86
قالت الأم مبتسمة وإن نمت نظرة عينيها عن أسى: من عجب أنك ترمي بنفسك في أمور خطيرة دون أن تأخذ العدة لها. هبهم وافقوا على الزواج فماذا كنت تفعل؟ ألم تفكر في هذا؟ ألم نحذرك جميعا من عواقبه؟
كان قد مضى على حديث صاحبه البرديسي حوالي عشرة أيام، ومع هذا لم تغب هذه المسألة عن أذهانهم، وكانوا كلما جمعتهم جلسة في الشرفة المطلة على الطريق في أوقات العصاري ولاح في وجهه الشرود أو التفكير، انبرت الأم للحديث؛ ترجو أن تبلغ به موضع التعزي من قلبه، وانضمت إليها نفيسة مازجة الجد بالمزاح.
وقال حسنين في ضجر: لا يبدو لي الغد خيرا من اليوم.
فقالت نفيسة: كلام فارغ.
وصدقت الأم على كلامها قائلة: وستبدي لك الأيام أنه كلام فارغ، وستتزوج من خير منها.
وتساءل في نفسه لماذا يبدو المتشائم الوحيد في هذه الأسرة؟ أهي أسرة بلهاء أم هو الأبله؟ أليس الدور الذي يلعبه الشيطان في هذه الدنيا أخطر من أدوار الملائكة مجتمعين؟ بلى، فلماذا لا يرونه كذلك! ولقد أرسل إلى حسين كتابا بآخر أنباء زواجه، فماذا كان جوابه؟ لم يكد يزيد شيئا عما تقول أمه أو أخته! أماتوا وهم أحياء؟ ألم تعد تستهويهم الحياة الرفيعة الشريفة؟!
وقطع عليه أفكاره جرس الباب الخارجي الذي رن رنينا متواصلا، ثم صوت الخادم وهي تصيح بحالة مزعجة بعد أن فتحت الباب «سيدي .. ستي!» فهرع إلى الصالة مستطلعا تتبعه أمه وأخته فرأى عند باب الشقة المفتوح رجلين غريبين يسندان ثالثا بينهما، جريحا فيما يبدو من عصابة قذرة تطوق رأسه وتنز دما، وقد مال عنقه إلى كتف أحد الرجلين، واقترب حسنين من القادمين مبهوتا منزعجا لا يدرك شيئا ولا يفهم شيئا، حتى صار على قيد خطوات منهم وعيناه لا تتحولان عما انحسرت عنه العصابة من وجه الجريح؛ بشرة شاحبة تشوبها زرقة تثير من الأعماق ذكرى الموت، وتعلوها فوضى مخيفة من شعر نابت وآثار التهاب، ولكن العينين المغمضتين رمشتا في إعياء، فلاحت خلال أهدابهما نظرة واهنة غير غريبة سرعان ما انتقلت حركتها الضعيفة إلى ذاكرته وانفجرت بها كالقنبلة، وقبل أن يتحرك لسانه جاء صوت أمه من الخلف مؤكدا ما انفجر في رأسه هاتفا في نبرات يمزقها الخوف والإشفاق: حسن .. هذا حسن ..
فصاح حسنين مرددا قول أمه في ذهول: حسن!
وهنا قال الرجل الذي يسند عنقه بكتفه، ويشترك مع الآخر في حمله: يجب أن ننيمه في الحال.
صفحة غير معروفة