ولكن اضطرابي ودق قلبي والرجفة التي أصابتني واهتز لها كل ما كنت أفكر فيه لم تكف إلا بعد مضيها بكثير. وعبثا حاولت التغلب على انفعالي والتوهان المفاجئ الذي اعتراني لأنجز ما في يدي والوقت أمامنا ضيق ومشحون. بأية قوى سحرية تؤثر علي هذه المرأة الصغيرة وتحدث في هذا كله؟ بأية قوة غيبية تفرز في دمي كل تلك الكمية من «الأدرينالين» الذي يجعل قلبي يدق هكذا وينبت العرق من جبهتي وتتهدج له أنفاسي؟ ولماذا هي وحدها دونا عن العالم كله؟
وحتى حين عدت للعمل بعد هذا لم أكن قد رجعت إلى حالتي قبل مجيئها، وكل مرة كنت أرى فيها سانتي كنت لا أعود أبدا إلى حالتي قبل رؤيتها، وكان كل مرة كنت أراها فيه كانت تحدث في تغييرات ما، وتترك بصمات ما، قد تبدو خفيفة وباهتة ولكنها موجودة لا تزول ولا تمحى، وتظل موجودة إلى أن أراها مرة أخرى فيتراكم فوق التغييرات تغييرات.
ولم أشأ أن أسأل شوقي عن سبب مجيء سانتي وماذا قالته وقدمته، مع أني كنت أتحرق شوقا لمعرفة كل كلمة قالتها وحتى الطريقة التي قالتها بها. وأعفاني شوقي من مهمة السؤال حين جاء إلى المكتب الذي أعمل عليه ليناقشني في اختيار عنوان. ولمحت ظرف البريد الجوي بارزا قليلا من جيبه ومفتوحا، ومن خلال الفتحة المتناهية الضيق لمحت الحافة الجانبية لبضعة جنيهات. وضبطني شوقي وأنا أحدق فقال وهو يبتسم: نجدة جاءت آخر لحظة. - من مين؟
قلتها رغما عني، وتوقعت أن يزوغ شوقي من الجواب، ولكنه قال: من إسكندرية. - من مصريين؟ - لأ، من خواجات.
مرحى لخواجات إسكندرية الذين يبلغ حماسهم لقضيتنا هذه الدرجة. - بس مش خطر إنها تيجي هنا. - توصيل الفلوس أهم من الخطر، بنت كويسة.
وهززت رأسي أوافقه وأتأمل وجهه لعلي ألمح شيئا آخر.
ولم تلبث حمى العمل أن قطعت الحديث واجتاحتنا.
وفي الرابعة صباحا ونحن في باب الحديد نطمئن على شحن الأعداد المخصصة للأقاليم، كنا ننتهز فرصة الظلام البارد والأنوار القليلة وتختلي جماعة صغيرة في ركن ونفرد المجلة بين أيدينا ونتأمل أقوى وأعنف عدد أصدرناه، وفي أحلك ظروف، وأيضا لا نكاد نصدق أننا فعلنا هذا، وأن الفكرة التي عنت لي ونحن سائرون في الشارع بعد ظهر أمس قد أصبحت حقيقة، وأن العدد فعلا يتوجه مانشيت مكتوب بخط أحمر وبحروف ضخمة غليظة يبعث مرآها في أجسادنا قشعريرة انفعال ورهبة وحماس: أيها الشعب تحرك!
17
وعدت مرة أخرى إلى المواعيد والاتصالات والاجتماعات، لا يهمني كثيرا نهاية الطريق الذي أسير فيه بقدر ما يهمني أنني عدت أسير، ومع نفس الناس، أتغاضى عن العيوب ولا أفكر في الفرق بين الحق واللاحق فيما نفعله، وأحس أحيانا أني أغالط نفسي، وعودتي للعمل تقدم لي في كل ساعة شواهد جديدة على أني كنت في تساؤلي وشكوكي على حق. وأتجاهل إحساسي هذا، كالمدخن الذي يعرف أكثر من غيره أضرار التدخين ولا يملك إلا أن يستمر يدخن، وكأن فترة ضيقي بالعمل واستنكاري لهذا الطريق «الخوجاتي» في التفكير وفي الثورة كان مجرد امتناع مؤقت عن التدخين عدت بعدها إليه، إلى نفس ما ضقت به، نهما، حرمانا، أريد أن أعوض كل ما فات.
صفحة غير معروفة