التربية ثقافة ننشدها، ونتحرى الصحيح منها، ونغيرها، ونتطور بها، ونحيا على أصولها طيلة العمر، وهي تبدأ بعد الجامعة أو المدرسة، بل تبدأ قبلهما أو بدونهما، ولكن الجامعة والمدرسة لن تستطيعا تحمل عبء التربية، إذ هما تعلمان فقط.
لقد كان برنارد شو حكيم العصر منذ نصف قرن، ومع ذلك لم يحصل من التعليم المدرسي على أكثر من مستوى السنة الثالثة الابتدائية، وإنما وصل إلى الحكمة لأنه اعتمد على «التربية الذاتية»، فاختار من الكتب، ومارس من الأعمال الأدبية والفلسفية، ما أنضج به ذهنه وقدس به حياته، فكان في تفكيره وسلوكه مثالا للثقافة العالية حتى ارتفع في أخلاقه إلى القيم العالية في الإنسانية والفن وفهم الدلالات في شئون هذا العالم.
أجل، يجب ألا نقتصر على الفهم؛ إذ علينا أن نرتفع إلى الدلالة؛ فإن أبلد البلداء يمكنه أن يفهم ولكنه يعجز عن الوصول إلى الدلالة فيما يفهم.
ما هي دلالة مشكلة قناة السويس في سياسة العالم؟
ما هي دلالة كتاب العفاريت في برنامج التعليم في كلية الحقوق، وأيضا في المجتمع المصري الحاضر؟ إن المفكرين الناضجين يضعون أصابعهم على الدلالة.
لقد كتب برنارد شو كثيرا عن التربية، وكانت علامة الاستفهام البارزة في حياته هي هذا السؤال: هل ربيت نفسي؟ هل الدولة تربي الشعب؟
وقد خلص من تأمله لهذا الموضوع إلى أن الأقدار قد حابته لأنه لم يتعلم في مدرسة أو جامعة وإنما علم نفسه؛ وذلك لأنه كان يدرس بعد الاختيار، وكان يختار وفق حاجته الذهنية كما يختار الجائع الطعام الذي تشتهيه نفسه، ولكن المدرسة أو الجامعة تعطينا أحيانا ما لا نشتهيه ولذلك قد نعجز عن هضمه.
وهناك بالطبع مواد من المعارف نحتاج إلى أن نتعلمها بالإغراء أو الإجبار، مثل القراءة والحساب والجغرافيا، وأمثال ذلك من المعلومات التي لا نستطيع أن نقرأ جريدة أو نتحدث في فهم أو نرتقي إلى المستويات العليا من الثقافة بدونها، ثم هناك معارف أخرى يجب أن يعرفها كل شاب أو فتاة إجبارا، مثل تلك التي تتصل بالصحة الجنسية، وصلاح الرجل أو المرأة في التناسل، والأمراض الوراثية التي تؤذي الأجنة وتعقب العاهات، وكذلك الأمراض الزهرية التي تنتقل عدواها إلى الأبناء.
ولكن إجبار التلميذ على حفظ الأدب أو الشعر أو الفنون، التي قد لا يكون هو أهلا لأن يفهمها، هو إضاعة للوقت والجهد، كما أن هناك من الشئون الثقافية ما لا يجوز أن تعلمه المدرسة أو الجامعة، مثل العقائد أو الأخلاق، إلا إذا جعلت هذا التعليم خاضعا للمناقشة والمناقضة من جانب التلاميذ؛ وذلك لأن هذه العقائد والأخلاق لم تكن قط ثابتة عند أية أمة، وإنما كانت في تغيير دائم، والأمة المتطورة يجب أن تكون مستعدة على الدوام للتغيير والتحسين في عاداتها الذهنية، أي العقائد والأخلاق الموروثة أو ما نسميه تقاليد. بل إن شو ليصرح في أسلوبه المسرف بأن الأمة الراقية يجب أن تنقح دينها مرة على الأقل كل عام.
ويحمل برنارد شو على التعليم المدرسي والجامعي بأنه لا يتقدم على المجتمع ولكنه يتأخر عنه، ويضرب المثل بتعليم اللغة اللاتينية إلى وقت قريب في جامعة أكسفورد، وإلى تأخر العلوم العصرية فيها، بل هناك ما هو أكثر من ذلك في جمود المدارس والجامعات؛ ذلك أنها - لانتمائها إلى الحكومات واعتمادها على الحصول على أموالها منها - ترفض ذكر الأحرار الذين قاموا بالثورات؛ فإن «وشنطن» الذي حرر أمريكا من الاستعمار البريطاني، وكذلك «توم بين» داعية الثورة على العرش البريطاني، بل كذلك «فولتير» و«روسو» كانوا منفيين لا تذكرهم كلية في جامعة لأنهم كانوا ضد الدولة أو كانوا في رأي أساتذتها ملحدين أعداء للبشر والدين.
صفحة غير معروفة