بين الأسد الأفريقي والنمر الإيطالي: بحث تحليلي تاريخي ونفساني واجتماعي في المشكلة الحبشية الإيطالية
تصانيف
وهي التي أشارت على النبي في الحديبية بحلق شعره ، وذبح هديه، والخروج إلى الجيش فاتبعوه، وبذا حلت أزمة داخلية كبرى.
وإذن يكون عقل أم حبيبة، ومتانة خلقها، وحسن تدبيرها، وثباتها على دينها (لأنها لم تتبع زوجها ابن جحش عندما ارتد) هي الخلال التي عطفت قلب رسول الله عليها، وجعلته يقدرها قدرها فضمها إلى آل بيته.
هذا بعض ما يربط الحبشة بالإسلام ومصر في العصور القديمة، وقد أسهبنا الكلام فيه في الفصل الأول من الكتاب.
إن مصر والشرق بجناحيه الأدنى والأقصى بعد قلبه الخافق، والعروبة بشعوبها ودولها كلها مهتمة بحالة الحبشة ومركزها في العالم، وأزمتها الحاضرة. وإن اهتمت أوروبا بالمشكلة الحبشية خوفا على السلم العالمي، أو مقاومة مطامع إيطاليا الاستعمارية، فإننا نهتم بالحبشة لأنها تمثل الشرق وأفريقيا في أسمى مظاهرها وأروعها وأرفعها وأشرفها وأسماها. وأي شيء أعظم من التعلق بالحرية جيلا بعد جيل، وعصرا بعد عصر، والوقوف في وجه العدو الأجنبي مهما كانت قوته وبطشه، وسلطانه وتهديده، ووعيده ووعوده، ونفوذه ونقوده؟! فإن الأحباش يرون الحرية أغلى من كل خير في الحياة، كما يرون كل شر هينا في سبيلها.
ونحن لا نبغض الطليان، ولا نظن أنهم يناصبوننا العداء، أو يحملون لنا حقدا في حنايا ضلوعهم. وقد دامت علاقة الود بيننا وبينهم أجيالا طويلة، ولكن هجومهم على الحبشة فى سنة 1896، وعلى طرابلس الغرب في سنة 1912، ومعاودتهم الكرة على الحبشة في هذا العام حول قلوبنا عنهم، والصراحة في هذا الظرف واجبة، فنحن لا نحب أن نرى دولة أجنبية تنقض على مملكة شرقية في هذا العصر؛ عصر المدنية والحرية. وقد هاج الاعتداء الإيطالي ضمير العالم كله، فلا عجب إذا هاج ضمير مصر وبينها وبين الحبشة ما ذكرنا من أواصر الجوار والمودة. ولا نخفي أننا لو استطعنا لمنعنا هذه الحرب بكل الوسائل التي في وسعنا. وإن أسفنا على شيء أسفنا على أن مصر ليست عضوا في عصبة الأمم لتتمكن من إسماع صوتها؛ لأن قناة السويس واقع في أرضها، وهي قناة عالمية محايدة، ولكن موانع السياسة، وتردد رجالنا حرمتنا من هذا الحق المقدس، فإن مصر ليست أقل من العراق، ولا من الحبشة نفسها، التي ننبري اليوم للدفاع عنها، وكان صوتنا يكون أرفع، وحجتنا أبلغ لو أن لدينا قوة مادية، أو مقعدا ومنبرا في جنيف.
وإن تقدما كتبه الله لنا، وثروة في العلم والمال تالدة وطارفة، وموطنا يتوسط العالم القديم برا وبحرا، أنعمها علينا لخليقان بأن يجعلا لمصر مركزا ممتازا، فما فتئت مصر تشغل بال العالم في الحرب والسلم، وتحسب لها دول الأرض حسابا غير يسير، وقال نابليون بونابرت: «مصر أعظم مملكة في العالم.» ولم يخف عليه أنها تستطيع بموقعها الجغرافي أن تتحكم في حظوظ طائفة من الأمم غير قليلة، غير أن مصر كثيرا ما ضيعت الفرصة السانحة، وأفلتت من يدها زمام السياسة التي تصلح لها، وتهاونت في كثير من حقوقها حتى كادت تمحو حسن طالعها.
ما الذي عاق مصر عن الدخول في عصبة الأمم؟ إنها السياسة، وإنه الجهل العقيم لا قضاء، ولا إفتاء، ولا قول المؤرخين الهراء.
أليس الدافع للفاشيست وهمهم أنهم قادرون على أن يفعلوا ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله؟
ويظهر أن الفاشيين يرون أن من لم يكن داخلا تحت دولتهم، وممتثلا لأوامرهم، خارج عن الحضارة، وهم يصفون خصومهم بأنهم متوحشون وطائشون وغير جديرين بأن يكونوا أمة، أو يدخلوا في زمرة العصبة. وتحب أوروبا أن تذكرهم بموقعة عدوة التي ما تخلصوا من ذكراها الأليمة إلا بجهد جهيد.
سيرى القراء أن إيطاليا تعلل نفسها بالانتقام لعدوة، ويكادون وهم يطرحون نزاعهم على بساط البحث في جنيف يهاجمونها بقنابلهم وطائراتهم قبل أن تكشر الحرب عن أنيابها، وقبل أن تدق تلك الشمطاء طبولها في آذان الأمم المطمئنة الوادعة.
صفحة غير معروفة