كانت المشربية تقع أمام سبيل بين القصرين، ويلتقي تحتها شارعا النحاسين الذي ينحدر إلى الجنوب، وبين القصرين الذي يصعد إلى الشمال، فبدا الطريق إلى يسارها ضيقا ملتويا متلفعا بظلمة تكثف في أعاليه، حيث تطل نوافذ البيوت النائمة، وتخف في أسافله بما يلقى إليه من أضواء مصابيح عربات اليد وكلوبات المقاهي، وبعض الحوانيت التي تواصل السهر حتى مطلع الفجر، وإلى يمينها التف الطريق بالظلام، حيث يخلو من المقاهي، وحيث توجد المتاجر الكبيرة التي تغلق أبوابها مبكرا، فلا يلفت النظر به إلا مآذن قلاوون وبرقوق لاحت كأطياف من المردة ساهرة تحت ضوء النجوم الزاهرة. منظر ألفته منها العينان ربع قرن من الزمان ولكنها لم تسأمه، ولعلها لم تدر ما السأم طوال حياتها على رتابتها، وعلى العكس وجدت فيه أنيسا لوحشتها، وأليفا لوحدتها عهدا طويلا عاشته، وكأنه لا أنيس ولا أليف لها. كان ذلك قبل أن يأتي الأبناء إلى هذا الوجود، فلم يكن يحوي هذا البيت الكبير - بفنائه الترب وبئره العميقة وطابقيه وحجراته الواسعة العالية الأسقف - سواها، أكثر النهار والليل. وكانت حين زواجها فتاة صغيرة دون الرابعة عشرة من عمرها، فسرعان ما وجدت نفسها، عقب وفاة حماتها وسيدها الكبير، ربة للبيت الكبير، تعاونها على أمره امرأة عجوز تغادرها عند جثوم الليل؛ لتنام في حجرة الفرن بالفناء، تاركة إياها وحيدة في دنيا الليل الحافلة بالأرواح والأشباح، تغفو ساعة، وتأرق أخرى، حتى يعود الزوج العتيد من سهرة طويلة.
ولكي يطمئن قلبها اعتادت أن تطوف بالحجرات مصطحبة خادمتها مادة يدها بالمصباح أمامها، فتلقي في أركانها نظرات متفحصة خائفة، ثم تغلقها بإحكام، واحدة بعد أخرى، مبتدئة بالطابق الأول مثنية بالطابق الأعلى، وهي تتلو ما تحفظ من سور القرآن دفعا للشياطين، ثم تنتهي إلى حجرتها، فتغلق بابها، وتندس في الفراش، ولسانها لا يمسك عن التلاوة، حتى يغلبها النوم، ولشد ما كانت تخاف الليل في عهدها الأول بهذا البيت، فلم يغب عنها - هي التي عرفت عن عالم الجن أضعاف ما تعرفه عن عالم الإنس - أنها لا تعيش وحدها في البيت الكبير، وأن الشياطين لا يمكن أن تضل طويلا عن هذه الحجرات القديمة الواسعة الخالية، ولعلها آوت إليها قبل أن تحمل هي إلى البيت، بل قبل أن ترى نور الدنيا، فكم دب إلى أذنيها همساتهم! وكم استيقظت على لفحات من أنفاسهم، وما من مغيث إلا أن تتلو الفاتحة والصمدية، أو أن تهرع إلى المشربية، فتمد بصرها الزائغ من ثقوبها إلى أنوار العربات والمقاهي، وترهف السمع لالتقاط ضحكة أو سعلة تسترد بها أنفاسها.
ثم جاء الأبناء تباعا، ولكنهم كانوا أول عهدهم بالدنيا لحما طريا، لا يبدد خوفا ولا يطمئن جانبا، وعلى العكس ضاعف من خوفها بما أثار في نفسها المتهافتة من إشفاق عليهم وجزع أن يمسهم سوء، فكانت تحويهم بذراعيها وتغمرهم بأنفاس العطف، وتحيطهم في اليقظة والمنام بدرع من السور والأحجبة والرقى والتعاويذ، أما الطمأنينة الحقة، فلم تكن لتذوقها حتى يعود الغائب من سهرته. ولم يكن غريبا وهي منفردة بطفلها تنومه وتلاطفه، أن تضمه إلى صدرها فجأة، ثم تتنصت في وجل وانزعاج، ثم يعلو صوتها هاتفة، وكأنها تخاطب شخصا حاضرا: «أبعد عنا، ليس هذا مقامك، نحن قوم مسلمون موحدون.» ثم تتلو الصمدية في عجلة ولهوجة. وعندما طالت بها معاشرة الأرواح بتقدم الزمن تخففت من مخاوفها كثيرا، واطمأنت لدرجة إلى دعاباتهم التي لم تجر عليها سوءا قط، فكانت إذا ترامى إليها حس طائف منهم قالت في نبرات لا تخلو من دالة: «ألا تحترم عباد الرحمن! الله بيننا وبينك، فاذهب عنا مكرما.» ولكنها لم تكن تعرف الطمأنينة الحقة حتى يعود الغائب. أجل كان مجرد وجوده بالبيت - صاحيا أو نائما - كفيلا ببث السلام في نفسها، فتحت الأبواب أم أغلقت، اشتعل المصباح أم خمد. وقد خطر لها مرة، في العام الأول من معاشرته، أن تعلن نوعا من الاعتراض المؤدب على سهره المتواصل، فما كان منه إلا أن أمسك بأذنيها وقال لها بصوته الجهوري في لهجة حازمة: «أنا رجل، الآمر الناهي، لا أقبل على سلوكي أية ملاحظة، وما عليك إلا الطاعة، فحاذري أن تدفعيني إلى تأديبك.» فتعلمت من هذا الدرس وغيره مما لحق به أنها تطيق كل شيء - حتى معاشرة العفاريت - إلا أن يحمر لها عين الغضب، فعليها الطاعة بلا قيد ولا شرط، وقد أطاعت وتفانت في الطاعة، حتى كرهت أن تلومه على سهره ولو في سرها، ووقر في نفسها أن الرجولة الحقة والاستبداد والسهر إلى ما بعد منتصف الليل صفات متلازمة لجوهر واحد، ثم انقلبت مع الأيام تباهي بما يصدر عنه سواء ما يسرها أو يحزنها، وظلت على جميع الأحوال الزوجة المحبة المطيعة المستسلمة. ولم تأسف يوما على ما ارتضت لنفسها من السلامة والتسليم، وإنها لتستعيد ذكريات حياتها في أي وقت تشاء، فلا يطالعها إلا الخير والغبطة، على حين تلوح لها المخاوف والأحزان كالأشباح الخاوية، فلا تستحق إلا ابتسامة رثاء. ألم تعاشر هذا الزوج بعلاته ربع قرن من الزمان، فجنت من معاشرته أبناء هم قرة عينيها وبيتا مترعا بالخير والبركة وحياة ناضجة سعيدة ... بلى، أما مخالطة العفاريت، فقد مرت كما تمر كل ليلة بسلام، وما امتدت يد أحدهم إليها أو إلى أحد من أبنائها بسوء، اللهم إلا ما هو بالمزاح والمداعبات أشبه، فلا وجه للشكوى، ولكن الحمد كل الحمد لله الذي بكلامه اطمأن قلبها، وبرحمته استقامت حياتها.
حتى ساعة الانتظار هذه، على ما تقطع عليها من لذيذ المنام وما تستأديها من خدمة كانت خليقة بأن تنتهي بزوال النهار، أحبتها من أعماق قلبها، ففضلا عن أنها استحالت جزءا لا يتجزأ من حياتها، ومازجت الوفير من ذكرياتها، فإنها كانت ولم تزل الرمز الحي لحدبها على بعلها وتفانيها في إسعاده، وإشعاره ليلة بعد أخرى بهذا التفاني وذاك الحدب. لهذا امتلأت ارتياحا وهي واقفة في المشربية، وراحت تنقل بصرها خلال ثقوبها مرة إلى سبيل بين القصرين، ومرة إلى منعطف الخرنفش، وأخرى إلى بوابة حمام السلطان، ورابعة إلى المآذن، أو تسرحه بين البيوت المتكأكئة على جانبي الطريق في غير تناسق كأنها طابور من الجند في وقفة راحة تخفف فيها من قسوة النظام. وابتسمت للمنظر الذي تحبه، هذا الطريق الذي تنام الطرق والحواري والأزقة، ويبقى ساهرا حتى مطلع الفجر، فكم سلى أرقها وآنس وحشتها، وبدد مخاوفها لا يغير الليل منه، إلا أن يغشى ما يحيط به من أحياء بالصمت العميق فيهيئ لأصواته جوا تعلو فيه، وتوضح كأنه الظلال التي تملأ أركان اللوحة، فتضفي على الصورة عمقا وجلاء؛ لهذا ترن الضحكة فيه فكأنها تنطلق في حجرتها، ويسمع الكلام العادي فتميزه كلمة كلمة، ويمتد السعال ويخشوشن، فيترامى لها منه حتى خاتمته التي تشبه الأنين، ويرتفع صوت النادل وهو ينادي: «تعميرة نادية» كهتاف المؤذن، فتقول لنفسها في سرور: «لله هؤلاء الناس .. حتى هذه الساعة يطلبون مزيدا من التعميرة.» ثم تذكر بهم زوجها الغائب فتقول: «ترى أين يكون سيدي الآن؟ .. وماذا يفعل؟ .. فلتصحبه السلامة في الحل والترحال.» أجل قيل لها مرة إن رجلا كالسيد أحمد عبد الجواد في يساره وقوته وجماله - مع سهره المتواصل - لا يمكن أن تخلو حياته من نساء، يومها تسممت بالغيرة وركبها حزن شديد، ولما لم تواتها شجاعتها على مشافهته بما قيل أفضت بحزنها إلى أمها، فجعلت الأم تسكن خاطرها بما وسعها من حلو الكلام، ثم قالت لها: «لقد تزوجك بعد أن طلق زوجته الأولى، وكان بوسعه أن يستردها لو شاء، أو أن يتزوج ثانية وثالثة ورابعة، وقد كان أبوه مزواجا، فاحمدي ربنا على أنه أبقاك زوجة وحيدة.» ولو أن حديث أمها لم يجد مع حزنها وقت اشتداده، إلا أنها مع الأيام سلمت بما فيه من حق ووجاهة، فليكن ما قيل حقا، فلعله من صفات الرجولة كالسهر والاستبداد، وشر على أي حال خير من شرور كثيرة، وليس من الهين أن تسمح لوسواس بأن يفسد عليها حياتها الطيبة المليئة بالهناء والرغد، ثم لعل ما قيل بعد هذا كله أن يكون وهما أو كذبا. ووجدت أن موقفها من الغيرة، شأنها حيال المتاعب التي تعترض سبيل حياتها، لا يعدو التسليم بها كقضاء نافذ لا تملك حياله شيئا، فلم تهتد إلى وسيلة في مقاومتها إلا أن تنادي الصبر، وتستعدي مناعتها الشخصية، ملاذها الأوحد في مغالبة ما تكره، فانقلبت الغيرة وأسبابها، كطباع زوجها الأخرى، وكمعاشرة العفاريت، مما تحتمل.
جعلت تنظر إلى الطريق، وتنصت إلى السمار حتى ترامى إليها وقع سنابك جواد، فعطفت رأسها صوب النحاسين، فرأت «حنطورا» يقترب وئيدا، ومصباحاه يسطعان في الظلام، فتنهدت في ارتياح وغمغمت: «أخيرا ...» ها هو «حنطور» أحد أصدقائه يوصله بعد السهرة إلى باب البيت الكبير، ثم يمضي كالعادة إلى الخرنفش، حاملا صاحبه ونفرا من الأصدقاء الذين يقطنون هذا الحي. ووقف «الحنطور» أمام البيت، وارتفع صوت زوجها، وهو يقول في نبرات ضاحكة: أستودعكم الله ...
وكانت تنصت إلى صوت زوجها وهو يودع أصحابه بشغف ودهشة، ولولا أنها تسمعه كل ليلة في مثل هذه الساعة لأنكرته، فما عهدت منه - هي وأبناؤها - إلا الحزم والوقار والتزمت، فمن أين له بهذه النبرات الطروبة الضحوكة، التي تسيل بشاشة ورقة! وكأن صاحب «الحنطور» أراد أن يمازحه فقال له: أما سمعت ماذا قال الجواد لنفسه بعد نزولك من العربة؟ قال إنه من المؤسف أن أوصل هذا الرجل كل ليلة إلى بيته، وهو لا يستحق أن يركب إلا حمارا.
وانفجر الرجال بالعربة ضاحكين، فانتظر السيد حتى عادوا إلى السكون، ثم قال يجيبه: أما سمعت بماذا أجابته نفسه؟ قالت إذا لم توصله أنت، فسيركب البك صاحبنا.
وضج الرجال ضاحكين مرة أخرى، ثم قال صاحب العربة: فلنؤجل الباقي إلى سهرة الغد.
وتحركت العربة إلى شارع بين القصرين، واتجه السيد نحو الباب، فغادرت المرأة المشربية إلى الحجرة، وتناولت المصباح ومضت إلى الصالة، ومنها إلى الدهليز الخارجي حتى وقفت في رأس السلم. وترامت إليها صفقة الباب الخارجي وهو يغلق، وانزلاق المزلاج، وتخيلته وهو يقطع الفناء بقامته المديدة مستردا هيبته ووقاره، خالعا مزاحه الذي لولا استراق السمع لظنته من مستحيل المستحيلات، ثم سمعت وقع طرف عصاه على درجات السلم، فمدت يدها بالمصباح من فوق الدرابزين لتنير له سبيله.
2
صفحة غير معروفة