بين القصرين
بين القصرين
بين القصرين
بين القصرين
تأليف
نجيب محفوظ
بين القصرين
1
عند منتصف الليل استيقظت، كما اعتادت أن تستيقظ في هذا الوقت من كل ليلة بلا استعانة من منبه أو غيره، ولكن بإيحاء من الرغبة التي تبيت عليها، فتواظب على إيقاظها في دقة وأمانة. وظلت لحظات على شك من استيقاظها، فاختلطت عليها رؤى الأحلام وهمسات الإحساس، حتى بادرها القلق الذي يلم بها قبل أن تفتح جفنيها من خشية أن يكون النوم خانها، فهزت رأسها هزة خفيفة فتحت عينيها على ظلام الحجرة الدامس. لم يكن ثمة علامة تستدل بها على الوقت؛ فالطريق تحت حجرتها لا ينام حتى مطلع الفجر، والأصوات المتقطعة التي تترامى إليها أول الليل من سمار المقاهي وأصحاب الحوانيت هي التي تترامى عند منتصفه وإلى ما قبيل الفجر، فلا دليل تطمئن إليه إلا إحساسها الباطن - كأنه عقرب ساعة واع - وما يشمل البيت من صمت ينم عن أن بعلها لم يطرق بابه بعد، ولم تضرب طرف عصاه على درجات سلمه.
هي العادة التي توقظها في هذه الساعة، عادة قديمة صاحبت شبابها منذ مطلعه ولا تزال تستأثر بكهولتها، تلقنتها فيما تلقنت من آداب الحياة الزوجية، أن تستيقظ في منتصف الليل لتنتظر بعلها حين عودته من سهرته، فتقوم على خدمته حتى ينام. وجلست في الفراش بلا تردد لتتغلب على إغراء النوم الدافئ وبسملت، ثم انزلقت من تحت الغطاء إلى أرض الحجرة، ومضت تتلمس الطريق على هدي عمود السرير وضلفة الشباك، حتى بلغت الباب ففتحته، فانساب إلى الداخل شعاع خافت ينبعث من مصباح قائم على الكونصول في الصالة، فدلفت منه وحملته وعادت به إلى الحجرة وهو يعكس على السقف من فوهة زجاجته دائرة مهتزة من الضوء الشاحب تحف به حاشية من الظلال، ثم وضعته على خوان قائم بإزاء الكنبة. وأضاء المصباح الحجرة، فبدت برقعتها المربعة الواسعة، وجدرانها العالية، وسقفها بعمده الأفقية المتوازية، إلا أنها لاحت كريمة الأثاث ببساطها الشيرازي، وفراشها الكبير ذي العمد النحاسية الأربعة والصوان الضخم والكنبة الطويلة المغطاة بسجاد صغير المقطع مختلف النقوش والألوان. واتجهت المرأة إلى المرآة وألقت على صورتها نظرة، فرأت منديل رأسها البني منكمشا متراجعا، وقد تشعثت خصلات من شعرها الكستنائي فوق الجبين، فمدت أصابعها إلى عقدته، فحلتها وسوته على شعرها، وعقدت طرفيه في أناة وعناية، ومسحت براحتيها على صفحتي وجهها كأنما لتزيل عنه ما علق به من آثار النوم. كانت في الأربعين متوسطة القامة، تبدو كالنحيفة، ولكن جسمها بض ممتلئ في حدوده الضيقة لطيف التنسيق والتبويب. أما وجهها فمائل إلى الطول مرتفع الجبين دقيق القسمات، ذو عينين صغيرتين جميلتين تلوح فيهما نظرة عسلية حالمة، وأنف صغير دقيق يتسع قليلا عند فتحتيه، وفم رقيق الشفتين ينحدر تحتهما ذقن مدبب، وبشرة قمحية صافية تلوح عند موضع الوجنة منها شامة سوادها عميق نقي. وقد بدت وهي تتلفع بخمارها كالمتعجلة، واتجهت صوب باب المشربية، ففتحته ودخلت، ثم وقفت في قفصها المغلق تردد وجهها يمنة ويسرة ملقية نظراتها من الثقوب المستديرة الدقيقة التي تملأ أضلافها المغلقة إلى الطريق.
صفحة غير معروفة