بين الدين والعلم: تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى إزاء علوم الفلك والجغرافيا والنشوء
تصانيف
بعد أن فاز رجال الكنيسة على «غاليليو» حيا وميتا، وبعد أن استغلوا هذا الانتصار في إخضاع أساتذة علم الفلك في كل أوروبا لآرائهم، لم يسعهم إلا أن يعلنوا ابتهاجهم، ويعبروا عما يخامر قلوبهم من لذة الانتصار، وكثيرا ما علت صيحتهم بأنهم اقتلعوا جذور الهرطقة والإلحاد والكفر بالله، باقتلاعهم جذور المذهب القائل بأن الأرض تدور دورة مزدوجة حول محورها ومن حول الشمس، موجهين إلى محكمة الكنيسة أخص عبارات الشكر والتبجيل بإطاعتها وتنفيذها للإرادات الشفوية التي أصدرها أحد البابوات، والأوامر الكتابية التي وجهها إليها آخر. ولقد عرفنا من قبل أن تلك الكتب المرذولة التي تعلم الحق الجديد قد وضعت في فهرست الكتب التي يحظر على النصارى قراءتها. وقد صدرت هذه الفهرست بأمر بابوي يلعن كل من يمس هذه الكتب من أصحاب المعتقد النصراني، مذيل بتوقيع البابا الذي كان متربعا في كرسي «القديس بولص» في ذلك العهد.
على أن الخسائر التي أصابت العلم من جراء انتصار النزعة اللاهوتية لأبلغ من أن يسبر الإنسان غورها لدى أول نظرة يلقيها على الموضوع. ولنذكر في هذا الصدد أمرا واحدا، فلقد كان في أوروبا في ذلك العصر مفكر من أولئك المفكرين الذين قلما تجود بأمثالهم بطون الأمهات. كان في أوروبا «رينيه ديكارت». وعلى الرغم مما في استنتاجاته من الخطأ الكبير، فإن ثمار الحق التي احتوت عليها تلك الاستنتاجات كانت كثيرة منوعة الصور. وكان قد أنجز شيئا كثيرا لخير الإنسانية حتى ذلك العهد؛ فإن وصفه للمذهب الدردوري
The theory of vortices
في الطبيعة - وهو فرض وجود مادة متجانسة في الفضاء تحكم حركتها النواميس الكونية كقاعدة لأصل النظام الطبيعي المنظور، ولو لم يكن سوى نظرية فرضية، فإنه قضى كل قضاء على النظرية القديمة في أصل الكون، نظرية القبة الصلبة التي تظلل الأرض، وتحريك السيارات في دورتها بأيدي الملائكة، تلك النظرية التي بلغت من التأثير في العقول مبلغا كبيرا؛ حتى إن «كبلر» نفسه قد أفسح لها في عقله عاملا للعلم، جامعا في ثنايا عقله الكبير كل البحوث العلمية التي ذاعت في عهده. وكان لا بد من أن تحدث نتائج أبحاثه عصرا جديدا في تاريخ الدنيا. وكان غرضه أن يجمع كل فروع المعرفة والفكر في مقالة واحدة في حقيقة العلم، ومن أجل أن يصل إلى ذلك ظل أحد عشر عاما طوالا مكبا على درس علم التشريح وحده . غير أن نهاية «غاليليو» قد أفقدته كل أمل، وانتزعت من قلبه كل تشجيع. وهنا خيل إليه أنه فقد المعركة، فترك تصميمه فارا من الميدان فرارا من لا أمل في أوبته.
غير أنه لم يمض غير قليل حتى ظهر للعالم أجمع أن انتصار الكنيسة واستظهارها على أعدائها لم يكن في الحقيقة إلا هزيمة مروعة، فقد انهالت البراهين الناصعة من كل مكان على أن «كوبرنيكوس» و«غاليليو» كانا على حق. وعلى الرغم من أن البابا «أربان الثامن» وأعضاء محكمة التفتيش قد أبقوا «غاليليو» في عزلة تامة بعيدا عن كل ما يحيط به، ممنوعا حتى عن الكلام في دورة الأرض المزدوجة، وعلى الرغم من اللعنة التي وجهت إلى كل «الكتب التي تبرهن على دوران الأرض»، وتثبيتها في الفهرست، وعلى الرغم من أن الأمر البابوي كان لا يزال معلقا فيها، مقيدا لضمائر المؤمنين الذين يحاولون فهم العلم الحديث، وعلى الرغم من أن الكليات والجامعات التي كانت تحت حكم الكنيسة قد أجبرت على أن تعلم النظرية القديمة؛ فقد استبان لكل ذوي الألباب من أهل ذلك العصر أينما كانوا وحيثما حلوا، أن انتصار الكنيسة لم يكن في الحقيقة إلا كارثة مجتاحة، حوطت نتائجها المنتصرين.
هنالك فتح الرواد لأنفسهم بابا جديدا. فإن «كامبانيلا»
Campanella - فضلا عما كان في آرائه من الغموض - كتب «دفاعا عن غاليليو» وقد وقع تحت آلات التعذيب فريسة سبع مرات متتالية، لارتكابه مثل هذه الهرطقة وغيرها، في موضوعات السياسة والدين.
ثم ظهر «كبلر»
Kepler
فقاد أنصار العلم إلى ميادين جديدة حازوا فيها النصر والفخار، فإن «كوبرنيكوس» - على نبوغه وعبقريته وسعة عقله - لم يستطع أن يخلص أسلوب التفكير العلمي تخليصا تاما من نزعات اللاهوت وقواعده. فإن مذهب «أرسطو طاليس» ومذهب القديس «توما أكويناس» في أن الدائرة وذلك الشكل الهندسي، هو أتم كل الأشكال وأكمل الأوضاع الهندسية، قد أفسد عليه بعض نواحي مذهبه، وترك فيه ثغرات مفتوحة لم يتوان أعداء العلم في أن يلجوها. غير أن «كبلر» قد رأى الخطأ، فلم يلبث أن فاض على العالم، بما خص به من نبوغ كبير وتفوق عظيم، بثلاثة نواميس لا تزال تقترن باسمه إلى اليوم، وبذلك أتم بناء تلك القلعة العلمية التي لم يقتحمها أحد حتى الساعة. وكثيرا ما كان يتكلم ويفكر كرجل ملهم بما يقول. وكانت المواقع التي اخترق صفوفها ممضة أليمة. فقد أنذره المجمع الأكليروسي البروتستانتي في «ستوتجارت» بأن يقلع «عن أن يقذف عالم المسيحية في مهاوي الفوضى بما يبث من خيالات مسفة» ومن ثم أمر في حفلة رسمية «بأن يوفق بين نظريته في الكون وبين نصوص الكتاب المقدس» ولقد وبخ مرة واستهزئ به أخرى ثم سجن. ولقد ناءت عليه كل القوات الكنسية بكلاكلها البروتستانت في «ستيريا»
صفحة غير معروفة