدة حقوق الطرفين فيها متساوية إلى أن يتم الفصل في شأنها. وفي سنة 1953 كشف عن وجود الزيت فيها ولما يتم بعد تحديد تابعيتها.
ومساحة الإمارة 6000 ميل مربع، وسكانها الحضر 150000 يضاف إليهم 50000 قدموا للعمل في الزيت.
ومدينة الكويت تقع على ساحل البحر، في موقع لا ماء فيه، ويرجع إنشاؤها إلى قرن ونصف قرن من الزمان. وكان العامل في إنشائها الرغبة في اتخاذ موضع يؤمن ساكنيها من ضغط قبائل أخرى، واتجه الكويتيون نحو البحر ملاحين وتجارا، وهم يجلبون الماء العذب من شط العرب على بعد 50 ميلا، وبعد أن أقبل مال الزيت أنفقوا الكثير على إنشاء أجهزة تقطير ماء البحر وعلى منشآت عمرانية كثيرة. (4-2) البحرين
مجموعة من الجزائر بين قطر والإحساء، مساحتها 213 ميلا مربعا، وأكبر الجزائر تدعى جزيرة البحرين، وطولها ثلاثون ميلا وعرضها عشرة أميال، وبالجزيرة عيون ماء عذب، ويتصل بالجزيرة جزيرة أخرى اسمها المحرق، وفيها أكبر مطارات الخليج، وبين الجزيرتين بحر عميق به قاعدة بحرية بريطانية، وسكان الإمارة حوالي 115000 نفس.
والعاصمة اسمها منامة، وسكانها نحو 40000 أكثرهم من العرب، ومعهم جاليات من الإيرانيين والهنود والأوروبيين.
وموقع البحرين في الخليج، وما بها من ثغور ومرافئ جعلها ذات أهمية لأقطار الخليج عربية وفارسية وللأمم الأوروبية التي عملت في تجارة وسياسة الخليج. ولفارس كما لغيرها اتصال بالإمارات، وفي فترات من الزمان كان بها حكم فارسي إلا أن آخر العهد بالتابعية الفارسية كان في سنة 1783 عندما تغلب العرب عليها. على أن الفرس لا يزالون حتى اللحظة الحاضرة غير مقتنعين بما كان.
وإمارة البحرين مركز النفوذ البريطاني في الخليج كله. (4-3) قطر
مساحتها 8000 ميل مربع، وسكانها 25000، وعاصمة قطر الدوحة، وكشف بها عن الزيت.
وشأنها ومشكلاتها نفس مشكلات جاراتها: العلاقات ببريطانيا، مال الزيت وتأثيراته. (4-4) ساحل الصلح
وقد أشرنا إليه، ويكفي الإشارة في شأنه إلى مشكلة البريمي وصلاتها بالعربية السعودية وأبو ظبي وسلطنة مسقط. (4-5) مسقط وعمان
وموضوعها معقد، والأصح أن نفصل بين إمامة عمان وسلطنة مسقط وأن نعرف الحقائق الآتية:
أولا:
إمامة عمان، إمامة إباضية قديمة، وهذه الإماة يعلو نفوذها أحيانا، وأحيانا يختفي نفوذها أمام سلاطين مسقط.
ومنذ نحو أربعين سنة وإمامة عمان حكومة مستقرة.
وقد ضعف نفوذ سلاطين مسقط منذ أكثر من قرن من الزمان.
ثانيا:
وبلاد عمان على هذا تضم الجزء الأكبر من السلسلة الطويلة من الجبال التي يطلق عليها اسم الحجر، والإمام الحالي هو محمد بن عبد الله الخليلي وعاصمته بروى: بالقرب من السفح الجنوبي الغربي من الجبل الأخضر. وأقوى رجلين في الإمامة هما أمير الجبل الأخضر وأمير الشرفية.
ثالثا:
وتتألف أراضي سلطان مسقط من: (1) منطقة مسقط ومطرح. (2) المنطقة الساحلية الطويلة التي تدعى الباطنة بين الجحر الغربي والبحر. (3) شبه الجزيرة الشمالي المعروف باسم رءوس الجبال. (4) الأراضي في جوار رأس الحد. (5) منطقة ظفار إلى الشرق من حضرموت.
وهذه المملكات لا تؤلف منطقة واحدة متصلة.
والسلطان يصرف جانبا كبيرا من وقته في سلالة عاصمة ظفار، وهو يستقل مركبا في سفره بين سلالة ومسقط.
والسلطان الحالي هو سعيد بن تيمور من آل بوسعيد. وفي 1157 / 1744 استطاع أحمد بن سعيد أن يكون إماما، فلما توفي انتخب ابنه إماما خلفا له، ولكنه انسحب إلى الجبال وعاش في شبه عزلة فذوت الإمامة، وانتقل الأمراء من آل بو سعيد إلى الساحل وزاد اهتمامهم بالملاحة والتجارة والإنتاج، وأعظمهم سعيد بن سلطان الذي حكم من 1804 إلى 1856 وجمع بين زنجبار ومسقط، ولم يطلق على نفسه لقب «الإمام» أو «السلطان»، بل اكتفى بلقب «السيد»، وضعفت سطوة حكومته في عمان وبين قبائلها ضعفا مطردا، ولم يتمكن أحد من خلفائه من أن يسترد استردادا كاملا ما كان للأسرة من منزلة في الجبال وفي الأراضي التي وراء الجبال، وإن حرص السلاطين على توكيد ما يزعمونه لأنفسهم من سلطة في عمان، جنوبا وغربا إلى الربع الخالي، وبعد عهد سعيد حدث الفصل بين زنجبار ومسقط.
وفي 1868 عقدت الإمامة إلى عزان بن قيس وبقي إماما إلى 1871، وهو من آل بوسعيد، ولكن اختياره يدل على توكيد الفصل بين السلطنة والإمامة.
وفي سنة 1920 كان اتفاق بين الإمامة والسلطنة وكان هذا بعد حروب، ولم يوقف على نصوص هذا الاتفاق، فمن قائل بأن الاتفاق يعترف للسلطان بالسلطنة على مسقط وعمان على أن تكون لقبائل الداخل حكومة من بينهم تعتمد على أساس الأمر الواقع لتدير شئونهم المحلية البحتة، ومن قائل: إن الاتفاقية تسلم تسليما ضمنيا باستقلال الإمامة، ومن قائل بأن السلطان تعهد بألا يتدخل في الشئون الداخلية لعمان.
والظاهر أن الاتفاق لم يحل شيئا، ولم يزل الأمر مضطربا ؛ السلطان تؤيده بريطانيا والإمام يؤيده الرأي العام العربي. واتخذت المسألة أخيرا مكانها في جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الحالية (نوفمبر 1960).
والأحوال الاقتصادية في السلطنة والإمامة سيئة وإن كانت في السلطنة أسوأ.
ساءت أحوال مسقط بعد أن ذهب دخلها من تجارة الرقيق وتهريب الأسلحة، وصارت السلطنة تعتمد اعتمادا كبيرا على مورديها الرئيسيين: التمر والسمك، وليس للتمر ما كان له في الأسواق العالمية.
ويبدو الآن أن أكبر أمل في تحسين الحالة الاقتصادية السيئة في الساحل وفي الداخل قائم على إمكان اكتشاف الزيت.
العراق
مساحته 175000 ميل مربع، وسكانه يقرب عددهم من 5 ملايين نفس، وعدد سكان بغداد حوالي 400000، والموصل حوالي 300000، والبصرة حوالي 100000، والتنظيم العشائري عنصر مهم من عناصر المجتمع العراقي.
والأكراد أقل من مليون نفس، وهم مسلمون سنيون.
والطوائف المسيحية عددها 150000، والإسرائيلية (بعد هجرة اليهود) أقل من 10000.
والمسلمون منهم سنيون ومنهم شيعة، ويقال إن الفريقين متساويان من حيث العدد، وبأرض العراق في «كربلاء والنجف والكاظمية وسامرا» مزارات للأئمة من أهل البيت يفد إليها من فارس والهند وغيرها عدد كبير من الشيعة للزيارة.
وإلى أن قامت الحرب العالمية الأولى كان العراق جزءا من الدولة العثمانية، وأثناء تلك الحرب كانت وقائع بين الجيوش العثمانية والتجريدات البريطانية في أرضه، وانتهى الأمر بتخلص العراق من الدولة العثمانية، ولكنه وجد البريطانيين قد حلوا محل الترك، وسوت الحكومة البريطانية مركزها في العراق بأن حصلت من المؤتمر المنعقد في سان ريمو منها ومن حليفاتها؛ حصلت من ذلك المؤتمر على أن تكون هي الدولة المنتدبة لإدارة العراق، كان ذلك في 1920. وكان هذا الانتداب بالإضافة إلى أسباب أخرى من عوامل قيام الثورة المشهورة في تلك السنة. وتلا ذلك إنشاء عرش عراقي جلس عليه الأمير فيصل ابن الشريف حسين في 1921، وعقد المعاهدة البريطانية العراقية في 1922 ونصوص المعاهدة عبارة عن نصوص صك الانتداب. وكانت المعاهدة موضع اعتراض قومي قوي. وفي 1923 عقد الصلح بين بريطانيا وتركيا «مؤتمر لوزان». وفي 1924 انتخبت جمعية تأسيسية عراقية وهذه أقرت المعاهدة والقانون الأساسي، وصحب كل هذا اضطراب شديد .
وفي السنة نفسها وافق مجلس عصبة الأمم على أن يلحق بالعراق الجزء الأكبر من ولاية الموصل، ولهذا أهميته في استثمار موارد الزيت العظيمة بتلك المنطقة.
وقد وضعت العلاقات البريطانية العراقية على أساس الاستقلال والتحالف في معاهدات من نمط المعاهدة البريطانية المصرية في سنة 1936، وقبل العراق المستقل عضوا بجمعية الأمم.
ولم يخل التطور الدستوري العراقي من أزمات، ومما يؤثر عن تاريخ العلاقات الخارجية إنشاء الميثاق المعروف بميثاق سعد آباد، وقعته تركيا وفارس وأفغانستان والعراق في سنة 1936، وهو يقضي بتبادل الرأي في كل مشكلة تمس المصالح المشتركة للدول الأربع.
وفي أول الحرب العالمية الثانية حركة التحرر التي قادها السيد رشيد عالي الكيلاني، ولم يقدر للحركة النجاح.
وبعد تلك الحرب تصبح السياسة العراقية جزءا من مجموعة السياسات العربية.
هذا عن السياسة الخارجية. أما السياسة الداخلية من نهاية الحرب العالمية الأولى (من حوالي 1920) إلى الوقت الحاضر؛ فهي سياسة بناء وتجديد من أيام الدولة العثمانية وتجهيز البلاد بأجهزة الحياة الحاضرة، وقد قطعت البلاد في ذلك شوطا بعيدا، وخصوصا بعد تخصيص حصة العراق من أرباح الزيت لمشروعات الإعمار، كما يسمونه هناك.
وتختلط المسائل الداخلية والخارجية فيما حاولته وزارات عراقية في أيام الأسرة الهاشمية من تحقيق للوحدة العربية المعروفة باسم وحدة الهلال الخصيب، أو لإنشاء كتلة موالية للكتلة الغربية فيما عرف باسم حلف بغداد، أو لتوثيق الصلات بين العراق والأردن الهاشميين بإنشاء الاتحاد العربي بين المملكتين، ثم حدثت الثورة الكبرى في العراق - وتم بها انقلاب اجتماعي كبير - أما مداه في أوضاع السياسة الخارجية فلم يتضح بعد.
الأردن أو المملكة الأردنية الهاشمية
تقع الآن على ضفتي نهر الأردن. والجزء الواقع شرقيه هو إمارة شرقي الأردن التي أسفر عنها تقسيم الولايات العربية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى. أما الجزء الواقع غربي النهر فهو ما حصلت عليه الإمارة من تقسيم فلسطين (1948-1949)، والجزء الغربي مساحته 2165 ميلا مربعا، والجزء الشرقي مساحته 30700 ميل مربع هي في أكثرها بادية من صحارى ومراع وما إلى ذلك.
والمملكة يحدها من الشمال اليرموك وسورية، ومن الشرق العراق، ومن الجنوب المملكة العربية السعودية، ومن الغرب الأراضي في قبضة اليهود، والنهر في مراحله العليا، وطول ما بين ما يحتله اليهود والأردن 350 ميلا.
والجزء الغربي به مدينة الخليل وبيت لحم. وبيت المقدس (القسم العربي منها)، رام الله، نابلس، طولكرم، جنين.
وعدد سكان المملكة ارتفع من نحو 200000 في سنة 1948 إلى 1372000 في 1952، وهم من الرعايا الأردنيين الأصليين، و400000 من الفلسطينيين المقيمين في أراضي الجزء الغربي من المملكة، و100000 من أبناء فلسطين نزحوا من ديارهم الأصلية، 472000 من أبناء فلسطين المسجلين بوصف «لاجئين».
والمواطنون جميعا فيما عدا القليل عرب أكثرهم مسلمون من أهل السنة، ومنهم طائفة مسيحية مهمة، وهم - اجتماعيا - 65000 رحل وأنصاف رحل، 385000 مزارعون، 450000 أهل حواضر (ولا يدخل في هذا اللاجئون).
والعاصمة عمان ارتفع عدد سكانها من 30000 قبل تقسيم فلسطين إلى 200000 الآن.
والإمارة أنشأتها الحكومة البريطانية في 1921، وأجلست عليها الأمير عبد الله أميرا، وأدارتها الحكومة البريطانية منتدبة، إلا أنها أخرجتها من نطاق تطبيق «الوطن القومي» الذي وعدت به اليهود، وتطورت العلاقات بين الحكومة البريطانية والحكومة الأردنية إلى سنة 1948 حين نودي بالأمير ملكا على المملكة الأردنية الهاشمية.
لبنان
جمهورية تتركب أرضها من سهل يقع محاذيا ساحل البحر المتوسط، وأهم ثغوره طرابلس الشام وبيروت - عاصمة الجمهورية - ثم صيدا وصور، ومن سلسلة من الجبال تحاذي الساحل، جبال كثيرة المال جيدة الزراعة ومن قممها ما يرتفع إلى 10000 قدم، وبعد هذه الجبال من سفوحها الشرقية السهل المرتفع كثيرا عن سطح البحر المشهور باسم سهل البقاع.
وسكان الجمهورية يقربون من مليون ونصف، وسكان بيروت نحو 250000 وطرابلس نحو 90000، وصيدا نحو 80000، وزحلة نحو 80000.
والهجرة من لبنان ظاهرة اجتماعية مشهورة. وقد هاجر منه - ويهاجر منه - إلى الولايات المتحدة وجمهوريات أميريكا الجنوبية وجزائر الهند الغربية وأفريقية الغربية وغيرها.
والطوائف المذهبية في لبنان كثيرة، فالمسلمون منهم سنيون ومنهم شيعة، وكذلك توجد طائفة الدروز وطائفة النصيرية، والمسيحيون هم أيضا طوائف، فمنهم الموارنة وكنيستهم وطنية - يعني أنها لبنانية؛ فهي في هذا كالكنيسة المصرية القبطية - وهي في الوقت نفسه مرتبطة بالكنيسة الرومانية الكاثوليكية وإن احتفظت لنفسها بخصائص . ومنهم طوائف كاثوليكية مرتبطة هي أيضا بالكنيسة الرومانية الكاثوليكية، نذكر منها الروم الكاثوليك والسوريان الكاثوليك والأرمن الكاثوليك والكلدان، ثم يوجد كاثوليك لاتين يتبعون الكنيسة الرومانية الكاثوليكية رأسا، ثم توجد الكنائس الشرقية الأرثوذكسية المختلفة، من روم أرثوذكس وأرمن أرثوذكس وسوريان أرثوذكس. وكذلك توجد طائفة مسيحية تتبع مذاهب بروتستنتية مختلفة ... إلخ. «وللطائفية» وحقوق الطوائف شأن أساسي في أنظمة الجمهورية، ورئيس الجمهورية يختار من الموارنة، ورئيس الوزارة من المسلمين السنيين، والمناصب الأخرى يراعى فيها تمثيل الطوائف، كما يراعى هذا في توزيع مقاعد البرلمان.
وكثرة الطوائف أدت إلى سعي الرياسات من دينية وإقطاعية - وجبل لبنان يمثل في ماضيه التنظيم الإقطاعي خير تمثيل - إلى إيجاد قدر من التوازن يمكن كل طائفة من أن تبقى، ويقلل بقدر الإمكان من آثار المنافسات والمخاصمات والمنازعات، وهي كثيرة في هذا الحيز الضيق.
وكان لهذه الحالة أثرها في وجود قدر من الحرية ومن فرص العمل في مصالح عامة للجميع. ولكن كان لها في الوقت نفسه أثر آخر هو التقارب بين مختلف الطوائف والهيئات الدينية والسياسية الأجنبية، فتعمل الهيئة الأجنبية - دولة أو كنيسة - مثلا على أن تحتضن طائفة من الطوائف، وأن تكسب لها مزايا من حكومة الدولة العثمانية أيام أن كان لبنان خاضعا للدولة العثمانية، وأن تتيح لأبنائها فرص التعلم والترقي، وأن تكسبهم حمايتها - إن لم تكن تبعيتها - وأسوأ من هذا أن الهيئة الأجنبية - دولة أو كنيسة - لا يسوءها كثيرا بذر بذور العصبية الطائفية والكراهية. «والجبل» في الأصل كان قائما بنفسه، حكمه أيام السلاطين المصريين المماليك ثم أيام السلاطين العثمانيين حكام من أبنائه، واكتفت الدولة المملوكية ثم الدولة العثمانية بجمع ماله وبالإشراف عليه من قواعد الحكم العثماني في طرابلس أو في صيدا أو في دمشق. على أنه يجب أن نتذكر دائما أن هذا الحكم الذاتي أو الكيان القائم بنفسه كان في الجبل وحده، فلم تكن الأراضي الساحلية بينه وبين البحر أو الأراضي المنبسطة في شرقيه جزءا منه.
وقد اكتسب هذا الكيان دستورا على أثر الاضطراب الذي ساده في 1860، والقتال والمذابح التي وقعت فيه وفي دمشق وغيرها.
كان هناك تدخل أوروبي، وأنشأت الحكومة العثمانية بالاتفاق مع الدول حكما ذاتيا للجبل على رأسه حاكم مسيحي يعينه السلطان ويعاونه مجلس ... إلخ، ولا يسري هذا الحكم الذاتي إلا على الجبل نفسه.
وتاريخ متصرفية الجبل هذه فيما بين 1864 وقيام الحرب العالمية الأولى في سنة 1914 جدير بالدرس، ممتع من حيث التطور الاجتماعي، ومن حيث الحركة العقلية، ومن حيث الهجرة، ومن حيث النشاط في مختلف الأقطار العربية، ومن حيث نشاط المساعي الأجنبية في التعليم والاقتصاد ونشر النفوذ.
وكانت الحرب العالمية الأولى، وذاق فيها أهل الجبل الكثير، وكان الحرمان بل كانت المجاعة.
وعند نهايتها، وعندما أطلقت يد فرنسا في تلك الجهات، أقامت جمهورية لبنان الكبير، وأدخلت فيه الساحل البحري وأرض البقاع. وكانت فرنسا منتدبة للبنان الكبير، وبقي الانتداب إلى 1945، وفيها توطد الجلاء والاستقلال.
الجمهورية العربية المتحدة
في جلسة تاريخية عقدت في قصر القبة في القاهرة في 12 من رجب سنة 1377ه الموافق أول فبراير سنة 1958م، اجتمع الرئيس شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية والرئيس جمال عبد الناصر رئيس جمهورية مصر بممثلي جمهوريتي سوريا ومصر.
وكانت غاية هذا الاجتماع أن يتداولوا في الإجراءات النهائية لتحقيق إرادة الشعب العربي ولتنفيذ ما نص عليه دستور الجمهوريتين؛ من أن شعب كل منهما جزء من الأمة العربية؛ لذلك تذاكروا ما قرره كل من مجلس الأمة المصري ومجلس النواب السوري من الموافقة الإجماعية على قيام الوحدة بين البلدين كخطوة أولى نحو تحقيق الوحدة العربية الشاملة ...
لذلك يعلن المجتمعون اتفاقهم التام، وإيمانهم الكامل، وثقتهم العميقة في وجوب توحيد سوريا ومصر في دولة واحدة، اسمها الجمهورية العربية المتحدة.
كما يعلنون اتفاقهم الإجماعي على أن يكون نظام الحكم في الجمهورية العربية ديموقراطيا رئاسيا، يتولى فيه السلطة التنفيذية رئيس الدولة يعاونه وزراء يعينهم ويكونون مسئولين أمامه، كما يتولى السلطة التشريعية مجلس تشريعي واحد، يكون لهذه الجمهورية علم واحد، يظل شعبا واحدا، وجيشا واحدا، في وحدة يتساوى فيها أبناؤها في الحقوق والواجبات، ويدعون جميعا لحمايتها بالأنفس والمهج والأرواح ... وسيتقدم كل من الرئيسين ببيان إلى الشعب يعني أمام مجلس النواب السوري ومجلس الأمة المصري في يوم الأربعاء 16 من رجب سنة 1377 الموافق 5 من فبراير سنة 1958.
كما سيدعى الشعب في مصر وسوريا إلى استفتاء خلال ثلاثين يوما في أسس الوحدة وشخص رئيس الجمهورية ...
مقتطفات من إعلان الرئيس جمال عبد الناصر في مجلس الأمة المصري في 5 فبراير 1958 لمولد الوحدة والمبادئ التي تقوم عليها
لقد كان في سوريا رد فعل لكل حركة في مصر، كما كانت أصداء الذي يحدث في دمشق تتجاوب في القاهرة؛ في مصر وسورية ذلك الفوران الذي أعقب الحرب العالمية الثانية وبدأت على أثره حركات التحرير الهائلة في أفريقية وآسيا، في سورية ومصر هذه الهزات العنيفة، ووراءها جميعا محاولات تغيير الأوضاع تطلعا إلى الأفضل والأحسن، في مصر وسورية ذلك الاندفاع إلى حرب فلسطين بالفروسية والإيمان ولكن من غير سلاح. ثم كانت في القاهرة ودمشق تلك الآثار التي ترتبت على حرب فلسطين، والتي كان أدلها تلك اليقظة التي تشبه انتفاضة من لسعته النار فاستفاق.
ثم في سورية ومصر نفس المعارك ... معركة الأحلاف العسكرية، معركة السلاح، معركة عدم الانحياز، معركة المؤامرات، معركة التحرر الاقتصادي.
بل إن سورية خاضت معركة قناة السويس ... وكذلك حاربت مصر معركة التهديدات الموجهة إلى سورية ...
وبدأت بالقاهرة محادثات نهائية لرسم الشكل الخارجي للحقيقة الواقعة. ولقد كانت هذه المحادثات في القاهرة تجربة جديدة في التاريخ. إنها لم تكن اجتماعا يتم بناء على رغبة ساسة أو حكام، وإنما كانت اجتماعات تمت بناء على ضغط وإلحاح وإرادة عنيدة مصممة صادرة من قلوب الشعب ... كان معنى محادثاتنا في القاهرة ووصول رائد الوحدة وبطلها ورافع علمها المجاهد شكري القوتلي إلى مصر، مع وفد من رفاقه في الجهاد، كان معناه أن الأوان قد آن، وأن الساعة التي تطلع إليها أجدادنا وعمل من أجلها آباؤنا قد دقت أجراسها ...
مقتطفات من الإعلان الذي أدلى به الرئيس شكري القوتلي أمام مجلس النواب السوري في 5 فبراير سنة 1958 ... إن السوريين لم يصونوا استقلالهم إلا ليدفعوا به إلى الأمام عجلة الاستقلال العربي كاملا ، ولم يحتفظوا لأنفسهم بسلامة كيانهم وسيادتهم في أراضيهم إلا ليلقوها دعامة راسخة في بناء كيان عربي ذي سيادة. وقد شرفني أن أعرب عن ضمائرهم وشعورهم يوم الجلاء عام 1946، عندما رفعت علم الاستقلال وقلت لن يرتفع فوقه إن شاء الله إلا علم واحد هو علم الوحدة العربية ...
في خلال العامين الأخيرين من هذا التاريخ الحافل، لقاؤنا القوي من جديد مع مصر الثورة، فكان لقاء أخويا صادقا على صعيد المبادئ القومية السامية، وعلى أسس صريحة من سياسة دولية مستوحاة من مصلحتنا القومية العليا ومن حرصنا الشديد على صيانة معنى السيادة بكل جماله وجلاله ... في سبيل هذه الحرية والسيادة نادينا بمبادئ الحياد الإيجابي وعدم الانحياز؛ لأنه من شروط السلامة والسيادة أن نتحرر عن سياسة الطامعين ومضرمي الحروب؛ فليست أرضنا موطئا لأقدام جيوشهم، ولا ثروتنا موردا لحروبهم، ولا أبناؤنا جنودا في معسكراتهم، ولا مبادئنا وعقائدنا ذريعة لنشر مبادئهم وعقائدهم.
في هذا اليوم الخامس من فبراير عام 1958 يكون قد مر على انتخابي رئيسا للجمهورية سنتان ونصف السنة. ومثلما أتيح لي في خلال عهد الرئاسة الأولى بين عام 1943 وعام 1946 شرف إعلان الاستقلال وجلاء الأجنبي عن هذا الجزء العربي العزيز، كذلك أتيح لي شرف أرفع وأدعى إلى الاعتزاز بإعلان مولد الجمهورية العربية المتحدة خلال عهد رئاستي هذه بين عام 1955 وعام 1958 ...
وإن فاتني شرف الاستشهاد، ولم أكن بجوار الخالدين من أحرار هذه الأمة، فأمام الله أشهد أنني لم أجنب نفسي خطرا ولم أوفرها عن شهادة. وقد أراد الله أن ألتقي بأجيال الشباب تتقدم الموكب العربي وفي جباهها وعود المستقبل العظيم ... وإنني إذ أرفع بيدي تلك الشعلة المقدسة لأسلمها في أوج اشتعالها إلى يد الأجيال الشابة القادرة في أوج فتوتها وشبابها، أبارك اليد التي تحمل والساعد الذي يرتفع ...
إنني إذ أسلم الأمانة الغالية، أرشح لرئاسة الجمهورية العربية المتحدة أمام مجلسكم الكريم ... الرجل المؤمن والقائد العربي الملهم الرئيس جمال عبد الناصر، وسأكون غدا في يوم الاستفتاء يوم الواحد والعشرين من فبراير عام 1958، أول من يقوم بواجبه كمواطن لانتخاب القائد الذي وضع ثورة مصر في خدمة القومية العربية كما وضع نفسه في خدمة أمته، ليعمل في سبيل حريتها ومجدها ورخائها ...
ومجلس النواب السوري يؤيد الوحدة بين مصر وسورية، ويؤيد ترشيد السيد جمال عبد الناصر رئيسا للجمهورية العربية المتحدة.
ومجلس الأمة المصري يؤيد الوحدة بين سورية مصر، ويؤيد ترشيح السيد جمال عبد الناصر رئيسا للجمهورية العربية المتحدة.
وأعلنت وزارة الداخلية نتيجة الاستفتاء على وحدة مصر وسورية على الوجه الآتي الذي تم يوم الجمعة 21 فبراير 1958:
إن عدد الناخبين وهم جملة الأشخاص المقيدة أسماؤهم:
في جداول الانتخاب
6220343
وعدد من حضر منهم واشترك في عملية الاستفتاء
6104259
عدد الآراء الصحيحة التي أعطيت
6102375
عدد الآراء الباطلة
1884
عدد آراء الموافقين
6102128
عدد آراء غير الموافقين
247
النسبة المئوية لعدد الحاضرين إلى عدد الناخبين المدعوين
98,13٪
النسبة المئوية لعدد آراء الموافقين إلى عدد الآراء الصحيحة التي أعطيت
99,99٪
وأعلنت الوزارة نتيجة الاستفتاء على رياسة الجمهورية العربية المتحدة الذي تم في يوم الجمعة 21 فبراير سنة 1958 على الوجه الآتي:
عدد الناخبين
6220343
عدد من حضر واشترك في عملية الاستفتاء
6104262
عدد الآراء الصحيحة
6102381
عدد الآراء الباطلة
1881
عدد آراء الموافقين
6102116
عدد آراء غير الموافقين
265
النسبة المئوية لعدد الحاضرين إلى عدد الناخبين المدعوين
98,13٪
النسبة المئوية لعدد آراء الموافقين إلى عدد الآراء الصحيحة التي أعطيت
99,99٪
نتيجة الاستفتاء في سورية على وحدة سورية ومصر في الجمهورية العربية المتحدة:
عدد الناخبين
1431157
عدد الحاضرين المشتركين
1313070
عدد الآراء الصحيحة
1321998
عدد الآراء الباطلة
72
عدد آراء الموافقين
1312859
عدد آراء غير الموافقين
139
النسبة المئوية لعدد الحاضرين لعدد الناخبين
91,75٪
النسبة المئوية لعدد آراء الموافقين إلى عدد الآراء الصحيحة التي أعطيت
99,98٪
ونتيجة الاستفتاء على انتخاب جمال عبد الناصر رئيسا للجمهورية العربية المتحدة:
عدد الناخبين
1431157
عدد الحاضرين المشتركين
1313069
عدد الآراء الصحيحة التي أعطيت
1312995
عدد الآراء الباطلة
74
عدد آراء الموافقين
1312808
عدد آراء غير الموافقين
187
النسبة المئوية لعدد الحاضرين إلى عدد الناخبين المدعوين
91,75٪
النسبة المئوية لعدد آراء الموافقين إلى عدد الآراء الصحيحة
99,98٪ (1) الجمهورية العربية المتحدة: الدستور المؤقت (1-1) الباب الأول: الدولة العربية المتحدة
مادة 1:
الدولة العربية المتحدة جمهورية ديموقراطية مستقلة ذات سيادة وشعبها جزء من الأمة العربية.
مادة 2:
يتمتع بجنسية الدولة العربية المتحدة كل من يحمل الجنسية السورية أو المصرية أو يستحق أية منهما بموجب القوانين والأحكام السارية في سورية ومصر. (1-2) الباب الثاني: المقومات الأساسية للمجتمع
مادة 3:
التضامن الاجتماعي أساس المجتمع.
مادة 4:
ينظم الاقتصاد القومي وفقا لخطط مرسومة، تراعى فيها مبادئ العدالة الاجتماعية وتهدف إلى تنمية الإنتاج ورفع مستوى المعيشة.
مادة 5:
الملكية الخاصة مصونة: ينظم القانون أداء وظيفتها الاجتماعية ولا تنزع إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل.
مادة 6:
العدالة الاجتماعية أساس الضرائب والتكاليف العامة. (1-3) الباب الثالث: الحقوق والواجبات العامة
مادة 7:
المواطنون لدى القانون سواء ...
مادة 8:
لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون.
مادة 9:
تسليم اللاجئين السياسيين محظور.
مادة 10:
الحريات العامة مكفولة في حدود القانون.
مادة 11:
الدفاع عن الوطن واجب مقدس ... والتجنيد إجباري وفقا للقانون. (1-4) الباب الرابع: نظام الحكم
رئيس الدولة
مادة 12:
رئيس الدولة هو رئيس الجمهورية، ويباشر اختصاصاته على الوجه المبين في هذا الدستور.
السلطة التشريعية
مادة 13:
يتولى السلطة التشريعية مجلس يسمى مجلس الأمة يحدد عدد أعضائه، ويتم اختيارهم بقرار من رئيس الجمهورية، نصفهم على الأقل من بين أعضاء مجلس النواب السوري ومجلس الأمة المصري.
مادة 14:
يتولى مجلس الأمة مراقبة أعمال السلطة التنفيذية.
مادة 15:
لا تقل سن العضو عن 30 سنة ميلادية.
مادة 16:
مقر المجلس مدينة القاهرة، ويجوز دعوته للانعقاد في جهة أخرى بناء على طلب رئيس الجمهورية.
مادة 17:
رئيس الجمهورية يدعو المجلس للانعقاد ويفض دورته.
مادة 18:
لا يجوز أن يجتمع المجلس دون دعوة في غير دور الانعقاد، وإلا كان اجتماعه باطلا وبطلت قراراته.
مادة 19:
يقسم العضو أمام المجلس في جلسة علنية قبل أن يتولى عمله يمينا بالمحافظة على الجمهورية ونظامها ورعاية مصالح الشعب وسلامة الوطن واحترام الدستور والقانون.
مادة 20:
المجلس ينتخب رئيسا ووكيلين.
مادة 21:
جلسات المجلس علنية، إجراءات جعل الجلسة سرية.
مادة 22:
لا يصدر قانون إلا إذا أقره مجلس الأمة.
مادة 23:
وضع لائحة داخلية.
مادة 24:
نظام توجيه الأسئلة والاستجوابات.
مادة 25:
نظام طلب طرح موضوع عام للمناقشة.
مادة 26:
حق إبداء الرغبات والاقتراحات.
مادة 27:
إنشاء الضرائب العامة أو تعديلها أو إلغاؤها لا يكون إلا بقانون، لا إعفاء إلا في الأحوال المبينة في القانون.
مادة 28:
القانون ينظم القواعد الأساسية للجباية والصرف.
مادة 29:
لا يعتمد قرض ولا يرتبط بمشروع يترتب عليه إنفاق مبالغ من خزانة الدولة إلا بموافقة مجلس الأمة.
مادة 30:
لا يجوز منح احتكار إلا بقانون وإلى زمن محدد.
مادة 31، 32، 33، 34، 35:
الميزانية وإعدادها ... إلخ.
مادة 36:
شروط حصانة الأعضاء.
مادة 37:
شروط إسقاط العضوية.
مادة 38:
لرئيس الجمهورية حق حل مجلس الأمة، فإذا حل المجلس وجب تشكيل المجلس الجديد ودعوته للانعقاد خلال ستين يوما من تاريخ الحل.
مادة 39:
شروط تقرير عدم الثقة بأحد الوزراء وما يترتب على تقريرها.
مادة 40:
عدم جواز الجمع بين عضوية مجلس الأمة وتولي الوظائف العامة.
مادة 41:
عدم جواز التعيين في مجلس إدارة شركة أثناء مدة العضوية إلا في الأحوال التي يحددها القانون.
مادة 42:
عدم جواز شراء أو استئجار مال من أموال الدولة أو يؤجرها أو يبيعها شيئا من أمواله، أو أن يقايضها عليه أثناء العضوية.
مادة 43:
يتقاضى الأعضاء مكافأة يحددها القانون.
السلطة التنفيذية
مادة 44:
يتولى رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية ويمارسها على الوجه المبين في القانون.
مادة 45:
رئيس الجمهورية في أثناء مدة الرياسة لا يزاول مهنة حرة أو عملا تجاريا أو ماليا أو صناعيا أو أن يشتري أو يستأجر شيئا من أموال الدولة أو أن يؤجرها أو يبيعها شيئا من أمواله أو أن يقايضها عليه.
مادة 46:
له أن يعين نائبا لرئيس الجمهورية أو أكثر، ويعفيهم من مناصبهم.
مادة 47:
يعين الوزراء ويعفيهم من مناصبهم.
يجوز تعيين وزراء دولة ونواب للوزراء.
يتولى كل وزير الإشراف على شئون وزارته، ويقوم بتنفيذ السياسة العامة التي يضعها رئيس الجمهورية.
مادة 48:
نائب رئيس الجمهورية. الوزراء وحظر مزاولة المهن الحرة والبيع والشراء من أموال الحكومة ... إلخ (كما في مادة 45).
مادة 49:
شروط وإجراءات محاكمة الوزراء.
مادة 50:
لرئيس الجمهورية حق اقتراح القوانين والاعتراض عليها وإصدارها.
مادة 51 و52:
ما يحدث عندما يعترض على قانون.
مادة 53:
إذا دعت الضرورة إلى اعتماد تشريع أو قرار في غياب المجلس في شأن يدخل أصلا في اختصاصه، اتخذ ما يتبع في هذه الحالة.
مادة 54:
رئيس الجمهورية يصدر القرارات اللازمة لترتيب المصالح العامة ويشرف على إدارتها.
مادة 55:
رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة.
مادة 56:
رئيس الجمهورية يبرم المعاهدات، ويبلغها مجلس الأمة، وتكون لها قوة القانون بعد إبرامها والتصديق عليها ونشرها وفقا للأوضاع المقررة، على أن معاهدات الصلح والتحالف والتجارة والملاحة، وجميع المعاهدات التي يترتب عليها تعديل في أراضي الدولة، أو التي تتعلق بحقوق السيادة، أو التي تحمل خزانة الدولة شيئا من النفقات غير الواردة في الميزانية لا تكون نافذة إلا إذا وافق عليها مجلس الأمة.
مادة 57:
لرئيس الجمهورية حق إعلان حالة الطوارئ.
مادة 58:
تتكون الجمهورية العربية المتحدة من إقليمين هما مصر وسورية. ويشكل لكل منهما مجلس تنفيذي يعين بقرار من رئيس الجمهورية، ويختص بدراسة وفحص الموضوعات التي تتعلق بتنفيذ السياسة العامة للإقليم.
القضاء
مادة 59:
القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضايا أو في شئون العدالة.
مادة 60:
القضاة غير قابلين للعزل، وذلك على الوجه المبين بالقانون.
مادة 61:
يرتب القانون جهات القضاء ويعين اختصاصاتها.
مادة 62:
الجلسات علنية، تقرر المحكمة جعلها سرية مراعاة للنظام العام أو الآداب.
مادة 63:
تصدر الأحكام وتنفذ باسم الأمة.
أحكام عامة
مادة 64:
مدينة القاهرة عاصمة الجمهورية.
مادة 65:
يبين القانون العلم الوطني والأحكام الخاصة به، كما يبين القانون شعار الدولة والأحكام الخاصة به.
مادة 66:
لا تسري أحكام القانون إلا على ما يقع من تاريخ العمل بها، ولا يترتب عليها أثر فيما وقع قبلها، ومع ذلك يجوز في غير الموارد الجنائية النص في القانون على خلاف ذلك بموافقة أغلبية أعضاء مجلس الأمة.
مادة 67:
تنشر القوانين في الجريدة الرسمية خلال أسبوعين من يوم إصدارها، ويعمل بها بعد عشرة أيام من تاريخ نشرها، ويجوز مد هذا الميعاد أو تقصيره بنص خاص في القانون.
أحكام انتقالية وختامية
مادة 68:
كل ما قررته التشريعات المعمول بها في كل من إقليمي مصر وسورية عند العمل بهذا الدستور، تبقى سارية المفعول في النطاق الإقليمي المقرر لها عند إصدارها، ويجوز إلغاء هذه التشريعات أو تعديلها وفقا للنظام المقرر بهذا الدستور.
مادة 69:
لا يترتب على العمل بهذا الدستور الإخلال بأحكام المعاهدات والاتفاقيات الدولية المبرمة بين كل من سوريا ومصر وبين الدول الأجنبية، وتظل هذه المعاهدات والاتفاقيات سارية المفعول في النطاق الإقليمي المقرر لها عند إبرامها، ووفقا لقواعد القانون الدولي.
مادة 70:
إلى أن يتم تنفيذ الخطوات النهائية لوضع ميزانية واحدة تصدر إلى جانب ميزانية الدولة ميزانية خاصة يعمل بها في كل من النطاق الإقليمي الحالي لكل من سوريا ومصر.
مادة 71:
يستمر ترتيب المصالح العامة والنظم الإدارية القائمة عند العمل بهذا الدستور معمولا به في كل من سورية ومصر إلى أن يعاد تنظيمها وتوحيدها بقرارات من رئيس الجمهورية.
مادة 72:
يكون المواطنون اتحادا قوميا للعمل على تحقيق الأهداف القومية ولحث الجهود لبناء الأمة بناء سليما من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتبين طريقة تكوين هذا الانعقاد بقرار من رئيس الجمهورية.
مادة 73:
يعمل بهذا الدستور المؤقت إلى حين إعلان موافقة الشعب على الدستور النهائي للجمهورية العربية المتحدة.
صدر في دمشق بتاريخ 14 شعبان سنة 1377 / 5 آذار (مارس) سنة 1958.
والأحداث التي أدت إلى هذه النتيجة الخطيرة في تاريخ مصر وفي تاريخ سورية وفي تاريخ الأمة العربية هي:
الثورة المصرية، وما أفضت إليه من إلغاء النظام الملكي وإعلان النظام الجمهوري، والتشريعات السياسية والاجتماعية التي طرأت على علاقات مصر الخارجية، وأهمها ما يتعلق بالاتفاق على منح السودان حق تقرير مصيره ثم تأمين استقلاله، وما يتعلق بجلاء القوات البريطانية، وتحرير السياسة الخارجية المصرية، وتأميم إدارة قناة السويس ووجه استثماره، ثم العدوان الثلاثي من جانب إسرائيل وبريطانيا وفرنسا وما كان لسورية من موقف عظيم خلاله.
هذا من جانب مصر: أما من جانب سورية، فأهمها الاستقرار الذي تمثل في اختيار السيد شكري القوتلي رئيس الجمهورية، وانتصار فكرة تحرير السياسة، والوقوف بجانب مصر في أيام العدوان، ثم ما تعرضت له سورية من دسائس واعتداء من جانب بعض جاراتها، فكان التقارب الذي انتهى على هذا الوجه التاريخي المنعدم النظير.
ومنذ أن تمت الوحدة والعمل على تحقيق أسسها ومقوماتها وأهدافها يجري حثيثا. نشير بصفة خاصة إلى تكوين الاتحاد القومي (المادة 72 من الأحكام الانتقالية) وإلى مؤتمريه الإقليميين ثم إلى مؤتمره العام وإلى تكوين مجلس الأمة من ممثلي الإقليمين وإلى انعقاد جلساته.
السودان
حده الجنوبي خط العرض الشمالي 4، حده الشمالي خط العرض الشمالي 22، وحده الشرقي ساحل البحر الأحمر والحبشة، وحده الغربي أفريقية الاستوائية الفرنسية.
وسودان وادي النيل وحدة كونتها مصر في القرن التاسع عشر أو ما بقي من هذه الوحدة بعد أن اقتسمت الحبشة والدول الأوروبية الأراضي الساحلية على البحر الأحمر ومقاطعات خط الاستواء، وقبل الوحدة التي أنشأتها مصر كانت هناك ممالك وإمارات ومناطق قبلية في الشمال وفي الجنوب، في الشرق وفي الغرب، كما كان أيضا للدولة العثمانية على ساحل البحر الأحمر في مصوع وفي سواكن سيادة على ما عبروا عنه باسم ولاية الحبش، وهذه السيادة تمارسها السلطة بواسطة السلطات العثمانية في جدة - أي من الساحل العربي للبحر الأحمر - واهتمت السلطنة بصفة خاصة بأن تحصل على نصيب من إيراد جمارك مصوع وسواكن.
وسودان وادي النيل يجاوره من غربيه سلطنات وإمارات سودانية تمتد في اتجاه سواحل أفريقية الغربية. وهذه السودانات كانت متصلة - ولا تزال كذلك لحد ما - وعلى هذا فكان الوضع التاريخي لسودان وادي النيل الوصل بين الجزيرة العربية وأفريقية الغربية، ومن هذه السودانات الغربية امتدت طرق عبر الصحراء الكبرى نحو برقة وطرابلس ونحو المغرب بأقسامه (أفريقية أو تونس - المغرب الأوسط أو الجزائر - المغرب الأقصى أو المملكة المغربية). وكان الوضع التاريخي أيضا لسودان وادي النيل الوصل بين أفريقية الوسطى وحضارة مصر في عصورها التاريخية: الفرعونية والفرعونية مختلطة بالهلينية والعربية الإسلامية. ومساحة سودان الوقت الحاضر 967500 ميل مربع، وسكانه يزيدون عن ثمانية ملايين.
وبين الشمال والجنوب اختلافات؛ الشماليون عرب مسلمون، والجنوبيون أفريقيون، أفريقيو أو سودانيو اللغات، وثنيو العقائد، قبليو النظام الاجتماعي، وهؤلاء الجنوبيون يقطنون الأقاليم النيلية العليا، ويوجد من نوعهم في إقليم كردفان جماعات النوباويين، وفي بلاد النوبة وفي دارفور وفي مناطق البحر الأحمر لهجات أصلية ولغات غير عربية.
وقد جرت الإدارة البريطانية على قاعدة الفصل بين الشمال والجنوب فصلا تاما.
ومنذ الثورة المصرية دخلت الجماعات السياسية الرئيسية السودانية والسلطات المصرية والبريطانية في مساع هدفها تنظيم مباشرة السودان حق تقرير مصيره، واختار أهلوه الاستقلال والنظام الجمهوري البارلماني والانضمام لجامعة الدول العربية.
الأوضاع الراهنة في دول المغرب العربي
قبل أن نتكلم عن هذه الأوضاع كما نراها في دول المغرب متفرقة يحسن أن نقدم لهذا بالإشارة إلى أنه يوجد بين المغرب والمشرق العربيين على ما بينهما من تقارب اختلافات شتى، فمن هذه ما يتعلق بتركب الشعوب المغربية من عناصر قوية الحيوية، وهذه العناصر وإن كان يغلب عليها أحيانا تغليب مصالحها الخاصة، فإنها في نفس الوقت كثيرا ما تحركت تحت تأثير قوى عامة. وقد أدى هذا التركيب الاجتماعي إلى أن الدول التاريخية المغربية كان يغلب عليها الارتباط بجماعات وشعوب أكثر مما يغلب عليها الارتباط بوطن أو بأرض؛ ومن ثم كان اهتمام الدعاة بأن يكتسبوا لدعوتهم عصبية، وبهذه العصبية تبدأ محاولة إقامة ملك أو دولة لنصرة فكرة أو مذهب أو عقيدة.
وعلى هذا فالمغرب كان أرض المراكز المحلية العديدة.
يرجع هذا فيما أرى إلى ما يأتي:
إلى موقع المغرب من دار الإسلام، وإلى موقع المغرب من أوروبا، وإلى طبيعته الجغرافية.
فأما الموقع من دار الإسلام فواضح في أنه فيما عدا فترة الفتح وفيما عدا فترة انتقال بعض القبائل العربية في مصر في أواخر عهد الفاطميين، فإن اتصال المغرب بالمشرق كان اتصالا دينيا وفكريا وحضاريا على يد أفراد أو جماعات، وعلى ذلك فكانت الحركات في التاريخ المغربي تصدر عن خصائص البيئة نفسها؛ وهذه الدولة الفاطمية بعد أن انتقلت إلى مصر ضعف نفوذها في المغرب إلى أن تلاشى، وحينما امتدت السيادة العثمانية إلى المغرب ووقفت عند حدود المغرب الأقصى، نجدها تؤدي إلى إبطال قيام الدول الكبرى المغربية كما كان الحال في الماضي، ولكنها لم تستطع أن تبطل تعدد العصبيات والمراكز المحلية.
أما عن الموقع بالنسبة إلى أوروبا فظاهر أن الكفاح بين المغرب وأوروبا شغل من تاريخ المغرب قدرا لا تألفه في المشرق، فبالإضافة إلى الكفاح التالي للفتح الإسلامي للأندلس وامتداده في الأندلس نفسه وفي حوض البحر المتوسط نجده يمتد بعد القضاء على الحكم الإسلامي في الأندلس إلى زماننا الحاضر، بحيث نجد تقريبا في كل السواحل المغربية على المحيط وعلى البحر وفي كل أزمنة التاريخ ربطا ومرابطين.
وطبيعة البيئة المغربية اقتضت تشتت مراكز الحيوية لا تجمعها.
فإذا أضفت إلى ذلك أن الغزو الأوروبي لم يصدر عن مركز واحد وأنه قصد إلى محاولة احتلال ثغور متفرقة؛ أدركت أن المقاومة أيضا كانت تصدر عن مراكز مغربية متفرقة، وأن هذا المركز قد يكون موطن عصبية قبلية أو زعامة دينية، والأمثلة كثيرة، من أقربها الحرب المجيدة التي شنها الأمير عبد الكريم الخطابي على الإسبانيين والفرنسيين في الريف.
وقد يقول قائل: إن اشتداد خطر الغزو ينبغي له أن يؤدي إلى اتحاد يفرض فرضا عند اللزوم، وهذا صحيح عموما ولكن بعد تجاوز حد معين من الضغط الخارجي يحدث التشتت لا التجمع، وتنشأ المراكز المحلية بعصبيات محلية يحتمي في حماها الناس بقدر الاستطاعة.
ويبقى أخيرا أن نشير إلى أن انقسام المغرب بين الأقطار أو الوحدات الحالية ليس شيئا طارئا أو جديدا، بل هو قديم يلازم تاريخه معظم الوقت، ليس معنى ذلك أننا عرفناها دائما بهذا التحديد. فإن الدول المغربية كانت تسعى دائما لبسط سلطانها على المغرب كله، ولكن هذا كان لا يلبث أن يزول وتبرز من جديد أقسام المغرب التقليدية. فهي في الواقع تتجمع حول مراكز اقتضت وجودها حاجات البيئة ومطالب الظروف المتكررة.
والذي نرجوه من قلوبنا أنه عندما يتهيأ للمغرب أن تتحرر «الجزائر»، وأن يتم تخلص تونس والمملكة المغربية من القوات الأجنبية، أن لا يثور بين أبنائه مطالب إقليمية على أساس ما كان في أيام دولة كذا أو دولة كذا، بل تسوى شئون «الحدود» على أساس مصالح أهلها ومنافعهم بالقدر الذي يسلم به العقل والأخوة الصحيحة.
ودراستنا لهذا القسم من العالم العربي تبدأ بأواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر؛ أي تبدأ بزوال الملك الإسلامي بالأندلس نهائيا عند أواخر القرن الخامس عشر واتخاذ الممالك الأوروبية خطة الهجوم على جميع ثغور الأقطار المغربية في البحر المتوسط وفي المحيط، ومحاولة ملاحي تلك الممالك العثور على طرق ملاحية توصلهم إلى الأقطار الشرقية الآسيوية ملتفين حول بلاد المسلمين، وأملهم أن ينشئوا بذلك صلات اقتصادية دينية حربية مباشرة مع تلك الأقطار الآسيوية غير الإسلامية، وكأنهم بذلك يحيطون بلاد المسلمين بدائرة حصار قد تنتهي بتضييق الخناق عليهم.
وعلى هذا فقد توالت حملات الأوروبيين الغربيين على الثغور المغربية كما قدمنا، وترتب عليها - كما قدمنا أيضا - أن وقفت حركات إنشاء الدول المغربية الكبرى نهائيا، وصارت الظاهرة - كما قدمنا أيضا - أن كثرت مراكز الحياة وغلبت عليها الصفة المحلية.
وترتب عليها أيضا - وهذا نذكره الآن - أن القوات البحرية العثمانية وجدت في الكفاح بين المغاربة والأوروبيين فرصة التدخل لإغاثة المغاربة ولإضعاف القوى البحرية الأوروبية وحرمانها من امتلاك قواعد على السواحل الأفريقية الشمالية.
وبهذه الأحداث يبدأ التاريخ الحديث للمغرب العربي. على أنه يجدر بنا قبل أن ننتقل إلى عرض أحوال أقطار المغرب قطرا قطرا أن نلفت النظر إلى ما يأتي:
أولا: أن الحرب البحرية في تلك الأزمنة لم تكن من شأن أساطيل الحكومات وحدها - كما هو الحال الآن - بل كان الغالب أن يقوم المغامرون بتجهيز سفنهم للحرب وشحنها بالمقاتلين من المغامرين أمثالهم، ثم يخرجون للسطو على السفن التجارية التي يملكها خصومهم الدينيون دون أن يلقوا بالا عن ما إذا كانت الدول التي يملك رعاياها تلك السفن في حالة حرب مع دولهم هم. وقد تخرج سفن المغامرين إلى ضرب سواحل أولئك الخصوم ومحاولة سبي أهل قرى تلك السواحل، وقد تلتقي سفن المغامرين في البحر بسفن مسلحة لخصومهم الدينيين فيكون قتال، والمنهزم حظه الأسر والرق، فيعمل مكبلا بالأغلال في تحريك مجاذيف سفن الآسرين، أو يعمل مكبلا بالأغلال في دور صناعة الآسرين - أو الليمانات - ومن هنا نستخدم في مصر كلمة الليمان لسجن يؤخذ فيه المسجونون أخذا شديدا، ويستمر الأسير يعاني ما يعاني إلى أن يمن الله عليه بالموت، أو إلى أن يمن الله عليه بمن يفتديه بالمال من ذوي قرباه أو من المحسنين.
وقد وجدت الحكومات إذ ذاك في هذا النوع من الحرب منافع مختلفة، فكانت تحقق بواسطته ما تحققه الأساطيل الرسمية، وفي نفس الوقت كانت تستطيع التبرؤ من أعمال مغامريها، وهم وحدهم الذين يؤدون ثمن الهزيمة.
وهذه الطريقة عرفتها حكومات ذلك العهد مسيحية كانت أو إسلامية، والمغامرون المسلمون من هذا النوع هم الذين استولوا على تلك الثغور المغربية ثم وجدوا أن لا قبل لهم بالبقاء فيها إلا إذا وضعوا أنفسهم تحت السيادة العثمانية، فأصبحت تلك الثغور وأحوازها البرية أقاليم عثمانية، بيكويات وباشويات وما إلى ذلك. ويطلق عليها الكتاب الأوروبيون اسم
Regences ، وأرى أن اسميها «نيابات»، هذا نقلا عن المصطلح المصري السوري في أيام السلطنة الملوكية، حينما كانوا يطلقون على دمشق أو حلب أو ما ماثل اسم «النيابة»، وحاكمها نائب السلطنة.
وهذه النيابات المغربية كانت في طرابلس الغرب وفي تونس وفي ثغور الجزائر (مدينة الجزائر ووهران وقسنطينة).
وتتألف الهيئة الحاكمة في كل منها من حامية برية وقوة بحرية ورجال الشريعة. وعلى رأس الهيئة «الداي» في مدينة الجزائر و«الباي» في تونس أو في قسنطينة، والباشا في طرابلس الغرب. وهؤلاء جميعا ينتمون لأهل الحرب برية أو بحرية في النيابة، ويصلون للسلطة العليا بقوة السلاح، وبحسن اكتساب الفرص وبالإقدام وبالغدر عند اللزوم وبالحظ السعيد دائما، والدولة العثمانية تقر ما يسفر عنه الأمر الواقع، وهم لا يحيدون عن طاعتها، يشاركون في حروبها، ويؤدون لها ولرجالها أموالا ومساعدات شتى. وقد عرفت لهم هذا فتجنبت أن تتدخل في تلك النيابات إلا لمساعدتها أو إذا تطلبت سياستها الخارجية وعلاقاتها بدولة من الدول الأوروبية أن تأمر النيابات بالكف عن الحرب البحرية أو ما إلى ذلك. والنيابات المغربية كانت تعرف تماما إذا كانت الدولة جادة في أوامرها بالكف عن الحرب أو غير جادة.
وهذه النيابات اعتبرت نفسها في حرب دائما مع الدول الأوروبية وتوابع تلك الدول - مثلا فرسان القديس يوحنا في جزائر مالطة - أو ثغر تجاري مستقل من نوع راجوزا ... إلخ.
والدول الأوروبية نفسها اعتبرت هذه النيابات كما لو كانت لا حق لها في التمتع بأي حق أو بأي ضمان، وقد تهادنها وتدخل معها في علاقات، ولكنها لا تتردد في ضربها أو الاعتداء على سفنها أو رعاياها.
وكانت خلال التاريخ نزعة نحو تحول الرياسة العليا في النيابات إلى نظام وراثي في بيت معين، وهذه النيابات أيضا عاشت على هامش المغرب، وفيما عدا تونس - على ما أعتقد - لم تنجح في أن تتحول إلى وحدة صلحت أساسا لدولة.
وأخيرا - وهذا أمر له خطورته - لم ينجح المغامرون العثمانيون في وضع أيديهم على ثغور السلطنة المغربية، وإن نجحوا في التدخل في شئونها في بعض الأحيان أو أثروا بعض التأثير في خطتها، ولم تنجح الدول الأوروبية إلا في احتلال بعض ثغورها لمدد متفاوتة.
وعلى ذلك فالسلطة المغربية بقيت في أيدي أبنائها، ولم تخضع السلطنة أبدا لسيادة عثمانية ولم تخضع لسيادة أوروبية إلا من وقت الحماية الفرنسية في 1911-1912. (1) المملكة الليبية المتحدة
إحياء لاسم قديم وإنشاء لأوضاع جديدة. فليبيا اسم تاريخي قديم، أحياه الإيطاليون أولا في أيام حكمهم، حينما أرادت إيطاليا إطلاق اسم واحد على ما استولت عليه من أقسام ولاية طرابلس الغرب العثمانية، والأوضاع الجديدة تكوين مملكة اتحادية من برقة وطرابلس الغرب وفزان، وقد اكتسبت خصائص وشخصيات متميزة خلال العهد العثماني والغصب الإيطالي، فكان «النظام الاتحادي» حلا حاولوا به أن يرضوا الخصائص والشخصيات المتميزة.
والعهد العثماني، ويبدأ من القرن السادس عشر على النحو الذي شرحنا في الفصل السابق، ومقره طرابلس الغرب بالذات، ثم أصبحت باشوية طرابلس الغرب ولواحقها وراثية فعلا في بيت القرامانلي، وهذا في أوائل القرن الثامن عشر، ثم حدث حوالي 1830 اشتداد أمور النيابة، بالنزاع بين أفراد أسرة القرامانلي على الباشوية، وازدياد التدخل الأوروبي في أمورها وأمور جاراتها. وكانت الدولة العثمانية قد أخذت إذ ذاك - وعلى يد السلطان محمود - بسياسة الإصلاح المعروفة باسم «التنظيمات»، وهذه تقضي بالقضاء على العصبيات المحلية والأسرات المستقلة وإنشاء دولة تسودها المركزية، وقد خشيت حكومة السلطنة العثمانية أنها إن تركت طرابلس الغرب على ما هي عليه أصابها ما أصاب الجزائر في تلك الأيام؛ فأقصت القرامانلية عن الحكم وأخذت منذ ذلك الوقت تعين ولاة من قبلها على نحو ما فعلت في بغداد في نفس الوقت تقريبا. وقد حاولت أن تفعل ذلك ما استطاعت إليه سبيلا.
وأصبحت طرابس الغرب ولاية تحكمها الدولة حكما مباشرا منذ 1835، واقترن ذلك في نفس الوقت بأمر آخر أكثر خطورة هو نشأة تنظيم آخر في نفس الولاية، هو ما تطلق عليه اسم «التنظيم السنوسي» وقد عرفت بلاد أخرى السنوسية، عرفتها مصر - أو على الأقل واحاتها وصحراؤها الغربية - وعرفها سودان وادي النيل، ولكن السنوسية في طرابلس الغرب لها شأن آخر، فهي - وبصفة خاصة في برقة وما يلحق بها في الصحراء - تكفل للناس رعاية شئونهم من تعليم وتهذيب وإرشاد وحفظ أمن واستقلال موارد الأرض زراعة وأنعاما وتجارة.
وكان هذا بحكم عوامل سلبية وأخرى إيجابية، فأما العوامل السلبية فأهمها أن طرابلس الغرب لم تنل من عناية حكومة الدولة ما يجب لها، فهي بعيدة وفقيرة نسبيا، والدولة من جهتها لا تكاد تفرغ من حل أزمة داخلية أو خارجية إلا وتواجهها أزمة جديدة؛ فكانت النتيجة أن الحكم العثماني لم تكن له آثار ظاهرة إلا في الحواضر الكبرى، وترك ما يليها للزوايا السنوسية تعمل فيها على الوجه الذي رأينا. وبينما نرى الحكومة العثمانية عموما يغلب عليها الحذر، بل قد يهيئ لها هذا الحذر ألوانا من الوهم أو التخيل لوجود أخطاء لا حقيقة لها في الواقع، فإننا نجدها في طرابلس الغرب باتساعها عموما قد فهمت السنوسية على حقيقتها، فلم تكد لها أو تعطل عملها، بل نشأ خلال القرن الثاني عشر نوع من «التفاهم» وعدم تعرض أحد الفريقين للآخر. ويرجع هذا دون شك إلى أن السنوسية في الحواضر أو ما إليها لم يجاوز عملها الإرشاد الديني كما تقوم به أية طريقة من طرق التصوف، وركزت جهودها في زواياها المنبثة في المناطق الصحراوية والواحات وما إليها. بل إن الرياسة نفسها كانت في واحة الجغبوب أولا ثم في الكفرة ثانيا؛ أي إنها أوغلت في الصحراء، وكان عدوها الأكبر الاستعمار الأوروبي- الفرنسي طول الوقت في السودان الغربي ثم الإيطالي في برقة وطرابلس الغرب فيما بعد.
ومنشئ السنوسية السيد محمد علي السنوسي، شريف حسني من بلاد الجزائر ومن عباقرة الأمة العربية في تاريخها الحديث. درس في بلاده الأصلية وفي الحرمين وفي الأزهر، وتأثر بعوامل النهوض المتنوعة التي كانت تعمل في الجماعات في مختلف أنحاء البلاد العربية، ثم هداه اجتهاده وإخلاصه إلى ذلك التوجيه الفريد للسنوسية، وخلفه رجال من أبنائه وأبناء أبنائه، وكانت أحداث الغزو الإيطالي التي أتاحت للسنوسية امتحانها وفرصتها، وهيأت لها أن تكون «المحور» الذي ارتضاه أغلب من كان في أيديهم بناء الأقاليم الليبية بعد الحرب العالمية الثانية.
وأطماع إيطاليا في الساحل الأفريقي المقابل لها قديمة، وهو لها مهاجر، وأغضب الإيطاليين وضع الفرنسيين أيديهم على بلاد الجزائر وتونس، وعملهم على وضع أيديهم على المغرب الأقصى، واقتضى عمل فرنسا لامتلاك المغرب في يوم قريب أن تسترضي إسبانيا بشيء من المغرب الأقصى، وأن تطلق يد إيطاليا في ولاية طرابلس الغرب العثمانية. وأقرت ذلك الدول الأوروبية المختلفة، وبدأت إيطاليا عملها الحربي في الثغور، وقاومت الحاميات التركية وجماعات الشعب ما استطاعت، ثم اتسع نطاق الحرب فعاث الأسطول الإيطالي في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، واستولى على رودس وجزائر أخرى، وضرب بيروت بالقنابل ... إلخ، وحرك هذا دول البلقان لتأليف حلف لمحو ما بقي للترك في البلقان، وكانت الحرب البلقانية الأولى، وأرغم هذا الدولة العثمانية على أن تسلم بفقدان طرابلس الغرب وعقد الصلح مع إيطاليا.
على أن الدولة العثمانية احتفظت للسلطنة وللخلافة بحقوق، وكانت عندما أرادت أن تتخفف من أعباء المقاومة لإيطاليا في طرابلس أن أقامت على نحو ما السنوسية في مقام النيابة عنها صاحبة السلطان في برقة. وقد يكون في هذا القول شيء من قلة التدقيق، ولكن كان المعروف - من جانب الأهلين ومن جانب الإيطاليين أنفسهم، ومن جانب العرب خارج طرابلس الغرب، ومن جانب الدول الأوروبية التي يهمها الأمر - أن السنوسية تحتل مكان الصدارة في حركة المقاومة.
وفي الحرب العالمية الأولى دخلت إيطاليا الحرب حليفة لفرنسا وبريطانيا، ودخلتها الدولة العثمانية حليفة لألمانيا والنمسا، وأدى هذا إلى انقسام في الزعامة السنوسية، كان من رأي السيد أحمد الشريف متابعة الجهاد وتوسيع رقعة ميدانه ضد إيطاليا وحليفاتها في مصر والسودان وغيرهما، وتنسيق خططه مع الترك العثمانيين وحلفائهم، وانتقل هو في النهاية إلى تركيا ثم الحجاز حيث وافته المنية، وكان من رأي السيد محمد إدريس قبول عقد اتفاقات مؤقتة مع الإيطاليين والإنجليز. وانتهت الحرب العالمية الأولى على هذا الوضع، ثم كان الانقلاب الفاشي الكبير في إيطاليا، واستيلاء موسوليني على السلطة في بلاده، ثم عمله على بناء إمبراطورية استعمارية كبيرة، وتحويل الأقاليم الطرابلسية البرقاوية إلى مستعمرة حقيقية، ومن ثم كانت سياسة الإرهاب والقمع والإبادة التي اتبعها الإيطاليون ضد الأهليين.
وجاءت الحرب العالمية الثانية، وهزيمة إيطاليا، ووجوب تصفية حكمها في أفريقية الشمالية، واحتل البريطانيون أجزاء من المستعمرة، واحتل الفرنسيون فزان. ولو جرت الأمور وفق ما اشتهى البريطانيون وحلفاؤهم لخلص لهم النفوذ في برقة، ولتبرعوا للطليان بطرابلس نفسها ولفرنسا بفزان، وكانت مفاوضات ومحاولات ليس هذا موضع تفصيلها. وانتهى الأمر بتأليف المملكة الليبية المتحدة ومبايعة السيد محمد إدريس ملكا عليها. (2) تونس
أكثر أقسام الوطن المغربي العربي اتصالا بالمشرق، وأكثرها تشكلا بحياة الحواضر، وهذا من عصور سابقة؛ لاندماجه في العالم العربي، وهو أيضا يغلب عليه في تاريخه نزعة تشكيل شعب متماسك، وإن شارك سائر أقسام الوطن في بناء الدول المغربية الكبرى (ومركز بناء هذه الدول في الغالب المغرب الأقصى). ولزراعة تونس وتجارتها شهرة، وعلى العموم البداوة في القطر أقل.
وإلى تونس اتجه الغزو الأوروبي الصليبي كما اتجه إلى الثغور المغربية الأخرى، وتدخل رؤساء البحر العثمانيون في تونس لإنقاذها، كما تدخلوا في الجزائر وفي طرابلس الغرب، كان ذلك في القرن السادس عشر. وأصبحت تونس نيابة عثمانية - وقد شرحت معنى هذا الاصطلاح فيما سبق - والنائب هو «الباي»، ثم أصبحت «البايوية» وراثية فعلا - وإن لم تكن كذلك قانونا - في الدولة الحسينية، وذلك في أوائل القرن الثامن عشر «كما كانت الحال في بيت القرامانلي في نفس الوقت في طرابلس الغرب كما رأينا»، وذلك مع الخضوع للسيادة العثمانية.
وفي خلال القرن التاسع عشر، أخذ أمراء البيت الحسيني بسياسة التجديد التي سارت عليها الدولة العثمانية نفسها ومصر على يد الخديويين، وعلى نفس الخطة سارت فارس والصين واليابان وغيرها من الدول غير الأوروبية.
وكان لهذا التجديد آثاره الحسنة وآثاره السيئة. وأضعف ما فيه أنه لم يقو على بناء دولة تستطيع حقا أن تحافظ على استقلالها، دولة تستطيع أن تختار من نتائج مخالطة الأوروبيين ما ينفعها وتنبذ ما لا ينفعها، وأظهر آثار تلك الحقبة الارتباك المالي، وانهيار الحكومة الوطنية بإزاء التدخل الأوروبي، وعجزها عن التحول إلى حكم ديموقراطي صحيح؛ مما جعلها لا تكره - على الأقل - أن تحتمي بالنفوذ الأجنبي.
فارتبكت الأمور في تونس، وفي مؤتمر برلين جرى كلام يرمي إلى تشجيع فرنسا على وضع يدها على تونس. وقد كان الوقت وقت تسابق لبسط النفوذ على الولايات العربية العثمانية أو الآسيوية الأفريقية، وكان فتح قناة السويس للملاحة الحافز الأكبر للدول البحرية، فها هي ذي الحكومة البريطانية تستحوذ على جزيرة قبرص باتفاق سري مع الحكومة العثمانية صاحبة الجزيرة، وهذا لتتخذ منها قاعدة لحماية «تركيا الآسيوية». وأطلق بسمارك يد فرنسا في تونس تشجيعا لها على المضي في الاستعمار، علها تجد في هذا ما ينسيها بعض الشيء الإلزاس باللورين، ولم تجد بريطانيا بدا من أن تطلق هي الأخرى يد فرنسا في تونس، وإيطاليا إذ ذاك لم يعمل لها حساب.
فزاد التدخل الفرنسي، وانتهى الأمر بإرسال القوات العسكرية وفرض معاهدة الحماية على الباي في سنة 1881 - ولنتذكر أن احتلال بريطانيا لمصر كان في سنة 1882 - واحتفظت فرنسا بحكومة الباي وإن كانت قد قطعت ما بين تلك الحكومة وحكومة الدولة العثمانية، وكذلك ألغت فرنسا ما كان للرعايا الأوروبيين من «امتيازات»، وسيرد في الفصول التالية شرح تلك الامتيازات.
و«علاقة الحماية» هذه منعت فرنسا بعض المنع من أن تسترسل في خطط الاستعمار الجامح للمدى الذي بلغته في الجزائر ، هذا إلى أنها دخلت تونس بعد دخولها الجزائر بخمسين سنة، ووجدت في ذلك القطر شعبا متماسكا، يتبع حكومة وطنية واحدة وعلى نوع من المعرفة بأساليب الاستعمار وعلى مقدار من الخبرة بالحضارة الجديدة يكفل له مقدرة على المشاركة في الاستثمار والاستغلال. بيد أن فرنسا لم تقصر - علم الله - في أن تحاول إيثار رعاياها ومن هم في حكم رعاياها من النزلاء الأجانب على الوطنيين، ولم تقصر في حرمان هؤلاء من حقوقهم في بلادهم وعزلهم عن عالم المشرق إلى أقصى حد ممكن، وأن تفرض عليهم أن يتجهوا نحوها في كل شيء.
وأثار هذا كله الشعب التونسي، ونشأت عنه الحركات الوطنية، وهذه حملت في أيامنا بعد كفاح مرير على الاعتراف باستقلال تونس، وإن كانت تقيده قيود، وتألفت حكومة تونسية أعلنت النظام الجمهوري، وتختلط حركة التحرير التونسي في أيامنا بالحركة المماثلة في المغرب الأقصى، والحركتان تختلطان بكفاح الجزائر العظيم. (3) الجزائر
يمثل قطر الجزائر بين أقطار المغرب العربي ما كانوا يعرفونه في القديم باسم المغرب الأوسط؛ أي ما يقع بين إفريقية (تونس) والمغرب الأقصى (المملكة المغربية)، وهو على ما ترى تتصل أقسام منه أحيانا بتونس وأحيانا بالمغرب الأقصى، وأحيانا يكون كله من أقاليم الدول المغربية العامة الكبرى.
وفي العهد العثماني لم يكن قطر الجزائر وحدة إدارية، بل تبع مدينة الجزائر وتبع قسنطينة وتبع وهران، وهذه ثغور بحرية يمتد نفوذ أصحابها الخاضعين للسيادة العثمانية إن كثيرا وإن قليلا في الأراضي الداخلية، وهذه بلاد قبائل وعشائر والنفوذ فيها للعصبية القبلية وللزعامات الدينية.
وفتح فرنسا للجزائر بدأ في سنة 1830 - وكان إعادة لمحاولة فتح مصر في 1798 - ويمثل الحلقة الثانية من حركة الاستعمار الفرنسي الحديث.
وقد ختمت الثورة الفرنسية الاستعمار الفرنسي القديم - وهو «تجاري» في الغالب - وبدأت الثورة الفرنسية الاستعمار الفرنسي الحديث؛ فهو نتيجة «الحيوية» التي بعثتها الثورة، وهو فرض لسيادة فرنسا «الثورية» «المتحررة» على الشعوب، وهو نقض القديم السلاح، وهو سلب الحقوق الموجودة ليسلم المسلوب «حقوق الإنسان»، وهذا منتهى البذل والسخاء! ثم انصم الانقلاب الصناعي - وقد صاحبت بوادره مطلع القرن التاسع عشر - للثورة الفرنسية في تشكيل هذا الاستعمار الفرنسي الحديث.
حاولت فرنسا امتلاك مصر في 1798 وأخفقت، ولم تحاول إعادة الكرة؛ لأنها أدركت أن إعادة المحاولة تعيد العوامل التي حاربت حملة 1798، واكتفت من مصر بالارتباط بها بصلات شتى. وكان أن اتجهت نحو الجزائر حيث السيادة العثمانية على درجة من الوهن لا تحمل السلطان أن يتكلف في الدفاع عن الجزائر ما تكلفه في الدفاع عن مصر، مفتاح الحرمين وحيث السلطات المحلية متفرقة في الثغور وفي الداخل، فلا تجتمع الكلمة على المقاومة.
وحيث أخيرا لا تملك بريطانيا من المصالح ما تملك في مصر، ولا يمكنها أن تزعم أن امتلاك فرنسا لثغر الجزائر خطوة نحو امتلاك الهند.
وهكذا نجد أن فرنسا قدرت أن الاعتداء على الجزائر لن يثير عليها ما أثاره محاولة امتلاك مصر، وصح لها ما قدرت.
وبدأت فرنسا الفتح بحملة تأديبية ضد داي الجزائر كما بدأت حملة مصر لتأديب الأمراء المماليك. واتسع نطاق الفتح إلى أن أصبحت الجزائر القطر المترامي الأطراف الذي نراه اليوم.
وإلى 1881 (سنة الحماية على تونس) وإلى 1912 (سنة الحماية على المغرب) كانت الجزائر الأرض المغربية التي تملكها فرنسا، فلا عجب أن سعت لتضم لها عن اليمين وعن اليسار وفي الجنوب ما تستطيع ضمه.
ومقاومات الجماعات الجزائرية من 1830 للآن فصل رائع حقا في تاريخ الحرية، وهي حروب، عمليات حربية ضيقة النطاق أو واسعته بحسب الظروف، وهي حروب تتبعها نتائج الهزائم في الحروب من ضياع أراض ونزوح عن أوطان، وهي حروب لم يكن فيها للجزائريين حليف، اللهم إلا ما كان من سلطنة المغرب أو أهله في وقت من الأوقات.
ولم يلق شعب عربي الشقاء الذي لقيه الجزائريون، هم وعرب فلسطين، فنهب الفرنسيون أرضهم وأنزلوا بها طوائف من المهاجرين الأوروبيين والملحقين بالأوروبيين، وأعلنوا أن هؤلاء قد حلوا في إقليم فرنسي - وأوجدوا بجانب المواطنين الفرنسيين «الوطنيين» - وأقاموا حالة قانونية تعرف عندهم باسم
Indigénat ؛ أي أن يكون الإنسان «وطنيا» تمييزا له عن المواطن ال
Citoyen . وخلاصة الموقف أن فرنسا تقيم موقفها كله على إهدار القومية الجزائرية بكل ما يترتب على هذا الإهدار من محاربة اللغة القومية ومن جعل الجزائري غريبا في بلاده، ولولا أن في بقاء الجزائريين ضرورة اقتصادية لما ترددت في إبادتهم عن آخرهم دفعة واحدة.
هذا هو الموقف، الاختيار بين الاعتراف بالقومية الجزائرية وعدم الاعتراف ولا ثالث. (4) المملكة المغربية الشريفية
نجح المغرب الأقصى في الاحتفاظ باستقلاله عن السيادة العثمانية طوال تاريخه والسيادة الأوروبية حتى سنة 1912، وخضع لأسرات مالكة من أبنائه نحو ألف عام، ومن هذه الأسرات ما أقامت دولا عامة جمعت بين الأندلس والساحل الأفريقي المغربي كله.
ولا يقل أهمية عن هذا بقاء حيوية الجماعات المغربية خلال تلك العصور الطويلة، ونجحت سياسة السلاطين العظام في المحافظة على تلك الحيوية داخل حدود الأمن والنظام.
ويختلف أيضا تاريخ المغرب عن سائر الأقطار الشرقية وعن تونس في أن موجة التجديد التي طغت على تلك الأقطار في القرن التاسع عشر لم تطغ على المغرب، فحافظ سلاطينه خلال ذلك القرن جهد ما استطاعوا على إغلاق بلادهم ضد مشروعات التجديد، سواء أجاءتهم من الخارج أو من الداخل. ومن يدري؟ فقد يكون هذا الإغلاق من الأسباب التي جنبت المغرب ما حصل لمصر ولتونس وللسلطنة العثمانية ولإيران ... إلخ.
والواقع أن التجديد لم يبدأ إلا في أيام مولاي عبد العزيز. وقد ورث عن أبيه مولاي الحسن سلطنة لا بأس بها في سنة 1894، هذا إن صح أن نسمي «صبيانيات» عبد العزيز تجديدا، وهذه الصبيانيات تركبت منها مأساة التدخل الإسباني والتدخل الفرنسي. وفي سبيل الاستحواذ على المغرب بموقعه الفريد وخيراته الصميمة الظاهرة والكامنة وفي وجه القوة الألمانية النامية؛ اضطرت فرنسا وبريطانيا إلى أن يتقاربا وأن يتخذا من مصر والمغرب أداة الاتفاق الودي؛ فسلمت فرنسا لبريطانيا بمركزها في مصر وسلمت بريطانيا لفرنسا بأن تخلق لنفسها مركزا مماثلا في المغرب، واضطرت فرنسا لأن تقبل مشاركة إسبانيا، واضطر الجميع لأن يتركوا لإيطاليا طرابلس الغرب عوضا.
ولعل هذا الشرح يمكننا من أن ندرك أن هذه الاتفاقات لم تخلق لفرنسا في المغرب أو لإيطاليا في طرابلس أو لبريطانيا «المركز» الفريد الذي توهمه ساسة تلك الممالك. فلم يتصور أحد من هؤلاء الساسة في تلك الأيام من القرن التاسع عشر أن تسوية الموقف في النهاية ستكون مع شعوب المغرب الأقصى أو تونس أو الجزائر أو المغرب الأقصى. وقد شرحت في تاريخ المفاوضات المصرية البريطانية كيف أن كرومر لم يخطر له على بال أن التسوية ستكون في النهاية مع شعب مصر.
ومن جهة أخرى بالنسبة للمغرب اضطرت فرنسا لأن تحتفظ للمغرب بسلطنته ممثلة لكيانه ووحدته؛ وجدت في هذا نفعا، وجدته يمكنها من استخدام أداة السلطنة لتيسير مهمة الحكم، ولكن كان في الوقت نفسه شيئا نود أن لو استطاعت الاستغناء عنه، فهو إذ يصلح أداة يصلح أيضا لأن يتزعم مقاومة وطنية.
وقد وجدت كل من إسبانيا وفرنسا في وجود السلطنة شيئا يضعف به مزاعم الفريق الآخر، فالجزء الذي تحكمه إسبانيا هو المنطقة الخليفية، هو من أرض السلطان، ينوب عنه فيه «خليفة» عنه، فليس لإسبانيا إلا إدارته، وإسبانيا من جهتها تستطيع هي أيضا أن تستخدم حقوق السلطنة لمنع فرنسا من سلب مركزها في الشمال، وهذا لم يمنع الدولتين من أن يشتركا في العمل إذا واجههما عدو واحد، كما حدث ضد مولاي عبد الكريم عندما تدخلت فرنسا حربيا لإنقاذ الإسبانيين.
وقد قامت الإدارة الفرنسية في المدة التي تلت إعلان الحماية بتجهيز المغرب بأجهزة الحياة الحديثة على نحو رائع حقا، وآفة هذا أن الإدارة الفرنسية غلب عليها شيئا فشيئا جعل هذه الأجهزة أداة العيش الكريم للنزلاء الأوروبيين وأداة الاستثمار الجيد للماليين الأوروبيين، وكرهت أن طمع أصحاب البلد في أكثر من فتات المائدة، فكانت سياسة القمع وإثارة الجماعات بعضها ضد البعض الآخر، وآخر مظهرها خلع السلطان محمد بن يوسف ونفيه.
وفي النهاية كانت المقاومة المغربية الرائعة وتسليم فرنسا بعودة السلطان لعرشه وإلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال، وهو - كما قلت في تونس - مقيد بقيود، وإزالة هذه القيود وتحرير الجزائر هما مسألة الوقت في المغرب كما في تونس.
أقطار ملحقة بالعالم العربي
لا نستطيع الآن إلا أن نشير إلى وجود أقطار عربية صلاتها بالعالم العربي في الوقت الحاضر ضعيفة لأسباب سياسية، وهذا الضعف أدى إلى توجيه تلك الأقطار نحو منابع أخرى للثقافة لا تمت للعروبة بصلة، كما أدى أيضا إلى تشجيع بقاء رطانات غير عربية لا تنفع متكلميها في تحصيل علم أو تفقه في دين.
والأقطار من هذا النوع منها ما هو موجود على الساحل الأفريقي الشرقي في زنجبار وفي بلاد الصومال، ومنها ما كان عبر الصحراء الكبرى امتدادا في ناحية الغرب من سودان وادي النيل.
وهناك أيضا الجاليات العربية في كثير من أقطار جنوب شرقي آسيا، أو في سواحل الهند، أو في جزائر قريبة من تلك السواحل، أو في سيلان، أو في أفريقية الغربية، أو في الأمريكتين وجزائر الهند الغربية، واستقصاء أمر المهاجرين سهل في حالة نزوحهم من بلاد كسورية مثلا أو لبنان، واستقصاؤه أصعب في حالة نزوحهم من سواحل بلاد العرب الجنوبية أو ما إلى ذلك، أو في حالة وقوعه في أزمنة قديمة نسبيا.
الأفكار الاتحادية وتنظيم العلاقات بين الدول
العربية
أشرنا فيما مضى إلى إنشاء الجمهورية العربية المتحدة وإلى الاتحاد العربي.
ونشير إلى إنشاء جامعة الدول العربية. وستكون موضوع كتاب خاص ينشره المعهد.
وانتشار الأفكار الاتحادية التي أدت إلى المنشآت التي أشرنا إليها وقد تؤدي إلى إنشاء غيرها ظاهرة عامة من ظواهر التنظيم الدولي المعاصر. ونجد شرح هذا في المحاضرات التي ألقاها الدكتور محمد حافظ غانم على طلبة قسم الدراسات القانونية بالمعهد في موضوع «المتجمعات الدولية الإقليمية» وقد نشر المعهد هذه المحاضرات في سنة 1958. على أن هذه المحاضرات لم تتناول جامعة الدول العربية، ويخصص لها المؤلف دراسة مستقلة في دروس منفصلة. على أنه من المفيد لطلاب المعهد أن يدرسوا جامعة الدول العربية متصلة بما سماه المؤلف «أنظمة التكتل الدولي الحديث».
خاتمة
نستخرج من هذا القسم الأول أن العوامل التاريخية في بناء الأحوال الراهنة لشعوب وأقطار الأمة العربية تندرج فيما يلي:
أولا:
اندماج معظم تلك الشعوب والأقطار في الدولة العثمانية على نحو ما.
ثانيا:
أن هذا الاندماج دام على نحو ما إلى قرب أيامنا نحن.
ثالثا:
أن الشعوب العربية - أو أكثرها - تشكلت بموجب الأنظمة العثمانية القديمة التي عمل بها والتي لم يعمل بها، وبموجب ما طرأ على الأنظمة القديمة من تعديل وتغيير في عصر التنظيمات. والولايات العربية العثمانية الممتازة من نوع مصر أو تونس هي أيضا خضعت للأنظمة القديمة ولأنظمة التجديد التي قام بها ولاتها في نفس عصر التنظيمات.
رابعا:
أن الشعوب العربية تشكلت أيضا بموجب النفوذ الأوروبي.
وعلى هذا فسنحاول في الأقسام التالية أن نتبين ما كان من هذه الأمور الأربعة مرتبة أحداثها ووقائعها ترتيبا زمنيا بقدر الإمكان.
ما نقرأ لفهم مادة هذا القسم
سنذكر أسماء كتب تعين الطالب على أن يكون لنفسه صورة عن العالم العربي المعاصر. (1) كتب مما نشر بالمعهد
محاضرات الدكتور أحمد فخري في اليمن - محاضرات الأستاذ الفاضل بن عاشور عن النهضة الأدبية في تونس - محاضرات الدكتور نقولا زيادة في المملكة الليبية المتحدة - محاضرات السيد علال الفاسي في الحركات الاستقلالية في المغرب - العرب والدولة العثمانية للأستاذ ساطع الحصري - محاضرات الدكتور سيد نوفل في شئون الخليج والجنوب - محاضرات الدكتور عبد العزيز حسين في المجتمع العربي في الكويت - محاضرات الدكتور عبد الله عبد الدايم في المجتمع العربي في قطر - محاضرات الدكتور البزار في العراق من الاحتلال للاستقلال - محاضرات الدكتور الأرمنازي في تاريخ سوريا من الاحتلال إلى الجلاء ... إلخ، وكتاب الأستاذ الكعاك عن مراكز الثقافة في الغرب. (2) كتب لم ينشرها المعهد
ملوك العرب لأمين الريحاني - وجزيرة العرب للسيد حافظ وهبة - وكتاب الاستقصاء للناصري (الأجزاء السابع والثامن والتاسع).
وسنشير في الأقسام التالية لمراجع تتناول أمورا ومسائل محدودة.
القسم الثاني
استعراض متواز للتاريخ العثماني والتاريخ
الأوروبي
وبصفة خاصة في مواضع اتصال النفوذ العثماني والنفوذ الأوروبي
دخلت الأقطار العربية - فيما عد المغرب الأقصى ومناطق أخرى - تحت راية السلطنة العثمانية منذ القرن السادس عشر، ودام اتصال العرب بتلك الدولة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى؛ أي نحو أربعمائة عام.
وهذه الدولة العثمانية التي اتصل بها العرب تلك الحقبة الطويلة من الزمان مر تاريخها في مرحلتين أساسيتين: أولى المرحلتين كانت مرحلة جرى فيها الحكم نظريا وفق خطط وتقاليد موروثة، وهذه المرحلة تنتهي قبيل نهاية القرن الثامن عشر حينما أدرك بعض السلاطين ومن رأى رأيهم من رجالهم أن لا بد من الأخذ بسياسة التجديد إذا ما أريد إنقاذ الدولة من عواقب الهزائم العسكرية وفتن العصبيات والعصابات والمغامرين. وتبدأ المرحلة الثانية عند ذلك - ويعرفونها باسم «عصر التنظيمات» - قلت إنها تبدأ قبيل نهاية القرن الثامن عشر، إلا أنها تقترن بصفة خاصة باسم السلطان محمود الثاني وبالفترة من حكمه التالية لإبادة الانكشارية كما نسميهم بالعربية (سنة 1826). ويمكن القول: إن المبادئ والأسس التي قامت عليها التنظيمات وجدت خاتمتها المنطقية في الجمهورية الكمالية التركية.
وهاتان المرحلتان من تاريخ الدولة العثمانية هما أيضا مرحلتا تاريخ العرب المندمجين في الدولة العثمانية، ففي الأولى خضع العرب لأنظمة الحكم العثماني التي وضعت للولايات، وكانت أنظمة تركت قدرا كبيرا من حرية التصرف للسلطات المحلية، وفي تلك المرحلة أيضا تأثرت الولايات تأثرا كبيرا بعجز الأنظمة القديمة عن مواجهة الظروف الجديدة، فاضطرب الأمر وسادت الفتن؛ فتن العصابات والعصبيات والمغامرين.
ثم كانت المرحلة الثانية؛ مرحلة التنظيمات، التجديد. وقد تأثرت بها الولايات أيضا تأثرا كبيرا، وكان التنظيم على نوعين؛ نوع تم على يد الحكومة وعمالها، ويرمي عموما إلى ربط الولاية بحكومة العاصمة ربطا قويا وإلى إخضاع الجماعات والهيئات إخضاعا تاما للحكومة، ونوع آخر تم على يد الجماعات والهيئات نفسها، وخصوصا في أمور التربية والتعليم والاستثمار. وهذه المرحلة الثانية هي المرحلة التي عملت فيها العوامل الجديدة في تكوين العرب المحدثين.
وقد شهدت القرون الأربعة التي اتصلنا فيها بالدولة العثمانية أدوارا للتاريخ الأوروبي والعالمي، نختار منها ما يهمنا معرفته إما على وجه تأثرنا به عن قرب أو عن بعد أو على وجه خلو تاريخنا مما يماثله. وليكن إثباتنا لهذه الأدوار إثباتا موجزا جدا. (1)
في القرن الخامس عشر والسادس عشر بلغت حركة الكشف الأوروبي الجغرافي أوجها، ونتائجها جد خطيرة للعرب؛ فقد مكنت الأوروبيين من الالتفاف حول العالم العربي وتطويقه، وقد هيأت لهم أيضا سيادة في بحار لم ينازع الملاحة العربية فيها منازع. ولقائل أن يقول: إن العرب قبل الزمن الذي حددناه وبعده أيضا كانت لهم حركات ارتياد واستعمار: برية وبحرية، فكيف إذن نجعل للحركة الأوروبية تلك الخطورة؟ والرد على ذلك ما يأتي: إن الحركات العربية كانت من صنع جماعات أو أفراد، لا تنشأ عن سياسة قومية - كسياسة البرتغاليين أو الإسبانيين أو الهولنديين ... إلخ - وتنتهي باستقرار إمارة أو جالية عربية على ساحل أو في واحة أو ما إلى ذلك، وشتان بين هذا وبين الإمبراطوريات البرتغالية والهولندية والإسبانية والبريطانية ... إلخ.
وعلى هذا ففي الطور العالمي من التاريخ الذي فتحته حركة الكشف الجغرافي دخل العرب مدافعين عما في أيديهم، ممثلين لطور قديم لا مشاركين في بناء جديد. (2)
وعلى هذا فالدول الكبرى الإسلامية التي تشكلت في القرن السادس عشر تمثل القديم ولا تقبل التجديد إلا مضطرة، وتقبله في القرن التاسع عشر واردا عليها من الخارج.
وهذه الدول هي العثمانية وفيها اندمج العرب كما قدمنا، والفارسية والمغولية بالهند، ويصح أن نضيف إليها الدولة المغربية، هذا إلى الكثير من الإمارات والمشيخات في مختلف الأقطار. (3)
شهد التاريخ الأوروبي «الثورات» أو التغييرات الآتية:
بناء الوحدات القومية على يد الأسرات: ملكية - النهضة - الانقسام الديني والحروب الدينية وانتصار فكرة السماحة الدينية وفكرة تحرير الدولة من سلطان الكنيسة - الثورة العلمية - الثورات الهولندية والإنجليزية والأمريكية - الثورة الفرنسية - الانقلاب الصناعي - بناء المذاهب الاجتماعية الكبرى - بناء النظريات العلمية العامة - حركة التطبيق العلمي - الثورات الاجتماعية.
وفي هذه كلها لم نشارك في الإنشاء، ولكن تلقينا من النتائج ما تلقينا، أحيانا بالرضا وأحيانا كارهين، وفي كل الأحوال نقبل تحت ضغط الضرورة. (4)
وفي القرون الأربعة التي أشرنا إليها تمر العلاقات الأوروبية العثمانية في الأدوار الآتية:
وفي هذه العلاقات كان لاختلاف الأمم دينا شأن وأيما شأن. على أنه يحسن بنا أن نتبين حقيقة هذا الأمر. وأقول إن ذلك الاختلاف كان مما أثار عامة الناس، وإن العامة أحبت أن يكون الاختلاف أساس السياسة الخارجية، وإن الملوك والسلاطين والقادة في شئون الدين والدنيا كانوا يجارون العامة حيث لم يجدوا من المجاراة مناصا، وإنهم كانوا يشنون الحرب باسم الدين في سبيل توسيع الرقعة وإعلاء الكلمة.
وفي ميادين الحروب الصليبية المختلفة - في الأندلس وفي المغرب وفي فلسطين والشام - أقرأ عن علاقات بين الملوك والأمراء المنتسبين للدينيين لا تدل على أن الاختلاف الديني كان الشيء المتحكم في جميع التصرفات، وأقرأ عن مرتزقة نصارى يستخدمهم المسلمون في المغرب ومسلمين يستخدمهم النصارى في الأندلس. «وآخر ما نسمع كان عن المغاربة المسلمين الذي شدوا أزر القائد فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية».
ولا أصدق أن ألوف المحاربين المماليك في مصر وسائر الممالك الإسلامية الذين ربوا في حجر النصرانية، وأمثالهم من الانكشارية والملاحين العثمانيين نسوا تماما كل ما كان في صباهم واستحالوا إلى زبانية تعذيب وعذاب بالنسبة لذوي رحمهم. ونقرأ في كتب الرحلات الأوروبية عن صلات بين الرحالة والمماليك تدل على أن «الإسلامية» لهؤلاء كانت قشرة سمكها قليل، وأن بناء السياسة الخارجية والسياسة الداخلية للدولة على أساس ديني كان شيئا اقتضاه المجتمع، وكان نقض ذلك الأساس يبرر الانتقاض على الملك إما سترا لبواعث أخرى عامة أو فردية، أو بناء على إيقان بأن الدين حقيقة في خطر.
هذا ما نقوله في شأن الدين في العلاقات الأوروبية العثمانية أو الإسلامية النصرانية عموما، ونرجو ألا يفهم أحد أن السلطان الفلاني عندما ينشر لواء الجهاد أو أن الملك الفرنجي الذي دعا قومه للحرب الصليبية كان رجلا «منافقا» يحارب دينيا وهو لا يؤمن بدين، ليس بهذه البساطة أو السذاجة.
لا السلطان ينافق ولا الملك الفرنجي ينافق، ولكن للدين في تنظيم المجتمع إذ ذاك من القوة ما يجعل إقامة السياسة الخارجية أو الداخلية إذ ذاك على غير أساس الدين أمرا مستحيلا. وكان السلاطين وكان الملوك يحاولون ما استطاعوا ألا يجعلوا من الاختلاف الديني سببا يفوت عليهم مصالح، كما أن منهم من كان يستغل الاختلاف لقضاء مصالح دولهم.
وخير سبيل لترتيب ما لدينا من حقائق ووقائع العلاقات أن نوردها حسب التقسيم الآتي: (1) في الدور الأناضولي البلقاني من التاريخ العثماني
في القرن الثالث عشر كانت نشأة الإمارة أو السلطنة العثمانية في الأرض حول مدينة إسكي شهر في غربي الأناضول، في منطقة الحدود بين الملك التركي السلجوقي ودولة الروم (الدولة البيزنطية).
ومنشئو الإمارة أو السلطنة جماعات من الغزاة أو المغامرين يعملون في الغزو تحت إمرة بيت زعامة تقليدي؛ بيت عثمان.
وهي إمارة كرست نفسها للغزو، واتسعت نحو الأملاك البيزنطية في الأناضول وفي البلقان ونحو بلاد الصقالبة والألبان والرومان واليونان، واتسعت في نفس الوقت في الأناضول شرقا وجنوبا وشمالا في ممالك وإمارات السلاجقة، وهذا بأساليب حربية وغير حربية.
ويتوج هذا الدور بالانتصار الباهر الذي أحرزه محمد الفاتح بالاستيلاء على القسطنطينية في 1453 والقضاء نهائيا على دولة الروم (الدولة البيزنطية)، وكان قد تم قبل ذلك امتلاك معظم الممالك والإمارات البلقانية والأناضول.
وها هي ذي الدولة العثمانية عند نهاية القرن الخامس عشر دولة تربعت على الأناضول والبلقان - على الطرف المسيحي الشرقي الأرثوذكسي لأوروبا - وتستعد للإيغال في أوروبا الكاثوليكية في أوروبا الشرقية (بولونيا أو بولندة) وأوروبا الوسطى (المجر). وفي نفس الوقت هي في طرف آسيا تمثل في نظر الأوروبيين آسيا والآسيويين، وأهم من هذا أنها أصبحت تتاخم دولتين إسلاميتين كبيرتين؛ إحداهما الدولة المصرية السورية والحكم فيها للسلاطين المماليك، وهي دولة إن شاء الإنسان أن ينعتها بنعت يدل على طبيعة موقعها قال عنها: إنها «دولة البرين والبحرين» - البر المصري والبر الشامي، والبحر المتوسط والبحر الأحمر - أما الدولة الأخرى فهي الدولة الفارسية والحكم فيها للصفويين، وهؤلاء وإن كانوا يستخدمون لسانا تركيا فهم ينتسبون لإقليم من الأقاليم الفارسية.
وبهذا الجوار أخذت الدولة العثمانية تستعد لتتبوأ مقعدها في العالم الإسلامي، وسيكون لهذا الاستعداد ما بعده كما سنرى.
والدولة العثمانية عاصمتها القسطنطينية، وهي سيدة البلقان وسيدة الأناضول، فصارت سيدة البحر الأسود، نفوذها يسري في الشعوب والجماعات حوله وبخاصة فيما نعرفه الآن بجزيرة القرم وجنوبي الروسيا، حيث كان الأمر إذ ذاك لمن استقر في تلك المناطق من جماعات التتار، وكانوا قد اعتنقوا الإسلام. والدولة العثمانية بحكم سواحلها الأناضولية والبلقانية تستعد لأن تقصي عن بحر الأرخبيل وعن الحوض الشرقي للبحر المتوسط القوات البحرية المعادية، بل وتستعد لتتخذ أيضا من حوضه الغربي ميدانا يقطع طريق الحملات الأوروبية المسيحية عند السواحل المغربية الإسلامية.
وهكذا خرج الاتساع العثماني عن نطاق ميادينه البلقانية الأناضولية وبحاره «الساحلية» إن صح التعبير، ليمتد نحو أوروبا الوسطى وأوروبا الغربية، ليتبوأ مقامه في العالم العربي والعالم الإيراني نحو البحار الآسيوية الكبرى، ولتخفق بنوده بين جزائر البحر المتوسط وسواحله، ولتنشأ للدولة العثمانية من هذا الوقت علاقات بالدول الكبرى العامة رأسا، بعد أن كان الأمر حتى ذلك الوقت بينها وبين دول البيزنطيين والبلغار والصرب والرومان والألبان، وبينها وبين المؤسسات والمنشآت التجارية الإيطالية أو الإقطاعية الغربية في تلك السواحل لبحر الأرخبيل والبحر المتوسط، وبينها وبين الإمارات التركية السلجوقية في الأناضول.
ولم يخل الميدان أو الميادين تماما للعثمانيين وخصومهم، فقد جهزت أوروبا حكومات وشعوبا أكثر من حملة لمعاونة البيزنطيين أو الصقالبة، ومن أشهرها حملة نسيكو بوليس، وهي التي درسها المؤرخ المصري عزيز سوريال عطية دراسة ممتازة، هذا بالنسبة للأوروبيين. وأما بالنسبة لجارات الدولة العثمانية في فارس وفي سوريا فإن «ديوان الإنشاء» في القاهرة كان في سبيل الانتباه إلى ذلك الأمر الجديد؛ نقل القلقشندي في الجزء الخامس من صبح الأعشى (ص368) عن ابن فضل الله العمري صاحب مسالك الأمصار العبارة الآتية، وكان هذا قبل فتح القسطنطينية وإتمام التغلب على الأناضول والبلقان: «ولو قد اجتمعت هذه البلاد لسلطان واحد، وكفت بها أكف المفاسد، لما وسع ملوك الأرض إلا انتجاع سحابه، وارتجاع كل زمان ذاهب في غير جنابه.» ثم قال: «الله أكبر إن ذلك لملك عظيم، وسلك نظيم، وسلطنة كبرى، ودنيا أخرى:
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .» (2) القرن السادس عشر (أو بحساب أدق: حكم سليم الأول من 1512 إلى 1520 وحكم سليمان القانوني من 1520 إلى 1566.)
وفي هذا القرن - وبزعامة السلطانين سليم وابنه سليمان - تحقق للعثمانيين الملك العظيم الذي تحدث عنه ابن فضل الله العمري فيما نقلنا عنه.
ففي عهد سليم الأول كان القضاء على دولة السلاطين المماليك في مصر وسوريا - وسنشرح فيما بعد ما يفيده معنى دولة ومعنى القضاء على دولة في ذلك الزمان - وبعد أن تمكن سليم من هذا ورث ما كان لتلك الدولة من نفوذ وواجبات ومصالح في البحر الأحمر، في ساحله الحجازي واليمني وفي ساحله الحبشي الصومالي. ومن أهم ما ورث خدمة الحرمين والاضطلاع بها إزاء مسلمي الأرض قاطبة، وورثت الدولة أيضا مواجهة الخطر البرتغالي في البحار العربية وقد أخذ يستفحل.
وتحولت الدولة في تلك السنوات القليلة من دولة أناضولية بلقانية أغلب رعاياها من المسيحيين إلى دولة إسلامية حقا، فيها بالإضافة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة وبيت المقدس من مراكز الحضارة العربية حلب ودمشق والقاهرة.
ووضع السلطان سليم العثماني والشاه إسماعيل الصفوي العلاقات بين فارس وعالم أهل السنة في الأوضاع التي عرفها زماننا.
أثار الرجلان حربا دينية، واستمرت الحرب ساخنة بعد زمنيهما أحقابا ثم باردة إلى قرب أيامنا. ومن المؤرخين من ذهب إلى أن سليما وإسماعيل بحروبهما فصلا العثمانيين عن بيئتهم الإيرانية - وهي بيئتهم الطبيعية - وفرضا العثمانيين على العرب؛ فشقي العرب بهم وشقوا هم بالعرب ... والقول سنعود إليه بعد قليل.
وجاء بعد سليم ابنه سليمان وقد قبل تحدي مطالب الأوضاع التي ورث، وقضى ما يقرب من نصف قرن من الزمان مكافحا منشئا. وقد يكون قد خلف لخلفائه ما لا قبل لهم به، ولكنه سلمهم ملكا غير منقوص. ولو عرف سليمان سياسة بناء دول وإمارات حليفة في العالم الإسلامي عموما والعالم العربي خصوصا لاتخذ التاريخ اتجاهات غير التي اتخذ.
قلت: إن سليمان قبل تحدي مطالب الدولة، ولنستعرض ذلك سريعا؛ حارب «فارس» كما حاربها أبوه وانتزع منها العراق، ووضع رؤساء البحر العثمانيون ما استولوا عليه من ثغور المغرب تحت سيادته. وفي سبيل إبعاد البرتغاليين من البحر الأحمر كانت تجريداته البحرية للبحار العربية ونزول الحاميات العثمانية في عدن وفي غيرها من ثغور السواحل العربية والأفريقية.
وبهذا كله أضاف سليمان للدولة أقطارا عربية أخرى، أهمها العراق والثغور المغربية في طرابلس الغرب وتونس والجزائر ، ولم تمتد السيادة العثمانية إلى المغرب الأقصى، وكان يصح أن تنشأ جبهة عثمانية مغربية عظيمة الشأن قوية النفوذ، ولكن نشأت علاقات كانت عموما سيئة المنظر والمخبر، وكان يصح أيضا أن توضع أسس تسوية عامة (سياسية دينية) مع فارس تكون أساس العمل السياسي الاقتصادي الحربي في تلك المناطق، ولكن استمرت الحرب بين الدولتين ساخنة أو باردة كما قدمنا، وكان يصح أن تقام في اليمن إمارة يمنية تؤيد وتعاون على ضغط الأمن الداخلي والخارجي وكذلك في الحجاز، ولكن كانت السياسة العثمانية تقوم على إشاعة الفرقة والغدر والإسراع إلى اكتساب المنافع العاجلة الرخيصة.
وتقدم سليمان نحو أوروبا الوسطى من الملك الذي ورث في البلقان، وضم أجزاء من المجر لملكه، وبسط نفوذه على أجزاء أخرى، وتقدم لحصار ڨيينا وأخفق في ذلك الحصار، ووقف الأمر في أوروبا الوسطى عند ذلك.
وفي البحر استولى على رودس وطرد منها فرسان القديس يوحنا، وانتقل هؤلاء إلى مالطة، وتبعهم إليها سليمان في أواخر أيامه، ولكنه أخفق في الاستيلاء عليها.
وكانت خلال هذا كله حروب في البر والبحر ضد الدول المجتمعة في ملك شارل الخامس أو شارلكان: وهي الممالك والإمارات النمسوية والبوهيمية والإسبانية والأراضي المنخفضة، تضاف إليها الإمبراطورية الاستعمارية الإسبانية في الأمريكيات وفي الفلبين في المحيط الهادي.
والحروب بين سليمان وشارل الخامس اقتضت أن يحدث التقارب بين سليمان وعدو شارل الخامس، وكان هذا العدو فرنسوا الأول ملك فرنسا، والتقارب أدى إلى عقد المعاهدة المشهورة بين فرنسا والدولة العثمانية: معاهدة 1535 - والمعاهدة في الحقيقة لم تأت بجديد تماما - فقد عرف العالم قبل ذلك معاهدات واتفاقات بين مختلفي الدين تحقيقا لغايات سياسية، هذا من جهة، وكذلك لم يكن جديدا تماما ما احتوته تلك المعاهدة من تنظيم لإقامة رعايا ملك فرنسا في بلاد السلطان (وشروط هذا التنظيم نعرفها باسم الامتيازات أو امتيازات الأجانب، وبالإنجليزية
Capitulations ).
فقد عرفت الدول إسلامية ومسيحية قبل أيام سليمان نظما تماثل نظام الامتيازات، والواقع أن المهم في أمر معاهدة 1535 أنها أحلت الدولة العثمانية محلا في العالم الأوروبي تأثرا باتساع نطاق إخضاع العلاقات الدولية لقانون دولي واحد. ومثل الدولة العثمانية في هذا يماثل مثلا الصين أو سلطنة المغرب أو فارس ويختلف عنها، ويماثله من حيث إن الدول الأوروبية من ناحيتها والدول غير الأوروبية من ناحيتها لم تكن مستعدة لقبول فكرة المساواة الحقيقية فيما بينها، وكذلك لم تكن مستعدة لأن تدخل في علاقات ما مع الغير أو أن تكون تلك العلاقات شيئا غير الحرب، هذا من حيث المماثلة.
أما من حيث الاختلاف فواضح أن الدولة العثمانية تشتبك شئونها بالدول الأوروبية وبالأوروبيين في كل مكان وفي كل يوم، ومن ثم كان الاتصال وثيقا وخصوصا إذا تذكرنا أن الحكومات الأوروبية والهيئات التجارية التابعة لها والكنائس المسيحية أنشأت علاقات مباشرة برعايا السلطان من جميع النحل وبالطوائف العثمانية غير الإسلامية، وقامت على هذا أوضاع تجعل العلاقات بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية فريدة الذات.
ونختم كلامنا عن العلاقات بتقرير ما يأتي:
أولا:
إن الصين القديمة اعتبرت نفسها دنيا قائمة بنفسها مكتفية بما لديها، ولا يهمها في قليل أو كثير أن تنشأ بينها وبين غيرها من الدول علاقات، ولنذكر القصة المشهورة للسفارة التي أرسلتها حكومة الملك جورج الثالث لإمبراطور الصين، وكذلك اليابان القديمة اتخذت نفس الموقف.
ولنذكر كيف أوفدت الحكومة الأمريكية الأميرال بيري
في 1853 و1854 ليرغم اليابان على فتح ثغورها للتجارة.
ثانيا:
إن النظرية الإسلامية المشهورة عن تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب تقابلها نظرية مسيحية من نفس النوع.
بيد أن اعتناق الدول المسيحية لتلك النظرية لم يمنعها من توثيق مختلف الصلات بالدول الإسلامية وبشعوبها، فاستطاعت أن تحقق بذلك لنفسها منافع متنوعة في ميادين التفوق والتغلب والعلم والتعلم واستثمار المال ... إلخ. وكانت الحال بالنسبة للمسلمين غير ذلك؛ فحكموا على أنفسهم بالعزلة مطمئنين راضين، ازدروا دار الحرب وأهلها في أيام تساوي القوى وتشابه الأنظمة، وازدروها أيضا في أيام اختلال توازن القوى ورجحان كفة أوروبا كفتهم بدعوى أن لهم الجنة أو ما إلى ذلك، أو أن «مادية» الغرب ستسير به حتما نحو الهاوية، وأن لا خلاص للغرب إلا باكتساب شيء من «روحانية الشرق» وما إلى ذلك من أوهام. وخير لنا ولهم أن نتأكد من أن الذي سيسير نحو الهاوية لن يسير وحده بل سيجر معه غيره حتما.
ثالثا:
إن ظروف المجتمع الأوروبي الغربي في القرن السادس عشر هيأت لنمو قواعد التنظيم ما بين الدول الأوروبية من علاقات في حالتي الحرب والسلم. ولم ينشأ ما يماثل هذا في المجتمع الإسلامي المعاصر له؛ ذلك لما انتهى إليه التحول في ذلك القرن من صورة الجماعة المسيحية مشخصة في الإمبراطور الروماني المقدس وفي البابا إلى بروز الدول التامة السيادة، ومن هذه الدول ما كان أساسه قوميا (فرنسا، إنجلتره، إسبانيا ... إلخ)، ومنها ما لم يكن قومي الأساس (ملك آل هابسبرج إلخ)، والدول بنوعيها تامة السيادة كما قدمت، فكان مما لا بد منه إنشاء روابط وتنظيم علاقات تقوم مقام الجماعة الواحدة.
وفي مجتمعنا الإسلامي المعاصر لذلك الوقت لم يحدث شيء من ذلك، ففكرة انفصام عرى الجماعة الإسلامية لم يسلم بها أحد، حتى ولو كانت العرى منفصمة تمام الانفصام في الواقع. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد رأينا الدولة العثمانية تبتلع الدول والوحدات العربية والإسلامية، ولم يبق قائما كما رأينا إلا دولة المغول في الهند والدولة الفارسية والدولة المغربية، وإمارات أخرى أقل شأنا عربية وتركية وإيرانية. ولم تنشأ بين هذه والدولة العثمانية أو فيما بينها علاقات تقوم على أساس «الأجنبية»؛ ومن ثم لم يتم في بيئتها قانون دولي.
وأخيرا يمتاز عصر سليمان القانوني بتنظيم الحكومة، ولنترك الكلام عليه إلى أن نتحدث عن العرب في الدولة العثمانية. (3) القرن السابع عشر والثامن عشر
في العقود الأخيرة من القرن السادس عشر والأولى من القرن السابع عشر كانت الأنظمة العثمانية المختلفة الخاصة بالحكم والحرب والإدارة والجباية تؤدي وظيفتها. وفي الحقبة نفسها كانت حروب الاتساع قد بلغت مداها، ولكن ظهر في الوقت نفسه بوادر فساد الأنظمة وأخذ كل شيء سبيله للتدهور، وأخذ الملاحظون الخارجيون لأحوال المجتمع العثماني يزعمون أن لا صلاح يرجى له إلا بأن يتخلى عن أسسه، وإن شق ذلك عليه، كان الأسهل - والأحسن - أن ينتقل الحكم على نحو ما إلى أيد أوروبية، وأدرك أو أخذ يدرك المسئولون العثمانيون أن هناك أزمة في هذا، وكان منهم من رأى أن فساد الأنظمة لا يرجع إلى علة فيها، ولكنه يرجع إلى سوء تطبيقها، فإذا ما حاول المسئولون إصلاح التطبيق عادت الأحوال إلى أحسن ما كانت.
على أن أحدا من المسئولين لم يقتنع بذلك، وكان الاتجاه لديهم ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر إلى إنشاء الحكومة القومية المسيطرة على كل شيء، التي تملك كل الأدوات وتخضع كل شيء لإرادة واحدة، ووجدوا في النقل من الأنظمة الغربية ما يكفل لهم ذلك. أما الشعوب البلقانية فابتدأت تنتعش فيها عناصر البناء منفصلة عن الدولة، وأما الرعايا المسيحيون في الولايات الآسيوية والأفريقية فكانت شئون الطائفة من طوائفهم أو الملة (ملت عند الترك) من مللهم تستغرق من أبنائها كل آمالهم وآلامهم.
وأما الرعايا المسلمون في الولايات نفسها فهم متفرقون حسب انتمائهم لجماعات أهل الحرب أو أهل العلم أو الشرع أو الكتابة أو الفلاحة أو الحرف أو التجارة. ولم يكن ظهر فيهم أساس من نوع ما لبناء جديد، بل لم تكن قد نبتت فيهم فكرة «البناء» في ذاتها. فكانت الحقبة حقبة حركات الجماعات الشعبية حينما لم يعد في طوقها مزيد احتمال للعنف والظلم واضطراب الأمن، أو حركات أصحاب العصبيات من زعماء العشائر والمغامرين من قادة الجند ومن إليهم.
على أن المجتمع العثماني الذي أجملنا تصويره على هذا النحو كان خلال هذين القرنين في موقف لم يكن من صنعه وحده، بل كان أيضا من صنع سياسة الدول الأوروبية نحو الدولة العثمانية. وقد نذهب إلى أبعد من هذا فنقول: إن هذه الدولة فقدت في تلك الحقبة الكثير من حرية الحركة أو التصرف في بيتها، وإن الدول الأوروبية خلقت في الواقع أوضاعا عثمانية وتولت حتى قرب زماننا حماية تلك الأوضاع.
والحكومات والشعوب الأوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر تعيش في جو كله حركة، في جو الأزمات الفكرية وأزمات التنظيم الاجتماعي والحروب والثورات الدينية. وأغلب الظن أن الثورة الفرنسية حاولت أن تجد شيئا لحل جميع المشكلات، وفعلا حلت مشكلات وأصبحت هي في ذاتها مشكلة. والواقع أن ازدهار الحضارة في أوروبا في تلك الحقبة بلغ شأوا عظيما مما دفع الرحالة الأوروبيين في الولايات العثمانية إلى المبالغة في تصوير سوء أحوال تلك الولايات بلون مفرط في السواد. بيد أن الازدهار الأوروبي أخفى أن الذين نعموا به حقا كانوا قلة في كل مكان؛ وهذا منشأ الثورة الفرنسية وما تلاها من ثورات.
ولم تكن الحكومات والشعوب الأوروبية تكره - هذا إذا خففنا التعبير - سقوط الدولة العثمانية واختفاء رايتها تماما، وكانت كل من هذه الدول الأوربية تحب أن تنال من تراث العثمانيين ما يطيب من ولاياتها، وكان الأوروبيون يؤلمهم بصفة خاصة خضوع شعوب مسيحية لحكومة إسلامية. بيد أن هذه العبارات تحتاج إلى تقييد لتكون أضبط وأدق. ولنضبط العبارات بالكلام على واقع الحال. كانت الروسيا تعمل على إجلاء العثمانيين عن البلقان واكتسابه وأممه منطقة نفوذ روسية - إن لم تضمه وأممه لحكمها - بهذا تخلص البلقانيين وهم على مذهبها الديني من الحكم الإسلامي، وتصل لبحر الأرخبيل ومنه للبحر الأبيض المتوسط.
وكانت الروسيا تعمل للوصول إلى البحر الأسود، لتعمر أراضيها الجنوبية الخصبة ولتصل إلى منفذ آخر يصلها هي أيضا بالبحر المتوسط. وكانت الروسيا تحب أن يجلس قياصرتها على عرش بيزنطة في القسطنطينية، فيكون تشف ومحو عار وأخذ ثأر وتحيا روما الثالثة. بيد أن الروسيا لا تحب أن يشاركها غيرها في شيء من هذا، بل هي تفضل على المشاركة المحافظة على الدولة العثمانية تحت حمايتها أو - بعبارة أصح - تحت قدميها. أما سياستها نحو مسيحيي الدولة الأرثوذكسيين من أرمن وروم وعرب وأقباط فقد بدأت في القرن الثامن عشر تتحدث إلى رجال السلطنة العثمانية في أمورهم؛ تمهيدا للتدخل في القرن التاسع عشر في تلك الأمور بل وللدخول في حرب ضد فرنسا وبريطانيا والدولة العثمانية - حرب القرم عند منتصف القرن التاسع عشر - من أجل نفوذها في الدولة.
والإمبراطورية النمسوية نجحت في طرد العثمانيين من بلاد المجر ، وهي أيضا يرضيها اقتصاديا وسياسيا أن يسود نفوذها في البلقان ؛ اقتصاديا لأن الطونة يخرج من المجر للبلقان ليصب في البحر الأسود فهو منفذ من منافذ الإمبراطورية، واقتصاديا أيضا لأن الفاردار يلتقي به وينتهي في بحر الأرخبيل وهذا مخرج آخر للإمبراطورية، وسياسيا لأن الإمبراطورية تضم سلالات صقلبية - الكروات مثلا - ويهمها أن يسود نفوذها إخوانهم الصقالبة البلقانيين (الصرب وأهل الجبل الأسود)؛ فهي تعمل على إبعاد الروسيا عن البلقان ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
وينبغي ألا ننسى أبدا أن التنافس بين النمسا والروسيا في البلقان - وعلى صربيا بالذات - كان العامل المباشر على اشتعال الحرب العالمية الأولى. وقد دخل ذلك التنافس في طوره الأخير لما احتلت النمسا عسكريا المقاطعتين الصربيتين جنسا - وبهما طائفة مسلمة - البوسنة والهرسك في 1878، وزاد الأمر توترا وحدة ضمها لهما نهائيا في سنة الدستور العثماني 1908. على أن النمسا بالإضافة إلى هذا عملت بصفتها دولة كاثوليكية على أن تحصل لها نصيبا من رعاية رعايا السلطان الكاثوليك.
وبالإضافة إلى هذا أخيرا كانت النمسا أميل عموما لتأييد الدولة العثمانية في الأزمات الأوروبية العامة، وذلك على اعتبار أن أساس الدولتين (العثمانية والنمسوية) كان لاقوميا، والدولتان لا تحبان تشجيع العصبية القومية، فواضح أن انتصارها معناه تفكك الإمبراطوريات من نوع النمسوية والعثمانية. هذا والسياسة النمسوية سياسة محافظة؛ ولذا فهي أميل لتأييد الدولة العثمانية. ومن الطريف أن تقرأ أن مترنيخ الوزير النمسوي المشهور لاحظ للساسة العثمانيين أن سياسة التنظيمات (أو التجديد) لاتجاري منطق النظام العثماني.
تكلمنا عن خطط دولتين أوروبيتين مجاورتين للدولة العثمانية، والآن نتكلم عن خطط دولتين أخريين هما فرنسا وبريطانيا، ولنترك دول أوروبا الأخرى فليس لها تأثير قوي في تشكيل الموقف الأوروبي في الحقبة التي نتحدث عنها. لفرنسا مصالح في الدولة العثمانية: فهي الدولة الكبرى في البحر المتوسط، وفرنسا كانت أول دولة كبيرة حالفت الدولة العثمانية، وفرنسا كانت أول دولة أوروبية كبيرة نالت لرعاياها «امتيازات» في الأراضي العثمانية، ولفرنسا مصالح تجارية كبيرة؛ فهي تريد أن تستأثر بتجارة الدولة الخارجية استيرادا وتصديرا، وفرنسا تزعم لنفسها حق رعاية رعايا السلطان المسيحيين على اختلاف مللهم ونحلهم.
ولفرنسا مصالح فيما وراء الدولة العثمانية؛ في فارس وفي الهند وفي البحار العربية الهندية. فالولايات العثمانية في الساحل المغربي، وفي مصر، وفي الساحل السوري، وفيما وراءه وفي الأناضول، وفي جزيرة كريد، وفي اليونان إذن ميادين نشاط فرنسي اقتصادي ثقافي وديني، وأنشأت فرنسا صلات وثيقة بشعوبه. وبريطانيا خلال القرنين في موقف يشبه الموقف الفرنسي ويختلف عنه: يشبهه في العمل البريطاني على الاستئثار بالتجارة الخارجية للدولة استيرادا وتصديرا، ويشبهه في أن طرقا برية بحرية تخترق الأراضي العثمانية لمناطق في فارس وفي الهند وفي البحار العربية والهندية تهم بريطانيا جدا، ويختلف عنه في انعدام الجانب الديني الثقافي من العمل البريطاني حتى أواخر القرن الثامن عشر، فبريطانيا كانت بروتستنتية وحتى القرن التاسع عشر لم يكن قد بدأ البروتستنت نشاطهم بين رعايا السلطان.
ويهم فرنسا وبريطانيا بالذات أن تمنعا حصول عملية كبيرة من نوع تقسيم الدولة العثمانية؛ لاعتقادهما أن شيئا من هذا لا يمكن أن يتم دون حرب عامة، قلت عملية كبيرة، وألفت النظر للوصف «كبيرة»؛ فهي مقصودة، وبيان ذلك أن الدولتين تعلمان أن حدوث العمليات الصغرى أو العمليات المتفرقة أمر مستحب بل هو أمر لا بد منه، فالدولة مريضة فلتمت شيئا فشيئا دون أن يصحب ذلك إضرار بالمنتفعين. قلت: إن العمليات الصغرى أو المتفرقة شيء مستحب أو ضروري، من أمثلته اكتساب حقوق السيادة في منطقة من المناطق، إنشاء منشآت من شتى الأنواع، استلحاق أفراد بالتبعية البريطانية أو الفرنسية، اكتساب أسرات وعشائر وطوائف ... إلخ.
وسنرى في القرن التاسع عشر عمليات كبرى يحاول الفرنسيون والبريطانيون إظهارها بمظهر العمل الصغير الذي لا يمس جوهر السيادة العثمانية. في 1798 حاولت فرنسا أن تمتلك مصر، وكانت مستعدة لأن تقبل سيادة السلطان وأن تؤدي له مالا، ورفض السلطان أن يقبل ذلك، وفي 1882 احتلت بريطانيا مصر واحتفظت بسيادة السلطان ولم يعلن السلطان الحرب في 1882 كما أعلنها في 1798؛ لأنه لم يجد من يحالفه كما وجد في 1798، ولأن أوروبا في 1882 كانت في ذروة القوة.
ونختم هذا الجزء من القسم بهذا الملخص: إن الدولة العثمانية أصبحت عند آخر القرن الثامن عشر في موقف يستدعي نظرا شاملا في شئونها. إن الدولة العثمانية قد أفلت من يدها زمام حياتها الاقتصادية. إن الدول الأجنبية قد أنشأت علاقات مباشرة من جميع الأنواع بشعوبها وطوائفها غير الإسلامية. (4) القرن التاسع عشر والقرن العشرون: انحلال الدولة العثمانية وانتشار فكرة التنظيم السياسي على أساس قومي
شهد المجتمع العثماني منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر جهودا متتابعة لتجديد شئون هذا المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وكانت الجهود التي بذلتها حكومة السلطنة؛ أي الحكومة المركزية للدولة، أو تلك التي بذلها بعض ولاة الولايات الممتازة (أي الولايات المتمتعة بقسط من الاستقلال الواقعي) كمحمد علي وخلفائه في مصر، أو بايات البيت الحسيني في تونس مما لفت نظر المؤرخين، إلا أنه مما فاتهم (بصفة عامة) دراسة ما بذلته شعوب الدولة لرفع مستواها عموما وفي ناحيته الاقتصادية والثقافية خصوصا. وقد بذلت الشعوب هذه الجهود إما لأداء ما عجزت الحكومة عن أدائه أو للقيام بما رفضت الحكومة أن تقوم به أو لتكملة جهودها.
وهذه الجهود من جانب الشعوب أو الطوائف مبعثها ما انتشر من تذمر بسبب سوء أحوالها، ومن غضب لما كانت عليه من مهانة إذا ما قاست نفسها بحكامها الأتراك أو بذوي الامتيازات الغرباء، ومن رجاء في تحقيق حياة أكرم؛ أي إن الرغبة الملحة في إزالة المفاسد وتقويم المعوج ملكت على الناس في كل مكان أمرهم.
والمطالبة بالإصلاح على هذا النحو أوسع من الإصلاح متأثرا بانتشار الوعي القومي بين شعوب الدولة العثمانية أوسع؛ لأنه يشمل العاملين على إصلاح الدولة على أساس لاقومي أو مضاد للأساس القومي (ويدخل في ذلك رجال حكومة السلطنة)، وأوسع لأنه يشمل العاملين في حركات الإصلاح الإسلامي (وهؤلاء أيضا لا يؤكدون - على الأقل - الناحية القومية، إن لم يستنكروها). ولكن الوعي القومي أخذ شيئا فشيئا يتأثر بجهود المصلحين وسيشكلها ويوجهها نحو التنظيم على أساس قومي، بل إن رجال السلطنة سيتجهون إلى تغليب المصلحة القومية التركية على كل اعتبار آخر ، بيد أن الوعي القومي في الشعوب العربية تأثر بعاملين: أحدهما عامل الوطنية (مصر مثلا) والآخر عامل القومية (الأمة العربية)، وسنزيد هذا كله تفصيلا فيما يلي من الفصول.
وقد اعتاد الكتاب الأوروبيون أن ينسبوا انتشار الوعي القومي بين ترك وعرب ويونان وصقالبة وأرمن الدولة العثمانية إلى محاكاة من جانب هذه الشعوب للحركات القومية الأوروبية. وهذا وهم فإن اليوناني لا يحتاج لكي يشعر بيونانيته أو المصري بمصريته إلى أن يقلد شعور الإنجليزي - مثلا - بإنجليزيته، إنما الذي تأثر به المصري أو اليوناني هو أوضاع التنظيم على أساس قومي، وهذا التنظيم هو الذي سبقتنا أوروبا إلى إيجاده.
وننتقل الآن إلى شرح تاريخ الإصلاح عموما والإصلاح متأثرا بالوعي القومي خصوصا خلال هذه الحقبة من الزمان. وقد يعيننا على إيضاحا أن نتناولها في أدوار أو مراحل. (4-1) الدور الأول: ونقرنه باسم السلطان سليم الثالث (1789-1807)
جلس سليم الأول على عرش آبائه في حقبة من الزمان هذه ظروفها: (1)
سبق توليه الحكم الحروب الروسية التركية (1768-1774) التي ختمت بمعاهدة الصلح المشهورة كجك قينارجي، وكانت حربا خاسرة بالنسبة للعثمانيين. (2)
وصحب هذه الحرب استثئار علي بك الكبير بحكم مصر دون السلطات العثمانية الشرعية، وتدخله في شئون جنوبي الشام واتخاذه مظاهر السلطان المستقل في مصر والحجاز. والدولة وإن تغلبت على علي بك بإثارة مملوكه محمد أبي الذهب فإن أمور مصر والشام سارت من اضطراب إلى اضطراب في عهد مراد بك وإبراهيم بك إلى أن قدمها الفرنسيون في حملتهم المشهورة. (3)
وصحب هذه الحرب أول محاولة لليونان للحصول على استقلالهم، والعراق أمره للمماليك دون السلطات العثمانية، وفي سائر الولايات الآسيوية والأفريقية والأوروبية السلطات الشرعية مغلوبة على أمرها، فإما متآمرون يحاولون إنشاء حكم مستقر (وهذا أحسن ما كان هناك) وإما عصابات لا تختلف في وسائلها وأهدافها عن قطاع الطرق، وحقوق السلطنة وواجباتها معطلة. (4)
وتتحرك الاضطرابات التي تمخضت عنها الثورة الفرنسية من بعد 1789، ويزداد أمر أفراد طوائف السلطنة (الملل) اضطرابا، فبعد أن كان الأمر قاصرا فيما يتعلق بهم على مجهودات المبشرين الغربيين لاجتذابهم إلى حظيرة الكثلكة الرومانية، وعلى المعاملات القائمة بينهم وبين التجار الأوروبيين، بدأت تنتشر نداءات إلى عقائدهم تتسم بدعوة الحرية، وهي في نظر السلطات العثمانية بل وفي نظر الرؤساء الدينيين للملل إباحية مطلقة أو إلحاد. (5)
وأخيرا وفي 1798 يحدث ما لم يكن أحد يتصوره؛ ذلك قدوم حملة فرنسية برية بحرية لامتلاك مصر، مفتاح الحرمين وإنسان عين السلطان.
وهذه الحملة يبدأ بها تحول في مشروعات الفتح في ولايات الدولة العثمانية، فقبل هذه الحملة كان الضغط الأوروبي المباشر على الولايات البلقانية أو حول سواحل البحر الأسود أو على سواحل البحار العربية الآسيوية، أو بعبارة أخرى كان يتم اتصال الأوروبيين بالشرق بالالتفاف حول العالم العثماني الأفريقي الآسيوي. أما الآن فقد أخذ الأوروبيون يهمون باختراق ذلك العالم، وامتلاك أقصر الطرق بين الشرق والغرب.
هذه - في إيجاز - صورة العالم العثماني في العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر، ماذا تصنع السلطنة؟
من العثمانيين إذ ذاك (كما هو الحال عند سائر الأمم في كل زمان) من قرر أن الأنظمة التي حققت للعثمانيين العزة والرفعة بين الأمم في زمن مضى كفيلة بأن تحقق لهم العزة والرفعة من جديد إن هم عادوا إليها مطهرة خالصة من شوائب الفساد وسوء التطبيق. والواقع أني لا أعرف زمانا حدث فيه عودة الناس إلى الأنظمة قبل أن يعتورها الفساد حتى ولو ادعى زعماؤهم أنهم يفعلون ذلك. كان ذلك حينما كان التغيير يتخذ مظهر العودة للقديم الطيب على اعتبار أن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. واستمر الحال كذلك إلى أن تبدلت الأوضاع فاعتبرت المحافظة رذيلة والتغيير فضيلة، وفي الحالتين الأولى والثانية غفل الناس عن أنهم يهتمون بالعرض ويهملون الجوهر.
ولم تكن المسألة كما واجهت سليم الثالث ورجاله مسألة أيهما أصلح: هل نجدد تماما أو نخلص الحاضر من شوائبه؛ الأمر الذي واجهه كان أخطر: ما وسيلة إنقاذ البلاد من هوة الفوضى التي تردت فيها؟ الوسيلة الوحيدة: الحكومة القوية الفعالة. وماذا نتخذ لتحقيق ذلك؟ أن نعطيها أدوات السلطان الصالحة: الجند في البر والبحر. فلنصلح الجند، وإصلاح الجند هو عقدة العقد في تاريخ الدول الإسلامية.
والجند عند العثمانيين يتركب من عنصرين: أحدهما نستطيع أن نسميه العنصر النظامي أو الثابت والآخر العنصر الإقطاعي؛ فأما العنصر النظامي فكان يتركب من فتيان ورجال نشئوا أرقاء ودربوا منذ حداثتهم على شئون الحرب وانقطعوا لها، وتجري عليهم الدولة أرزاقهم. ومن أشهر هؤلاء العسكر النظاميين ألينتيشري أو الانكشارية. وأما العنصر الإقطاعي فيتركب من رجال يحوزون الأرض التي يزرعون مقابل أداء الخدمة العسكرية عندما يدعون لها في أوقات الحروب. وقد اختل أمر العنصرين: فصارت القاعدة أن يقيد في صفوف العسكر النظامي الأحرار، كما كثر في صفوفهم الدخلاء الذين لا يباشرون حربا. وقد يكون منهم الباعة أو الفطاطرية أو القهوجية وما إلى ذلك، وتضخمت الأعداد وناءت الدولة بمرتباتهم.
ولما اختل أمر الجباية كان يعيث الجند فسادا ونهبا ليحصل على قوته. ويقال إن مبدأ قيد غير المحاربين في سجل الجند كان عندما أحب أحد السلاطين أن يكافئ المهرجين الذين اشتركوا في مهرجانات ختان ابنه فقيدهم في سجلات الجند. وأما العنصر الإقطاعي فقد اختل عندما صارت الإقطاعات تمنح لا لأداء الخدمة العسكرية ولكن لبواعث أخرى كالإحسان أو الحظوة أو الرضا أو ما إلى ذلك، ففقدت الدولة بهذا خدمة عسكرية كانت تؤدى بلا نفقة؛ فإن الجندي الإقطاعي كان يحضر معه حصانه وسلاحه.
ولم يكن من الممكن عمليا أن يعود سليم الثالث لجمع جيشه النظامي، كما كان يفعل أجداده، من الأرقاء، كما لم يكن من الممكن عمليا أن يعود بالإقطاعيين إلى قواعد الإقطاع القديمة. وكانت الخطة التي اختارها هي أن يؤلف فرقا جديدة مدربة تدريبا حديثا متصلة الصلة بالقوات التقليدية، وأن يدعوها «النظام الجديد»، وكان رجاءه أن ينمو النظام الجديد إلى أن يكون هو النظام الوحيد، وأن تجد فيه الدولة أداة الحكم القوي والدفاع الناجح، وسهل عليه أن يستخدم مدربين أوروبيين في المدفعية وفي دور بناء السفن؛ إذ إن الأسطول أيضا كان موضع اهتمامه.
دل هذا على أن السلطان سليما ولى وجهه في أمور تدريب القوات الحربية نحو الأنظمة العسكرية الغربية، ودل هذا على استعداد لإنشاء صلات بالغرب، وعلى هذا نجده ينشئ تمثيلا سياسيا لبلاده في العواصم، لندرة وباريس وفينا، بعد أن كانت الدولة العثمانية لا توفد للممالك الأوروبية إلا سفارات لمهمات خاصة، يقضيها السفير ويعود لبلاده، وهذا بينما كانت الدول الأوروبية ممثلة دائما ببعثات سياسية دائمة، فاتجاه سليم نحو إنشاء تلك الصلات كان اتجاها جديدا دل على إدخال شيء من التعديل على وجهة نظر كانت تقضي باعتبار الصلات بغير دار الإسلام شرا لا بد منه أحيانا.
ولم يصف الجو للسلطان سليم للمضي في سياسة الإصلاح، ندرك هذا إذا تذكرنا أن ما بقي له من سني الحكم بعد غزو نابليون لمصر في 1798 عاصر جو الحركة العنيفة التي بعثتها الثورة الفرنسية وقبض نابليون على أزمة الحكم في بلاده، وهذه الحركة امتدت آثارها السياسية لسياسة الباب العالي ولأحوال ولاياته؛ فأشاعت جوا مضطربا في القسطنطينية، وانتهز الفرصة أعداء التجديد فكانت ثورات الجند القديم وطلاب المعاهد الدينية ومن انضم إليهم في سنتي 1806 و1807؛ وخلع السلطان سليم في 1807 وولى الثائرون مكانه ابن عمه مصطفى الرابع. وتحرك أنصار سليم في سنة 1808 لإعادته للعرش ولكنهم لما وصلوا إليه في معتقله وجدوه مقتولا بأمر مصطفى الرابع، فلم يستطيعوا إلا الانتقام له بقتل قاتله وأجلسوا على العرش محمودا الثاني، أخا مصطفى الرابع، وكان ذلك في سنة 1808. (4-2) الدور الثاني: ونقرنه باسم السلطان محمود الثاني (1808-1839)
فترة مهمة حكم هذا السلطان: تأكد فيها الاتجاه الجديد الذي بدأه سلفه سليم.
ولنبدأ - كما فعلنا بالنسبة لسليم الثالث - بلفت النظر لبعض وقائع الحقبة واتجاهاتها:
أولا:
اجتاز محمود بسلام في السنوات الأولى من حكمه - أي من سنة جلوسه على العرش في 1808 إلى سقوط نابليون ومؤتمر فيينا في 1815 - عواصف تلك الفترة.
ثانيا:
وفي أوائل حكمه كانت قد بلغت أوجها قوة الإمارة السعودية النجدية عاملة تحت لواء الإصلاح الديني المنسوب للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ثم زال سلطان هذه الإمارة بسقوط الدرعية في يد قوات إبراهيم باشا في سنة 1818. وأصبح النفوذ في الجزيرة العربية وخصوصا في الحجاز وسواحل البحر الأحمر، للحكومة المصرية إلى أن انسحبت قواتها من بلاد العرب في سنة 1840 على أثر التدخل الأوروبي المسلح ضدها.
ثالثا:
وأثناء ذلك كان محمد علي قد سار قدما في خطط التجديد وهدفها القوة بجوانبها الثلاثة: التنمية الاقتصادية (قوة المال)، الجيش والبحرية الوطنيان (قوة الحديد)، التعليم الحديث (قوة العلم). وسنشير بعد قليل إلى خطط محمود في التجديد، ولا نريد بهذا مقارنة أو تفضيلا، فظروف محمود أصعب ومشكلاته أعقد.
رابعا:
إلحاق محمد علي الأقطار السودانية في حوض النيل بالمجتمع العثماني، ابتداء من حوالي 1820.
خامسا:
قيام الثورة اليونانية ضد الحكم العثماني في شبه جزيرة المورة ابتداء من سنة 1820 ونجاح تلك الحركة، فعهد السلطان محمود إلى محمد علي أن يتولى إخماد الثورة، وقبل محمد علي وتولى ابنه إبراهيم باشا القيادة ونجح في التغلب على الثوار. ولما ضاق السلطان ذرعا بعصيان الانكشارية وفتنهم لم يتردد في الفتك بهم جموعا وأفرادا، وذلك في سنة 1826، وهذا على الرغم من ظروف الثورة اليونانية.
وتدخلت الدول العظمى لإنشاء مملكة يونانية صغيرة مستقلة، ولكن محمودا رفض الاتفاق؛ فحطمت الأساطيل الأوروبية المشتركة الأسطولين المصري والعثماني في خليج نافارينو، وأعلنت الروسيا الحرب على الدولة، وانتهى كل هذا بتسليم السلطان باستقلال اليونان في الحيز الضيق الذي حدد لمملكتهم، وخارج حدودها يونان كثيرون في البلقان وفي جزر الأرخبيل وفي الأناضول يحلمون بإحياء بيزنطة بكرسيها في القسطنطينية؛ ولهذا الحلم نتائجه خلال القرن التاسع عشر، ثم في الحرب العالمية الأولى وخواتيمها. وشهدت الساعات الأخيرة لهذا الحلم اليوناني بطولة مصطفى كمال ومولد الجمهورية التركية.
سادسا:
وفي 1830 غزو فرنسا للجزائر وابتداء فتحها.
سابعا:
وفيما بين 1830 و1840 كان الاشتباك المسلح بين جيوش السلطان وجيوش محمد علي، والمؤرخون مختلفون فيما بينهم على أهداف محمد علي. أما عن أهداف السلطان فلا اختلاف، فمحمود يعمل دائبا على تقويض نفوذ الولاة من نوع محمد علي؛ فقد حطم (كما رأينا من قبل) الأسرة القرامانلية في طرابلس الغرب، ونجح فجعل من طرابلس الغرب ولاية عثمانية عادية لا يتوارثها أعضاء بيت معين، ويسري عليها ما يسري على الولايات من أنظمة ... ونجح في نفس الوقت تقريبا في وضع نهاية لغصب الباشوات المماليك لولاية بغداد وحول هذا أيضا إلى ولاية عثمانية عادية.
أما بالنسبة لمحمد علي فأعتقد أنه سعى عمليا لتحقيق أغراض محددة تتلخص في استقلال مصر استقلالا فعليا، وضمان هذا الاستقلال. وكانت الضمانات هي: الحكم الوراثي واعتراف الدول الأوروبية به، وإدخال مناطق معينة في نطاق الإدارة المصرية هي الأقطار النيلية والحجاز وسواحل البحر الأحمر الأفريقية والعربية وسورية. وفي رأيه أن اتساع مصر على هذا النحو يكفل سلامتها؛ وذلك لأنها تجد في هذا الملك المتنوع الصفات، الفريد الموقع، الموارد التي تقيم عليها قوتها الاقتصادية؛ ولأنها تجد فيه أيضا ضمان سلامتها الحربية، ويكسب هذه الأقطار وحدة وقوة أنها تكون قسما كبيرا من العالم العربي. وقد قدر محمد علي أهمية هذا لا على أساس العاطفة أو الشعور بل على أساس آخر هو أن ما بين تلك الأقطار من صلات الموقع الجغرافي والتكامل يزيدها قوة انتماء أهليها للأمة العربية.
أما عن العلاقة بالسلطنة العثمانية فأعتقد أنه رأى فوائد في عدم الانفصال عنها؛ من هذه فوائد سلبية، فهو بعدم إعلان الاستقلال يتجنب إثارة الأهلين وهم إذ ذاك متعلقون بالعرش العثماني وبالخلافة الإسلامية، كما أن محاولة الانفصال تؤدي دون شك إلى أزمة أوروبية كبيرة، وإلى إيجاد جو سياسي غير صالح لتحقيق أمانيه بموافقة الدول. أما الفوائد الإيجابية فقد قرر أنه إذا حصل على ما يصبو إليه داخل السلطنة أصبح المتحكم في توجيهها، المسيطر على سياستها، وقد عبر هو بأنه عندئذ يعمل على إحياء قوتها وإعادة عظمتها. وعلى كل حال فليس هناك ما يدعو للإفاضة في التحليل بعد أن تألبت الدول العظمى (فيما عدا فرنسا) ضد اتساع مصر واستغلالها، وفرضت عليها قيود التسوية الأوروبية في سنة 1839-1841.
هذا؛ وأما بالنسبة إلى آثار تلك الفترة في اليقظة أو النهضة العربية، فسندرسها في القسم الثالث من هذا المنهاج.
ولم يعش السلطان محمود الثاني ليرى أوروبا تقتص له من تابعه؛ فقد أنهكته أزمات حكم دام ثلاثين سنة ومات قبل أن يبلغه نبأ انتصار المصريين على جيوشه في نزيب عام 1839. وعقب وفاته سلم قائده البحري الأسطول العثماني لمحمد علي في الإسكندرية.
ودور التجديد المقترن باسم محمود الثاني جد خطير في تاريخ الحركة كلها، ومحمود الثاني واضع أساس الحكومة الحديثة في الدولة العثمانية، الحكومة التي تزعم لنفسها حق السلطان الكامل، وهي في نفس الوقت تتكفل بأداء واجبات وتتحمل مسئوليات مما لم يكن للرعية عهد به قبل ذلك.
حارب محمود ادعاءات أصحاب العصبيات وأصحاب الحقوق المكتسبة في كل مكان، ونجح في طرابلس الغرب في إزالة القرامانلية، وفي بغداد الباشوات المماليك، وفتك بالانكشارية، وجعل «النظام الجديد» الذي بدأه سلفه هو النظام السائد، وقضى على «أمراء الوادي» في الأناضول وكانوا إقطاعيين لا معقب لكلماتهم في إقطاعاتهم، وحاول أن يلغي الاحتكارات.
وأخيرا كسب محمود لطاعة الدولة من حيث لا يحتسب. فإن مصر لما انسحبت في 1840-1841 من الولايات التي كانت تديرها تسلمت الدولة تلك الولايات وقد عرفت من معاني الطاعة والنظام ما لم تكن تعرفه قبل خضوعها للإدارة المصرية! (4-3) الدور الثالث: ونقرنه باسمي السلطان عبد المجيد (1839-1861) والسلطان عبد العزيز (1861-1876)، دور تنظيم الدولة الحديثة ومحاولة إنشاء النظام النيابي
خصائص هذه الحقبة من التاريخ الأوروبي نستخلصها من ذكرنا ما يأتي:
أولا:
إكمال بناء الإمبراطورية الألمانية في 1870، نظامها نظام دولة اتحادية، وكمل البناء بعد التغلب حربيا على النمسا ثم على فرنسا.
ثانيا:
إتمام بناء الوحدة الإيطالية واتخاذ روما عاصمة لها، وكان نظامها النظام الملكي الدستوري، وأمرها يهمنا، فهي دولة تقع في البحر المتوسط، واتصالها وثيق قديم بسواحله، وستنمو لها مع الزمان مطامع وأحلام موضوعها إحياء الملك الروماني القديم في البحر المتوسط، والإمبراطورية النمسوية تجدد دستورها في سنة 1867 على أساس إنشاء دولة ثنائية من النمسا وما يلحق بها، ومن المجر وما يلحق به. وأخيرا نذكر الروسيا في حكم قيصرها نيقولا الأول ذي اليد الحديدية، وبعده قياصرة آخرون يختلفون عنه في الآراء الخاصة بالإصلاح الداخلي ولا يختلفون عنه في السياسة الخارجية الواجب اتباعها.
وفي الغرب كان إحياء الإمبراطورية النابليونية في شخص نابليون الثالث، فتأليف هذه الإمبراطوريات على هذا النحو جاء بعد فشل الحركات الثورية المختلفة، ثورات سنة 1848؛ أي إن العقود من 1850 ومن 1860 ومن 1870 تمثل تثبيتا وتنظيما في عناصر الحياة الأوروبية مكنها من التقدم الاقتصادي، والأخذ بأسباب القوة الحربية، ونشأ عن هذا كله تنظيم سوق مالية عالمية واحدة، كما نشأ عنه أن البت النهائي في مشكلات العلاقات بين الأمم، سواء أكان نطاق هذه العلاقات أوروبيا أم غير أوروبي آل ابتداء من ذلك العصر وفيما يليه حتى قيام الحرب العالمية الأولى إلى «الدول العظمى»، وستحاول الدول الصغرى وما نسميه «الدول» تجاوزا أن تلفت النظر لوجودها بمختلف الوسائل، وأن تلحق كل واحدة منها (وخصوصا في البلقان) بحامية أو ولية أمر من بين الدول العظمى.
ثالثا:
انتشار النفوذ الأوروبي ممثلا في هذه الدول الكبرى في جميع أنحاء العالم، وأخذها بأسباب السيطرة على الدول والحضارات غير الأوروبية: الصين، اليابان، فارس، المغرب الأقصى، الدولة العثمانية وولاياتها.
رابعا:
الحضارة الأوروبية تستهوي وتنفر غير الأوروبيين في آن واحد، ينجذبون نحوها، آنا طوعا وآنا كرها، ويمدحونها ويذمونها، وهم دائما يأخذون بأسبابها، ولا يزالون يفعلون، مهما يقولون.
ننتقل إلى سير الحوادث خلال هذه الحقبة من التاريخ العثماني:
بدأت الحقبة في 1839 بأزمة العلاقات المصرية العثمانية، وكانت التسوية «الأوروبية» قاضية بوضع مصر في موضع ينتهي حتما بارتباك شئونها ارتباكا يقضي على ما لها من استقلال داخلي محدود، وتفسير ذلك أن شرط المحافظة على الاستقلال حرية الحركة، فإذا منحت أمة ما استقلالا داخليا وحالت قيود السيادة العثمانية والامتيازات الأجنبية دون حرية الحركة انقلب استقلالها المحدود وبالا عليها، فالاستقلال المحدود يغري بالتصرف على غير أساس.
وإذا انتصرت الدول العظمى للدولة العثمانية على هذا النحو فإنها كان يسرها أن يؤكد السلطان الجديد عبد المجيد استعداده للسير في طريق الإصلاح؛ فأصدر السلطان في نوفمبر 1839 العهد المشهور باسم خط كلخانة، وهو وثيقة لها خطرها في تاريخ التجديد، وفيها وعد السلطان بأن يضمن لكل رعاياه على اختلاف مللهم الحياة والشرف والمال، وشرح في إيجاز الخطوات التي سيتخذها لجعل تلك الضمانات نافذة، وخط كلخانة - فيما رأى - من معالم تطور الدولة الإسلامية، وسنعود بعد قليل للكلام عنه بتفصيل أكثر، وهو يستحق هذا - فالذين أصدروه كانوا مؤمنين به - وإن ما أصاب وعود العهد من قصور التنفيذ لا يرجع لعدم الإيمان بها، بل هو يرجع لأن الصعوبات كانت فوق طاقة الرجال.
نشير بعد هذا إلى ما كان في لبنان من اضطراب طائفي في العقد الخامس من القرن (أي من بعد سنة 1840)، نشير إليه لأنه يتطور في سنة 1860 إلى ما هو أخطر وإلى ما سيكون من أثر حوادث سنة 1860 في وضع نظام خاص لحكم لبنان، وما بين طوائف لبنان من توازن قابل سريعا للاختلال. وكانت السياسة التي اتبعتها الإدارة المصرية وخصوصا في اضطرارها للاعتماد على طوائف دون أخرى، وفي محاولتها إدخال نظام التجنيد ونزع السلاح عاملا من عوامل اختلال أمور الطوائف. نضيف إلى هذا أن الرجال الذين عينتهم السلطات البريطانية القنصلية لإثارة الفتن على الإدارة المصرية وتوزيع السلاح والمال بين رجال بعض الطوائف أخل هو أيضا بميزان العلاقات بين الطوائف. وأخيرا عمد أنصار الحكم السلطاني العثماني إلى وضع الثورة ضد الإدارة المصرية على أساس ديني إسلامي. وأخيرا سقط الأمير بشير الكبير مع سقوط الحكم المصري، وبسقوط بشير زالت نهائيا السيطرة العليا لبيت شهاب على شئون الجبل.
وبعد انسحاب المصريين وحدوث الاضطراب الذي أشرنا إليه لم تستطع السلطنة العثمانية أن تستقل بالنظر في ترتيب شئون الجبل وإعادة الهدوء إليه، بل أخذت تشارك في ذلك الدول الأوروبية وبخاصة فرنسا وإنجلترة: فرنسا لما لها من علاقات بتلك الأقاليم (ذكرناها من قبل)، وإنجلترة لما أدته للدولة العثمانية من إفساد الأمر على الحملة النابليونية على مصر والشام، ومن إفساد الأمر أيضا على محمد علي، وللعلاقات التي أنشأتها خلال هذين الإفسادين مع طائفة الدروز.
وهذا الاشتراك الدولي في ترتيب شئون الجبل سيكون هو دستور العمل في لبنان.
هذا ما نكتفي باستخلاصه الآن، ويصح أن نضيف إليه أن الترتيب الذي اتجه إليه في ذلك العقد الخامس من القرن التاسع عشر كان إنشاء نوع من الإدارة الثنائية يشارك فيه الدروز والموارنة.
والاضطراب الطائفي كان أيضا من أسباب إثارة أزمة أوروبية انتهت باشتعال الحرب المشهورة باسم حرب القرم (1853-1856)، وأصل الفتنة الطائفية خلاف بين السلطات الكاثوليكية والسلطات الأرثوذكسية على أيهما يتولى رعاية بعض الآثار الدينية في بيت المقدس. وانتصرت فرنسا للكاثوليك بحكم كفالتها لهم من أزمنة قديمة وبحكم اعتراف الدولة العثمانية بذلك في معاهداتها مع فرنسا، وتحمست فرنسا لهم بحكم أن إمبراطورها نابليون الثالث كان قد فرض سلطانه الإمبراطوري على فرنسا وكان يعتمد لتوطيد سلطانه على العناصر المحافظة والمتدينة من رعاياه، هذا إلى شيء في نفسه نحو شخص قيصر الروسيا (وهو المنتصر للأرثوذكس) نيقول الأول. ونيقولا الأول هذا كان ينظر إلى نابليون الثالث نظرة أصيل النعمة إلى محدثها، فأخذت السياسة الفرنسية تضغط على السلطات العثمانية لتفصل الخلاف بين الأرثوذكس والكاثوليك فصلا يرضي الأخيرين ويحرم الأولين.
وكانت حماية الطوائف الأرثوذكسية بالنسبة للقيصر نقولا الأول مسألة كرامة شخصية فوق كونها مسألة مصلحة روسية.
ولو أن الأمر اقتصر على الفصل في الخلاف حول الآثار الدينية لما تطور إلى حرب، ولأمكن للدولة العثمانية أن تفصل في شأنه على وجه مقبول من الطرفين - وفعلا تمكنت الدولة في النهاية من أن تضع حلا - إلا أن الأمر لم يقتصر على ذلك فقد تقدمت الحكومة الروسية بمطالب لو كانت الدولة العثمانية قبلتها لخرج رعاياها الأرثوذكس (وأغلب مسيحيي الدولة على هذا المذهب) من سلطانها، فرفضت الحكومة العثمانية المطالب وكانت الحرب وغزت الجيوش الروسية أراضي السلطان في البلقان.
وقد شجع مندوبا فرنسا وبريطانيا في القسطنطينية حكومة السلطان على عدم قبول المطالب الروسية، وفي النهاية دخلت الحكومتان الغربيتان الحرب في صف الدولة في سنة 1854، واتخذت الدولتان هذا الموقف لأسباب أهمها منع الروسيا من إخضاع الدولة العثمانية لسيطرتها، ومن الأسباب أيضا ما كان يسود الرأي العام في فرنسا وفي بريطانيا من كره للروسيا واعتبارها معقل الحكم المطلق وعدوة حرية الشعوب واستقلالها. ومن الأسباب أيضا أن من المطلعين على شئون الدولة العثمانية من الغربيين من كان يعتقد إذ ذاك أن حكومة السلطان لو أعطيت شيئا من الطمأنينة لأمكنها أن تحقق لرعاياها سلاما وخيرا.
يؤيد هذا أن الحلفاء بعد أن انتصروا على الروسيا وعقدوا للصلح مؤتمرا في باريس، كان مما قرروا وأعلنوا أن الدولة العثمانية عضو في جماعة الدول الأوربية، فلها إذن من الضمانات وعليها من المسئوليات ما لغيرها من الدول. وهي إذن تتمتع كما يتمتع غيرها بكل ما تقضي به آداب المعاملات بين المتمدنين. ويؤيد هذا أيضا ما تقرر من حرمان الروسيا من أن يكون لها قوات حربية بحرية في البحر الأسود وقواعد على سواحله لأغراض الحرب؛ أي إنها جردت من أدوات الاعتداء.
1
والدولة العثمانية - من جهتها - اتخذت خطوات إيجابية لخير رعاياها، فأصدر السلطان عبد المجيد في 1856 عهده المشهور باسم الخط الهمايوني، وأكثر ما في العهد يتعلق بحقوق الطوائف غير الإسلامية ومصالحها - وسنعود إليه بعد قليل - ويكفي الآن أن نقول: إن الخط الهمايوني يبني دستور الدولة على أساس طائفي. أما النزعة التي كانت تنمو إذ ذاك في بعض الأوساط التركية فكانت تدل على فكرة أخرى هي المواطنون المنتسبون لأمة واحدة المولين وجوههم شطر دولة واحدة. وسنعود إلى هذا أيضا وإلى شرح كيف وجدت هذه الفكرة ومن الذين فكروا فيها.
ونتبع سير الحوادث، فمنها ما يتعلق بحركة التشريع التي كبرت بعد 1856 تنفيذا لوعود الخط الهمايوني، والتي سنشير إليها بعد قليل، ومنها ما يتعلق بمختلف شعوب الدولة، ففي 1859 تم اتحاد مقاطعتي نهر الطونة المعروفتين باسم الأفلاخ
Wallachia
والبغدان
Moldavia
في رومانيا، وبذلك اكتملت إمارة أو وحدة بلقانية أخرى وسيتبعها غيرها. وأقرب من ذلك إلينا ما كان من اختلال أمر الطوائف في لبنان اختلالا أدى في 1859 و1860 إلى «المذابح» المفجعة التي حدثت في قرى جبل لبنان وفي بعض المدن كدمشق، وأكثر الضحايا من الطوائف المسيحية.
إننا نقف لحظة هنا لنقرر شيئا قد يبدو غريبا ولكنه صحيح كل الصحة؛ هو أنه قد أخذ يدخل فلسفة الإصلاح أو التجديد العثماني عند بعض الأوساط التركية فكرة الإبادة المنظمة والموحى بها من الرسميين الحكوميين؛ وهي الفكرة التي كان من حظ زماننا أن يجد لها اسما، فأطلقوا عليها اسم
Genocide
أو إبادة الشعوب. وقد عرفت عصور التاريخ الإسلامي حوادث العنف وسفك الدماء تقع بين الطوائف في أوقات التوتر، ولكنها لم تعرف قبل النصف الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين أمثلة من الإبادة المنظمة الموحى بها من الرسميين، ولم نعرفها إلا على أيدي الترك العثمانيين وضحاياها الأرمن والأكراد.
وتدخلت الدول الأوروبية، وأرسلت فرنسا تجريدة عسكرية، ودارت مفاوضات طالت حتى سنة 1864، وعلى أساسها صدر تنظيم للجبل يحدد حدوده، فلا يدخل في نطاقه بيروت وطرابلس، إنما يدخل فيه حيز من الساحل يحتوي على ثغور إن صحت تسميتها من نوع جونية أو البترون، ولا يدخل فيه شيء من إقليم البقاع. فالجبل هو الجبل، وأخضع الجبل للسيادة العثمانية على أن يتولى إدارة شئونه متصرف مسيحي يعينه السلطان ويعاونه مجلس. وتاريخ لبنان من 1864 إلى الحرب العالمية الأولى بتطوره الاجتماعي وشئونه الإقطاعية والإكليروسية والهجرة منه ومساعي الأوروبيين (ونضيف إليهم ابتداء من هنا الأميريكيين) للاتصال بطوائفه ورعايتهم وخدمتهم ومعاهده التعليمية الوطنية وجمعياته وأنديته ومطابعه وأدبائه وعلمائه تاريخ حافل حقا، على أنه يجب أن يتسع هذا التاريخ ليشمل مساعي اللبنانيين في مهاجرهم.
وأثناء الأزمة اللبنانية توفي السلطان عبد المجيد في 1861، وتولى السلطنة أخوه عبد العزيز - وقد زار مصر بدعوة من تابعه الخديو إسماعيل، وكان هو وفاتح مصر السلطان سليم الوحيدين من آل عثمان اللذين زارا هذه البلاد - وشارع عبد العزيز يذكر بها.
وبين عهد عبد العزيز في الدولة عامة وعهد إسماعيل في مصر أوجه شبه كثيرة، أهمها آثار إدخال أدوات المعاملات المالية الأوروبية في مجتمع كان لا يزال محتفظا بأدواته القديمة، وكان هذا الإدخال فوق ذلك قد حدث دون إدراك واضح لشروط تلك المعاملات الأوروبية ومقتضياتها وآدابها، فكان الخراب الذي لم يجتح المالية العامة وحدها، بل اجتاح أكثر أصحاب الأرض الزراعية وأكثر التجار، وهي ظاهرة في تاريخ مصر في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وقد استمرت إلى أن جاءت الحرب العالمية الأولى فهيأت للاقتصاد المصري رغما عنه فصلا جديدا في تاريخه.
ومن أوجه الشبه أيضا ما ناءت به الطبقات الكادحة من ثقل الأعباء التي حملها إياها الارتباك المالي أو الإفلاس أو مواجهة الدائنين الخارجيين والداخليين، وكانت أعباء من الثقل بحيث لم تكن تعني الضيق ولكنها كانت تعني الجوع وتعني الموت جوعا، وهذا خصوصا بين فلاحي مصر.
ومن أوجه الشبه أيضا أن ما حاوله السلاطين والخديويون من إقامة الحكومة العامة المهيمنة على جميع المرافق أدى في مصر وفي الدولة العثمانية إلى انتشار الاعتقاد بأن إطلاق يد حكومة من هذا النوع قد نشأت عنه مفاسد أشكالها ومظاهرها غير أشكال المفاسد القديمة، وظهرت الحاجة إلى غل يد الحكومة - أو على الأقل مراقبتها ومحاسبتها - وذلك بإنشاء النظام النيابي البرلماني وفق ما اهتدت إليه تجارب الأمم الأوروبية، وانتشرت هذه الأفكار بين الأعيان وبين من أصابوا حظا من التعليم الحديث وعملوا في الإدارة وفي الوظائف الفنية والعسكرية. ولم يكن ضباط الجيش العثماني أو الجيش المصري أكثر الجماعات المكونة منهم ومن أمثالهم قبولا للأفكار السياسية الجديدة، ولكن تهيأت لهم بحكم ظروفهم فرص للعمل لتحقيقها لم تتهيأ للآخرين، وهذا من حيث فرض الاجتماع والتجمع ومن حيث التدرج من أصغر إلى أكبر، وهكذا فالجيش أداة عمل قبل أن يكون شيئا آخر، وهو أداة في يد الحكومة، وقد يكون أداة العمل لإسقاطها أو تشكيلها على وجه آخر.
والواقع أن ضباط الجيش العثماني في عهد عبد العزيز وضباط الجيش المصري في عهد إسماعيل لم يكونوا أول من تحرك لتغيير أنظمة الحكم - سبقهم إلى ذلك المدنيون - بل سبقهم إلى ذلك في مصر رجال لم نعتد أن نقرن أسماءهم بالثورات والانقلابات من أمثال نوبار ورياض وشريف - ومن مسائل التاريخ العثماني والمصري الممتعة كيف بدأ اتصال العسكريين بتلك الحركات.
وزاد نشاط الدستوريين في القاهرة والقسطنطينية، وبينما الأزمات التي كان يواجهها إسماعيل ميدانها مصر وعناصرها تتكون من التدخل الأجنبي ومن مطالب المصريين، كانت أزمات عبد العزيز أشد تعقيدا بحكم ما بين مصر والدولة العثمانية من فروق فبالإضافة إلى ما يجري بمصر - وهو أيضا من الشئون التي تهم الدولة - واجه عبد العزيز الاضطرابات القومية في البلقان، وانفجرت الفتنة في إقليم الهرسك في سنة 1875، وامتدت الحركة لأقاليم أخرى، منها بلغاريا حيث ارتكب الجند العثماني غير النظامي (الباشبوزق) فظائع أهاجت الرأي العام الأوروبي، وتدخلت الدول الأوروبية فيما هو جار وأعلنت الروسيا الحرب على الدولة العثمانية في 1877، وكانت الحرب المشهورة ووصول الروس إلى قرب العاصمة العثمانية، وعقد معاهدة الصلح المعروفة باسم معاهدة سان إستيفانو في 1878، وتعديلها في معاهدة برلين في نفس السنة نتيجة لمداولات مؤتمر أوروبي، وسنعود لهذه الحرب والمعاهدتين ببيان أوفى، فإنها حدثت في عهد سلطان جديد سننتقل إليه بعد قليل؛ ذلك أن الدستوريين تمكنوا من خلع عبد العزيز في 1876، وبعد مدة قصيرة من خلعه وجد عبد العزيز مقتولا، واختلفوا في هذا، فقيل إنه اغتيل، وقيل إنه انتحر.
وبعد خلعه ولى القائمون بالحركة مراد الخامس (وهو ابن عبد المجيد)، ثم تبينوا ضعف عقله فخلعوه واعتقلوه وولوا أخاه عبد الحميد الثاني، وسندرس أحداث زمانه في فصل منفصل لأهميته.
وقبل أن ننتقل نشير إلى مسألتين أو ثلاث تهم الحقبة التي نحن بصددها: (1)
إتمام حفر قناة السويس وفتحه للتجارة الدولية في 1869، وهو مشروع دولي يؤخذ على الخديو سعيد تبنيه وتعضيده، وكان الأولى به أن يدرك - كما أدرك محمد علي - أن المشروعات من هذا النوع تودي باستقلال الأمم المكبلة بقيود وأغلال تحد سلطانها وتمنعها من الأخذ بأسباب التقدم. وكان سعيد يستطيع أن يجد في معارضة السلطنة وبريطانيا للمشروع عونا يمكنه من مقاومة ضغط فرنسا لتبني مشروع وصل البحرين. (2)
استمرار فرنسا في أعمال الفتح والاستعمار في الجزائر. (3)
ارتباك في تونس من نوع ارتباك مصر والدولة العثمانية. (4)
وأخيرا نحلل - طبقا لما وعدنا - الوثيقتين: خط كلخانة والخط الهمايوني.
بدأ عهد كلخانة بالقول بأن في مبدأ الأمر حينما سارت الأمور وفق أحكام كتاب الله وشرائع المملكة سعدت الرعية، ولكن في المائة والخمسين سنة الأخيرة لم تلق الشرائع ما يجب لها فأصاب الدولة الضعف والفقر، وانتقل السلطان إلى إعلان الضمانات المشهورة لكافة رعاياه في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، ووعد بإصلاح نظام الجباية ونظام التجنيد والقضاء عن طريق التشريع. ثم بين أن التشريع سيتم بناء على مداولات مجلسين أو هيئتين؛ أحدهما للشئون المدنية ويتكون من الوزراء والأعيان (المعينين) والقضاة، وآخر للشئون العسكرية من رجالها، وأن كل قانون تنتهي الهيئتان من إعداده يقره ويصدره.
وأعلن أن عهده هذا سيودع في خزانة الآثار النبوية الشريفة، وأنه سيقسم بالعمل وفق أحكامه بحضور العلماء وأصحاب المناصب، وأنهم سيقسمون هم أيضا فردا فردا، ومن يحنث بعد في يمينه فإنه سيلقى عقابا، وأن العقوبات سيصدر بها قانون خاص، كذلك عرض العهد لشئون الموظفين وإعطائهم المرتبات المجزية والانتظام في دفعها، وعرض للرشوة وندد بها وبفظائعها. وأخيرا ختم العهد بالقول بأن ما يحتويه من تنظيمات هي إما تعديل للأنظمة القديمة للدولة أو تبديل أنظمة جديدة لها.
أما الخط الهمايوني فكان أكثر تحديدا ووضوحا.
بدأ الخط الهمايوني بتأكيد ما ورد في خط كلخانة، كما أكد جميع ما منحه السلاطين منذ أقدم العهود للطوائف غير الإسلامية من حقوق وامتيازات وإعفاءات.
ثم طلب إلى هذه الطوائف متفرقة أن تفحص أوضاعها ثم تتقدم إلى الباب العالي بمقترحات الإصلاح التي تتفق مع ما بلغه العصر الحاضر من تقدم في مدارج التمدن.
ويحدث الخط بعد ذلك عن إجراءات ترشيح وتعيين رؤساء الطوائف وأعضاء مجالسها، وعن إصلاح الكنائس والمدارس والملاجئ، وأمر بأن يحذف من الوثائق الديوانية كل ما كان يرد فيه من ألفاظ وصيغ مهينة لغير المسلمين من الرعايا، كما أمر بعقاب الأفراد الذين يستعملون ألفاظ السب والإيذاء والفحش ضد غير المسلمين من الرعايا. وسجل أن المناصب مفتوحة لكل من يستحقها بصرف النظر عن معتقده الديني، وكذلك معاهد التعليم العسكرية والمدنية. وفي الوقت نفسه أباح للطوائف أن تنشئ معاهد تعليم العلوم والفنون والصناعات، وكفل حرية هذه المعاهد التعليمية الطائفية على أن يكون لمجلس أعلى للتعليم مختلط التكوين إشراف على اختيار الطوائف لمدرسي تلك المدارس.
ثم نص الخط على إنشاء محاكم مختلطة، وعلى مبادئ إجراءات التقاضي، وعلى إصلاح السجون، وعلى وضع نظام الشرطة، وحرم التعذيب، ونص أيضا على مبادئ تكوين مجالس بلدية ومجالس للولايات، وعلى نظام البدل في التجنيد، وعلى وضع ميزانية مفصلة للدولة، وعلى وضع عقوبات رادعة عن الرشوة والاختلاس، وعلى تشجيع إنشاء البنوك، وعلى إصلاح النقد - وهذا كله لتكوين رءوس أموال تستخدم في تنمية الزراعة والصناعة - وعلى الاهتمام بالأعمال العامة من إنشاء الطرق والترع وتيسير سبل المواصلات، وعلى إزالة كل ما يعوق التقدم الاقتصادي. وختم الخط بالقول بأن تحقيق هذه الأغراض يكون عن طريق الانتفاع في علوم أوروبا وفنونها ورءوس أموالها.
هذا هو الخط الهمايوني، وسنعيد الكلام على «الطائفية» التي اتجه إليها هذا الاتجاه الواضح عندما نصل للحياة الدستورية العثمانية في مختلف عهودها. (4-4) الدور الرابع: ويقترن بحكم السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909)
كان عبد الحميد في زمانه ملء الأسماع؛ فهو من أطول آل عثمان مدة حكم، وهو ذو شخصية يحار فيها الناس، وهو وإن غلبت عليه الأوهام أحيانا واستولت عليه المخاوف أحيانا أخرى؛ فتصرف تصرف المذعور، أو هاج هياج المسعور؛ فإنه أبدا يحاول أن يبلغ هدفا ثابتا حتى حينما كان يسلك إليه طريقا معوجا: وضع نصب عينيه بناء دولة ترتكز على دعامتين: العثمانية والإسلامية، والعثمانية عنده رابطة تربط شعوبا تختلف أصلا وفصلا ولكنها تتفق رعوية في ملك واحد، والحركات القومية في نظر عبد الحميد تهلك دولة كالدولة العثمانية ولا تنفع أهلها في شيء، فإن نمت العاطفة القومية عند الترك مثلا فهم - لأسباب تاريخية - يقومون عندئذ ببناء دولة تركية تسود الشعوب غير التركية، وإن نمت العاطفة القومية عند غير الترك من شعوب السلطنة دفعها هذا نحو شق عصا الطاعة والارتماء في أحضان الدول الأوروبية، وإن اعتقد أحد أنها تخرج من التبعية العثمانية لتكون دولة مستقلة حقا فإن حقائق التاريخ والجغرافيا والاقتصاد تهدم هذا الاعتقاد.
فلم لا نتصور إذن إمكان إنشاء رابطة عثمانية تجعل من أبناء الطوائف والملل مواطنين في وطن عثماني واحد؛ وبناء على ذلك جعلت (بضم الجيم) العثمانية الأساس لتشريعات التابعية كما عرفوها إذ ذاك (أو الجنسية كما نقول الآن). هذا؛ ولم يقدر «للعثمانية» التغلب على العصبيات القومية من تركية أو عربية أو أرمنية أو يونانية أو ما إلى ذلك. ومع ذلك فهي جديرة بالدراسة الجدية، وهي في حقيقة الأمر من أهم مباحث تاريخ القومية العربية.
هذا عن «العثمانية». أما عن الإسلامية فإن اتخاذها دعامة لخطة الحكم كان من ناحية استجابة من السلطان لموجة من الشعور الإسلامي الصادق دفعت الأمم الإسلامية للاتجاه نحو الدولة العثمانية والالتفاف حول «الخلافة الإسلامية»، وكان السلاطين العثمانيون قد أخذوا منذ القرن الثامن عشر يهتمون بإحياء رسومها وألقابها وإبراز صلاتها بالسلطنة.
هذا جانب من الإسلامية. أما الجانب الآخر فهو سياسي؛ ذلك أن السلطان كان يستغل لحد ما مكانته لدى الشعوب الإسلامية الخاضعة للدول الأوروبية؛ ليحمل الدول الأوروبية على أن تعدل من سياستها نحوه بعض الشيء مجاراة لشعور من تحكم من المسلمين.
وكان السلطان عبد الحميد ملء الأسماع في زمانه؛ لأنه عمل على أن يملأ الأسماع؛ فهو أول السلاطين العثمانيين فهما واستخداما لما نسميه «البروبجنده»، كما كان إسماعيل أول الخديويين إدراكا واستغلالا لها. وقد خلق للرجلين عصرهما أدوات البروبجنده الجديدة، كما شحذ للاستعمال أدواتها القديمة. فأما مثال القديم الذي شحذ فمنظومات النظامين ومنبريات المتصدين للإرشاد وتنبؤات المنجمين، وأما مثال الجديد فالتوجيه الصحفي يتولاه «الصحفيون»: طائفة جديدة في مجتمعنا من نوع جديد من أصحاب الأقلام.
ونلحق بكلامنا هذا عن عمل عبد الحميد على «خلق» بيئة الرأي «الصالح» إشارة موجزة إلى أداتين أخريين اشتهر بهما عصره أيما شهرة: هما «الرقابة على الطبع والنشر» والجاسوسية. فأما الرقابة فقد بلغت حد الهوس وحد السخف؛ فمن أمثلة ذلك حظر استعمال لفظ «دينامو» فقد يذكر بالديناميت، والديناميت مما يستخدم في الاغتيال السياسي، وقد جمع الصحفي المعروف سليم سركيس طائفة صالحة من تصرفات الرقباء تحت عنوان: «غرائب المكتوبجي». وأما الجاسوسية فكانت هي أيضا من المبكيات المضحكات.
على أن أدوات هذا العصر للدعوة أو لخلق جو الرأي المناسب كانت قليلة المفعول إذا قيست بما بلغه زماننا؛ فجاسوسية عبد الحميد هي جاسوسية القيصرية الروسية المعاصرة له شبكات مهلهلة، وأين هما من الجستابو والأجبو وما إليهما؟! وأين نظامو عبد الحميد وعرافوه من «دعاة» اليوم الذين لا يبشرون بالدعوة فحسب، بل هم «ينظفون» الأدمغة القديمة ويحرصون على ألا يتسرب إلى الجديدة إلا مادة مقررة محضرة. وفن التربية الآن هو تركيب دماغ تستطيع أن تطمئن إلى أنه لا يقبل إلا المادة المقررة المحضرة حتى إذا تركته وحده. وأين عبد الحميد وقياصرة الروس من هذا؟
وعبد الحميد بما حاول أن يوجد وبما حاول أن يمنع شكل حركات عصره أكبر تشكيل، وهذا على الوجه الآتي: أصبحت في عهده قضية «الحكم المطلق» القضية الأساسية، وقل التفكير السياسي المنظم المثمر في قضية القوميات وفي حلها حلا يتفق مع المحافظة على وحدة الدولة. وعلى هذا فكان الكلام في الإصلاح في مختلف نواحيه يجري على أساس لاقومي، إلا أننا نلحظ في نفس الوقت أن الحركة الدستورية عند الأتراك بالذات أخذت تتشكل بشكل قومي تركي، وهذا اتجاه سيكون له ما بعده، وسنحاول أن نشرحه على نحو واف فيما بعد.
وقد يكفي أن نقول في شأنه الآن إن مما قواه إذ ذاك أن من طوائف الدولة أو مللها من كان يحلم بالانفصال عنها مستقلا أو مندمجا في دول أجنبية، ومنها من كان يرجو أن يبقى كما هو يعيش تحت سيادة السلطان محتميا بدولة أوروبية يستظل بظل سفرائها وقناصلها، ويعيش على هامش جاليتها يشارك في حياتها بالقدر الذي يتمكن وخصوصا في علاقاتها الاقتصادية بالولايات العثمانية. وكان مما قواه أيضا أن مسلمي الدولة عموما تمسكوا ببقاء الدولة وودوا لو استطاعت حكومتها أن ترفع أسباب سوء الحكم وأن تحقق لهم من أدوات التقدم ما تستطيع.
وأخيرا يجب ألا ننسى أن الدولة بأجهزتها الإدارية والقضائية ... إلخ كانت شيئا معقدا حقا، يتعثر فعلا، ولكنه يسير أو يتحرك، ينسى الناس ذلك ولكن الكثير تحقق قبل الحرب العالمية الأولى، فكانت هناك جيوش عثمانية لم يستهن بها أحد إلا جنت عليه استهانته، وكانت هناك عودة من البداوة للحضارة في مناطق فسيحة في فلسطين والأردن وسورية والجزيرة، وكانت هناك طرق تعبد وسكك حديدية تمد - ومن أشهرها السكة الحديدية الحجازية من دمشق للمدينة المنورة - ومن مشروعات السكك الحديدية الكبرى مشروع سكة حديد بغداد - وله تاريخ حافل - ولم تنته المفاوضات الدولية الخاصة به إلا قبيل نشوب الحرب العالمية الأولى فتعطل، والخط الآن حقيقة قائمة، ولكنه ليس شريان المواصلات بين القسطنطينية والبصرة في دولة عثمانية عظمى.
وكانت هناك ثغور هيئت بالأرصفة والمخازن وحواجز الأمواج ... إلخ. وكانت هناك طوائف من رجال الأعمال والإدارة والقانون والآداب والتعليم والطب ... إلخ استأنفوا جميعا العمل في أوطانهم المحلية بعد تفكك الدولة في الحرب العالمية الأولى في الظروف التي عرفها عالم بعد الحرب.
ويحسن بنا الآن - بعد هذه الصورة العامة - أن نستعرض سير الحوادث في هذه الحقبة الحافلة من 1876 إلى 1909.
عرفنا الظروف التي تولى فيها عبد الحميد، عرفنا أن الدستوريين تمكنوا من خلع عبد العزيز وتولية مراد الخامس، ثم خلعوا هذا حينما تبينوا ضعف عقله وولوا عبد الحميد أخاه، واستجاب عبد الحميد للإصلاح الدستوري؛ فأصدر قانونا أساسيا بنظام الحكم النيابي، وابتدأت الحياة الدستورية دورتها الأولى القصيرة.
لم يلبث عبد الحميد طويلا حتى عطل النظام الدستوري، منتهزا فرصة الأزمة البلقانية التي ابتدأت بالفتنة في إقليم الهرسك وانتشارها بين البلغار وقمع الجند الغير النظامي لها قمعا شديدا، وقامت الحرب بين الروسيا والدولة العثمانية. انتصر الروس وإن كانت للجيوش العثمانية مواقف رائعة. وأملى الروس على الدولة معاهدة سان إستفانو للصلح، وهي معاهدة تقوم على تصفية أمر الحكم العثماني في البلقان (تقريبا) وتنص - فيما تنص عليه - على خلق دولة بلغارية كبيرة، ولكن الدولة الأوروبية الكبرى استطاعت أن تنقض ما تم وأن تنقل الموضوع برمته إلى مؤتمر دولي عقد في مدينة برلين، وفيه تمت التسوية المعروفة بمعاهدة برلين في 1878.
ولا يهمنا الآن من أمر معاهدة برلين ما أدخلته من تعديل على الموقف في شبه جزيرة البلقان، فقد مدت في عمر الحكم العثماني هناك.
وزادت بهذا في نفس الوقت مشكلات الدولة تعقيدا، واستمرت أمور البلقان مصدر نحس لأهليه وللدولة العثمانية وللدول الأوروبية إلى أن أدت إلى نشوب الحربين البلقانيتين الأولى والثانية، وهاتان الحربان وإن لم تتركا للسلطنة العثمانية إلا القليل من ملكها القديم في البلقان إلا أنهما لم يحلا ما بين البلقانيين أنفسهم من خلاف، بل سارت المسائل من سيئ إلى أسوأ إلى أن كانت الشئون البلقانية السبب المباشر في نشوب الحرب العالمية الأولى. سنترك هذه الشئون جانبا في استعراضنا هذا السريع، ولكننا نرجو ألا يظن ظان أن عدم ذكرها يرجع إلى أن البلقان كان ينعم بالهدوء. ويبرر خطتنا هذه أن الأهمية الحقيقية منذ مؤتمر برلين كانت للولايات الآسيوية؛ أي للترك والعرب. ثم منذ مؤتمر برلين بدأت في الحقيقة التصفية التدريجية للدولة يشارك فيها الجميع على شكل «عمليات صغرى» أو عمليات محلية (وقد سبق أن شرحنا معنى هذا).
ويصح أن تخرج من هذا الوصف سياسة ألمانيا إزاء الدولة العثمانية على أيام القيصر ولهلم؛ وكانت سياسته ترمي إلى إنهاض الدولة العثمانية واتخاذ حليف قوي منها على أساس اتفاق المصالح.
ويوضح ما ذهبنا إليه ما حدث أثناء المؤتمر من موافقة الدولة العثمانية على تسليم جزيرة قبرص للحكومة البريطانية لإدارتها ولتتخذ منها قاعدة للدفاع عن الولايات الآسيوية، ويوضحه أيضا ما حدث أثناء المؤتمر من إطلاق يد فرنسا في تونس. لم ير بسمارك إذ ذاك بأسا من أن يشجع فرنسا على المضي في التوسع الاستعماري فلا يتيسر لها عندئذ أن تركز قواتها الحسية والمعنوية لتزيل عار الهزيمة في 1870 ولتسترد الإلزاس واللورين.
ولم تر الحكومة البريطانية مناصا من أن تسلم لفرنسا بشيء نظير حصولها هي على قبرص. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الحكومة البريطانية أخذت إذ ذاك تهتم عمليا باكتساب مركز خاص في مصر وتأمين هذا المركز، وكانت تعلم أن فرنسا لن تسلم بذلك بسهولة، فكان مما ينفع أن تتساهل هي مقدما في شأن تونس. والذين أغضبهم حقا ما حدث كانوا الإيطاليين؛ لاعتبارات الهجرة والاستثمار والقوة البحرية والأحلام التاريخية. ولكن الإيطاليين لم يملكوا النفوذ الكافي لمنع فرنسا من بسط حمايتها على تونس في 1881.
وأثناء ذلك كانت أزمة الحركة الوطنية المصرية، ونعرف ما كان من انفراد الحكومة البريطانية بالتدخل المسلح لقمعها في سنة 1882، وحصولها على المركز الممتاز في وادي النيل، ونجاحها في إحباط جميع ما بذل من محاولات لإرغامها على تحديد تاريخ للانسحاب من مصر. وزاده اطمئنانا وضع يدها على الأقاليم الجنوبية من وادي النيل وإن سلمت بحق مصر شريكة لها في تلك الأقاليم، ثم زاد اطمئنانها في سنة 1904 عندما عقدت مع فرنسا الاتفاق الودي المشهور.
وهذا الاتفاق يطلق يد فرنسا في المغرب (مراكش) كما يطلق يد بريطانيا بمصر، ومعنى إطلاق اليد هو أن تتجنب فرنسا من ناحيتها أو بريطانيا من ناحيتها إثارة ما يحرج الدول الأخرى، وأن تلتزم عموما موقفا وديا من مشروعات الدولة الأخرى. وتوجت بريطانيا مساعيها السياسية باتفاق ودي آخر مع الروسيا تاريخه سنة 1907. وقد سوى هذا الاتفاق شئونا مختلفة، كان من أهمها بالنسبة لنا تفاهم الدولتين على تقسيم فارس إلى منطقتي نفوذ: شمالية للروسيا وجنوبية لبريطانيا.
وهكذا تتوالى «عمليات» تصفية أمر الولايات الآسيوية الأفريقية وأمر فارس، ويكملها - فيما بين زوال حكم السلطان عبد الحميد وإعلان الحرب العالمية الأولى - تصفية أمر المغرب بوضعه تحت الحماية الفرنسية، وتصفية أمر طرابلس الغرب باستيلاء إيطاليا عليها، وكذلك أكثر ما كان للدولة في البلقان؛ نتيجة للحربين البلقانيتين الأولى والثانية، وضم الإمبراطورية النمسوية للبوسنة والهرسك.
بقيت للدولة ولاية بغداد، وبقيت لها ولاياتها السورية، يتغلغل فيها جميعا نفوذ الدول الأجنبية ومصالحها، وتتوزع نفوس أهليها مختلف العواطف ومتضارب الأهواء.
وهكذا أخذت تتلاشى كلما تقدم الزمن بعبد الحميد النظرة إلى الدولة العثمانية وحدة أو كلا، اللهم إلا نظرة القيصر ولهلم إليها، وهذا ما أنتقل إلى التحدث عنه.
كانت هذه النظرة شيئا خاصا، شيئا شخصيا للقيصر، وهي تترتب من ناحية على تركيب مزاجه، وتأثر هذا المزاج بسحر البطولات التاريخية والزعامات الشخصية الكبرى، كما أنها تترتب من ناحية أخرى على إدراكه لعظم موقع الدولة العثمانية، وعلى وجوب المحافظة على وحدة هذا الموقع، وعلى أن يكسب لإمبراطوريته مزايا هذا الموقع اقتصاديا وحربيا عن طريق محالفة الدولة محالفة إخلاص، وعن طريق النهوض بمرافقها العسكرية والاقتصادية.
إن ألمانيا إن تم لها ذلك يمتد نفوذها امتدادا متصلا عبر البلقان والأناضول إلى البحار العربية، ويتفوق هذا النفوذ على أي نفوذ أوروبي آخر منافس كالفرنسي أو الروسي أو البريطاني، يتفوق عليه لأنه نفوذ متصل متماسك من مبتداه إلى منتهاه، ويتفوق عليه أيضا لأنه يعمل يدا بيد مع الحكومة الشرعية، ولا يرمي إلى هدمها ولا يدخل في علاقات خاصة مع طوائف من رعاياها.
ويمثل سياسة القيصر خير تمثيل مشروعان: إصلاح الجيش العثماني ومشروع سكة حديد بغداد.
ولإصلاح الجيش وضعت الحكومة الألمانية تحت تصرف الدولة العثمانية نفرا من خيرة رجالها العسكريين، من أمثال فون درجولتر وليمان فان ساندرس، وبفضل الخبرة الألمانية كان تاريخ الجيش العثماني في تلك العقود الأخيرة من حياة الدولة، ذلك التاريخ المشرف في شتى الميادين، وبخاصة في حرب التحرير تحت قيادة مصطفى كمال.
أما مشروع سكة حديد بغداد فهو عصب السياسة الألمانية كلها، يمثل النظرة الحربية الاقتصادية خير تمثيل. هو مشروع يرمي لربط أجزاء الدولة وتوحيدها على نحو جديد، وهو مشروع يرمي لإحياء ما يمر به من مناطق، تتصل به مشروعات استخراج المعادن ومد الطرق الفرعية والقناطر وتجهيز الثغور ... إلخ.
وقد قلت إن للمشروع تاريخا حافلا، وإن المفاوضات المتعلقة به لم تتم إلا قبيل الحرب العالمية الأولى.
وقد يظن ظان أن سياسة ولهلم نحو السلطنة تأثرت بميوله نحو الحكم المطلق، ولكننا مع التسليم بتفضيل القيصر ولهلم للحكومة الشخصية ينبغي أن نذكر أنه استمر في خطته هذه نحو الدولة بعد إعلان النظام النيابي فيها وبعد سقوط عبد الحميد.
وكان اضطرار السلطان عبد الحميد في 1908 لإعادة الحياة النيابية التي سبق له أن أعلنها ثم عطلها في مستهل حكمه نتيجة نجاح الجمعية السرية - جمعية الاتحاد والترقي - في استمالة القوات العسكرية لإحداث الانقلاب الدستوري. ولم يقاوم عبد الحميد أول الأمر بل أذعن، ثم أخذ يعمل في تدبير انقلاب مضاد للانقلاب الأول، وأخفق في تدبيره هذا، وأنزل عن العرش في 1909، وأجلس عليه أخوه محمد رشاد الذي تلقب بلقب محمد الخامس.
ختام هذا الاستعراض
من إعلان الدستور العثماني لقيام الحرب العالمية الأولى، واشتراك الدولة العثمانية فيها، وتفكك الدولة، وقيام الجمهورية التركية والدول العربية في طورها الحديث والمعاصر
بعث إعلان الدستور في سنة 1908 هزة فرح واستبشار قل أن يجد الإنسان لها مثيلا في عمقها وإخلاصها وانتشارها بين جميع الناس على اختلاف مللهم ونحلهم وطبقاتهم. وقد حاول الناس عموما أن يرتفعوا إلى مستوى المعاني التي تؤديها كلمات الحرية والعدالة والمساواة، ولكن حدث إذ ذاك ما يحدث في إبان الانقلابات كبيرها وصغيرها من اتجاه الذين دبروها إلى تأمين ما حققوا، وإلى جعل ذلك التأمين غاية الغايات بحيث لا يترددون في تعطيل حقائق الحياة الدستورية؛ إذ ظنوا أن التأمين يقتضي ذلك.
ورجال الاتحاد والترقي الذين قبضوا على أزمة الحكم بعد خلع السلطان أحدقت بهم من أول الأمر صعوبات داخلية وخارجية، جعلتهم يتحولون إلى ما وصفنا من جعل تأمين بقائهم في الحكم غاية الغايات كما قلنا، واتخذت الحياة السياسية العثمانية في تلك السنوات السابقة للحرب جميع سمات الحياة السياسية يسودها الحزب الواحد، وعمل الاتحاد والترقي على أن يقبض على البلاد بيد من حديد.
ولنفصل هذا بعض الشيء، ولنبدأ بتلك الصعوبات الخارجية والداخلية التي أشرنا إليها:
أول ما أعلن الدستور أعلنت الحكومة النمسوية ضمها لإقليمي البوسنة والهرسك، وأول ما أعلن الدستور أعلن أمير بلغاريا استقلاله التام عن السيادة العثمانية وتلقبه بلقب ملك. ثم جاءت بعد ذلك مقدمات أزمة الحربين البلقانيتين الأولى والثانية وغزو إيطاليا لطرابلس الغرب. هذا كله في ظرف خمس أو ست سنوات وفي ظروف الانتقال من الحكم الحميدي المطلق إلى أحكام الدستور. إننا نفهم إذن حق الفهم الموقف الذي اتخذه الاتحاديون من مطالب القوميات العثمانية، رأوا فيها أصابع الدول الأجنبية تحرك عوامل الفتنة والضعف، والمعتدلون من الاتحاديين أقروا ما تنطوي عليه مطالب القوميات من حق ولكنهم كانوا لا يرون أن الوقت لتقديمها وللنظر فيها، والمناسب في نظرهم الالتفاف حول سيطرة الاتحاد.
وتململ الاتحاديون كلما اضطرب أمر العصبيات والجماعات في اليمن أو في نجد أو في العراق أو في حوران ... إلخ، ولجئوا إلى تجريدات القمع المسلح، وتململوا كذلك كلما حاول مفكرو العرب والمشتغلون منهم بالقضايا العامة أن يتحدثوا في شئون بلادهم، وأن ينظموا لها أدوات الرأي العام. ولجأ الاتحاديون إلى حل الجماعات وتشريد القادة وتعطيل حرية النشر وغيره من وسائل التعبير عن الرأي؛ مما حتم على العرب وخصوم الاتحاديين نقل ضروب نشاطهم إلى مصر حيث الحكم للبريطانيين وإلى بعض الأقطار الأوروبية.
وفي رأيي أن التوفيق جانب أولئك العرب الذين عقدوا مؤتمرا لبحث قضاياهم في مدينة باريس مع علمهم بموقف فرنسا من العرب والعروبة في الأقطار المغربية، ومع علمهم بمطامعها المشهورة في سوريا، ومع علمهم بأن من زملائهم في المؤتمر من هم ضالعون مع فرنسا في مشروعاتها في سوريا في رأيي أن التوفيق جانب فكرة المؤتمر، وأن التوفيق أيضا جانب الحكومة الاتحادية في موقف الخداع الذي اتخذته من المؤتمر والمؤتمرين. إن مأساة الاتحاديين والقادة العرب كانت في تجنب الفئتين تصفية أمر التوفيق بين المطالب القومية ومطالب الوحدة العثمانية في البرلمان العثماني. إن الطريق الأسهل ليس دائما الطريق الموصل وليس دائما الطريق المستقيم.
وجاءت الحرب بين الدول الأوروبية الكبرى والدولة العثمانية على ما نرى من تشتت وتمزق. ترى ما يكون موقف الحكومة العثمانية، أتبقى على الحياد؟ أتدخل الحرب؟ وفي صف من؟ طبعا لن تدخل الحرب في صف الروسيا وبريطانيا وفرنسا، هذه الدول تستبد بملايين من المسلمين عربا وغير عرب، وهي بعد تطمع في ولايات الدولة الآسيوية الأفريقية. لا، إن الاختيار كان بين الحياد وبين الدخول في صف ألمانيا، وشرط الحياد أن يكون لديك القوة التي تصون بها حيادك وتجعل غيرك يحترمه، والحياد مقبول إذا ضمنت أن المنتصر لا يتحكم فيك بعد أن يتغلب على عدوه.
هذه هي الصعوبة الكبرى، ماذا تفعل دولة عثمانية وقفت على الحياد أمام بريطانيا وروسيا وفرنسا منتصرة أو أمام ألمانيا منتصرة؟ ولم يكن الاختيار سهلا. وعلى كل حال فقد قرر الاتحاديون أن يدخلوا الحرب مغامرين ، وأظن أنهم قدروا أن التحكم في المصير محاربين أسهل عليهم من مواجهتهم محايدين .
دخلوا الحرب في صف ألمانيا، وأعتقد أن دخولهم في الحرب كان ذا أثر حاسم فيها. قطعت الدولة ما بين الروسيا وحلفائها من اتصال بحري في الجنوب، وحجزت قوات هائلة تتبع أولئك الحلفاء عن الحرب في أوربا، وحاربت في الدردنيل وفي فلسطين وفي سوريا وفي العراق وفي الحجاز، وانتصرت أحيانا انتصارات يعتد بها. وتحدث الحلفاء فيما بينهم عما سيفعلون في الدولة وأراضيها عند النصر، ولا نتتبع الآن هذه الأحاديث وهذا - أولا - لأن الروسيا حدثت فيها ثورة 1917 وخرجت من الحرب، وسيكون لها موقف تأييد للحركة الكمالية عند نشوبها، ونفع هذا الموقف الكماليين نفعا كبيرا، وثانيا لأن مصطفى كمال استطاع أن يؤلف جيشا في الأناضول ومجلسا وطنيا، وأن ينقض ما عقدته حكومة السلطان في القسطنطينية من معاهدة مع الحلفاء المنتصرين - هي معاهدة سيفر - واستطاع أن يقهر اليونان الذين غزوا الأناضول، واستطاع أن يحمل الحلفاء على مفاوضته وعقد الصلح معه في مؤتمر لوزان. ثم كان مولد الجمهورية التركية والتغييرات الخطيرة التي أدخلها كمال على المجتمع الإسلامي العثماني.
وانطلقت أيدي الحليفتين بريطانيا وفرنسا في الولايات العربية، وعوامل هذه الانطلاق ظاهرة؛ منها أن مطصفى كمال آثر أن يقيم جمهورية تركية على أساس قومي وأن لا يضعفها بمشكلات القوميات المتعددة؛ آثر ذلك. أما ما يقال عن تأثره بما يقال عن طعنة العرب للترك خلال الحرب فهذا وهم، فقد حارب الجنود العرب في صفوف القوات العثمانية على وجه مقبول، ولم يضطرب أمر الأقطار السورية والعراقية على الرغم مما عانى أهلوها من شدة الأحكام وسوء أحوال التموين، وتخصيص الأحسن من كل شيء للأغراض العسكرية، وأخذ الزعماء أخذا عنيفا، وعلى الرغم من وعود الحلفاء وإغرائهم لم يتحرك ضد الدولة العثمانية إلا الشريف حسين، ولم يقبل الإمام يحيى أن ينتهز الفرصة لينضم إلى أعداء السلطنة العثمانية، وهذا على الرغم مما لقي منها، وآل الرشيد في نجد أخلصوا للسلطنة، وكان عبد العزيز آل سعود على نوع من الحياد.
لقد سرت الحكومة البريطانيا سرورا كبيرا بحركة الشريف حسين؛ ذلك لأن إزالة السيادة العثمانية تماما من الجزيرة العربية عموما ومن الحجاز خصوصا يتفق وسياستها التقليدية في الجزيرة العربية، كما أن إنشاء سلطنة عربية في الحرمين تكون تابعة لها يتفق مع سياستها الإسلامية أيضا. هذا وهي تستطيع أن تستخدم تلك الحركة الحجازية في إثارة عبر الأقطار السورية والعراقية ضد الترك، وفي التهوين من أمر «الجهاد» الذي أعلنته الحكومة العثمانية الاتحادية، ومن أمر «الخلافة» التي أحبوا أن يجاروا عبد الحميد في استغلال نفوذها بين المسلمين قاطبة.
وعلى كل حال فقد انسحبت الجيوش العثمانية ودخلت قوات الاحتلال البريطانية ثم الفرنسية مختلف الأقطار العربية.
وانطلقت الأيدي الفرنسية البريطانية؛ فقد تفرقت كلمة الناس في تلك الأقطار تفرقا كبيرا، ولكن ما لبثت أن تكونت بها أدوات العمل السياسي فيها وفي غيرها من البلاد العربية التي لم تكن تحكمها السلطنة العثمانية مباشرة كمصر.
وقصة هذا العمل السياسي من الحرب العالمية الأولى إلى تكون الأوضاع العربية التي وصفناها إيجازا في القسم الأول من هذه المذكرات سنعرض لها في وقت آخر.
وبهذا ينتهي هذا القسم الثاني من هذا المنهاج، يتلوه القسم الثالث والأخير، وسنخصصه لبحث مسائل تاريخية عربية معينة.
مراحل نحيل عليها من يريد الاطلاع
(1)
نشر محمد بك فريد - رئيس الحزب الوطني المصري - كتابا طيبا في زمانه في تاريخ الدولة العلية، وقد رجع فيه للكتب التاريخية التركية.
ومحمد بك فريد ينتمي لجيل من المصريين عرف الخاصة من أبنائه اللغة التركية واتصلوا بالترك مصاهرة. وللجميع من ترك وعرب ثقافة واحدة عثمانية تقوم على التركية والعربية، وتزدان عموما بنفس الآداب والمثل العليا. وقد عرفت الأقطار العربية الأخرى في دمشق وبغداد وحلب وغيرها نفس الظاهرة، وقد اختفت تماما في أيامنا. وإلى أن تهيئ الجامعات العربية لطلابها دراسات في التركية تمكنهم من أن يقرءوا وثائق التاريخ العثماني ومراجعة التركية، نوصي الطلاب بالرجوع إلى الترجمة العربية لدائرة المعارف الإسلامية أو إلى الدائرة نفسها بالإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية ومقالات الدائرة فيما يتعلق بتراجم الرجال أو الموضوعات العثمانية جيدة، وتقوم على المراجع التركية الأصلية. (2)
ويمثل أحمد فارس الشدياق صحفي العهد الحميدي خير تمثيل، بل إن حياته تعكس ذلك العصر قوة وضعا، وخير ما يفعل الطالب أن يقرأ منتخبات الجوائب، وهي الجريدة الكبرى التي كان يصدرها الشدياق. (3)
وقد نشر المعهد عن مؤتمرات باريس وبرلين ولوزان الكتب الآتية، ونوصي الجميع بالرجوع إليها:
للدكتور محمد مصطفى صفوت: مؤتمر باريس.
للدكتور محمد مصطفى صفوت: مؤتمر برلين.
للدكتور فاضل حسين: مؤتمر لوزان. (4)
وخير تحليل للانقلاب الكمالي هو ما كتبه الأستاذ ينبي في
Survey of International Affairs
لسنة 1925.
القسم الثالث
موضوعات عربية خاصة
الموضوع الأول
متى وكيف أصبحت الأقطار العربية ولايات عثمانية؟
ذكرنا فيما سبق أن أكثر الأقطار العربية خضع للحكم العثماني في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، وفي عهد السلطان سليم الأول وابنه السلطان سليمان القانوني.
وشرحنا فيما سبق أن الملك العثماني بدأ في الشمال الغربي من الأناضول، وأن ذلك الملك كان يتسع في الأناضول وفي البلقان في نفس الوقت، وأننا يمكننا أن نعتبر فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح في 1453 خير تتويج لتلك المرحلة البلقانية الأناضولية من تاريخ الاتساع العثماني.
وأثناء تلك المرحلة نشأت للدولة العثمانية علاقات بالأقطار الإسلامية العربية وغير العربية المجاورة للأناضول؛ أي في الأقطار السورية والكردستانية والعراقية؛ أي بالدول المسيطرة على تلك الأقطار، السلطنة المصرية السورية (المماليك)، وبالإمارات القبلية في الجزيرة وكردستان وأذربيجان ثم بالدولة التي حاولت أن تسود تلك الإمارات القبلية، وهي دولة الصفويين في فارس.
ودولة بني عثمان ولدت وترعرعت في مهد الجهاد الديني والغزو، كانت الحرب الدينية ضد الروم سر اجتماع كلمة الغزاة الأولين على طاعة الأمراء الأول من بني عثمان، كما كانت الحرب الدينية سر تقدم السلاطين من بني عثمان من نصر إلى نصر، وكان موضع فخر أولئك السلاطين أنهم وضعوا للإسلام راية في بلاد لم يسبقهم إليها جيش إسلامي: في البلقان ثم في سهول المجر إلى أسوار فيينا. وكان موضع فخرهم بصفة خاصة أنهم كانوا الذين استولوا على القسطنطينية دون غيرهم من ملوك الإسلام.
وقد قلت إن الاستيلاء على تلك المدينة ختم مرحلة من التاريخ العثماني، وإن السلاطين من أواخر القرن الخامس عشر توثقت صلاتهم بأصحاب الأقطار المجاورة.
وكانت الصلات سياسية ودينية؛ سياسية لأن الحدود التي كانت تفصل دول ذلك الزمان لم تكن على درجة من التحديد تعرف وتحترم، بل كانت أقرب إلى مناطق لا ينفذ فيها حكم الدول الكبرى المباشر، ويتمتع فيها أمراء الحدود الصغار من بيوت الملك أو رياسات العشائر بقدر من الاستقلال يحصلون عليه بمؤازرة الدول الكبرى (كالمملوكية أو العثمانية أو الصفوية) إحداها بأخرى. وكان تذبذب إمارات الحدود عاملا دون شك في اضطراب العلاقات العثمانية المملوكية الصفوية، كما كان حافزا لكل منها على أن تكون هي المسيطرة على الحدود.
وكان هناك عامل آخر من عوامل الاضطراب يرجع إلى ما كان يحدث من وقت لآخر من التجاء بعض الأمراء والزعماء من مملكة لأخرى. حدث هذا مع بعض الأمراء العثمانيين، وهذا على الرغم مما جرى عليه سلاطين الدولة الأول من الفتك بأقاربهم ولو كانوا رضعا. وكان السلاطين المماليك يتخذون من الأمراء اللاجئين «رهائن» أو أدوات ضغط سياسي يضمنون بها حسن سلوك الحكام العثمانيين، وفي نفس الوقت كان يحدث أيضا أن يلجأ لدى العثمانيين أمراء من تابعي سلطان مصر يتصلون بهم ويطلعونهم على خفايا دولتهم وعوراتها. بيد أنه لم ينشأ بين العثمانيين والمماليك من البغض والكراهية ما نشأ بين العثمانيين والصفويين.
فالمماليك - كما رآهم العثمانيون - مذهبهم الديني مستقيم، فهم من أهل السنة، وفي ملكهم مهد الإسلام والثقافة الدينية، وهم رعاة الحرمين، وقد دأب بنو عثمان على أن يسدوا للحج وللحجيج وأهل الحرمين من الأيادي ما أكسبهم سمعة حسنة، وكان خليقا به أن ينشئ بين الدولتين لونا من التعاون الصافي، لولا أن ما حدث من حرب التناحر بين العثمانيين والصفويين أدخل المماليك في تلك الحرب طرفا ثالثا وجر إلى خضوع بلادهم العربية في الحكم العثماني.
وهاك شرح هذا الموقف:
إن المتتبع لحركة التاريخ الإسلامي لا يلبث أن يرى أن الأقطار التي تكون منها العالم الإسلامي أخذت تخضع شيئا فشيئا لمؤثرات تختلف من قطر لآخر وتتنوع من قطر لآخر بحسب الموقع الجغرافي للقطر وبحسب ماضيها الإسلامي القريب وماضيها البعيد السابق للإسلام. فالأقطار الشرقية من العالم الإسلامي خضعت - مثلا - لتأثير الهجرات والفتوح التتارية المنبعثة من قلب آسيا على نحو يقل تدريجيا كلما اتجهنا غربا نحو المغرب الأقصى، والأقطار المغربية والأقطار الوسطى (مصر وسوريا) أدركها من تأثير الحملات الصليبية للفرنجة ما لم يصب الأقطار الشرقية، وهكذا.
وطبيعة الماضي القريب والبعيد تحكمت في إحياء لغة وطنية كالفارسية، ولم تؤد إلى إحياء لغة كالقبطية أو السريانية، كما أنها يظهر أثرها أو لا يظهر في مختلف أقاليم الفنون الإسلامية.
اختلاف المؤثرات هذا انتهى إلى تقسيم العالم الإسلامي إلى قسمين رئيسيين: إيراني وعربي، ويرجع المؤرخون اتضاح أمر التقسيم إلى اشتداد وطأة الزحف التتاري في القرن الثالث عشر على الأقطار الشرقية، وإلى ما سبق هذا من اشتداد الضغط الصليبي على الأقطار الوسطى والمغربية من العالم الإسلامي (في حوض البحر المتوسط). ومهما يكن فقد نمت للقسم الإيراني ثقافة تنعم بشباب وحيوية، وبقيت للقسم العربي ثقافة قديمة تحمل طابع المحافظ وتنعدم تدريجيا صفات الأصالة فيها.
والدولة العثمانية التي تألق مجدها عندما فتح محمد الفاتح القسطنطينية في 1453 دولة إيرانية الحضارة الإسلامية، ولكن تغير في أواخر ذلك القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر مجرى تاريخها، ويرجع ذلك إلى قيام الشاه إسماعيل الصفوي صاحب فارس بشن حرب دينية إسلامية على السنية والسنيين.
والشاه إسماعيل ينتمي إلى بيت تصوف ودين، وأصبح إماميا شيعيا، واستخدم السيف في نشر مذهب الشيعة الإمامية، ولم يستخدمه في إيران فحسب، بل في العراق وفي المناطق الشرقية من الأناضول. ونهض سليم العثماني في وجه هذا التحدي واستخدم هو أيضا السيف في إبادة من اتهمهم بممالأة إسماعيل من رعاياه. ولا عجب فالسلاطين العثمانيون جروا على ما جرى عليه السلاطين السلاجقة قبله من رفع راية أهل السنة في كل مكان، وغزا سليم الأول بلاد فارس على بعد الشقة وصعوبات المواصلات، وهزم الشاه إسماعيل في واقعة تشالديران، ودخل مدينة تبريز قاعدة ملكه، ولكنه اضطر للعودة لبلاده؛ فإن طول خطوط مواصلاته بقواعده وتذمر جنده فرضا عليه الانسحاب. وعاد إسماعيل لعرشه ولسياسته الدينية.
هل معنى ذلك أن الغزو لم يثمر شيئا ما؟ الواقع أنه لم يقض على استقلال فارس، بل بقيت فارس والدولة العثمانية على حال من الجوار السيئ مدة تزيد عن أربعة قرون إلى أيام الانقلابين الكمالي والبهلوي حين ابتدأ عهد جديد من العلاقات العثمانية الإيرانية. لم يقض الغزو على استقلال فارس، ولكنه أضعف نفوذها في العراق وكردستان؛ مما مهد لامتلاك الدولة العثمانية للعراق في عهد سليمان القانوني، وكشف الغزو لسليم عن مسائل خطيرة؛ كشف له أولا عن وجوب تقوية الصفة الإسلامية لدولته، وكشف له ثانيا عن مبلغ ما تعرضت له خطوط مواصلاته إلى فارس من تدخل السلطنة المملوكية، وإن ذلك يحتم عليه أن يكفي نفسه شر التدخل المملوكي إما بمحالفة عثمانية مملوكية أو بانتزاع الأقطار السورية من المماليك. والمحالفة العثمانية المملوكية وانتزاع الأقطار السورية كلاهما يؤدي إلى زيادة الصفة الإسلامية للدولة العثمانية.
ولم نقف بالضبط على ما جرى ما بين تشالديران وواقعة مرج دابق في 1516. كان هناك نوع من الحرب الباردة على ما عرفتها تلك الأيام، قامت على تبادل رسائل السباب، والظاهر أن سلطان مصر قانصوه الغوري اقتنع بأن سليما يطمع في ملكه، وأن أمراءه متفرقة أهواؤهم، وأن خير سياسة يتبعها هي التأهب للحرب والمراقبة عند حدوده الشمالية، فإن هذه السياسة خليقة من جهة بأن توقف سليما عند حده، وخليقة من جهة أخرى بأن تفتح أعين الأمراء للخطر الذي يتهددهم جميعا فتتحد كلمتم من جديد.
وتحرك السلطانان نحو الحدود، ورابط الغوري عند حلب، واتخذ سليم خطة الهجوم، وهزم الغوري عند مرج دابق، ولم يوقف للغوري على أثر، وتقهقر المماليك نحو مصر، ودخل سليم حلب والمدن السورية الأخرى دون قتال. والظاهر أنه كان يصح أن يكتفي بالأقطار السورية وأن يترك مصر للمماليك على أن يكونوا تحت السيادة العثمانية، ورفض المماليك ذلك، وغزا سليم مصر وقضى على سلطنة المماليك نهائيا ، وورث عنها نفوذها في الحرمين ورعايتها لهما كما ورث عنها ما تدعيه من نفوذ في البحر الأحمر وسواحله. كذلك انتقلت إلى الدولة العثمانية واجبات مصر ومسئولياتها نحو منع ما أخذ البرتغاليون إذ ذاك يحاولونه من قتل الملاحة العربية في البحار العربية بعد أن تمكنوا من الوصول للهند عبر تلك البحار من أفريقيا الجنوبية، وكان الغوري قد جهز في شهوره الأخيرة تجريدات بحرية ضد مشروعاتهم.
ولم يقم سليم في مصر طويلا، بل عاد إلى بلاده بعد تنظيم مبدئي للولايات العربية التي آلت إليه على النحو الذي وصفناه، وينسبون إليه أنه نقل إلى القسطنطينية عددا كبيرا من مهرة الصناع ومن نفائس الآثار، وأنه اقتاد إلى بلاده العباسي المتلقب بلقب الخلافة ثم عاد هذا الرجل إلى مصر بعد سنوات في المنفى وتلاشى أمره، وما بأيدينا من الكتب المعاصرة لا يذكر شيئا عن نزول العباسي لسليم عن الخلافة، كما أن السلطان سليما في الوثائق الرسمية التي صدرت عنه لا يلقب نفسه بذلك اللقب. ومما لا شك فيه أن أكثر من أمير مسلم تلقب بذلك اللقب في ذلك العهد، كما أن أكثر من فقيه إذ ذاك اعتبر أن الخلافة على وجهها الشرعي قد انقرضت من زمان.
وعلى كال حال فالسلطنة العثمانية تمثل نظاما مستقلا لا يحتاج إلى إقامة أو تفويض من سلطة أعلى منها، واهتمام السلاطين بالتلقب بلقب خلفاء يرجع إلى أواخر القرن الثامن عشر، وربما كان لكتابات الأوروبيين إذ ذاك عن الخلافة الإسلامية - وهي كتابات لا تدل في كل الأحوال على فهم صحيح لحقائق التاريخ الإسلامي - أثر في اهتمام السلاطين العثمانيين بالتلقب بلقب الخلفاء.
على هذا النحو كان خضوع أكثر العرب للحكم العثماني، ولا بأس بأن نورد إيجازا تتمة القصة.
فأما العراق فقد بدأ خضوعه في أيام سليمان القانوني، وأما سواحل اليمن فقد بدأ اتصال العثمانيين بها في أيامه أيضا، وكذلك بدأ في أيامه إنشاء النيابات العثمانية على سواحل المغرب غربي مصر في طرابلس الغرب وفي تونس وفي الجزائر. أما المغرب الأقصى فلم يمتد حكم العثمانيين إليه.
وبعد؛ فأين كانت الشعوب العربية والغير العربية من هذه القصة ؟ والوصف «دول» و«دول» ماذا كان يفيد؟ وهل كان الذي جرى إذ ذاك من شأن أصحاب الدول فحسب؟
أما الدولة فكانت كلمة يستخدمونها إذ ذاك بمعناها اللغوي - بما يقابل الصولة أو ما إلى ذلك - ولا تؤدي إذ ذاك إلى ما اصطلحنا عليه الآن من كونها تعبر عن وظيفة الحكم في حياة المجتمع. ولما كانوا يعدون وظيفة الحكم شيئا ثانويا في حياة المجتمع فقد اعتادوا أن يتركوا أمره لعوامل القهر والتغلب والتنافس، وهذا بشرطين؛ أولا: ألا يجري على خطط تناقض الشرع وتجافي العدالة على نحو جريء صريح مستمر. أما الشرط الآخر فأن يكون لديه القوة الكافية التي تكفل بقاءه، فإذا ما عجز انتقل الخضوع لمن تغلب عليه.
وهذا ما يفسر خضوع الأقطار المصرية السورية لنظام عجيب كنظام سلطنة المماليك، وهذا ما يفسر أن الانتقال من الخضوع للمماليك إلى الخضوع للعثمانيين لم يثر استعجابا أو استنكارا. فكان الانتقال من دولة إلى أخرى، والدولة هي ذلك الشيء الخارجي السطحي الذي شرحناه، وينطبق هذا على سلطنة المماليك بصفة خاصة. أما بالنسبة للسلطنة العثمانية أو الفارسية فلم يخل الأمر من شعور الرعية التركية أو الرعية الفارسية برابطة خاصة تربطها بالدولة العثمانية أو بالدولة الفارسية.
وسننتقل فيما يلي إلى ما حدث للعرب في هذا الطور الجديد من تاريخهم.
الموضوع الثاني
دراسات في أنظمة الحكم في الأقطار العربية في العهد العثماني قبل عصر التنظيمات (1) تحديدات (1)
بالنسبة للأقطار السورية والعراقية، حيث بقي الحكم العثماني المباشر إلى أن زال تماما خلال الحرب العالمية الأولى، ينقسم العهد العثماني من حيث أنظمة الحكم إلى مدتين: إحداهما تسبق التنظيمات أو التجديد الذي ابتدأ في أيام السلطان محمود الثاني، والأخرى تبتدئ بها. (2)
وبالنسبة لمصر فالتقسيم يكون إلى مدتين: إحداهما تسبق ولاية محمد علي في العقد الأول من القرن التاسع عشر، وهي مدة الحكم العثماني المباشر، والثانية مدة حكم محمد علي وخلفائه. وفي هذه المدة كانت مصر تحت السيادة العثمانية وجرى خلالها الخديويون على خطط من التجديد تماثل خطط التنظيمات في الولايات الخاضعة للحكم العثماني المباشر. (3)
وبالنسبة للبنان فالتقسيم يكون بين عهد البيتين المعني والشهابي وعهد المتصرفية حوالي سنة 1860. (4)
وبالنسبة للنيابات المغربية فالتقسيم يكون فيما يتعلق بطرابلس الغرب إلى ثلاث مدد: أولاها إلى استئثار البيت القرامانلي بالحكم في أوائل القرن الثامن عشر، وثانيتها مدة القرامانلية أنفسهم، وثالثتها تبتدئ عندما تمكنت الدولة من إزالة القرامانلية وإعادة الحكم المباشر، وكان حكما يجمع بين خصائص التنظيمات ومميزات خاصة به نشأت عما كان للسنوسية في تلك الأقطار من مركز خاص.
وفيما يتعلق بتونس يكون التقسيم حتى عهد الحماية الفرنسية في عام 1881 إلى مدتين؛ أولاهما تسبق استئثار البيت الحسيني بالحكم في أوائل القرن الثامن عشر، وثانيتهما مدة الحسينيين أنفسهم، وكانت لهم خطط في التجديد خلال القرن التاسع عشر تماثل التنظيمات وتماثل التجديد في مصر.
وفيما يتعلق بالجزائر مدة واحدة تبتدئ ببسط السيادة العثمانية وتنتهي ببدء الاستعمار الفرنسي في 1830. (5)
والمغرب الأقصى سنفرد له فصلا خاصا، فهو كما عرفنا لم يخضع للسيادة العثمانية يوما من الأيام. (6)
والجزيرة العربية سنفرد لها أيضا فصلا خاصا، فقد كانت لها أوضاع خاصة بها، ويصدق هذا حتى على أقطار الجزيرة التي خضعت للسيادة العثمانية في وقت من الأوقات.
ولا يتسع المقام هنا لدرس أنظمة الحكم في مختلف الأقطار وفي مختلف المدد دراسة تفصيلية، ولكننا سنختار نماذج وأمثلة توضح الاتجاهات العامة أكثر مما توضح التفصيلات.
وقبل أن نفعل ذلك نفحص مسألة عامة مهمة هي: (2) تحديد التغيير الذي أصاب الأقطار العربية بسبب خضوعها للحكم العثماني
والمسألة مهمة؛ فقد اعتاد الناس أن ينسبوا كل شر أصاب العرب لذلك الخضوع.
والواقع أنه بالنسبة لمصر وسورية لا نجد أن التغيير الذي أصاب تلك الأقطار نتيجة للفتح العثماني مس شيئا أساسيا من مقومات المجتمع، فبقيت عناصره كما كانت: فلاحوه وبدوه وصناعه وتجاره وعلماؤه وأجناده وأصحاب المناصب. وما بين تلك العناصر من علاقات بقي كما كان. ونظم حيازة الأرض ونظم الجباية هي هي، والواقع الذي يحدث كل يوم هو هو ، والمثل الأعلى هو هو.
حقيقة إن مصر وسورية فقدتا في العهد العثماني ما كانتا تحصلان عليه من مكوس التجارة بين أوروبا وآسيا بسبب استخدام الطرق الملاحية البحرية، ولم يكن الخضوع للحكم العثماني مسئولا عن هذا، فقد بدأ تحول التجارة قبله. ولا نعتقد أن السلطنة المملوكية لو استمرت لاستطاعت أن تطرد البرتغاليين وغيرهم من الأوروبيين من البحار العربية. والغوري قبل اشتباكه بالسلطنة العثمانية أرسل تجريدات بحرية نحو سواحل الهند ثبت عجزها عن قهر البرتغاليين.
ومقابل فقدان المكوس ما غنمته الطوائف المنتجة بسبب زوال السلطنة المملوكية وما صحبها من إسراف شديد ترتب على ما كانت تضطر لإنفاقه لاسترضاء الأمراء الخارجين وعلى حروبها وعلى عماراتها وفخفختها.
إن أسوأ ما كان في الانتقال من دولة المماليك لدولة العثمانيين ينحصر في أنه في ظل الأولى كان يحدث من وقت لآخر أن يتولى السلطنة رجل قوي الشخصية، يكبح عناصر الاضطراب والشغب ويضع كل إنسان عند حده بينما في ظل الثانية رتبت أدوات الحكم على منع ظهور حاكم من هذا النوع. وكان رجاء واضعي النظام العثماني أن التوازن الذي أنشئوه بين مختلف أدوات الحكم ينبغي له أن يؤدي إلى منع التعدي وحفظ الحقوق، ولم يحدث شيء من ذلك.
وبناء على هذا فلا نرى فرقا جوهريا يعتد به بين طبيعة الحكم العثماني وطبيعة الحكم المملوكي، ولا نرى دليلا على ما زعموه من أن الأول يقتضي الجمود ويجافي التطور، بينما الثاني لم يقتض ذلك، ولا نرى وجها لما زعموه أيضا من أن الأول أدى إلى مقاطعة حركات التغيير المعاصرة بينما الثاني لم يقاطعها في زمانه.
ولبنان كانت علاقات أمرائه الدروز والنصارى بالدولة صاحبة السيادة وممثليها في الحواضر السورية واحدة أيام العثمانيين وأيام المماليك.
والنفوذ العثماني في الحرمين وفي جدة وفي السواحل اليمنية والأفريقية لا يختلف في طبيعته جوهريا عن النفوذ المملوكي في تلك الأقاليم.
وأعتقد أن الجديد الذي نتج عن الفتح العثماني نشاهده في النيابات المغربية العثمانية، فإن تلك النيابات في جمعها بين عناصر القوة البحرية وعناصر القوة البرية ، وفي طبيعة علاقاتها بالأقاليم الداخلية وأهليها، كانت تطورا جديدا في تاريخ المغرب.
أما المغرب الأقصى فقد تأثرت السياسة الخارجية لحكومته بمجاورته للنيابات العثمانية وبمحاولة الحكومة العثمانية ونيابة الجزائر التدخل في شئونه الداخلية في أكثر من مناسبة. أما تطور المغرب الداخلي فباستثناء اتخاذ بعض الألقاب التركية ومحاكاة بعض الأنظمة العسكرية العثمانية فكان تأثره بالحضارة العثمانية قليلا نسبيا.
ومما يستحق الذكر فيما نحن بصدد بحثه أن خضوع أكثر العرب للحكم العثماني لم يؤد إلى قيام علاقات ثقافية أو اقتصادية بين مختلف أقطارهم أكثر توثيقا مما كان الحال قبل ذلك الخضوع.
وأخيرا نشير إلى أن اللغة التركية أصبحت لغة التحرير لبعض أنواع المراسلات، ولكنها لم تنتشر بين العرب إطلاقا؛ هذا قبل عصر التنظيمات. أما بعد ذلك العصر فالحال يختلف عن ذي قبل اختلافا تاما، ولا يصعب تفسير ذلك، فقبل عصر التنظيمات والتجديد عمل الحكومة محدود جدا، ويمكن لأغلب المحكومين أن يستغنوا تماما عن تعلم التركية وعن استخدامها. أما ابتداء من عصر التنظيمات فقد اتسع نطاق العمل الحكومي وأصبح يمس حياة الفرد العادي في كل شيء، وأصبح لها نظام تعليمي رسمي يقوم على تدريس التركية، فانتشرت التركية بين العرب خلال القرن التاسع عشر على نحو لم يشهده في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر بالمرة. (3) مبادئ الحكم العثماني في الولايات العربية قبل عصر التنظيمات
يظن بعض الناس أن ما شاب العصر العثماني من الاضطراب الشديد ومن عسف الأقوياء وضياع الحقوق يرجع إلى عدم الاهتمام بتحديد الحقوق والواجبات وبضبط الدفاتر والسجلات وبتنظيم الإجراءات وبتقييد تصرفات الأشخاص بشتى القيود. والواقع أن الإدارة العثمانية اهتمت كل الاهتمام بوضع نظام مفصل لكل شيء، كما أنها اهتمت بالدفاتر والسجلات اهتماما كبيرا، كما حتمت أن يكون النظر في بعض الشئون من حق دواوين أو هيئات تجتمع في مجالس تعقد دوريا ولا يترك النظر فيها للأشخاص مهما كانوا.
ولكن الذي يؤسف له أن احترام الأنظمة كان شكليا أكثر منه حقيقيا، فمثلا بقيت في مصر إلى أيام محمد علي حامية عثمانية مسجلة في أوراق ومرتبة لها مرتبات، ولكن كانت في نفس الوقت القوة الحقيقية تتألف من المماليك الذين يملكهم أمراء أصلهم من المماليك أيضا، وأمراؤهم هم الذين يتولون شراءهم وإعدادهم والإنفاق عليهم. وهؤلاء هم الذين قابلوا الجيش الفرنسي عندما غزا مصر في 1798 لا الحامية العثمانية الرسمية. وقس على ذلك.
ويمثل السلطان في الولاية باشا، والباشوات يتدرجون صعودا من مرتبة إلى أعلى منها، ويرمز لرتبتهم بعدد أذناب الخيل التي يثبتونها على على الرماح في مواكبهم. والولايات تختلف أهمية، وهي في الغالب حاضرة وما يتبعها، كدمشق أو حلب أو طرابلس الشام ... إلخ. ونلاحظ أن الدولة العثمانية حافظت على تقسيم المماليك لسورية إلى عدد من الباشوات. أما مصر فقد حافظت الدولة على وحدتها وجعلتها باشوية واحدة.
والسلطان هو الذي يعين الباشوات، إما من رجال حكومته في القسطنطينية أو نقلا من ولاية إلى ولاية. ولكن كان يحدث أنه يعين رجالا محليين قد وضعوا أيديهم على مناصب الباشوية ولم تستطع حكومة السلطان عندما انتابها الضعف أن تزحزحهم عنها (من أمثلة ذلك: النيابات المغربية - بيت العظم في دمشق - الباشوات من المماليك في بغداد ... إلخ)، ولكن مصر لم يحدث فيها شيء من ذلك، فكان باشواتها يقدمون من القسطنطينية إلى أيام محمد علي.
وجرت العادة أن يعين السلطان رأسا أيضا بعض كبار أصحاب المناصب، وهم قاضي الولاية ودفتردارها (المسئول عن الإدارة المالية) وقواد أو قباطين الثغور المهمة.
والقاعدة عند الدولة أن يعين صاحب المنصب لمدة سنة واحدة قابلة للتجديد، وفي العادة لا تتجدد كثيرا. ويرجع ذلك لسببين: أولا لأن صاحب المنصب يؤدي مالا أو رسما نظير الحصول على المنصب ونظير تمتعه به، وثانيا لأن حكومة السلطنة تخشى أن يتمكن صاحب المنصب من تثبيت قدمه فيفعل ما يشاء.
وقد نظمت الدولة جباية الولايات بشكل دقيق، كما نظمت مصروفاتها بدقة أيضا. وكان المفروض أن ترسل للسلطنة أو لجهات خيرية تقررها السلطنة (كالحرمين مثلا) مخصصات عينية ونقدية، ثم ما زاد من مجموع الدخل على مجموع المصروف كان يجب أن يرسل لخزانة السلطان ، ومقداره يختلف من سنة لأخرى.
وعلى رأس مصروفات الولاية نفقات الحامية العسكرية، وكانت تتألف في مصر من فرق تدعى الواحدة منها باسم أوجاق أو وجاق. ومن أشهر الأوجاقات أوجاق البنشرية أو الانكشارية، ويعرفون في مصر أيضا باسم مستحفظان.
وأوجاقات الحامية تقوم بوظائف مختلفة لا علاقة لها بالحرب أو بالدفاع، وأغاواتها أو ضباطها يعهد إليهم بوظائف مهمة، كإمارة الحج أو توصيل خزانة الدولة إلى العاصمة أو حكمدارية القاهرة وما إلى ذلك.
ومن هؤلاء الضباط، ومن قاضي مصر وكبار علمائها وأعيانها، تتألف الدواوين التي تشارك الباشا في تصريف الأمور المهمة. وفي مصر أصبحت مناصب الأوجات يستأثر بها أمراء مماليك محليون قدموا البلاد أحداثا ونشئوا فيها، وعملوا على أن تكون لهم قوات من مماليك يقتنونهم بمالهم، كما أنهم أيضا أخذوا يستأثرون بمناصب الإدارة في أقاليم مصر؛ أي وظائف الكشاف والصناجق.
والشئون الحكومية الأساسية أربعة: حفظ الأمن، والذود عن البلاد، وجباية الأموال العامة، والقضاء. والحكومة تترك ما عدا ذلك للجماعات والطوائف والأفراد تديره طبقا لعرفها وتقاليدها. وسنورد شيئا عن هذا فيما يلي:
وصفنا جهاز حفظ الأمن والحرب.
أما الجباية فلها إدارة عليا: هي الروزنامة، وأهم الأموال العامة الأموال المفروضة على الأرض الزراعية، والرسوم الجمركية، وعدد لا يحصى من الرسوم المتنوعة على أرباب الصناعات.
والطريقة الشائعة في جمع الأموال العامة كانت الالتزام؛ وهو أن يلتزم شخص بأداء حق الحكومة جملة، ويتولى هو تحصيله متفرقا؛ كأن يلتزم إنسان مثلا بجمرك الإسكندرية فيؤدي للحكومة مبلغا من المال هو متفق عليه لما ينتظر تحصيله على السلع المصدرة والمستوردة، ويحصل هو لحسابه ما يستطيع تحصيله. والمفروض أن الالتزامات المختلفة تعطى بناء على مزايدات. وأهم الالتزامات التزام الأموال الأميرية على الأطيان؛ فإن الملتزمين في هذه الحالة كانوا مزارعين ومشرفين على عمل الفلاحين في الزراعة.
والقضاء بالنسبة للمعاملات المدنية في يد القاضي ونوابه. والمفروض أنه يجري طبقا لأحكام الشريعة أو على الأقل طبقا لقواعد لا تخالفها. أما فيما عدا المعاملات المدنية - أي في المواد الجنائية - فيجريه رجال الإدارة طبقا لأهوائهم، وكانوا عادة يقصدون إلى الإرهاب وبعث الرعب أكثر مما يهدفون إلى معرفة الحقيقة.
وقد انتظم أصحاب الصناعات المختلفة في طوائف، والطائفة - على خلاف نقابة العمال الآن - تضم مختلف المشتغلين بالمهنة، من صبيان يتعلمونها وصناع بالأجر ومعلمين أو رؤساء. والطائفة تسيطر على الصناعة سيطرة تامة، ولا يباح لأحد أن يحترف صناعة إلا إذا تعلمها على يد معلم وشهد له هذا بإتقانها. والتجار أيضا تنظمهم طوائف بحسب بلادهم - ففي القاهرة مثلا الشوام والمغاربة والترك - أو بحسب نوع التجارة التي يمارسون كالعطارة ... إلخ.
والتعليم حر (ومعنى حر أنه لا تتولاه سلطة حكومية، ولكنه يسير طبقا لنظام موروث مفصل، لا يحيد عنه المعلم والمتعلم، فهو ليس بالحر)، وهو بالمجان، ويعان الطالب بأنواع شتى من الإعانات. ونفقات التعليم ومرتبات المعلمين تدبر مما يحبسه أهل الخير من جميع الطبقات على معاهد التعليم. ولم تخل مدينة من المدن العربية الكبرى من معاهد التعليم، ولم ينقطع ارتحال الطلاب من مدينة لأخرى لطلب العلم، ولم ألاحظ اتصالا بين المعاهد العربية والمعاهد التركية اللهم إلا ما كان بين العلماء السوريين والمعاهد التركية وسلك القضاء العثماني.
والحياة الدينية في البلاد العربية تنظمها الطوائف الصوفية أو أصحاب السجاجيد. وقد بلغ من شأنها أنها كان لها محلها في الحياة الحكومية الرسمية.
ومما تختلف فيه أنظمة ذلك العهد عن أنظمة عصرنا أن الموظف كان لا يتقاضى - كما هو الحال الآن - مرتبا محدودا، بل كان مرتبه يتكون من عناصر مختلفة، منها عوائد عينية أو نقدية على جهات شتى، ومنها رسوم يحصلها ممن يقضي لهم عملا رسميا؛ فيقضي الموظف وقتا لا بأس به في تحصيل استحقاقاته المختلفة وإلا ضاعت عليه، كما يحاول - وهذا ممكن تصوره - أن يحصل من أصحاب المصالح أكثر من الرسم المستحق له، وفي الوقت نفسه على الموظف إذ ذاك أن يؤدي عوائد لجهات معينة نظير تعيينه في عمله أو بقائه فيه، وغني عن البيان أن أخذ الحكومات في الوقت الحاضر بنظام المرتب المحدد للموظف لم يمح تماما النظرة القديمة للوظائف والموظفين.
وعلينا أن نتم استعراضنا لأنظمة الحكم بالتكلم إيجازا عن نظام الملل ونظام امتيازات الأجانب، والنظامان إسلاميان ، ويطبقان على فئتين من غير المسلمين؛ فالفئة الأولى فئة أهل الذمة من الرعايا الغير المسلمين، والفئة الثانية فئة المستأمنين أو الأجانب الغير المسلمين الذين يقيمون في ولايات السلطان لأغراض التجارة وما إلى ذلك. أما الأجنبي المسلم فهو ليس بأجنبي، فالمغربي أو الفارسي أو الهندي المسلمون في ولايات السلطان حكمهم حكم رعاياه المسلمين سواء بسواء.
ونظام الملل في الدولة العثمانية يقوم على تنظيم رعايا السلطان الغير المسلمين في طوائف بحسب مذاهبهم الدينية؛ فملة الروم تنتظم رعايا السلطان التابعين للكنيسة الأرثوذكسية، ويصح أن يكونوا يونانا أو عربا سوريين أو بلغاريين ... إلخ. وأعضاء الملة يقضي بينهم فيما يرجعون فيه إلى شرائعهم رؤساؤهم الروحانيون، ولهؤلاء التحدث عموما عن أبناء ملتهم لدى السلطات العثمانية.
أما نظام الامتيازات فهو أقدم من الدولة العثمانية، وتجده في دول أخرى معاصرة لدولتهم، في الصين واليابان وفارس والمغرب الأقصى مثلا.
ونظام معاملة الأجانب في الولايات العثمانية أحد قسمين تألف منهما تنظيم العلاقات التجارية بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية. أما القسم الآخر فهو ما سنته الدول الأوروبية من قوانين ولوائح لذلك الغرض. والقاعدة الأساسية فيه كانت احتكار الحكومات لتجارة الشرق
LEVANT
أو التجارة التركية كما وصفوها، والعهد بذلك الاحتكار لشركات كما في حالة إنجلترة، أو لغرفة تجارة مرسيليا كما في حالة فرنسا. وعلى أساس الاحتكار قيد السفر لأراضي السلطان والإقامة فيها تقييدا شديدا، ووضع التجار وضعا تاما تحت سلطان قناصلهم. وقد ظلت هذه القيود قائمة بالنسبة للفرنسيين حتى عهد الثورة الفرنسية حين ألغيت غرف التجارة، وبالنسبة للإنجليز حتى عام 1825 حينما ألغيت شركة الليفانت.
هذا قسم من القسمين ... أما القسم الآخر فقد وردت نصوصه في معاهدات عقدت بين الدولة العثمانية والدول الأجنبية، وأساسها معاهدة سنة 1535 المشهورة بين فرنسا والدولة. وأهم تلك النصوص إباحة الإقامة لأغراض التجارة في الثغور والمدن التي تعينها الدولة، وأن يكون للجالية الأجنبية فندقها وكنيستها ومخبزها ومدفنها، وأن يخضع أعضاؤها في معاملاتهم فيما بينهم لقضاء قناصلهم، وألا يدفعوا إلا الرسوم الجمركية على ما يستوردون ويصدرون وهكذا، ولا يتعرض عمال السلطان لتركات من يموت منهم، ولا يقتحمون فندقهم، وهكذا.
والواقع أنه حتى عهد محمد علي في مصر والسلطان محمود في أراضي الدولة كان الأولى أن تسمى «الامتيازات» شروط تنظيم إقامة الأجانب، ولم تصبح هذه امتيازات حقا إلا عندما تغيرت ظروف إقامة الأجانب في البلاد العثمانية في القرن التاسع عشر، حينما أصبحوا يعدون بالآلاف وحينما أصبحوا يقيمون أينما يشاءون، وحينما أصبحوا يباشرون ما شاءوا من الأعمال؛ عندئذ أصبحت الامتيازات امتيازات حقا للأجانب ونقمة على أبناء البلاد. وقد عجزت الحكومات الغير الأوروبية عن أن ترفع الحيف عن رعاياها؛ فقد كان العهد حتى الحرب العالمية الأولى عهد تفوق القوة الأوروبية.
ولا يتسع المقام لرسم صورة أتم لأنظمة الحكم في العصر السابق للتنظيمات. وننتقل لوصف تطورها وأحوال الأهلين في ظلها إلى آخر القرن الثامن عشر. (4) تطور الأنظمة في الولايات العربية من القرن السادس عشر لآخر القرن الثامن عشر وأحوال الأهلين
لا نستطيع أن نتتبع سير الأحداث، ولكن يمكننا أن نجمل في كلمة واحدة وصف ذلك السير؛ هي أن الذي حدث كان تدهور السلطان الشرعي، فابتدأ غصب حقوق الحكومة وحقوق الطوائف وحقوق الأفراد، وكان الغضب على يد أصحاب العصابات من المماليك أو من المرتزقة ... إلخ، أو على يد العشائر والقبائل. وقد استخدم أصحاب العصابات وأصحاب العصبيات ما في أيديهم من قوة للنهب والاعتداء.
كيف حدث هذا التدهور؟ يرجع في أصله للأنظمة في ذاتها، ثم زاده شدة عجز الدولة العثمانية عن كبح جماح عوامل الفوضى والاضطراب. أما رجوعه في الأصل للأنظمة فظاهر كما قدمنا. إن الأنظمة قامت في الأصل على أساس اشتراك الهيئات والسلطات وتوازنها، فهي إذن سمحت للعناصر المختلفة بقدر من الاستقلال والتصرف صلح أساسا فيما بعد للعمل الخاص، ثم ضعفت الدولة العثمانية في المركز ولم تستطع أن تخضع الغاصبين لسلطانها للقانون والأنظمة، فكانت لا تستطيع أكثر من بث بذور التفرقة بينهم وإثارة أحدهم ضد الآخر فيسقط غاصب ويعلو آخر ثم يثور آخر ضده فيسقطه وهكذا.
وقد بلغت هذه الحالة أسوأها خلال القرن الثامن عشر، وشقيت بها طوائف التجار من أجانب ومن أبناء البلاد وطوائف أهل الصناعات، إلا أن أشقاهم كان الفلاحين؛ فإن التجار والصناع كانوا يملكون من الوسائل ما يدفعون به عن أنفسهم بعض الشر؛ فالتجار كانوا يستطيعون بشيء من البذل أن ينقذوا لأنفسهم شيئا، والصناع كانوا يملكون بأدوات التجمهر في المدن دفع الظلم. أما الفلاحون فلم يستطيعوا كثيرا، فهم لا يملكون الاتحاد والعمل المشترك، وليس لهم عدو واحد، فقد يكون صاحب عصابة من الجند، وقد يكون عدوهم عشيرة تزحف عليهم وتتطفل عليهم إلى أن تميتهم.
وحتى القرن الثامن عشر لم ينته تطور الحوادث في البلاد العربية عند نتيجة، فالعجلة - إن صح التشبيه - تدور ولا تقف عند شيء، كان يصح مثلا أن يستولي على أزمة الحكم مغامر أو غاصب من نوع علي بك الكبير في مصر، وأن يقيم حكما مستقلا يتخذ لنفسه أساسا قوميا، ولكن لم يحدث شيء من ذلك، وكان يصح مثلا أن تتمكن الدولة من أن تعيد للحكومة الشرعية سلطانها، ولكن الدولة حتى آخر القرن الثامن عشر لم تستطع إلا أن تسقط غاصبا أو مغامرا بالذات لا أن تستأصل الغصب، وكان يصح أن يظهر من أبناء البلاد زعيم يطالب برفع الظلم عن بني قومه، وأن ينادي بأن أكثر الظلم واقع على العرب، وأن الظالمين في أكثر الأحوال من الغرباء، ولكن الذين تحدثوا ضد الظلم لم يتحدثوا عنه على هذا الأساس إنما تحدثوا عما يجب للمحكوم من الحاكم.
وكان الذي حدث آخر القرن الثامن عشر شيء لم يكن أحد يتوقعه - هو الغزو الأوروبي - وقد قطع هذا الغزو دورات العجلة فانفتح المجال لتطورات ... فلننتقل إلى ذلك الغزو.
الموضوع الثالث
الغزو الأوروبي: الحملة الفرنسية على مصر وسوريا 1798-1801
يتصل مشروع الفرنسيين امتلاك مصر وسورية عند آخر القرن الثامن عشر بأكثر من أصل؛ يتصل بالحرب بين فرنسا وأعدائها في عهد الثورة الفرنسية، وبالتنافس الاستعماري القديم بين فرنسا وبريطانيا، وبالرغبة في بناء إمبراطورية فرنسية جديدة في حوض البحر المتوسط؛ أي بجعل سواحل ذلك البحر المجال الحيوي لاستعمار فرنسي من نوع جديد مؤسس على مبادئ الثورة الفرنسية والانقلاب الصناعي الجديد، كما يتصل أخيرا بالتاريخ الداخلي للثورة الفرنسية وتطورها نحو القيصرية - كما تطورت الجمهورية الرومانية نحو القيصرية - والذي يلفت النظر أن مصر اتصلت بالفصول الأخيرة من زوال الجمهورية الرومانية وزوال الجمهورية الفرنسية.
واحتلال الفرنسيين مصر وإن كانت مدته قصيرة يستحق العناية لأكثر من سبب يهم الذي يدرس الحروب؛ فهو يوضح مثلا أهمية المواصلات البحرية للفتوح عبر البحار؛ فالواقع أنه بعد أن حطم نلسون الأسطول الفرنسي في خليج أبي قير كان إخفاق الفرنسيين في المحافظة على مصر أمرا محققا طال أو قصر احتلالهم لها. ويهم المتتبع لظهور مسألة مستقبل مصر في السياسة الأوروبية ولتاريخ العلاقات بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية عموما وللعلاقات بين العرب وأوروبا خصوصا.
لقد سبق الحملة الفرنسية علاقات بين الدول الأوروبية والإمارات والشياخات على سواحل الجزيرة العربية وأفريقية الشرقية. على أن العلاقات مست العروبة على الهامش - إن صح التعبير - ولم تمس القلب. ولقد سبق الحملة الفرنسية بدء سيطرة الدول الاستعمارية الكبرى، الروسيا وهولاندة وبريطانيا وفرنسا على دول وإمارات إسلامية في أواسط آسيا وجزائر الهند الشرقية والهند. ولكن هذه السيطرة لم تمس أيضا قلب العروبة، ولقد سبق الحملة الفرنسية إنشاء علاقات بين فرنسا والروسيا وبعض الطوائف المسيحية من رعايا السلطان، ولكن هذه العلاقات كانت أقرب إلى تكوين ما عرف في زماننا باسم «الطابور الخامس» منها إلى تكوين ملك فرنسي دائم فيما وراء البحار وفي الأقطار العربية، ويحكم طبقا لمبادئ وتحقيقا لأهداف ستكون ذات أثر في تحديد سياسة فرنسا في المستقبل نحو العرب والإسلام في المغرب.
هذا كله من الناحية العربية العامة. أما من الناحية المصرية الخاصة، فالحملة الفرنسية حركت تطورات وتغيرات على درجة كبيرة من الخطورة أثبتت إفلاس النظم القائمة، وحطمت قوة المماليك، وأتاحت للسلطنة فرصة استرداد سلطانها الشرعي، وأثبتت السلطنة عجزها عن أن تفعل، وأطلعت الناس على ألوان من الحضارة الغربية قدروها أو أنكروها، ولكنهم في الحالتين لا يستطيعون إغفالها أو الإعراض عنها، وفوق هذا كله أثبت الاحتلال الفرنسي ما ستعيد الاحتلالات الأجنبية إثباته في مصر وفي غير مصر، وهو أنه لا يستطيع تقديم الأساس الصالح للتقدم أو التعاون المثمر بين مختلف المجتمعات.
والاحتلال الفرنسي يثير مسائل كثيرة جديرة بالاعتبار منها: لم اضطر الفرنسيون للانسحاب من مصر، ولم بقوا في الجزائر على الرغم من أن الجزائريين كافحوا كفاحا مريرا في الدفاع عن وطنهم؟ ظاهر أن الدولة العثمانية في سنة 1830 لم تبذل شيئا في سبيل الجزائر، ولكنها بذلت في سنة 1798 شيئا كثيرا في سبيل الاحتفاظ بمصر. وظاهر أن الاحتلال الفرنسي للجزائر لم يجد المقاومة المسلحة من جانب الدول الأوروبية التي وجدها احتلالهم لمصر في سنة 1798 من جانب البريطانيين والروس، ومنها: في 1798 ابتداء الربط في نظر السياسة البريطانية بين مصر والهند.
وينسى الكثيرون أن سفنا حربية بريطانية دخلت البحر الأحمر من البحار العربية، وأنها احتلت جزيرة بريم ميون عند مضيق باب المندب، وأن تجريدة عسكرية من الجيش البريطاني الهندي قدمت من الهند للاشتراك في إجلاء الفرنسيين عن مصر، وأنها نزلت في القصير وانحدرت نحو القاهرة في النيل، ووصلت التجريدة بعد أن كانت العمليات الحربية قد انتهت.
ومن المسائل التي يثيرها دراسة الاحتلال الفرنسي ما زعمه الشيخ محمد عبده في مقاله المشهور ضد محمد علي، من أن أهل مصر قاوموا الاحتلال الفرنسي في 1798 مقاومة رائعة بينما كانت مقاومتهم في 1882 للاحتلال البريطاني ضعيفة، ثم قرر أن الضعف الذي أبدوه في 1882 يرجع إلى تحطيم محمد علي لحيوية الأهلين، هذا ما ذهب إليه الأستاذ الإمام، بيد أن من يريد أن يتبين وجه الحق في هذه المسألة عليه أن لا يخوض فيها بهذه البساطة، بل ينبغي عليه أن يتبين طبيعة المقاومتين وطبيعة الاحتلالين قبل أن يذهب إلى أن حيوية الأهلين تحطمت خلال القرن التاسع عشر. والمتأمل المنصف في 1798 و1882 لا يسعه إلا أن يرى في 1798 خلايا أمة، وأن هذه الخلايا أخذت أثناء القرن التاسع عشر تتجمع في بناء أمة واحدة. (1) الدعوة العربية في سياسات الجنرال بونابرت
قامت خطة الجنرال بونابرت على التمييز بين عرب وعثمانلية ومماليك. والعرب في نظره وفي نظر من كتب في سكان مصر من علماء الحملة الفرنسية هم أهل مصر عموما في الريف وفي الحضر، ولم يقصروا الاستعمال على عرب البادية كما جرت عادة الناس حتى ذلك الوقت. وقال بونابرت وكتاب الحملة إنه بالإضافة إلى العرب - وقد قلنا إنهم عامة الأهلين - يوجد القبط، ونسبوهم وحدهم إلى المصريين القدماء، كما توجد جاليات من السوريين الدماشقة والحلبيين وما إلى ذلك، ومن المغاربة والأروام واليهود ... إلخ.
أما العثمانلية فهم الترك ومن يلحق بهم من جراكسة وغير ذلك من رجال الأوجاقات والتجارة والمناصب والمتصوفة وطلاب العلم المستقرين في مصر من زمن قديم أو حديث.
وأما كلمة «مملوك» فلم يطلقوها باستعمالها اللغوي، بل قصروها على المماليك الذين تكونت منهم القوات الخاصة التي تتبع البكوات أو الأمراء الذين كانوا قد استولوا على أزمة الحكم في البلاد قبل قدوم الفرنسيين.
وعلى هذا الأساس كانت خطة بونابرت أن يجعل من المماليك وحدهم عدوه وعدو السلطان وممثليه في مصر وعدو أهل العرب؛ العدو الذي غصب حقوق السلطان، وسلب النزلاء الفرنسيين أموالهم، واستأثر بخيرات البلاد دون أهلها وكان على يديه خراب ذلك الإقليم الحسن الأحسن، كما سماه في منشوره المشهور، وقد أعلن أنه قدم إلى مصر ليقتص من المماليك الظالمين.
وفي كتاباته وكتابات معاصريه يرد الحديث كثيرا عما كان للعرب من مآثر وعما سيكون لهم من ارتقاء بعد أن يرتفع عنهم حكم أجلاف الترك كما قالوا عنهم.
ولكن أفعال بونابرت وخليفتيه في حكم مصر إلى أن تم الانسحاب منها تثبت أن كلامه إلى أهلها وعن أهلها كان إجراء قصد به أن يستميلهم إلى جانبه أو - على الأقل - أن يقفوا على الحياد حتى يتم له التغلب على المماليك.
وأفعال الفرنسيين فيما بعد عصر الحملة وفي بلاد المغرب وفي سورية ولبنان تثبت أن سياستهم تقوم على أساس سحق العروبة حسيا ومعنويا.
الموضوع الرابع
تكوين الأوطان العربية ونمو الوعي القومي العربي حوالي عام 1800 إلى 1950
نلاحظ أن السادة الباحثين في تاريخ نشأة فكرة القومية العربية يكثر اهتمامهم بما جرى في لبنان وسورية من مطالبة بحقوق العرب المهضومة، وبما كان من إنشاء الجمعيات العربية المختلفة في الأيام التي سبقت الحرب العالمية الأولى، ويقل اهتمام الباحثين نسبيا بنشأة الأوطان العربية المختلفة وبالعوامل التي كونتها، وبأثر الوعي القومي العربي بهذا التكوين.
وما دام الوعي القومي العربي في لبنان وفي سورية فيما قبل الحرب العالمية الأولى لم يتجه عموما إلى انفصال العرب عن الدولة العثمانية، بل اهتم بالإصلاح على أساس قومي عربي فلا أرى قصر دراسة الفكرة القومية العربية عليه دون حركات التحرير والإصلاح في الأوطان العربية الأخرى؛ ولذا فإني أختم هذا المنهاج بالكلام عن الأوطان العربية المختلفة وعوامل تكوينها والوعي القومي العربي بصفته عاملا في ذلك التكوين وبصفته متأثرا بذلك التكوين في وقت واحد.
ويصح أن نضيف سببا آخر لزيادة العناية بتلك الأوطان العربية؛ هو أنها هي التي يتكون منها الواقع العربي الحالي، وهي بأوضاعها الراهنة نطاق حركات التحرير والتآلف والتضامن العربية.
وقد فضلنا تسميتها «الأوطان» على أية تسمية أخرى؛ ذلك لأن الوصف «وطن» يصدق عليها جميعا، الوصف «وطن» أصدق من الوصف «دولة»، ففيها ما ليس كذلك، والوصف «وحدة» ينقص من قيمتها الروحية في نظر أبنائها.
والأوطان العربية عموما أوطان مجيدة التاريخ في كل أدوارها، قبل أن تصبح عربية وبعد أن أصبحت عربية، وفي كل أدوار تاريخها، قبل أن تصبح عربية وبعد أن التأمت بعضها بالبعض الآخر في دول كبرى، واتخذ هذا الالتئام أشكالا شتى تبعا لمقتضيات حسية ودوافع معنوية.
وقد ألممنا إيجازا فيما سبق بشيء من ظروفها في العهد العثماني السابق للقرن التاسع عشر. والآن نحاول أن نلم إيجازا أيضا بشيء من أحوالها في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وخصوصا بتلك العوامل التي ولدت في تلك الأوطان الوعي القومي العربي، وجعلته يؤثر في أول أمره في تطورها تأثيرا محليا، ثم كان أن نما ذلك الوعي واتخذ نطاقا لتأثيره العربي بأجمعه على ما نشاهد الآن. (1) عوامل تكوين الأوطان الرئيسية ابتداء من مطلع القرن التاسع عشر
أول هذه العوامل انتهاء عهد المغامرين من رؤساء العصابات أو أصحاب العصبيات، وإنشاء الحكومات المستتبة في الولايات العربية، من هذه الحكومات ما كانت تقيمه السلطة وتهيمن عليه تماما من العاصمة؛ كحكومات الولايات السورية بعد جلاء القوات المصرية في 1840-1841 وبغداد بعد عزل آخر الباشوات المماليك داود باشا حوالي سنة 1830، وطرابلس الغرب بعد عزل القرامنلية في 1834 وهكذا. ومن الحكومات ما قام في الولايات الممتازة كتونس ومصر، وفي الحالتين لا نرى ولاة من أمثال الجزار، أو باشوات من نوع باشوات مصر وبغداد، أو مغامرين من نوع علي بك الكبير أو ظاهر العمر ... إلخ، يغتصبون حقوق الدولة وحقوق الرعية ويخربون ما بأيديهم من أقاليم، فكان الواحد منهم يعيش ليومه ولا يخطر له أن يعمل لغده.
والحكومة المستتبة في الولاية الخاضعة للعاصمة مباشرة قد يعتورها الفساد وقد يجانبها التوفيق، ولكن فضيلتها أنها مستتبة وأنها لها سياسة ولها خطط، وأن جوهر السياسة يستمر.
وقد أدى هذا إلى أن ولايات الدول العربية تحددت حدودها ومعالمها ورسومها وأنظمتها، وأن ذلك أكسبها كيانا وأكسب ذلك الكيان أهلها وعيا بقوميتهم، واستتباب أمر الحكومة أدى إلى استتباب موقف الأهلين من الحكم ومن الحاكم؛ فجرى تأييدهم للحاكم أو معارضتهم له على أسس مستقرة، واتخذ صفات العمل السياسي المنظم الذي يعرف أدوات الصحافة والجماعات المنظمة والنشر ... إلخ. وشتان بين هذا وبين الفتن الشعبية والتجمهرات التي عرفتها الحواضر العربية قبل القرن التاسع عشر.
وثاني هذه العوامل تأليف القوات المحاربة من أبناء الأهلين، وانتهاء استقدام المماليك من أسواق الرقيق وجماعات المرتزقة من أبناء المناطق الجبلية. وهذا العامل أعده من أهم العوامل في بناء الوعي القومي العربي، وواضح أنه ما دامت أمور الحرب والحكم متروكة للغرباء من مماليك ومرتزقة هان أمر الشعب على حكامه وعلى أنفس أبنائه، ولا غرو فالجيش الوطني أصدق مظهر للوعي القومي.
ويرجع انتهاء استقدام المماليك لسببين: أحدهما داخلي والآخر خارجي؛ فأما الداخلي فكان عدول السلطنة وعدول حكومات الولايات الممتازة عن استقدام المماليك لأسباب: أولها ثبوات عجزهم عن مجاراة النظم العسكرية الحديثة التي أدت إلى تفوق الجيوش الأوروبية على جيوش السلطنة ومماليك مصر، ثانيها ثبوت كونهم مصدر شغب واضطراب ونهب وسلب، ثالثها أن الحكومات لا تستطيع أن تكون قوات كبيرة العدد من المماليك أو المرتزقة لما يتطلبه هذا من نفقات جسيمة. وأخيرا أن الحكومات بعد عهد الإصلاح والتجديد اتخذت المواطنة أساسا لنظمها عموما ولقواتها العسكرية خصوصا.
هذا عن الأسباب الداخلية. أما الأسباب الخارجية فمن الواضح أن محاربة الرق في شتى أشكاله قد أخذت تبرز ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر، وتقوى الحركة إلى أن بطلت النخاسة تقريبا إلا في مناطق محدودة.
وببطلان استقدام المماليك والأرقاء وتكوين القوات المحاربة على أساس وطني، وتكوين الفنيين عن طريق التعليم الحديث توطدت الأسرات واتصلت الأنساب والأجيال ووضحت مدلولات الأمة والقومية، وتميز الوطني المستقر عن الغريب الطارئ، ولا يلبث هذا الغريب إلا أن تتمثله كتلة المواطنين.
وثالث هذه العوامل أنه ابتداء من مستهل القرن التاسع عشر أخذت حركات العشائر والقبائل تقل شيئا فشيئا إلى أن تصبح الحركات الموسمية المحدودة التي تقتضيها حاجات البداوة.
وتتضح أهمية هذا العامل إذا عرفنا أن شرط نمو الوعي القومي الاستقرار، وأنه لا استقرار إذا أطاحت الهجرات وحركات العشائر والقبائل بالسكان، وخصوصا بأهل الزراعة منهم. وقد تعرضت البلاد العربية عموما والعراق وسورية خصوصا في الأزمنة الحديثة لهجرات واسعة النطاق، يذكرون منها حركات شمر وعنزة نحو بادية الشام والعراق في القرنين السابع عشر والثامن عشر، إلا أنه في القرن التاسع عشر أخذت تلك الحركات تقل شيئا فشيئا إلى أن صارت كما قلنا الحركات الموسمية من مرعى إلى مرعى التي تقتضيها حاجات البداوة، وحتى البداوة الصرفة لا شأن لها يعتد به في الحياة العربية المعاصرة. والعشائر أخذت سبيل الاستقرار منتصف القرن التاسع عشر.
وقد نشر باحث بريطاني في مجلة الشئون الدولية التي تصدر في لندن (عدد يناير 1955، واسم الكاتب نورمان لويس) بحثا يوضح أهمية ذلك الاستقرار في سورية. وقد أثبت هذا الباحث أن نطاق الأرض المزروعة في الأقطار السورية اتسع بما يساوي المثل خلال القرن التاسع عشر وما انصرم من القرن العشرين .
ورابع هذه العوامل ما أفاده كل شعب من الشعوب العربية من توثق الصلات بين مختلف طوائفه بسبب اتجاه أنظمة الحكم والإدارة والتعليم نحو التوحيد على أساس المواطنة وبسبب تقدم وسائل المواصلات بين مختلف أجزاء القطر الواحد من الأقطار العربية. وأثر هذا العامل واضح في تكوين الوعي القومي.
وخامس هذه العوامل كان رد فعل لتغلغل النفوذ الأوروبي في مختلف الأقطار العربية، واستئثار الأوروبيين بشتى المنافع واعتبارهم أنفسهم أصحاب حق دون أبناء البلاد. ونضيف إلى هذا رد فعل آخر نتج عن أن الطبقات الحاكمة كانت بصفة عمومية غير عربية، هذا إلى سياسة التتريك التي انبعثت في الولايات الخاصة للسلطنة مباشرة.
فلا عجب أن تأثر الوعي القومي بهذا واصطبغ بصبغة عربية.
والآن وقد عرضنا إيجازا لمختلف عوامل تكوين الأوطان العربية ونمو الوعي القومي العربي بها، نعرض لاعتراض له أهميته، ويقوم الاعتراض على التسليم بنمو وعي قومي في مصر أو في تونس أو غيرهما، ولكنه لا يسلم بأن هذا الوعي كان وعيا عربيا، بل هو مصري أو تونسي أو هو وعي إقليمي يناقض أو يضعف الوعي القومي العربي.
ونسلم بأن نظر المصريين إلى قضاياهم كان نظرا مصريا صرفا، ونسلم أيضا بأن التعبير عن قوميتهم اتخذ هذا المظهر الإقليمي، ولكن من تتبع الحركات الوطنية المصرية لا يفوته أن يلحظ أن مما غذاها كان شعور الكافة بأنهم «عرب» أو «أولاد عرب»، وأن هذه الصفة لا يشاركهم فيها أبناء الطبقة الحاكمة، قد يشاركونهم في الوطنية ولكنهم لا يشاركونهم في تلك الصفة، ولا أظن أن منصفا يستطيع أن يتصور عملا قوميا مصريا قبل الحرب العالمية الثانية إلا في نطاق الوطن المصري. وهذا شأن الأوطان العربية الأخرى وإن اختلفت مظاهر التعبير فيها بعض الشيء.
وبانتهاء الحرب العالمية الثانية يبدأ فصل جديد من تاريخ الوعي القومي العربي، وهو فصل اشتراك الشعوب العربية المستقلة في بناء مجتمع عربي يقوم على أسس التضامن والتكافل. والتمهيد لهذا الفصل الجديد وتاريخ الأحداث الأولى منه مما تدرسونه في العام المقبل.
مراجع هذه الموضوعات
(1)
عن الفتح العثماني لمصر وتاريخها قبل عهد محمد علي: تاريخ ابن إياس «وقائع الدهور» وتاريخ الجبرتي «عجائب الآثار»، ورسالة حسين أفندي في ترتيب الديار المصرية (نشرت في مجلة كلية الآداب). (2)
عن مسألة الخلافة الإسلامية: كتاب أرنولد بالإنجليزية. (3)
عن الأقطار السورية ولبنان: رسالة الدكتور عزت عبد الكريم عن النظام العثماني في تلك الأقطار (نشرت بمجلة كلية آداب جامعة عين شمس)، ونظرة إلى بعض التراجم التي نشرها المرادي في كتابه سلك الدرر. (4)
وعن العراق: كتاب العزاوي «العراق بين احتلالين»، وكتاب لوبحريج بالإنجليزية «العراق في أربعة قرون»، وقد نقل للغة العربية كما علمت. (5)
وعن الجزيرة العربية والنيابات المغربية والمغرب الأقصى: مقالات دائرة المعارف الإسلامية عن مكة وعدن واليمن ومسقط وتونس والجزائر ومراكش وطرابلس، والكتاب الذي نشره بالإنجليزية المؤلف باريز بعنوان «المغرب». (6)
وعن تطور الفكرة العربية: محاضرات الأمير مصطفى الشهابي التي نشرها المعهد، وكتاب اليقظة العربية لجورج أنطونيوس بالإنجليزية أو بالعربية.
صفحة غير معروفة