بين الأسد الأفريقي والنمر الإيطالي: بحث تحليلي تاريخي ونفساني واجتماعي في المشكلة الحبشية الإيطالية
تصانيف
النظام الفاشي ومشكلة الحبشة
لا نريد أن نعرض للنظام الفاشي بخير أو بشر، حتى ولا بالنقد البريء المباح؛ لأننا لا نريد أن ننزل بهذا البحث إلى مستوى الجدل، وإن كنا نحترم السياسة ونقدرها، ولكننا نعلم أنها كثيرة المزالق، ومواطن التحليل فيها تدني من الخطأ الذي قد لا يغتفر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن النظام الفاشي الذي ابتكره السنيور بنيتو موسوليني المعروف في العالم باسم الدوتشي؛ أي الزعيم، قد أثبت وجوده وقدرته على الحياة، فقدم بذلك البرهان التاريخي الذي لا بقاء لنظام اجتماعي أو سياسي بدونه.
وفوق هذا قد أثبت هذا النظام والقائمون به أنه أدى لوطنهم خدمة جلى، وقضى على شرور كثيرة، وجلب خيرا وفيرا، ودل بذلك على أنه النظام الصالح للوطن الإيطالي. وقد أثنى عليه كل من شهده وجنى شيئا من ثماره داخل إيطاليا، وقد قلب إيطاليا رأسا على عقب، وقال بعض محبذيه: إنه جعل من بلادهم جنة على الأرض، وإن الذين زاروا إيطاليا قبل تفشيه يكادون لا يتعرفونها بعد انتشاره وقيامه وتسلطه؛ لأنه صبغ كل شيء بصبغته التي أسسها النظام المطلق، والأمان المطلق، والأمانة المطلقة.
ولكن هذا النظام العجيب الذي وحد كلمة الأمة، وجعلها كرجل واحد، وأخضعها لرجل واحد، وعلق سائر آمالها برجل واحد، قد حكم عليه ذووه بأنه نظام قومي. وخطب سنيور موسوليني نفسه في سنة 1928 وقال: «إن الفاشية بضاعة لا تصلح للتصدير، ولا تضمن نتائجها خارج حدود إيطاليا.» ولا نعلم إن كان قال هذا القول تواضعا، أو حثا للأمم على الاقتداء به، ولكن وجب علينا أن نصدقه؛ لأن رب الدار أدرى بما فيها.
ولم نسمع بصاحب مذهب سياسي أو اجتماعي قبل الدوتشي يحجر على مذهبه، ويحرم عليه الخروج من كسر بيته، بل على العكس تعود أصحاب المذاهب أن ينسبوا إليه الصلاحية المطلقة، والقدرة المطلقة، والنجاح المطلق في كل زمان ومكان، وإذن لا بد أن يكون سنيور موسوليني قد ذكر هذا القول عن مذهبه لحكمة خفيت على سامعيها في ذلك الحين.
وأظن بعض الناقدين لمحوا إليها عرضا في كتبهم فقالوا: إنه نظام جميل ونافع، ولكنه يجعل الأمة معلقة بأهداب رجل بعينه، فإن شاخ أو مرض أو مات (مد الله في أجل الدوتشي ليجني ثمار أقواله وأعماله في الأولى وفي الآخرة) إذن لتعطلت الأداة الحكومية، وتلكأت في انتظار ظهور خير خلف لخير سلف! في حين أن الواجب يقضي بأن تكون القوانين العامة والخاصة هي الأداة الصالحة للحكم بدون اعتبار الأشخاص.
ومما لا ريب فيه أن هناك نظريات متعارضة فيما يتعلق بالقوانين، وطريقة تنفيذها، فقد يكون القانون الرديء أداة حسنة في يد رجل فاضل، كما يكون القانون الطيب أداة سوء في يد ظالم أو مستهتر. وسوف يعالج المؤرخون في المستقبل مسألة الفاشية؛ هل قامت على عنق رجل واحد وتفكيره، أم قامت على دعائم قوانين عادلة فاضلة، أم أنها نهضت بالأمرين معا: الرجل الفاضل والزعيم الكفؤ والقوانين المنصفة؟!
ومهما يكن حكم المستقبل على الفاشية؛ فإن الكثرة من الكتاب أجمعت على نفعها في مسقط رأسها، والقلة المدركة ومنها من أوذي وهاجر باختياره، أو نفي مرغما، ومنهم من ألف كتبا صوب فيها سهام نقده إلى الفاشية.
ونحن مع محافظتنا على الحياد الذي أعلناه في مستهل هذه الكلمة، نعتقد أن الفاشية وإن نجحت في الداخل، فلم تجد لها نصيرا في الخارج، ولم يفز مقلدوها بطائل لا في إنجلترا ولا في أيرلندا. ولا يصح القول بأن الهتلرية نوع من الفاشية، وإن كانت تشبهها في تفرد رجل واحد بالسلطة، ولكن الذي يفرق بين الفاشية والهتلرية هو أن الأولى قامت باسم الإصلاح الداخلي، والأخيرة قامت باسم حماية الوطن من الاعتداء الأجنبي، والخلاص من قيود معاهدة فرساي.
وإذن قامت الهتلرية لتكون وسيلة لغاية تختلف عن غاية الفاشية الإيطالية، دع عنك الاختلاف في أخلاق الأمتين وتاريخهما وعناصر حياتهما.
صفحة غير معروفة