بين الأسد الأفريقي والنمر الإيطالي: بحث تحليلي تاريخي ونفساني واجتماعي في المشكلة الحبشية الإيطالية
تصانيف
2
وهذا ما يعجز عنه أهل أوروبا عامة، وأهل الجنس الأبيض خاصة. وروى لنا بعض كبار ضباط المصريين الذين عاشوا في الحبشة أن الحبشي يستطيع أن يطوي مسافة تتراوح بين 25 و40 ميلا في اليوم، ويقضي في ذلك بضعة أيام متوالية دون أن يكل، فإذا ما ركبوا، اعتلوا صهوات بغال أهلية خفيفة الحركة، كثيرة الصبر، قنوعة باليسير من الغذاء، ويمكنهم أن ينقلوا على ظهورها المدافع إلى قمم الجبال المنيعة، فيعرقلون تقدم العدو باستعمالها من أعاليها. وغير خاف أن الرامي بالحجارة من أعلى جبل أقوى من المحارب في السهل مهما كان سلاحه.
ولما كان الأحباش يحاربون وهم عصابات متفرقة، خفيفة الحركة، عارفة بالبلاد؛ فإن الطليان مضطرون لجماعات كبيرة من جنودهم، ليتغلبوا على تلك العصابات، ولكن تلك العصابات لا تحارب لتهزم أمام القوات الغازية، ولكنهم يستدرجونهم إلى الأودية والخنادق الطبيعية ليمزقوا شملهم.
3
قال سنيور موسوليني إنه حسب لكل شيء حسابه، فهل حسب حساب شق الطرق، وبناء الجسور، ونقل المواد اللازمة لها من إيطاليا إلى جنوب البحر الأحمر، ومنه إلى أسمرا ثم إلى المناطق التي يحتلها الجيش الزاحف؟ وهل حسب حساب السيول التي تجرف أثناء تدفقها الجسور والطرقات والمستودعات ومواد البناء؟
تكلمنا عن الإريتريا، وما تكلفته إيطاليا في سبيلها من القناطير المقنطرة من الذهب، والجيوش المجهزة، وأثبتنا أنها لم تعد على إيطاليا بطائل، وليس لهذه المستعمرة قيمة سوى أنها تسيطر على منافذ التجارة الحبشية من الشمال، وهي تجارة يسيرة، وأكبر الصعاب فيها تعرض أهاليها لقلة الماء الناشئة عن ندرة الأمطار، وقصر فصلها في كل عام.
ولكنها تصلح قاعدة عسكرية، ولعل هذه الصلاحية هي التي أغرت الطليان بها، فبذلوا ما بذلوا ظنا منهم أنها تسهل عليهم الاستيلاء على الحبشة، ولكن ما عرف عن الأحباش من حبهم للحرية، وتمسكهم باستقلالهم يجعل كل طمع في التوسع متعذرا إن لم يكن مستحيلا.
فقد سلحت الطبيعة هذا الشعب النبيل بطبيعة البلاد الجغرافية والطوبوغرافية، فكانت تلك الطبيعة من أقوى الوسائل التي يعتمد عليها الأحباش في الدفاع عن الوطن وحريته.
وإن الصعوبات التي تنتاب الطليان من الجنوب لا تقل عن مهالك الشمال؛ فإن الجيش الإيطالي الذي يحاول التقدم من موغاديشيو في جنوب الصومال الإيطالي الواقعة على مصب نهر وبي شبيلي لا بد أن يخترق منطقة جافة طولها 200 ميل، قبل أن يصل إلى آبار وال وال وغرغوبي الواقعة في مقاطعة أوغادن - وهي أصل النزاع بين الدولتين - ولا يشبه هذه المنطقة في الجفاف إلا صحراء الدناكل الواقعة بين الهضبة والبحر في الجنوب الشرقي من عدوة وأكسوم وأديجرات ... وهذه المنطقة الصحراوية جافة جافية، وبيئة واطئة، ولم يفلح في اختراقها من رواد أوروبا إلا لودفيج نسبيت، الذي لقي في سبيلها من المصاعب والمتاعب ما جعله يسميها «عقر الخليفة الجهنمي».
4
صفحة غير معروفة