بين الأسد الأفريقي والنمر الإيطالي: بحث تحليلي تاريخي ونفساني واجتماعي في المشكلة الحبشية الإيطالية
تصانيف
مقدمة
علاقة الحبشة بمصر والإسلام قديما وحديثا
طموح مصر إلى فتوح أفريقيا
الاسم والمعتقد والأخلاق والأصول الأولى
علاقة مصر بالحبشة وإيطاليا ومركز مصر من دائرة النزاع في عصبة الأمم وخارجها
عصبة الأمم والمشكلة الحبشية
تطور الغارات على الأمم
الوجه الأخير للاستعمار
ثلاثة رجال وثلاث دول
من موقعة قرع إلى موقعة عدوة من سنة 1876 إلى سنة 1896
صفحة غير معروفة
النظام الفاشي ومشكلة الحبشة
الزعامة الحديثة وانقياد الأمم والفرق بين البطولة والزعامة
إعراض إيطاليا عن نصح الناصحين وخسارتها الفادحة في المال والرجال في إريتريا
هل لإيطاليا أمل في الفوز؟
النتيجة
ملحقات الكتاب
مقدمة
علاقة الحبشة بمصر والإسلام قديما وحديثا
طموح مصر إلى فتوح أفريقيا
الاسم والمعتقد والأخلاق والأصول الأولى
صفحة غير معروفة
علاقة مصر بالحبشة وإيطاليا ومركز مصر من دائرة النزاع في عصبة الأمم وخارجها
عصبة الأمم والمشكلة الحبشية
تطور الغارات على الأمم
الوجه الأخير للاستعمار
ثلاثة رجال وثلاث دول
من موقعة قرع إلى موقعة عدوة من سنة 1876 إلى سنة 1896
النظام الفاشي ومشكلة الحبشة
الزعامة الحديثة وانقياد الأمم والفرق بين البطولة والزعامة
إعراض إيطاليا عن نصح الناصحين وخسارتها الفادحة في المال والرجال في إريتريا
هل لإيطاليا أمل في الفوز؟
صفحة غير معروفة
النتيجة
ملحقات الكتاب
بين الأسد الأفريقي والنمر الإيطالي
بين الأسد الأفريقي والنمر الإيطالي
بحث تحليلي تاريخي ونفساني واجتماعي في المشكلة الحبشية الإيطالية
تأليف
محمد لطفي جمعة
صاحب الجلالة الإثيوبية هيلاسيلاسي الأول إمبراطور الحبشة.
مقدمة
بلاد إثيوبيا هي الوطن الوحيد المستقل في القارة السوداء، وما وصفت أفريقية بالسواد نسبة إلى لون أرضها أو أهلها، ولكن لكثرة مجاهلها وخوافيها، وإلا فإنه لا شمس تشرق في الآفاق، ولا ضوء يتلألأ في الأرجاء، ولا صحو يملأ الأجواء، مثل شروق شمسها، وتلألؤ ضوئها، وصفاء سمائها، ولا خضرة أزهى وأزهر، ولا خصوبة أغنى وأثمر من التي تشاهد في غابها وحراجها، وفي حقولها ومزارعها، ولا غنى في ظاهر الأرض وباطنها كالغنى الذي أنعم الله به على أهل تلك القارة السعيدة من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، فعدت من أغنى بقاع الأرض معدنا، وزرعا، وضرعا .
صفحة غير معروفة
1
وقد حبتها الطبيعة بمنابع أربعة من أكبر أنهار الأرض وأغزرها ماء وأجلبها للخير، أعظمها نهر النيل ذي الوادي الخصيب الذي نعمره ونمرح في خيراته، ونفاخر به.
وفي موضع القلب من هذه القارة تقع إثيوبيا أو الحبشة، وما الحبشة سوى هضبة جبلية شامخة الارتفاع تنحدر كالدرج نحو سهول السودان وبحر القلزم، ومن صميم فؤادها ينبع النيل الأزرق، وعلى سفوح جبالها تنمو أشجار الفواكه الجميلة، وشجيرات البن الخضراء، وجوف أرضها حاشد بالمعادن النافعة، وأهلها قوم ذوو بأس شديد يميلون للحرب، ويبذلون أرواحهم في سبيل الدفاع عن وطنهم، وقد حافظوا على حريتهم واستقلالهم منذ نشأتهم إلى يومنا هذا، ولم يناصبهم العداء في العصر الجديد سوى المصريين والطليان، فهزموا وانسحبوا.
كانت قارة أفريقية على الخارطة منذ مائة سنة بقعة سوداء تحفها حاشية بيضاء قليلة العرض مع قربها من أوروبا، ووقوع ساحلها الشمالي موازيا لساحل أوروبا الجنوبي على مسافة ألف ميل، وذلك لأن رداءة إقليمها جعلت إسبانيا وفرنسا والبرتوغال يشحن بأوجههن عنها، ويتزاحمن على الاستعمار في أطراف أميركا والهند السحيقة، وإنما قصدن إلى أفريقية للاتجار بالرقيق فيها.
أما الآن فقد أصبح معظم القارة معروفا بفضل أهل السياحة من قدماء المصريين والعرب والإفرنج الذين جاسوها طولا وعرضا؛ فأناروا ظلماتها، ولم يبق مظلما فيها سوى بقع صغيرة متفرقة لا بد أن تكشف قريبا.
ومما يزيدنا ألما وأسفا وحسرة على قارتنا أن دول أوروبا ضمت كل شبر منها إلى أملاكهن بالطرق السياسية، وبذل الأموال والهدايا لحكام البلاد وزعمائها، والخونة من أهاليها، والالتجاء إلى بعض الحيل التي أملاها دهاء رواد الاستعمار، وانطلت على أذهان البسطاء. وقد سميت وسائل الاغتصاب التي انطوت عليها مكايد هؤلاء المغيرين طرقا سلمية؛ لأنها لم تكلف المغيرين لا معارك ولا مواقع، ما عدا المغرب الأقصى والحبشة، على حين أن استعمار أمريكا والهند كلفهن ألوف الرجال، وبدرات الأموال.
2
وقد شرع المصريون الأقدمون في الأسفار من عهد الدولة السادسة لكشف أفريقيا، وكان أمراء جزيرة الفنتين يتعدون الحدود الجنوبية، ومهدوا الطريق بين أصوان ورأس بناس (على البحر الأحمر )، وكانت السفن المصرية تمخر البحر الأحمر حينئذ، وكانوا يسمون سكان البلاد إلى جنوبي أسوان باسم «الرماة»، والذين إلى جنوبهم باسم المتلعثمين أو الأعاجم؛ لأنهم لم يكونوا يتكلمون اللغة المصرية، وقالوا: إن وراء أرض المتلعثمين الأرض المباركة التي تفيض الخيرات، ووراءها البحر الجنوبي الذي يجري منه النيل، وتطفو عليه الجزر. وانتهت الرحلات المصرية القديمة في سبيل اكتشاف أفريقيا في أيام الدولة السادسة، ومنها سياحة أردودو، وسياحة خركوف، وحدثت كل هذه الأمور منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، حينما كان أهالي أوروبا يأوون إلى الكهوف والبحيرات، ويسترون أبدانهم بجلود الثعالب والأنعام.
وذكر بلينيوس المؤرخ الروماني سنة 70 للمسيح أن التبابعة، ملوك اليمن، عرفوا جميع ممالك أفريقية الشرقية وجزرها، وكان لهم عليها شيء من السلطة، وكانوا يتجرون مع أهلها بالأفاويه والطيوب.
ولما ظهر الإسلام رحل كثيرون من العرب في القرنين الأولين للهجرة إلى سواحل أفريقية الشرقية والشمالية؛ فملكوا تونس وطرابلس الغرب، واجتاز كثيرون منهم صحاري القيروان، وليبيا، وتوغلوا في داخلية البلاد، وبعضهم ذهبوا إلى السودان من طريق مصر وقنا، وكانت القصير مرفأ لمراكبهم يجتازون منها مضيق باب المندب في البحر الأحمر، ويرتادون السواحل الشرقية حتى وصل بعضهم في بدء تاريخ الهجرة إلى سواحل جزيرة مدغشقر جنوبا، وأسسوا في شمالها مملكة عربية لم تزل آثارها وقلاعها وبقايا شعوبها موجودة حتى الآن.
صفحة غير معروفة
3
واستدل العلماء أن العرب من بدء الهجرة عرفوا أكثر بلاد أفريقية، ووصلوا إلى منابع النيل، وتوغلوا في بحيراتها وغاباتها ومجاهلها، وكانت حتى أواسط القرن الماضي يجهلها الإفرنج، ووطئت أقدام الفاتحين من العرب تلك البلاد السحيقة قبل أن تطأها أقدام السياح المتأخرين، وكانت لهم تجارة واسعة في أفريقية كلها، وملكوا الصومال، وجوبع، وممبسة، وزنجبار، وموزمبيق، وكومورو، وانتشرت عندهم النخاسة كما كانت منتشرة عند اليونان والرومان والأوروبيين والأمريكان.
ولما ضعفت شوكة العرب، ونبذوا العلوم والمعارف، وتركوا أسباب التجارة، واشتد ساعد البرتغال جهزوا السفن والرجال في أواخر القرن الرابع عشر، وأرسلوها إلى سواحل أفريقية الغربية والجنوبية والشرقية، وطردوا العرب منها.
وتربط المسلمين بالحبشة أمور شتى؛ أولها مصالح التجارة، قال صفوان بن أمية: «وإنما حياتنا بمكة على التجارة في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء.»
ولما قبض الله خديجة بنت خويلد تزوج الرسول من سودة بنت زمعة أرملة السكران بن عمرو بن عبد شمس، ولم يرو راو أن سودة كانت من الجمال، أو من الثروة، أو من المكان بما يجعل لمطمع من مطامع الدنيا أثرا في زواج محمد منها، إنما كانت سودة زوجا لرجل من السابقين إلى الإسلام الذين عذبوا وهاجروا إلى الحبشة وهاجرت معه زوجته، وعانت معه ما عانت، فتزوجها محمد ليعولها، وليرتفع بها إلى مقام أمهات المؤمنين.
ولما أرسل النبي إلى ملوك الأرض وفودا وكتبا بختمه يدعوهم إلى الإسلام، ومنهم هرقل الروم، ومقوقس مصر، وكسرى الفرس، لم يغفل النجاشي، فكان رد النجاشي جميلا لطيفا، خصوصا بعد ما كان بينه وبين المسلمين الذين هاجروا إلى بلاده، وأقاموا في جواره.
ويظهر أن عاطفة ود صحيح قد نمت بين النبي وبينه، حتى زعم بعضهم أنه أسلم، ولكن هذا خبر مبالغ فيه، غير أن النجاشي لم يقصر في حمل المهاجرين من المسلمين بزعامة جعفر بن أبي طالب، ومعهم رملة بنت أبي سفيان (أم حبيبة).
ولما عادت أم حبيبة من الحبشة أصبحت من أزواج النبي ومن أمهات المؤمنين. وقد علل المؤرخون هذا الزواج بأسباب كثيرة؛ منها أن محمدا أراد الارتباط بأبي سفيان، ومنها أنه أراد كيده وهو في وثنيته قد دخلت ابنته في دار خصمه الألد صاحب الدين الجديد.
والسبب الصحيح في زواج النبي من أم حبيبة هو رغبته في مكافأتها على ثباتها في دينها، والأخذ بيدها بعد تنصر زوجها، ثم ما رآه فيها من الذكاء الخارق، وحضور البديهة، وسرعة الخاطر، وصدق المشورة في الأزمات، سواء أكانت في الهجرة، أو في الوطن، أو في الحرب، أو في السلم؛ فإنها هي التي دبرت كثيرا من شئون المهاجرين في الحبشة، وهي التي ردت كيد عمرو بن العاص في نحره عندما أراد الدس للمسلمين عند النجاشي،
4
صفحة غير معروفة
وهي التي أشارت على النبي في الحديبية بحلق شعره ، وذبح هديه، والخروج إلى الجيش فاتبعوه، وبذا حلت أزمة داخلية كبرى.
وإذن يكون عقل أم حبيبة، ومتانة خلقها، وحسن تدبيرها، وثباتها على دينها (لأنها لم تتبع زوجها ابن جحش عندما ارتد) هي الخلال التي عطفت قلب رسول الله عليها، وجعلته يقدرها قدرها فضمها إلى آل بيته.
هذا بعض ما يربط الحبشة بالإسلام ومصر في العصور القديمة، وقد أسهبنا الكلام فيه في الفصل الأول من الكتاب.
إن مصر والشرق بجناحيه الأدنى والأقصى بعد قلبه الخافق، والعروبة بشعوبها ودولها كلها مهتمة بحالة الحبشة ومركزها في العالم، وأزمتها الحاضرة. وإن اهتمت أوروبا بالمشكلة الحبشية خوفا على السلم العالمي، أو مقاومة مطامع إيطاليا الاستعمارية، فإننا نهتم بالحبشة لأنها تمثل الشرق وأفريقيا في أسمى مظاهرها وأروعها وأرفعها وأشرفها وأسماها. وأي شيء أعظم من التعلق بالحرية جيلا بعد جيل، وعصرا بعد عصر، والوقوف في وجه العدو الأجنبي مهما كانت قوته وبطشه، وسلطانه وتهديده، ووعيده ووعوده، ونفوذه ونقوده؟! فإن الأحباش يرون الحرية أغلى من كل خير في الحياة، كما يرون كل شر هينا في سبيلها.
ونحن لا نبغض الطليان، ولا نظن أنهم يناصبوننا العداء، أو يحملون لنا حقدا في حنايا ضلوعهم. وقد دامت علاقة الود بيننا وبينهم أجيالا طويلة، ولكن هجومهم على الحبشة فى سنة 1896، وعلى طرابلس الغرب في سنة 1912، ومعاودتهم الكرة على الحبشة في هذا العام حول قلوبنا عنهم، والصراحة في هذا الظرف واجبة، فنحن لا نحب أن نرى دولة أجنبية تنقض على مملكة شرقية في هذا العصر؛ عصر المدنية والحرية. وقد هاج الاعتداء الإيطالي ضمير العالم كله، فلا عجب إذا هاج ضمير مصر وبينها وبين الحبشة ما ذكرنا من أواصر الجوار والمودة. ولا نخفي أننا لو استطعنا لمنعنا هذه الحرب بكل الوسائل التي في وسعنا. وإن أسفنا على شيء أسفنا على أن مصر ليست عضوا في عصبة الأمم لتتمكن من إسماع صوتها؛ لأن قناة السويس واقع في أرضها، وهي قناة عالمية محايدة، ولكن موانع السياسة، وتردد رجالنا حرمتنا من هذا الحق المقدس، فإن مصر ليست أقل من العراق، ولا من الحبشة نفسها، التي ننبري اليوم للدفاع عنها، وكان صوتنا يكون أرفع، وحجتنا أبلغ لو أن لدينا قوة مادية، أو مقعدا ومنبرا في جنيف.
وإن تقدما كتبه الله لنا، وثروة في العلم والمال تالدة وطارفة، وموطنا يتوسط العالم القديم برا وبحرا، أنعمها علينا لخليقان بأن يجعلا لمصر مركزا ممتازا، فما فتئت مصر تشغل بال العالم في الحرب والسلم، وتحسب لها دول الأرض حسابا غير يسير، وقال نابليون بونابرت: «مصر أعظم مملكة في العالم.» ولم يخف عليه أنها تستطيع بموقعها الجغرافي أن تتحكم في حظوظ طائفة من الأمم غير قليلة، غير أن مصر كثيرا ما ضيعت الفرصة السانحة، وأفلتت من يدها زمام السياسة التي تصلح لها، وتهاونت في كثير من حقوقها حتى كادت تمحو حسن طالعها.
ما الذي عاق مصر عن الدخول في عصبة الأمم؟ إنها السياسة، وإنه الجهل العقيم لا قضاء، ولا إفتاء، ولا قول المؤرخين الهراء.
أليس الدافع للفاشيست وهمهم أنهم قادرون على أن يفعلوا ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله؟
ويظهر أن الفاشيين يرون أن من لم يكن داخلا تحت دولتهم، وممتثلا لأوامرهم، خارج عن الحضارة، وهم يصفون خصومهم بأنهم متوحشون وطائشون وغير جديرين بأن يكونوا أمة، أو يدخلوا في زمرة العصبة. وتحب أوروبا أن تذكرهم بموقعة عدوة التي ما تخلصوا من ذكراها الأليمة إلا بجهد جهيد.
سيرى القراء أن إيطاليا تعلل نفسها بالانتقام لعدوة، ويكادون وهم يطرحون نزاعهم على بساط البحث في جنيف يهاجمونها بقنابلهم وطائراتهم قبل أن تكشر الحرب عن أنيابها، وقبل أن تدق تلك الشمطاء طبولها في آذان الأمم المطمئنة الوادعة.
صفحة غير معروفة
5
ولكن إمبراطور الحبشة، الذي وصفه الدوتشي بالثرثرة، عرف كيف يتقدم إلى جامعة الأمم، فسلم الأمر للمندوبين راضيا، وترك حقه راغبا، فأمسوا عنه راضين كما رضي، يرون رأيه حذو القذة بالقذة.
6
ولئن ذكروا ثأر عدوة، الذي انقضت عليه أربعون سنة، فقد أخطئوا المرمى، وأساءوا اختيار الحجة، فإنه في دون هذه المدة تنسى الأحقاد، وتموت الترات، وتبرد الأكباد الحامية، وتسلو القلوب الواجدة، ويعدم قرن من الناس، ويخلق قرن جديد، ولم يبق من أرباب تلك الشحناء إلا الأقل.
7
فماذا تفيد إيطاليا الآن من إظهار ما في النفوس، وهيجان ما في القلوب، ما دامت الأخلاف من قومهم، والأحداث والفتيان الذين لم يشهدوا وقائع الأحباش وفتكاتهم لا يفكرون في الانتقام من قوم لا تزال سيوفهم ورماحهم تقطر دما في سبيل الدفاع عن أوطانهم؟!
وطالما لقي الأحباش أعداء في سبيل الدفاع عن وطنهم، فلقوهم، نفخ العلانية، خور السريرة، هرج في الرخاء، جزع في اللقاء، تقدمهم ألسنتهم، ولا تشايعهم قلوبهم، إن أهملوا خاضوا، وإن حوربوا خاروا، وإن اجتمع العقلاء على رأي طعنوا، وإن أجيبوا إلى مشاقة نكصوا.
ولما اجتمعت عصبة الأمم خلال شهر سبتمبر، وانبرى مندوبو الأمم يدافعون بالبرهانات القوية لجاج إيطاليا وجدالها، لم يجدوا لديها سوى الطعن في الحبشة، والانتقاص من مكانتهم بين الأمم. وكان المندوبون يظنون أن إيطاليا بعد الجدال والخصام واللدد ستلين شدتهم بعض اللين، ولكنهم أضجروا كل عظيم وعبقري، وألمعي من المندوبين وأعضاء اللجان وهم يحاورونهم، فآمن المندوبون وصدقوا أن لا حجة لديهم ولا برهان سوى حجة الذئب ضد الحمل، ولكن يظهر أن الرعاة قد تضافروا هذه المرة ليمنعوا المفترس عن الفريسة.
إن مسلك مصر لا ينطوي على العطف فقط، بل إنه مستمد من مشاركة العالم المتحضر رأيه في خطة إيطاليا؛ فالعالم لا يريد حربا؛ لأنه علم بالخبرة المحرقة أن الحرب عدو التقدم الألد، وخصم الحضارة الأعند، والعالم لا يشفق على من يزعزع أركان السلم، ويهرق الدماء في سبيل مخاوف موهومة من الجوع الذي سوف يلحق - في زعمهم - الأجيال المقبلة. ففي سبيل ضمان الرغيف لأبناء الغد يفنى أبناء هذا القرن عن آخرهم، وحينئذ يكون من قال: «عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة.» قد أخطأ في شريعة الفاشيست.
ومن ذا الذي أعطى الطليان حق الاعتداء على الأحباش، والتنكيل بهم، والنيل من كرامتهم، وامتهان أمتهم؛ بحجة تحضيرهم وتمدينهم؟ وهذه أمة على أفريقيتها، وبساطة أخلاق أهلها، وبعدهم عن خبث بعض الممالك المتحضرة يرجع نسبهم إلى الحرية ثلاثة آلاف سنة إلى عهد سليمان الحكيم،
صفحة غير معروفة
8
في حين أن استقلال الطليان وجلاء آخر جندي أجنبي من عاصمتهم يرجع إلى ستين عاما.
سوف يسجل التاريخ الإنساني أنه لم يسبق لساسة في العصر الحديث أن يروا نشوب حرب جائرة بمثل هذه السهولة، فهاكم دولة كبرى من ضامنات السلام العام في العالم، وفي الصف الأول بين دول أوروبا المتحضرة، أو التي تقول عن نفسها ذلك، ما برحت في ثنايا ضميرها منذ أعوام تهيئ المعدات العسكرية، وتعد ما استطاعت من قوة وسلاح، ورباط الخيل والطير، فلما وثقت أنها أتمت عدتها، وأكملت استعدادها، أشعلت نار حرب شعواء للغزو في سبيل الفتح والغنيمة، تذكر العالم بغارات القبائل على الممالك الكبرى ذات الحضارة.
ومما زاد هذا الشعور ألما أن الدولة المهاجمة رفيقة لها وزميلة في عصبة الأمم التي تجمع الاثنتين بعهد الشرف.
وفي الحق أن عصبة الأمم لم تقصر في أداء واجبها، فوافق مجلسها المنعقد في جنيف في 7 أكتوبر بإجماع الآراء على تقرير لجنة الثلاثة عشر، ولجنة الستة، وألقت على الدولة الأوروبية المتمدنة مسئولية الحرب الجائرة.
علاقة الحبشة بمصر والإسلام قديما وحديثا
كانت الحبشة تدين بالوثنية كسائر الشعوب الأفريقية، ولكن اتصالها ببني إسرائيل ما أدى إلى انتحالها الدين الموسوي، فلما أذن الله للمسيحية أن تنتشر، ودانت لها الإمبراطورية الرومانية، وانتشرت النصرانية في اليونان والشام ومصر، امتدت من مصر إلى الحبشة. وكانت الحبشة منذ أول أمرها ترمي إلى الفتح، فتغلبت على اليمن، إلى أن غلبهم الفرس في عهد كسرى، فأجلوا عنها وارتدوا إلى حدود بلادهم وراء البحر الأحمر بعد أن ملكوا اليمن خمسة وسبعين عاما.
وكانت الحبشة قبل ظهور الإسلام بخمسين ومائة عام والنجاشي على عرشها في قمة مجدها، تجري بأمرها في البر والبحر تجارة واسعة، ويمخر البحار أسطول لها قوي أخضع لها ما جاور شطوطها من البلاد. وقد خطب أهل بيزنطة ودها وولاءها، واعتبروها ممثلة للسلطة المسيحية في البحر الأحمر، وبأمرهم فتحت الحبشة بلاد اليمن على يد قائد حبشي خلعه أبرهة الأشرم ، المشهور في تاريخ الإسلام بصاحب الفيل؛ لأنه هو الذي قاد حملة الفيل إلى مكة وحاول تدمير الكعبة، فكان ما كان من خبر فشلهم وهلاك جيشهم.
وكان عبيد الله بن جحش من أكابر العرب في السؤدد والنفوذ، وفي التفكير أيضا، فكان في الجاهلية يبغض الوثنية، ويتشكك فيها، ويريد أن يعيش حر الفكر غير مقيد بعبادة الأصنام أو أية عبادة أخرى من قبيلها، وكان هو وثلاثة من صحبه هم: زيد بن عمرو، وعثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل يحقرون الوثنية وينكرونها، ويعتبرون أهلها في ضلال، حتى إن عبيد الله بن جحش انبرى لأصحابه وقال: «تعالوا، والله ما قومكم على شيء، وإنهم لفي ضلال، فما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع، ومن فوقه يجري دم النحور؟! يا قوم، التمسوا لكم دينا غير هذا الذي أنتم عليه!»
وظل عبيد الله بن جحش فيما هو فيه من الثورة على الوثنية حتى ظهر الإسلام، فكان في مقدمة الذين أسلموا، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، وقد صحبته في هجرته إلى الحبشة امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وهي أخت معاوية.
صفحة غير معروفة
ولما كان عبيد الله بن جحش قابلا للتغيير والتبديل في معتقده منذ تزعزع إيمانه، ومنذ اجتمع هو وقومه بنخلة ليحيوا عيد «العزى»، فقد دب هذا الضعف إلى دينه الجديد بعد هجرته، فسهل على دعاة المسيحية في الحبشة أن يجذبوه إليها، فانتحل النصرانية، وطلقت امرأته، وما زال على النصرانية إلى أن مات عليها.
1
أما أم حبيبة فبقيت على دينها، وهو الإسلام، حتى عادت من هجرتها مع من عاد من المسلمين، وصارت من أزواج النبي وأمهات المؤمنين. وكانت على عقل راجح، وخلق متين.
لما ظهر الإسلام بشيء من القوة بدأت قريش تناوئه، وتعاكس ذويه، وتنزل بهم ما تقدر عليه من صنوف الاضطهاد والتعذيب والبلاء؛ حتى بلغ التعذيب التقييد بالسلاسل والحبس والجلد، حتى القتل! فضج المسلمون واستغاثوا بالله ورسوله، فأشار النبي عليهم بالهجرة إلى بلاد الحبشة النصرانية؛ لأنها قريبة من وطنهم؛ ولأن بها ملكا - هو النجاشي - لا يظلم أحدا، وقيل إن النبي عليه الصلاة والسلام وصف أرض الحبشة بأنها أرض صدق ... وقد أشار النبي على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة والبقاء بها حتى يجعل الله لهم فرجا مما هم فيه؛ فأطاعوا أمر رسول الله وخرجوا من مكة فارين بدينهم إلى الله.
وكانت الفرقة الأولى من المهاجرين مؤلفة من أحد عشر رجلا وأربع نسوة تمكنوا من الفرار من مكة، فلما بلغوا بلاد الحبشة أكرم النجاشي وفادتهم، ثم عادوا إلى مكة ظنا منهم أن قريشا كفت أذاها عن المسلمين، فرأوا بأعينهم من الأذى أشد مما عانوا في بداية أمرهم، فعادوا بهجرتهم إلى الحبشة وقد بلغوا ثمانين رجلا غير النساء والأطفال، وما زالوا بها إلى أن هاجر النبي إلى المدينة.
وقد استمر الفريق الأول في الحبشة ثلاثة أشهر كان عمر بن الخطاب قد أسلم في أثنائها، فاشتد ساعد المسلمين في مكة، وظن المهاجرون أنهم لن يلقوا بها عنتا؛ فعادوا إلى وطنهم، ولكن آمالهم حبطت عندما رأوا من ظلم أهل مكة أكثر مما رأوا من قبل، فعادوا إلى الهجرة في عدد أوفر.
عاد المسلمون المهاجرون الأوائل من الحبشة بعد ثلاثة أشهر بعد أن أسلم عمر بن الخطاب، ونصر الإسلام بمثل الحمية التي كان يحاربه بها من قبل، حتى اضطرت قريش لمهادنة المسلمين، وعادوا حين شبت الثورة في بلاد الحبشة ثورة خافوا مغبتها.
والثابت في كتب التاريخ أن أهل قريش لم يطمئنوا إلى هجرة المسلمين إلى الحبشة، فبعثوا برسولين إلى النجاشي يحملان أنفس الهدايا وأغلاها ليقنعوه برد المسلمين المهاجرين إلى وطنهم، وقد علم أهل مكة أن النجاشي تفضل فبسط حمايته على المسلمين المهاجرين بعد أن سمع أقوالهم في وصف دينهم الجديد.
أما رسولا مكة إلى النجاشي فكانا عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة. وقد دل القرشيون بهذا الانتخاب على صدق فراستهم، وحسن اختيارهم، ولا سيما في اختيار عمرو؛ فقد سبقت له أسفار إلى الحبشة؛ لأنه كان في الجاهلية يتجر ببضائع اليمن والحبشة إلى الشام، وأهمها الأدم والعطر.
وقد عادت ممارسة التجارة على عمرو بأعظم الفوائد المادية والمعنوية، فاكتسب كثيرا من أسفاره المتصلة واختلاطه بأقوام على جانب عظيم من المدنية والارتقاء إذ ذاك؛ فتولدت فيه المواهب النادرة، ونمت وازدهرت، فتجلت مظاهرها في جميع أدواره وكل فعاله؛ مما كان له أعظم الأثر في مواقفه السياسية والحربية. وهذه الأسفار أكسبت عمرا شيئا من الدهاء غير قليل،
صفحة غير معروفة
2
من ذلك ما ورد في الأغاني،
3
وهو خاص بما وقع بين عمرو وعمارة بن الوليد المخزومي من التناحر والمكايدة على النفوذ والنساء، وما زال عمرو يرصد لعمارة حتى أوقع به في دسيسة قضت على سعادته.
هذا هو عمرو بن العاص أحد الرسولين اللذين بلغا الحبشة ليستردا المهاجرين، فدفعا
4
إلى النجاشي ورجال كنيسته ما كانا يحملان من الهدايا، وتقدم عمرو في بلاط النجاشي عند التشريفة الأولى بالخطبة التالية على لسان قومه، قال:
أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
5
ولم يقصر عمرو بن العاص في استمالة قلوب بطارقة الحبشة إليه بالهدايا والتحف ليكونوا في صفه عند النجاشي، ويسهلوا عليه استرداد المهاجرين دون أن يسمع النجاشي دفاع المهاجرين.
صفحة غير معروفة
وبذل البطارقة قصارى جهدهم في إيغار صدر النجاشي على المسلمين المهاجرين، فأبى عدل النجاشي، الذي ذكر عنه النبي «أنه لا يظلم عنده أحد»، أن يجيب طلب الرسولين حتى يسمع ما يقوله المهاجرون، فلما مثلوا بين يديه سألهم عن الدين الذي فارقوا فيه قومهم، ولم يدخلوا به في دينه ولا في دين أحد من الملل، فانبرى له جعفر بن أبي طالب - ابن عم النبي - فقال:
أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان.
وأمرنا بالصدق والأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام؛ فصدقناه وآمنا به على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا.
فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، ورجونا أن لا نظلم عندك.
6
فقال النجاشي: «هل معك مما جاء به عن الله من شيء تقرؤه علي؟»
قال جعفر: «نعم!»
وتلا من سورة مريم إلى قوله تعالى:
فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا .
فلما سمع البطارقة هذا القول مصدقا لما في الإنجيل أخذوه وقالوا: «هذه كلمات تصدر من النبع الذي صدرت منه كلمات سيدنا يسوع المسيح!» وقال النجاشي: «إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.» ثم التفت إلى عمرو ورفيقه وقال لهما: «انطلقا، والله لا أسلمهم إليكما!»
صفحة غير معروفة
ولكن عمرو بن العاص لم تخمد جذوة مكره، ولم تنطفئ شعلة دهائه، فعاد من الغد إلى النجاشي بفتنة جديدة، ولكنها فشلت، وقال النجاشي للمسلمين: «ليس بين دينكم وديننا أكثر من هذا الخط.» وقد أخذ عودا وخط به على الأرض، وأحسن وفادتهم، وأكرم ضيافتهم، وعاملهم بالعدل والدعة.
وقد برهن الأحباش وعلى رأسهم النجاشي والبطارقة أنهم شعب كريم عريق في الشفقة والإنسانية والعطف على كل مظلوم أو مضطهد، سواء كان على دينهم أو على دين يخالفه، فغمروا المسلمين المهاجرين بحسن الجوار، وجميل المعاملة؛ مما جعل المسلمين يطمئنون إلى جوارهم، ويسكنون إلى حمايتهم من أهل مكة الذين تتبعوهم بالأذى حتى في المنفى.
ودل النجاشي والأحباش على أنهم أهل مروءة ونجدة، وقد صدق نظر رسول الله عليه الصلاة والسلام إذ بعث بأصحابه إلى الحبشة منتظرا معاملتهم بالعدل والحسنى.
طموح مصر إلى فتوح أفريقيا
آخر جهود مصر في توسيع أملاكها في أفريقيا
تنازلت الحكومة العثمانية في سنة 1866 لمصر عن سواكن ومصوع، مقابل زيادة في الجزية التي كانت تقبضها تركيا من مصر مساناة، فأخذت الحكومة المصرية تسعى في توثيق المواصلات بين مصوع وكسلا، فأنشأت بينهما خطا حديديا يمر في سنهيت التي اعتبرتها مصر داخلة في منطقة كسلا.
ولمدينة كسلا هذه أهمية كبرى من الناحية الحربية؛ لأنها واقعة على أحد روافد نهر عطبرة، وقريبة جدا من الحدود بين الحبشة والسودان، ويكاد يربطها بمصوع خط مستقيم مارا بأسمرا (عاصمة إريتريا)، ولا تبعد كسلا عن حدود إريتريا أكثر من عشرين كيلومترا، فلها في كل وقت أهمية عسكرية كبرى في أي حرب تنشب بين الحبشة وبين أية دولة أخرى «ولو أنها كانت في يد إحدى القوتين المتحاربتين لأكسبتها مزايا لا يستهان بها، بل إن كسلا تستطيع أن تتحكم عسكريا على إريتريا».
1
ولم تكن تلك الأهمية لتخفى على نجاشي ذلك الزمان (1866)، وهو تيودورس، فادعى امتلاك سنهيت للحبشة.
ولكن تيودورس ما لبث أن جر على نفسه حربا مع الإنجليز، وإليك بيان أسباب تلك الحرب بالإيجاز؛ فإن سياسة بريطانيا في شرق أفريقيا في أواسط القرن التاسع عشر كانت في الاتصال بحكام الحبشة، حتى توطدت روابط المودة بين الإنجليز وتيودورس ملك الحبشة، وفي نهاية الأمر جردت عليه حملة انتهت بانتحاره خوفا من الوقوع في الأسر، وسقوط ماجدلا، عاصمة ملكه، في يد سير روبرت ناييبير، الذي صار لورد ناييبير أوف مجدالا بعد انتصاره على الأحباش.
صفحة غير معروفة
وأصل هذا البلاء أنه في سنة 1805 هبط أرض الحبشة إنجليزي عظيم هو الفيكونت جورج فالنتيا، وكاتم سره هنري صولت، فطافا بالبلاد وتعرفا بالملك إمبوالاصيوني، وقدما إليه الهدايا والتحف؛ لأن الهدايا تصون الصداقات، ثم رحلا. وبعد أربع سنين عاد صولت بهدايا نفيسة وخطاب توصية للملك، وهو مزود بأوامر تقضي عليه أن يضع تقريرا وافيا عن أحوال البلاد، وأن يتصل بالقبائل المتاخمة للسواحل ليدعوها للمتاجرة مع بريطانيا.
فنحن نعد الفيكونت وكاتم أسراره طلائع الغزو الأوروبي في الحبشة، وإن كنا نعلم أن إنجلترا لم تكن ترغب في شيء أكثر من اجتلاب الأحباش إلى أسواقها، وهي تتبع في ذلك الطرق الودية والدبلوماسية.
وعاد صولت إلى إنجلترا ووضع كتابا في سنة 1813 عن رحلته إلى الحبشة، وبذلك انتهت مأمورية الرائدين الأولين، وهي سياسة ودية. وفي سنة 1830، زار الحبشة الأسقف جوبات وزار «جندار» بصحبة مستر كوفن الذي رافق صولت في رحلته السابقة، وفي سنة 1840 اتصلت حكومة الهند بالرأس شملا سلاسي، حاكم شوا، وعقدت بينهما معاهدة صداقة وولاء (1884)، وطاف بالحبشة رائدان حربيان؛ هما: هاريس وجونستون، وعقبهما وكيلان من ديوان المخابرات؛ هما: بلودن وبل، التقيا بالسويس وتذرعا بالحيلة والذكاء حتى تمكنا من الطواف بالحبشة، ثم عادا إلى إنجلترا؛ فعين أحدهما - مستر بلودن - قنصلا لدولته في مصوع، وعمله الظاهر الدعوة لترويج المصنوعات الإنجليزية.
وقد قابله لورد بالمرستون قبل سفره إلى الحبشة في سنة 1848 وزوده بهدايا للرأس علي، وأوصاه بتوثيق العلاقات بين إنجلترا والحبشة، فلما وصل بلودن في سنة 1849 إلى الحبشة وقع مع الرأس علي معاهدة، فتناول الرأس القلم مبتسما وقال: «معاهدة لا فائدة منها؛ لأنه ليس في الحبشة ما يغري أحدا من تجار الإنجليز.»
2
وكان الرأس علي أقوى حكام الحبشة، وأحقهم بلقب ملك أو نجاشي، وقد تنازل لبريطانيا عن حق حماية الرهبان الأحباش في القدس.
ظهر في أفق الحياة الحبشية «لدج كاسا» (بعد ذلك تيودورس الثاني)، وكان شهما مجازفا، فتغلب على خصومه ومزاحميه، وكان رجلا خياليا يعتقد أنه بطل رباني مرسل من العناية الإلهية لأداء وظيفة سامية للوطن، وهي جمع كلمة الأحباش، ولم شعثهم تحت علم واحد؛ لتبلغ ذروة المجد والقوة، فيخشاها العالم كله.
وكان الرأس علي يرى غير رأيه، ويفضل التأني وتقديم الرأي على الشجاعة، فكانا في أخلاقهما على طرفي نقيض، فساءت العلاقة بينهما ، وتنازلا في مواقع عدة انتهت بأن خلص لدج كاسا من الرأس علي بأن أصابه بجرح في رأسه أرداه قتيلا.
وتوج كاسا ملكا على الحبشة باسم تيودورس الثاني؛ لأنه علم من بعض الأساطير أن سيأتي على الحبشة ملك قوي اسمه تيودورس يلم شمل الأمة والوطن، ويحكم بالعدل والإنصاف، فترهب الدول جانبه، ويعم اليسر والرخاء عهده، فاعتقد كاسا (ومعناها بالحبشي عوض) أنه هو المقصود بالذات، وإن لم يعتقد فقد أراد أن يكون هو، فتوج في 7 / 2 / 1855 ملك ملوك الحبشة.
واجتمع الصديقان بلودن وبل ثانية في معسكر تيودورس عقيب تتويجه، وقد تزوجا من سيدتين حبشيتين عريقتين في المجد، وكانا صديقين للرأس علي، فلما قهره كاسا؛ لاذا بمعسكر الغالب معا.
صفحة غير معروفة
وقام تيودورس ببعض شئون الإصلاح في البلاد، وحدث أن مستر بل (أحد الاثنين) قتل برصاصة طائشة مجهولة المصدر، فحزن عليه تيودورس حزنا شديدا؛ لأنه كان يعول عليه، وكان يجد في عشرته السلوة التي يلقاها الملوك في الندامى.
فكان عهد تيودورس نذيرا بهلاك الصديقين؛ فإن بلودن الذي بقي بعد مصرع بل، وهو قنصل إنجلترا بمصوع، مرض وأراد السفر إلى وطنه للعلاج، فأبى عليه تيودورس مفارقته، فخطفه بعض خصومه، ودفع النجاشي ديته، ثم اشتدت عليه وطأة المرض، فتبع رفيقه السابق بل إلى الدار الآخرة، وبموتهما فقد النجاشي تيودورس (كاسا سابقا) خير أعوانه، فساءت علاقته بإنجلترا حتى نشبت الحرب بين إنجلترا والحبشة.
فطلب الإنجليز من حكومة مصر (عهد إسماعيل) أن يأذن لهم باجتياز بعض الأرض المصرية الواقعة على بحر القلزم، فلم يكتف إسماعيل بإجابتهم إلى ذلك، ولكنه لاستيائه من تيودورس وضع الأسطول المصري كله، الذي كان في البحر الأحمر، تحت تصرفهم، وكلف حاكم مصوع بمساعدة الإنجليز في كل ما يرغبون، وانتهت الحرب بين إنجلترا والحبشة بموت تيودورس، كما قدمنا، في سنة 1868، وصيرورة العرش الحبشي إلى يوحنا.
الرأس يوحنا وحروب مصر والحبشة
كان يوحنا في أول أمره راهبا صغيرا في دير، ولكنه ما لبث أن تركه وترأس عصابة من الأقوياء، وأخذ يقطع الطريق على السابلة، ثم اشتد ساعده، وزاد بطشه، وعلا نفوذه حتى تمكن من تبوء كرسي الحكم في مقاطعة البحري، والتغلب على الرأس باريو.
ولما جاء الإنجليز لمحاربة تيودورس ساعدهم يوحنا مساعدة فعالة؛ فكافأه لورد ناييبير أوف مجدالا
3
بعد قهر النجاشي وموته، بأن ترك له اثني عشر مدفعا، وألفي بندقية، وميرة كثيرة ليستعين بها على الحلول محل تيودورس، وبعد انسحاب الجيش الإنجليزي تخلف عنده بريطاني اسمه جون تشارلز كركهام، فعضد يوحنا في التغلب على بعض خصومه، فعلت عنده منزلته، وبما أن يوحنا لم يكن من آل بيت الملك، أبى كثيرون من رؤساء الأحباش الاعتراف به، وأخذوا يناوئونه العداء، وأهمهم رأس قبيلة القالا، فانشغل بقتالهم حينا من الدهر.
وكانت الدولة المصرية قد توغلت في فتوحها حتى بلغت خط الاستواء، فوقع في خلدها أن تجعل النيل كله مصريا، فسيرت حكومة مصر إلى جوف بلاد الحبشة رجلا سويسريا اسمه متزنجر لمعرفة أحوالها، واستمالة كبار رءوسها، فتوغل متزنجر في الحبشة، وغاب خبره حينا عن مصر، ثم عاد حاملا شيئا من منتجاتها، وزين لحاكم مصر إذ ذاك، وهو الخديو إسماعيل، التغلب عليها وامتلاكها، مغتنما فرصة الفتنة بين أمرائها، وأقسم له بأغلظ الأيمان أنه يملكها ويدوخها بنفر من العسكر المصري وشيء يسير من النفقة.
فأعجب الخديو برأيه، ومال إليه، فولاه الحكم على مصوع (مفتاح الحبشة)، فسار متزنجر إلى مقر وظيفته، واغتنم في سنة 1872 فرصة غياب يوحنا في محاربة القالا في الجنوب واستولى على سنهيت المذكورة آنفا، وهي عاصمة البوغوس، وتعرف باسم «كرن»، واستمال الرأس محمد الذي كان يكره يوحنا، واشترى منه مقاطعة قريبة من مصوع اسمها «آيلت».
صفحة غير معروفة
وخشي يوحنا عاقبة الفتح المصري، وأخذ يرى شباك الدولة المصرية حوله بعين الرعب والحذر، وينظر إلى تقدم الجنود بقلب مضطرب، ووقع في خلده في أول الأمر أن يستظل بحماية أوروبا بأن يصور لهم الهجوم المصري بصورة غزو إسلامي لبلاد مسيحية، يستدعي أن تقابله النصرانية الأوروبية بحرب صليبية جديدة، فأرسل صديقه جون شارلز كركهام إلى الملكة فيكتوريا وباقي عواهل أوروبا في تلك المهمة، ولكنه لم يجد من أحدهم أذنا مصغية، وعاد رسوله بخفي حنين.
وأيقن يوحنا أنه لا يحك جلده مثل ظفره، فصمم على أن يتولى جميع أمره، وأن يقوم بالدفاع عن نفسه بنفسه.
وفي سنة 1874، توفي السلطان أحمد سلطان هرر،
4
وتولى السلطنة بعده الأمير محمد، فاستبد بالأهلين، فاستنجدوا بإسماعيل، فأخذ يسعى في شراء زيلع وبربر، ثغري هرر، من الدولة العثمانية، وتمت الصفقة، وتنازل الباب العالي عنهما في يوليو سنة 1875، مقابل زيادة 13365 جنيها على جزية مصر السنوية.
فامتد سلطان مصر على ساحل القلزم الغربي عامة من خليج السويس إلى تجوره، وتجاوزه إلى رأس جردافوي على المحيط الهندي متناولا بذلك نفس أرض الصومال.
وعقدت الحكومة المصرية لواء حملة لمن يدعى رءوف باشا، فاحتلت مدينة هرر في 11 أكتوبر سنة 1875، وقبض قائدها على السلطان محمد وقتله خنقا بحيلة في حفلة دينية حينما كان السلطان جالسا يصلي أو يذكر، وقتل معه خمسة وعشرين شيخا من الزعماء، واستولى على كل ما كان يملكه ذلك السلطان.
5
وقد شبه لحكومة مصر بعد شراء زيلع واحتلال هرر أن اكتساح الحبشة بات أمرا لازما، ولم يعد منه مناص، فجهزت حملة الأميرالاي أرندروب الطوبجي الدانماركي في شتاء 1875، فسار قاصدا إلى «عدوة» إحدى عواصم يوحنا. وكانت إنجلترا وفرنسا قد سلحتا الحبشة بالأسلحة النارية، سواء بالبيع أو بالإهداء.
وفي أكتوبر سنة 1875، علم يوحنا بزحف المصريين نحو أسمرا، فاستنفر جميع المقاتلين من رعاياه في سائر أنحاء المملكة، فلبوا نداءه أفواجا، وأخذ يوحنا يمكر بجيش أرندروب ويخدعه، فيتقدم تارة ويتأخر طورا، ثم يختفي، ويظهر بعد ذلك فجأة، ولا يلبث أن يعود إلى الاختفاء لإطماع عدوه في نفسه، حتى انطلت حيلته على المتحمسين في الجيش المصري، ولم يكن هذا إلا استدراجا من يوحنا لخصومه، والتقى الجيشان على ضفاف نهر المأرب، وكان عدد الأحباش بنسبة ألف لكل عشرة من المصريين، فهزموا.
صفحة غير معروفة
فبادرت مصر إلى تجهيز حملة أخرى تحاط بجميع مسببات الفوز وتسييرها للحال؛ للاقتصاص من الأحباش، وللاقتصاص لشرف مصر، بحيث تبلغ الغرب في آن واحد أنباء كسرة أرندروب، وأنباء فوز الحملة المرسلة للثأر لها فوزا ساحقا، فتستمر الثقة بمصر تامة، وتزداد على مر الأيام رسوخا، وتم ذلك وسلم لواء الحملة إلى السردار راتب باشا،
6
وكان مولدا من أب شركسي ووالدة سودانية، وكان شجاعا أبي النفس لا يهاب الموت، ولكنه كان كثير التردد في الحرب والسياسة.
وقد أوصت الحكومة المصرية راتب باشا وبقية قواد الحملة، وهم من الشركس والترك والأمريكان والأوروبيين، بمراعاة شروط القانون الدولي في الحرب، واتباع الأصول المتفق عليها عند الأمم المتحضرة، فيمنعون الجيش من ارتكاب أي عمل وحشي، ويحملون الجند على تجنب الإساءة إلى غير المحاربين من الجيوش، فلا يقلعون زرعا، ولا يهلكون ضرعا، ولا يقتلون شيخا، ولا يذبحون طفلا، ولا يهينون امرأة، ولا يحرقون بيتا.
ولم تكتف الحكومة المصرية بتوصية السردار راتب باشا بكل هذه الوصايا السبع، بل جعلته مسئولا مسئولية شخصية عن كل مخالفة تقع من هذا القبيل، وسافرت الحملة وكلها أمل في الفوز والنجاح
7
في 14 ديسمبر سنة 1875.
ومن غرائب المصادفة أن رئيس حركة النقل في تلك الحملة كان أحمد عرابي بك - الذي أعدته الظروف في الأيام التالية لإضرام نار الفتنة العسكرية المعروفة في التاريخ باسمه - وكان رأي الضباط الأمريكيين فيه حسنا جدا، ويقول الكولونيل داي إن عرابي كان يكون ضابطا من خيرة الضباط في قطر غير القطر المصري، فاستبدل وأقيم مكانه الضابط شاكر الشركسي. وضابط مصري آخر هو علي الروبي أفندي، الذي اشتهر فيما بعد في حوادث الثورة العرابية، عهد إليه برياسة فرع المهمات، وكان ضابطا من أحسن الضباط، وامتدحه رؤساؤه وزملاؤه الأمريكيون.
وكان النجاشي يوحنا يتقدم نحو الجيش المصري المنكود الطالع كسابقه بخطى الثعالب وعزم الأسود، حتى أصبح على بعد بضع ساعات من «تياخور» و«عدي راسو».
وفي يوم 7 مارس سنة 1876
صفحة غير معروفة
8
وقعت الواقعة، ففوجئ الجيش المصري، وقائده الشركسي المولد، وأركان حربه المختلط
9
بجيش النجاشي قادما من ناحية دنجل وامهور من الجنوب والشمال والغرب، وتدفق الأحباش من كل صوب بصياح وصلصلة سلاح مزعجين، وسميت موقعة «قرع».
غير أنه إذا بكت مصر دمعا سخينا على أولادها الذين ضحى بهم في تلك الأودية السحيقة جهل قوادهم الأتراك والشراكسة، فإن الحبشة وإن تغنت بالفوز في «قرع» لم تجد بدا من البكاء بدل الدمع دما، فإن عدد قتلاها لغاية 10 مارس سنة 1876 بلغ خمسة آلاف، ناهيك بالجرحى، والذين فروا ولم يبلغوا ديارهم إلا معطوبين.
وقد ثبت أن الجيش الحبشي الذي فتك بأرندروب وحملته كان يزيد على سبعين ألف مقاتل، ولم يقل الجيش الحبشي الذي قاتل في «قرع» عن خمسين ألفا.
وفي 12 مارس دارت مفاوضات الصلح بين مندوب النجاشي والسردار راتب، فصدر الأمر إلى السردار بعقد الصلح بأحسن ما يمكن من الشروط، والجلاء عن البلاد.
الاسم والمعتقد والأخلاق والأصول الأولى
أصل الحبشة من اسمها يدل على الجمع والضم واللم، وفي لغة العرب «حبش» جمع، و«تحبش» القوم تجمعوا، و«الحباشة» جماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة. ولما صار لفظ «الحبشة» يدل على جنس معلوم من بني آدم نسبت إليهم الشدة في السواد، وفي حدة الأصوات. وفي العربية المحكية في مصر يقال: «تحبيشة» و«حباش» مجموعة مؤلفة من جملة عناصر خصوصا في الطعام أو الفاكهة.
وهذا الاسم ينطبق على الواقع؛ فإن أهل الحبشة خليط من شعوب مختلفة، أولها الفرع الشرقي من أسرة حام، وهو أغزرها عددا، وأقدمها إقامة، وأعرقها أصلا، وهم الكثرة الغالبة في الأمة، ويرجع احتلالهم لهضبة الحبشة إلى ما قبل العصر الحجري، ولم يتمكنوا من الاحتفاظ بنقاوة دمائهم، فاختلط بهم زنوج على الفطرة من سكان النيل الأبيض، وحميريون من أصل سام من جنوب جزيرة العرب.
صفحة غير معروفة
ولا تزال آثار هذا الاختلاط ظاهرة في شمال الحبشة، وأهل هذه المنطقة يسمون أنفسهم «إيتو بيافيان»، وهم الذين أطلق عليهم العرب اسم الأحباش أو «الخليط»، ومن كلمة حبش جاءت كلمة الإفرنج «إبيسنيا».
وما زال العنصر السائد في البلاد هو العنصر الحميري السامي، ولو لم يمتزج هذا العنصر بالزنوج لأمكن الاحتفاظ بكل مقوماته القومية، ولكن خالطته دماء سوداء، وأدى هذا الاختلاط إلى تحول في اللون، وفي شكل الشعر، وتباين التقاطيع في سحنة الرجال والنساء.
1
واللغة الحبشية الرسمية التي يتكلمها المتعلمون فنن من اللغة السامية، وترجع إلى اللغة الحميرية أقدم فروع اللغة السامية، وقد جلبها معهم النزلاء الأول الذين نزحوا من اليمن إلى ضفاف عطبرة ومأرب والنيل الأسود وبحيرة تانا.
وكان الشعب الحبشي يدين بالوثنية الأفريقية، فدخلت عليه معتقدات سامية، ولكن الدين الإسرائيلي لم ينتشر فيه لأسباب كثيرة، إلى أن جاء القرن الرابع المسيحي فأدخل فرمنتيوس السكندري النصراني العقيدة النصرانية، وما زالت ديانتهم إلى الآن. وقد يعجب الإنسان من بعض المفارقات الاجتماعية التي تجمع بين المتناقضات؛ فالنجاشي وهو ملك مطلق أو ملك الملوك يتمتع بسلطة لا تحدها العادات المرعية، وهي قانون عرفي محفوظ غير مكتوب ولا مدون، ويتحتم على كل إنسان أن يحترمه ويرعاه. ويخضع للنجاشي كل الرءوس، وتحت الرءوس الدجازماك والكانيازماك، وهما رئيسا الميمنة والميسرة.
وما زالت بعض الأحكام تصدر بما يخالف القوانين المعمول بها في أنحاء العالم؛ لأن الشعب الحبشي صرف كل جهوده نحو الدفاع عن استقلاله، فلم ينتبه إلى ناحيات الحضارة الإنسانية، فإن بعض ممالك أوروبا وأفريقيا لم تترك له فرصة إلا ليلم شعثه، ويجهز جيشا من المحاربين الأشداء، وعمله الوحيد الذود عن حياض استقلالهم القومي، وحريتهم الوطنية، ثم إن أوروبا هذه التي لم تترك فرصة لهؤلاء المساكين يلتمسون أثناءها وسائل الترقي التي نالتها أوروبا نفسها في هدوء وأمان، منذ القرون الوسطى إلى الآن، نرى أوروبا هذه تعير الأحباش بأنهم لا يطبقون في محاكمهم قوانين بونابرت، وأنهم لا يزالون يستعملون السحر والمندل في اكتشاف المجرمين، ويأخذون بما يقول به طفل منوم على يد قسيس صادق، أو مشعوذ دجال، وأنهم لا يزالون يخلطون بين القتل العمد والقتل الخطأ.
2
وأن مسيحيتهم لا تزال فطرية ولم تخلص من شوائب قديمة ... كل هذا تنسبه بعض ممالك أوروبا للحبشة، وتنسى أنها هي السبب في بقاء تلك العورات التي تضخمها وتبالغ في وصفها، وتهول بها حتى تسيء إلى سمعة الحبشة. ونسيت هذه الممالك الأوروبية أن الحبشة كانت مستقلة ومتمتعة بالحرية عندما كانت تلك الممالك نفسها ترزح تحت نير حكام وطغاة وظالمين مستبدين من أهل البلاد وغيرهم.
إن الأحباش فضلوا أن يعيشوا أحرارا وهم حفاة عراة يقاومون الجوع والظمأ، ويقاسون أهوال الفقر والفاقة، وقد وضعوا الحرية والعزة القومية فوق كل اعتبار آخر. وفي الوقت نفسه تعيش على ظهر هذه الأرض أمم سابحة في بحبوحة من النعم، وسارحة في فردوس من الهناء المادي، ولكنها في الوقت نفسه رازحة تحت نير العبودية، وأفرادها يلبسون الخز والديباج والحرير والسندس، ورجالها يحلون صدورهم بالنياشين والأوسمة، ويحملون ألقاب الشرف المصطنع، والتي يظنون معها أنهم فوق البشر، ويدوسون في رفق ولين بأقدام مكسوة بجوارب من الحرير الناعم، وفي أحذية من جلد ملون لين الملمس على أرض ممهدة لا أشواك فيها، ولا صخور جارحة.
وإنه ليوجد رجال من العقلاء والعلماء والشرفاء، والذين يؤخذ برأيهم، ويقام لقولهم وزن. وهؤلاء الرجال يفضلون في صراحة وشجاعة حياة الأحباش وأخلاقهم على أنهم حفاة وعراة وفقراء، وجائعون وعطشانون؛ لأنهم متمتعون برجولتهم كاملة، ولأنهم يعرفون أسمى حقوق البشر، ويحتفظون بها، ويدافعون عنها. يفضلونهم على هؤلاء الأعيان والنبلاء الناعمين المنعمين «المطقمين»، «المطمرين»، «المجمرين» كأنهم خيول مطهمة أعدت لركوب سادتها في الحرب والسلم، ومع كل تلك النعومة والرشاقة وحسن القيافة تجد هؤلاء السادة بمعزل عن إدراك المثل العليا التي تمجدها أوروبا، والتي أدركتها الحبشة وهي لا تزال على الفطرة الإنسانية.
صفحة غير معروفة
وحجة هؤلاء الرجال في هذا الحكم الذي يبدو غريبا، هي أن كل العلوم والمعارف، والثقافة، والتربية الفردية أو القومية، وتهذيب الأمة للأم، وعناية الوالد بالولد، وتمجيد آثار الجدود، وصيانة التقاليد في الأسرة والقوم والوطن، وكل ما تؤدي إليه معدات الحضارة الحديثة. كل تلك ترمي إلى غاية واحدة؛ وهي غرس بذور الحرية والشجاعة في قلوب الأمة، والاستهانة بالماديات في سبيل المعنويات، وتفضيل الحياة العليا المحفوفة بالمهالك على الحياة الدنيئة المحاطة بأنواع النعم والملذات.
وقد قام نزاع قديم بين علماء التربية وعلماء النفس على أي نوع من تربية الأطفال أصلح لتنميتهم على أرقى المبادئ وأسماها؛ حتى يصبحوا رجالا يعتمدون على أنفسهم، ويفضلوا الصالح العام على الصالح الخاص، ويقدموا منفعة الوطن على منفعة الأسرة والفرد.
فقالوا: تربية الأنجلو سكسون هي المثلى، وألفوا في ذلك كتبا منها: «سر تقدم الإنجليز السكسون»، وسبقه أميل روسو، وأميل القرن التاسع عشر، ثم قالوا: التربية الفرنسية أو الألمانية.
وإنهم لكذلك وإذا بتربية الحراج والغابات والهضاب ورءوس الجبال والخلاء والعراء تبذ كل هذه الأنظمة، مع أنها تربية لا تنطوي على برنامج دقيق لآداب المائدة، أو قواعد الرقص الحديث، أو بيان النظم التي تحتم لبس القمصان اللامعة، وسترات الأسموكنج والفراك. هذه التربية البعيدة جدا عن حياة الصالونات، والبعيدة جدا عن «نفاق المجتمع المثقف ثقافة عليا» بذت جميع مظاهر الحضارة الأخرى في وجوب الدفاع عن كيان الأمة التي ينتمي الفرد إليها.
وإن أوروبا التي تعيب على الحبشة ما تعيبه حتى يصفها بعض المتعنتين أنها لا تستحق وصف الأمة، ولا تسمو إلى عضوية جامعة الأمم، تتناسى وتتجاهل أن الحبشة قضت أكثر من ثلاثة قرون منعزلة عن العالم المتمدن، ومحاطة بقبائل معادية تقطن الأراضي الجرداء، والصحاري الصخرية الملتفة حول الهضبة الخصيبة التي أوت إليها النواة الأولى التي تكون منها الشعب الحبشي، وأن هذا الهامش الصخري الأجرد الخالي من كل عناصر الحياة ومظاهرها ليتسع حتى يبلغ ثلاثمائة ميل أحيانا، فهو نطاق فظيع قاس ضربته الطبيعة بيد من حديد، وجعلته حائلا لا يغلب. عدو من الحجر الصلد، وحارس لا ينام وإن كان من جلمود الصخر.
وفي تاريخ الأمم وأخلاقها ساعات حاسمة، ومواقع فاصلة، فتمتاز أمة عن الأخرى وتفضلها بالطريقة التي تقابل بها صروف الدهر في تلك الساعات، وهاتيك المواقع، ومثلها في ذلك مثل الأفراد لدى الشدائد والملمات، فنرى أمة يهولها اعتداء الأجنبي عليها، ويفت في عضدها، ويضعف من نخوتها، وينهك من قوة إرادتها، وما تزال تنحط وتتهالك وتنحل عناصرها حتى تتوارى وتهلك.
وهذه أمة غير صالحة للبقاء، وعاجزة عن الكفاح في سبيل الوجود، وهي أمة كتب عليها الفناء، وحكم عليها بالنفاد، ولا فرق في ذلك بين أمة قديمة أو حديثة، عريقة أو طارئة، متدينة بدين منزل أو وثنية، شرقية كانت أو غربية.
وهناك أمة تزداد قوة كلما تعرضت للآلام، وتنمو فيها الفضائل الدفاعية والهجومية كلما اعتدى عليها الأغيار، أو قبض على خناقها القرباء، تتيقظ فيها فكرة المجد كلما حاقت بها الأخطار، وتدب فيها حيوية جديدة كلما حاول عدوها إدناءها من الموت، وتسري في أعضائها دماء جديدة، وتجري في أعوادها أمواه الحياة.
ومن هذا النوع الثاني أمة إثيوبيا، فقد كانت نتيجة احتكاكها أثناء القرن التاسع عشر احتكاكا سياسيا، تارة تسوق إليه الصداقة، وطورا يؤدي إليه العداء مع ثلاث ممالك من أهم ممالك العالم، وهن مصر وبريطانيا وإيطاليا، أن أفادت الحبشة من التقبيل والضم مرة، والتصادم والتلاحم أخرى، والرمي بالورد والهدايا تارة، والتراشق بالنبال والسهام طورا، أنها جمعت كلمتها، ولمت شملها، وتعلمت من سياسة هذه الدول الثلاث - وقد كانت كل منها إمبراطورية في عصرها - ومن ضروب سياستها وفنون حروبها ما جعلها في نهاية القرن التاسع عشر تخرج ظافرة قاهرة غالبة فائزة رافعة علم الحرية تحت لواء منليك الأول، أحد ملوكها.
وكان يعرف من قبل بملك شوا، وقد صار نجاشي الحبشة وإمبراطورها بعد أن أخضع تيجريه، ولاستا، وأمهرا، وجوجام، وعناريا، وجراجحة، وولموا، وجيما، وغيرا، وجوما، وليكا، وواليجا، وكافا.
صفحة غير معروفة