منهاج مفصل لدروس في العوامل التاريخية في بناء الأمة العربية على ما هي عليه اليوم
تصانيف
انتشار النفوذ الأوروبي ممثلا في هذه الدول الكبرى في جميع أنحاء العالم، وأخذها بأسباب السيطرة على الدول والحضارات غير الأوروبية: الصين، اليابان، فارس، المغرب الأقصى، الدولة العثمانية وولاياتها.
رابعا:
الحضارة الأوروبية تستهوي وتنفر غير الأوروبيين في آن واحد، ينجذبون نحوها، آنا طوعا وآنا كرها، ويمدحونها ويذمونها، وهم دائما يأخذون بأسبابها، ولا يزالون يفعلون، مهما يقولون.
ننتقل إلى سير الحوادث خلال هذه الحقبة من التاريخ العثماني:
بدأت الحقبة في 1839 بأزمة العلاقات المصرية العثمانية، وكانت التسوية «الأوروبية» قاضية بوضع مصر في موضع ينتهي حتما بارتباك شئونها ارتباكا يقضي على ما لها من استقلال داخلي محدود، وتفسير ذلك أن شرط المحافظة على الاستقلال حرية الحركة، فإذا منحت أمة ما استقلالا داخليا وحالت قيود السيادة العثمانية والامتيازات الأجنبية دون حرية الحركة انقلب استقلالها المحدود وبالا عليها، فالاستقلال المحدود يغري بالتصرف على غير أساس.
وإذا انتصرت الدول العظمى للدولة العثمانية على هذا النحو فإنها كان يسرها أن يؤكد السلطان الجديد عبد المجيد استعداده للسير في طريق الإصلاح؛ فأصدر السلطان في نوفمبر 1839 العهد المشهور باسم خط كلخانة، وهو وثيقة لها خطرها في تاريخ التجديد، وفيها وعد السلطان بأن يضمن لكل رعاياه على اختلاف مللهم الحياة والشرف والمال، وشرح في إيجاز الخطوات التي سيتخذها لجعل تلك الضمانات نافذة، وخط كلخانة - فيما رأى - من معالم تطور الدولة الإسلامية، وسنعود بعد قليل للكلام عنه بتفصيل أكثر، وهو يستحق هذا - فالذين أصدروه كانوا مؤمنين به - وإن ما أصاب وعود العهد من قصور التنفيذ لا يرجع لعدم الإيمان بها، بل هو يرجع لأن الصعوبات كانت فوق طاقة الرجال.
نشير بعد هذا إلى ما كان في لبنان من اضطراب طائفي في العقد الخامس من القرن (أي من بعد سنة 1840)، نشير إليه لأنه يتطور في سنة 1860 إلى ما هو أخطر وإلى ما سيكون من أثر حوادث سنة 1860 في وضع نظام خاص لحكم لبنان، وما بين طوائف لبنان من توازن قابل سريعا للاختلال. وكانت السياسة التي اتبعتها الإدارة المصرية وخصوصا في اضطرارها للاعتماد على طوائف دون أخرى، وفي محاولتها إدخال نظام التجنيد ونزع السلاح عاملا من عوامل اختلال أمور الطوائف. نضيف إلى هذا أن الرجال الذين عينتهم السلطات البريطانية القنصلية لإثارة الفتن على الإدارة المصرية وتوزيع السلاح والمال بين رجال بعض الطوائف أخل هو أيضا بميزان العلاقات بين الطوائف. وأخيرا عمد أنصار الحكم السلطاني العثماني إلى وضع الثورة ضد الإدارة المصرية على أساس ديني إسلامي. وأخيرا سقط الأمير بشير الكبير مع سقوط الحكم المصري، وبسقوط بشير زالت نهائيا السيطرة العليا لبيت شهاب على شئون الجبل.
وبعد انسحاب المصريين وحدوث الاضطراب الذي أشرنا إليه لم تستطع السلطنة العثمانية أن تستقل بالنظر في ترتيب شئون الجبل وإعادة الهدوء إليه، بل أخذت تشارك في ذلك الدول الأوروبية وبخاصة فرنسا وإنجلترة: فرنسا لما لها من علاقات بتلك الأقاليم (ذكرناها من قبل)، وإنجلترة لما أدته للدولة العثمانية من إفساد الأمر على الحملة النابليونية على مصر والشام، ومن إفساد الأمر أيضا على محمد علي، وللعلاقات التي أنشأتها خلال هذين الإفسادين مع طائفة الدروز.
وهذا الاشتراك الدولي في ترتيب شئون الجبل سيكون هو دستور العمل في لبنان.
هذا ما نكتفي باستخلاصه الآن، ويصح أن نضيف إليه أن الترتيب الذي اتجه إليه في ذلك العقد الخامس من القرن التاسع عشر كان إنشاء نوع من الإدارة الثنائية يشارك فيه الدروز والموارنة.
صفحة غير معروفة