فاقترب منهما الغلام في أدب وهو يغالب ابتسامة حيال الشابين اللذين لم يألف احترامهما بعد، وأشار الأب إلى حجرة إلى يسار الداخل وقال: حجرة الاستقبال أوفق حجرة المدرس، وبها الشرفة إذا أراد أحدكما أن يتشمس.
ومضى الأستاذان إلى الحجرة يستقبلهما التلميذ، وبادر الغلام إلى الشرفة ففتح بابها، ثم أغلق باب الحجرة. وكانا يدخلان الشقة لأول مرة؛ لأنه لم يكن لفريد أفندي ابن في سنهما فتدعوهما صداقته إلى التردد عليها. ووجدا حجرة الاستقبال بمنزلة حجرتهما بوجه عام؛ فهي مكونة من طاقم قديم ذي كنبتين أفرنجيتين وستة كراسي، ومرآة كبيرة ذات حوض مذهب يحوي وردا اصطناعيا، بيد أن حجرتهما بقيت على قدمها وبيعت مرآتها، أما هذه فيبدو أن يد النجاد قد جددت حشوها وكساءها. وجلس حسين على كنبة فجاء سالم بكرسي وجلس قبالته واضعا بينهما خوانا صفت عليه الكتب والكراسات، على حين خرج حسنين إلى الشرفة في انتظار دوره. وجعل حسين يتصفح كراسات الغلام وكتبه، ثم قال له: سأعيد الدروس من الأول شارحا ما يغمض عليك؛ على أن نبدأ في الدرس التالي بتسميع ما تم شرحه.
وبدأ الدرس في اهتمام جدي.
ووقف حسنين في الشرفة مرتفقا حافتها كما كان يفعل أيام كان لهم شرفة. وكان المنظر الذي أثاره لا يزال ناشبا في مخيلته؛ الساقان البديعتان، والوجه البدري ذو العينين الزرقاوين، نظرة هادئة رزينة توحي بالثبات لا بالخفة، جمال يبهر وإن شابه شيء من ثقل الدم، ولكنه لم يترك أثرا سيئا في نفسه، لا يزال دمه يتدفق حارا في عروقه، وقلبه يخفق بنشوة المنظر، ورأسه لا يمسك عن خلق الصور والأحلام. هذه أسطح البيوت المحدقة به، وهذه عطفة نصر الله في أسفل، وهؤلاء خلق كثيرون ذاهبون آيبون، كل أولئك يلوح وراء غلالة حمراء نشرها خياله المحتقن الدم، متى تعود السكينة إلى نفسه؟ إنه يذكر بهية. كان يرها كثيرا وهي صغيرة تحجل في فناء العمارة، ولكنها اختفت منذ الثانية عشرة، وانقطعت عن المدرسة أيضا قبل أن تلتحق بالمدرسة الثانوية. ولعلها في الخامسة عشرة، ولكن كان كأنه يراها لأول مرة؛ «إني بحاجة إلى مثل هذه الفتاة؛ نذهب إلى السينما معا، ونلعب معا، ونتحدث كثيرا. وما من بأس في أن أقبلها وأعانقها. ليس في حياتي وجه جميل يجذبني إليه، وحسبي ما صادقت من فتيان المدرسة ونادي شبرا. أريد فتاة، أريد هذه الفتاة. في أوربا وأمريكا ينشأ الفتيان والفتيات معا كما نرى في السينما. هذه هي الحياة، أما هذه فما إن رأتنا حتى توارت عن الباب كأننا وحوش نروم التهامها. وكان أجدادنا يقتنون الجواري، لو نشأت في بيت مليء بالجواري، لعرفت حياة أخرى على رغم أمي وإنذاراتها ولكماتها. حتى الخادمة الصغيرة طردت لفقرنا. ماذا يخبئ لنا المستقل؟ أظن أكبر ذنب يؤخذ به في الآخرة هو أن نترك هذه الدنيا دون أن نستمتع بحلاوتها. أجمل منظر حقا هو بطن ركبتها، في وسطه عضلة رقيقة مشدودة تشف بشرتها عن زرقة العروق. لو انحسر الفستان قليلا لرأيت مطلع الفخذ! أجمل منظر في الدنيا منظر امرأة تخلع ثيابها. أجمل من المرأة العارية نفسها، يقولون إن مدرس التاريخ زير نساء. متى أجد نفسي رجلا حرا؟! عندنا غدا حصة تاريخ ويجب أن أحفظ هذه الليلة القبائل الجرمانية.
فانكحوا ما طاب لكم من النساء ، هذا أمرك يا رب، ولكن هذا البلد لم يعد يحترم الإسلام.» وتابع أحلامه في نشاط، حتى ترامى إليه صوت حسين يدعوه إلى درس الإنجليزي فغادر موقفه.
وعند انصرافهما بدت لهما الفتاة جالسة في الحجرة المقابلة لحجرتهما، أما حسين فقد غض بصره في وقاره المعهود، وأما هو فقد رنا إليها بنظرة قوية فخفضت عينيها في حياء.
16 - كم تظن أن يكون أجرنا؟
فقال حسين متظاهرا بعدم الاكتراث: لا تكن شحاذا ثقيلا.
فقال حسنين بأمل: نحن ندرس لسالم يوما بعد يوم، وقد مضى زمن لا بأس به، فلعله ينقدنا أجرنا أول الشهر، نينة لا تستبعد أن يعطي كلا منا نصف جنيه، وهو مصروف عال! ستعود أيام الكرة والسينما وشيكولاتة المقصف في الفسحة.
كانا يرتقيان السلم وقد غاب نهار الشتاء القصير في ظلمة المساء المبكرة. وطرقا الباب كعادتهما وانتظرا أن يجيء من يفتحه، وهما يطويان في صدريهما أملا يتجدد مساء بعد مساء دون أن يتحقق. وجاءت الخادم وقادتهما إلى حجرة الاستقبال. كانت الصالة خالية والضوء ينبعث من حجرة نوم الوالدين في نهاية الصالة، فسار حسنين وهو يلحظ المكان بجانب عينيه دون جدوى، ثم جاء سالم وأغلق وراءه الباب، وجلس أمام حسين وبدأ الدرس، وشعر حسنين بخيبة وملل. وكان أحضر معه كتابا يذاكره حتى يجيء موعد درسه فراح ينظر فيه بعينين غائبتين. وجعل يرفع بصره إلى الباب المغلق بحنق شديد، ثم تساءل بمكر: ألا يحسن بنا أن نغلق الشرفة اتقاء للبرد ونفتح الباب؟
صفحة غير معروفة