ومن الغريب أن نقول إنهم استولوا على قبرص بحجة الدفاع عن الأراضي العثمانية في آسيا الصغرى، ولكن ألم يكونوا هم الذين تعهدوا من قبل مع الدول الكبرى الأخرى على سلامة الإمبراطورية العثمانية؟ لماذا إذن تراجعوا أثناء الحرب الأخيرة؟ هل فسدت تلك المعاهدة الأولى حتى احتاج الأمر إلى تدعيمها بمعاهدة أخرى؟ ولماذا حددوا مسئوليتهم هذه المرة بحدود آسيا الصغرى؟ ألم يكن ذلك لأنهم تنبئوا باهتزاز ظلهم فوق الهند، فأسرعوا لضمان بديل في أرض قريبة من بريطانيا؟ إن الأراضي العثمانية في أوروبا ممنوعة عليهم، بل إنهم غير مؤهلين لمناقشة وضعها، ومن ثمة حولوا أبصارهم إلى الأقاليم الشرقية، وتعهدوا بالدفاع عنها.
وعلاوة على هذا كله، بدءوا ممارسة سياستهم الهندية في تركيا، كما جاء في تصريح منشور لقائد إنجليزي، ولكن حين رأوا أن فرنسا وإيطاليا تراقبان تحركاتهم شرعوا في إثارة الخلاف بينهما، حتى يبعدوا أنظارهما عنهم، ويظل الساحل لهم وحدهم، ثم وهبوا تونس لفرنسا، كما جاء في الأنباء، ولكن الفرنسيين من الذكاء بحيث لا تنطلي عليهم الخدعة، ومن الحرص بحيث لا يؤخذوا على غرة، كما أنهم - الإنجليز - أشعلوا غضب الإيطاليين، أحفاد الرومان، الذين كانت بريطانيا أشد ما يبغضون من توابعهم، بسبب احتلالهم قبرص التي كانت من قبل إحدى ممتلكات الرومان، ولا تزال آثارهم باقية فيها، وكذلك بسبب تحركاتهم الأخيرة في مصر.
نصيحة إلى الإنجليز
والآن فهذه الأمور التي صنفناها أمامكم تشكل عللا كثيرة، مباشرة وغير مباشرة، تدل على سقوط السعادة، وهي بعض ثمار الأنانية الفاضحة.
لا جدال في أن هذه الصفة تحكمها الإرادة، ومن ثم فإن من تكون فيه الأنانية فيستخدمها في إيذاء الغير، إنما يكون سلوكه باعثا على الاستهجان وموجبا للندم؛ ولذلك يجدر بحكماء الشعب الإنجليزي العظيم أن يتدارسوا الأمر فيما بينهم، وأن يرجعوا فورا عن طريق الإفراط إلى طريق الاعتدال، وأن يخلصوا أنفسهم بعد ذلك من فكرة أنهم لا يخطئون في أفكارهم، وأن يكفوا عن خداع أنفسهم حول مبلغ ممتلكاتهم الشاسعة، واستمرارها المطول تحت مظلة نفوذهم.
وا أسفاه! سوف يمضي وقت طويل قبل أن يصحح هؤلاء القوم سلوكهم، إلا إذا شاء الله غير ذلك، ففي اعتقادنا أن حبهم لذاتهم وشرههم وطمعهم في زيادة مطردة.
هل يمكن لأحد، حقا، أن يعجز عن ملاحظة هذا الطمع عند الإنجليز في إصرارهم على الاستيلاء على الممرات الواقعة على حدود الإمارة الأفغانية، وفي تجهيزاتهم القتالية لغزوها ، بحجة أنها توشك على الدخول في حلف مع روسيا، محاولين - في الوقت ذاته - إخفاء دهائهم وحيلهم التي لا تخفى على أحد، مدعين أنهم مجبورون، بالرغم من إرادتهم، حتى يتفادوا العدالة والنزاهة؟ غير أنهم انقادوا إلى هذه السبيل، بغض النظر عن عواقبها، بفعل غرورهم وسياستهم التي لا تحيد. وسوف نميط اللثام الآن عن ضعف حجتهم هذه، ونوضح بعض القضايا الممكنة لأغراضهم الراهنة، حتى نميز بين الحق والباطل، والعادل والظالم.
أحداث الماضي الأفغاني
منذ نحو اثنين وعشرين عاما جمع ناصر الدين شاه جيشا، وزحف به إلى هراة فاستولى عليها، وأبدت الحكومة الإنجليزية قلقها إزاء ما حدث، وخشيت على سلامة وضعها في الهند، وقد ترتب على ذلك أنها أرسلت أسطولا إلى الخليج الفارسي، وأعلنت الحرب على فارس، واحتلت جملة نقاط من أراضيها على الساحل. وبعد نحو عام تم الصلح بين البلدين، وكان من بين شروطه أن يكون حاكم هراة أفغانيا، وأن تكون حاميتها من الأفغان، بالرغم من أن الاتفاق تم على أن يظل ضرب العملة باسم الشاه، وأن يستمر ذكر اسمه في الصلاة بالمسجد.
وتنفيذا لهذا الاتفاق عين السلطان محمد خان - صهر أمير أفغانستان وابن عمه - حاكما على ذلك الإقليم، ومع ذلك لم يقض هذا على مخاوف الحكومة الإنجليزية، ولا هدأها، فكانت خطوتها التالية أن تحرض دوست محمد خان على الاستيلاء على هراة، بعد أن وعدته في حالة نجاحه بأن يتلقى منها، هو وخلفاؤه من ذات الأسرة، إعانة شهرية قدرها مائة ألف روبية، ثم جند الأمير جيشا، وبعد قتال مطول توفاه الله، ولكن الإقليم لم يتم الاستيلاء عليه إلا بعد وفاته، واستمرت الحكومة الإنجليزية في إرسال الإعانة المذكورة بانتظام كل شهر.
صفحة غير معروفة