وهم سالم بالنهوض، ولكن حسين أشار له بالجلوس وقال: أغلق الشرفة إذا أردت على أن يبقى باب الحجرة مغلقا.
ورمقه بنظرة ذات معنى، فتلقاها حسنين باستياء مكتوم. وضاق بمجلسه فقام إلى الشرفة متناسيا أنه كان يقترح إغلاقها منذ لحظات. ووجد حيال الظلمة كآبة مثل تلك السحب التي كانت مرنقة بصفحة السماء تزيد الظلمة عمقا ووحشة، لم يكن بالآفاق نجم واحد، ولاحت أضواء المصابيح خافتة تحت غاشية من الضباب، وخيم على الكون سكون ثقيل وبرودة صامتة، كأنما كتمت أنفاسه، «حنبلي، حنبلي. يجب أن يكون رجلا وقورا قبل الأوان. ولا يبدو أنه يريد أن يعاونني، من يدري لعلها لو كانت لها أخت لتغير سلوكه، إنه كأمه جاد صارم. ينبغي أن أفض هذه المشكلة بالحل الموفق» وراح يتفكر باهتمام حتى سمع صوت سالم يناديه فغادر موقفه إلى الحجرة. وقال له الغلام: تفضل شايا.
ورأى قدحين من الشاي على الخوان فتناول أحدهما ، وقد خفف منظر الشاي من توتر أعصابه، وقبل مضي دقيقة سمعا صرير الأكرة فنظرا صوب الباب ففتح قليلا وبدت بهية! كانت تحمل السكرية فأعطتها لسالم وهي تقول: خذ هذه؛ فربما لم يكف ما بالشاي من سكر.
كانت ترتدي فستانا بنيا تكاد تمس أهدابه أعلى القدم فأضفى طوله على قامتها المائلة للقصر ملاحة. وحملق الشقيقان في وجهها وهي لا تحول عينيها عن الغلام. ثم غض حسين بصره ولما يفق من وقع المفاجأة، بينما ظل حسنين يحملق في وجهها كأنه عجز عن استرداد بصره. ورأى الغلام يجيء بالسكرية، وأخذت الفتاة ترد الباب فملأ الجزع قلبه الخافق، وعز عليه أن تختفي وهو غارق في ذهوله وجموده، وطفرت من أعماقه رغبة في الإفصاح لا تقاوم، فقال بعجلة: شكرا، الشاي به الكفاية!
وتحولت عيناها إليه في ارتباك، ثم اختفت دون أن تنبس بكلمة، ولعل عينيها نمتا عن ابتسامة مكتومة. وتحاشى النظر صوب أخيه فحصر بصره في قدح الشاي، «مفاجأة لم أكن أنتظرها، حلم سعيد. على الرغم من الباب المغلق!» ورشف رشفة كبيرة من السائل الساخن فلسعت لسانه وسقف حلقه، وجعلته ينفخ في جزع. ولكن سخونة الشاي لم تغيبه طويلا عما يعاني من إغراء؛ «جسم لدن، عينان جذابتان. هيهات أن يخفي هذا الفستان الطويل ما انطبع في حسي من صورة الساقين، وبطن الركبة خاصة؛ لا الفستان ولا الباب ولا الظلام. أعظم واجب في هذه الدنيا أن تلاعب فتاة جميلة تحبها، إني أعجب كيف أن فتاة يمنعها الحياء من التحديق في وجه حبيبها تستطيع يوما أن تنزع ثيابها بين يديه دون مبالاة! هذا التطور خاصة خليق بأن يبعث بهيج الأمل في موات النفوس. أو لعلها العادة؟! يجوز. هذه العادة التي جعلتنا نألف المبيت على الطوى! كيف يحق لي أن أفكر في الحب على ما نكابد من قساوة الحياة! شكرا، الشاي به الكفاية! أحسنت بشكرها صنعا! لا يحب طبعي الجبن والتردد، وبذلك يمكن أن أقتنص فرص الحب وسط برودة الفقر. الفقر! لو كان رجلا لقتلته! ولكنه امرأة، تقتلنا ونحن راضون. ترى هل يتألم أبي لحالنا؟ ترى ما هيئته الآن؟ لهفي عليك يا أبي! حقا الحياة أكذوبة ضخمة، ولكنها جاءت بنفسها بالسكرية! جاءت لي أنا في الواقع. أريد أن أكون شارلمان عصري. لو عدت يوما إلى عطفة نصر الله محاطا بعظمة فروسيته لألقت بنفسها علي من الشرفة ...» وما يدري إلا وحسين يقول له: دورك.
اللغة الإنجليزية! وحل محل أخيه، وألقى درسا ممتلئا عطفا وحبا للغلام الذي يجري في عروقه الدم الذي يجري في عروقها؛ ذلك الدم الذي استشفه في بطن ركبتها، وانتهى بعد زمن لم يدرك له طولا، ثم غادرا الشقة معا إلى السلم المظلم. ولم يعد يطيق صبرا فقال: كان ظهورها اليوم مفاجأة بديعة!
فقال حسين بلهجة تنم عن الانتقاد: حاذر لا تكن وقحا. هذا بيت محترم! - ماذا فعلت فأستحق هذا التأنيب؟ - لا تفعل شيئا تندم على فعله إذا كان فريد أفندي معنا.
وغلبه السرور فقال وكأنه يناجي نفسه: جاءت بنفسها! لله ما ألطفها! - ليس في هذا ما يعيب. - ترى أكلفها أبوها بإحضار السكرية؟
فقال حسين بملل: من أدراني بذلك! - أم جاءت من تلقاء نفسها؟ - ليكن هذا أو ذاك. - وإذا كان من تلقاء نفسها، فهل جاءت تحت بصر والديها؟
فلم يجبه الآخر، وإن ظل منتبها لما يقول في اهتمام شديد، فعاد حسنين يتساءل: أو جاءت خفية؟!
صفحة غير معروفة