بين الأسد الأفريقي والنمر الإيطالي: بحث تحليلي تاريخي ونفساني واجتماعي في المشكلة الحبشية الإيطالية
تصانيف
وهذه السيطرة واسعة النطاق حتى إنها تدب في نفوس التابعين في حضرة الزعماء وغيبتهم، وحتى بعد موتهم تكون لهم طاعة تامة؛ فيمتد سلطانهم إلى ما بعد الموت بمئات السنين أو ألوفها.
وقد يقوى هذا النفوذ كلما تغلغلت آثار الزعيم العظيم في أحشاء الزمان كما هو المشاهد في تأثير الأنبياء وكبار القادة والحكماء، فيكفي أن تذكر رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، أو عدل عمر، أو صداقة أبي بكر، أو حكمة سقراط، أو هيمنة بونابرت حتى تستعيد ذكراه وأعماله، فيكاد يكون لديك ماثلا.
وإذا سارت فكرة السيطرة في النفوس قضت على فكرة الانتقاد أو المحاسبة، فيمسي كل ما يقوله الزعيم ويفعله، أو ما قاله وفعله فوق البحث، وبعيدا عن دائرة التمحيص، ويمسي الأتباع أو المؤمنون كأنهم مسحورون؛ ولذا وصف القرشيون محمدا بأنه «ساحر» لا لبلاغة القرآن فقط، بل لقوة الرسول في اجتذاب القلوب وتأليفها.
وهذه السيطرة قد تستمد من شخصية الزعيم كما كانت الحال لبونابرت، أو من مكانته في المجتمع وشهرته بعلمه أو منصبه أو ماله. وهذا هو السر في اختراع الأزياء الرسمية، والملابس المزينة، والأوسمة، والنياشين، والعلامات الدالة على الرتب، ولكن هذه الوسائل المصطنعة لتكوين السيطرة وخلقها في النفوس لا حاجة بها لمن حبتهم الطبيعة بالقوة الشخصية الجذابة التي لا تحتاج إلى كلام، أو وعيد، أو تهديد، أو ثياب مزركشة تجعل لابسها كالخيل المطهمة!
ومن هذا القبيل ما وقع بين محمد وعمر بن الخطاب؛ فإن نظرة من النبي كفت لتغيير قلب عمر، فقد كان أشد الناس بغضا له، ثم انقلب من أخلص أصدقائه، وأطوع أتباعه، وهذه القوة الجذابة تحير الناظر إليها، وتوقع في قلبه الرعب، وما تزال الحيرة والرعب حتى يتمكن حب الزعيم من قلوبهم.
ثم يأتي النجاح، فيتوج عناصر المجد التي يحتاج إليها الزعيم، فيفرح أتباعه به، وتتوطد أركان محبته في قلوبهم، فيؤمنون به، ويضحون بأنفسهم في سبيله؛ لأنه يصبح حقيقة خالدة ثابتة لا تهتز ولا تتزعزع. وقد يكون النجاح وحده سببا للعظمة ولاحترام الجماهير؛ لأن النفس البشرية مفطورة على الإعجاب بالناجح «ولأم المخطئ الهبل» ليس عند العرب وحدهم، بل عند كل الأمم.
فإذا كان كل عماد الرجل في السيطرة على ما يواتيه من النجاح، فإن هذه الدعامة ضعيفة، بل منهارة؛ لأن النجاح أمر وقتي، وليس مضمونا دائما، ومن يصادفه النجاح اليوم قد يخطئه غدا.
ولكن الزعيم الصحيح هو الذي يعتمد على مواهبه الفطرية، ثم يأتيه النجاح فيزيده سلطة ونفوذا، ولكن هذا النفوذ لا يجوز أن يكون عرضيا بحيث إذا تركه النجاح يوما فلا يقلل ذلك الإخفاق من سلطانه على النفوس.
وقد رأينا في تاريخ الزعماء أن الفشل لا ينال منهم (موقعة أحد في تاريخ محمد عليه الصلاة والسلام)، بل قد تنقلب العادة، فيقوى مركزه بالفشل؛ لأنه يعد نفسه لنجاح أعظم وأبهر من الذي فقده.
وقد تخلق الشعوب أربابا تعبدها!
صفحة غير معروفة