وأدار فينا بصره والسيجارة في فمه لا ينزعها، يخرج دخانها من نارها ومن فمه، وكان ضخما طويلا كالعمالقة لا تستطيع أبدا أن تقسم مهما قال: إنه في صفك. أدار فينا بصره ثم قال: أنا عارف كل حاجة، وأنا تحت أمركم.
قلنا: تحت أمرنا ازاي.
قال: أنا والمطبعة وجرائد الدار ومجلاتها تحت أمركم، وابقوا هاتوا تمن العدد في الوقت اللي يريحكم.
وكدنا نضرب كفا بكف دهشة وذهولا؛ فلم نكن نتوقع أبدا تصرفا كهذا من أحد عمد «الرجعية» كما كنا نسميه، وخفنا أن يكون الموضوع كله فخا منصوبا، وتريثنا وترددنا وتحججنا، ولكن تبين لنا أن لا فخ هناك ولا مصيدة، وأنه حقيقة يعني ما يقول، بل أكثر من هذا وقف بنفسه أكثر من ساعة واضعا السيجارة مطفأة ومشتعلة في فمه يراقب عملية الجمع والتوضيب، وقد أصدر أمره بإخلاء حجرة المصححين لنا لنكمل العدد كتابة.
وجلست أنا وشوقي وعطوة الذي كان قد جاء أصفر الوجه يرتعش بالانفعال. جلسنا نناقش أولا هذا الموقف الغريب لصاحب الدار.
وقال شوقي: وماله؟ احنا بيحصل تناقض بين الرجعية والحكومة، ممكن يحصل، ولازم نستفيد منه.
وكنت أسمع كلامه وأنظر من خلال الزجاج الذي يكون جزءا من جدار الحجرة إلى صاحب الدار ووقفته المهيبة في وسط المطبعة، والحركة الدائبة السريعة لإتمام جمع العدد وتوضيبه وطبعه وأكاد لا أصدق ما يحدث، ولا أصدق أيضا ما يقوله شوقي ويفسر به ما يحدث. هذا الرجل الواقف كان يمثل الدعامة الأولى للحكومة التي كانت قائمة في ذلك الوقت، ومع ذلك فهو نفسه وضع كل إمكانياته تحت تصرفنا لنهاجم تلك الحكومة، ويحدث هذا منه فجأة وفي وقت أغلقت فيه مجلتنا وكاد نشاطنا يتوقف.
ومع هذا، وصدقنا أم لم نصدق، فقد كان علينا أن نعمل؛ فمجرد تصورنا أن المجلة في الغد سوف تغمر السوق وينادي عليها الباعة كما كانوا ينادون، مجرد تصورنا هذا كان يلهينا فننكب على العمل كالمجانين غير مبالين ماذا يمكن أن يحدث غدا أو حتى بعد ساعة.
وأفتح عيني أحيانا فألمح وجه سانتي، وألمحه مشرقا ومبتسما وراضيا عما أقوم به فيلتهب حماسي أكثر، وأحس أني مستعد أن أموت إنهاكا وعملا وتعبا لأرى وجهها مشرقا ومبتسما، ولأراني راضيا عن نفسي غير خجل - لأول مرة منذ عرفتها - من علاقتي بها.
وفتحت عيني مرة فلمحت وجهها أيضا، ولكني لمحته من خلف الزجاج، وحسبتني قد بدأت أخرف ولكنها حقيقة كانت هي. ظللت أتابع وجهها وعينيها وهي تستعرض الموجودين بالحجرة حتى رأت شوقي، وحينئذ استدارت ودخلت واتجهت إليه فورا، وأخرجت من حقيبة يدها ظرف جواب خاص بالبريد الجوي وأعطته له، وتبادلت معه حديثا خافتا قصيرا ثم استدارت لتنصرف، وفقط وهي تستدير لمحتني، وبأسرع ابتسامة حيتني ومضت كسندريللا، كما جاءت.
صفحة غير معروفة