كل هذه مشكلات قائمة، بل بارزة في أذهان المفكرين، ولست تجد واحدا منهم إلا وله فيها رأي بل آراء، إذ هي تمس شخصه في ارتقائه الذهني كما تمس الشعب بل البشرية التي ينتمي إليها.
إن برتراند رسل الفيلسوف الإنجليزي قد أسس مدرسة وعلم فيها في بعض سني حياته، وألف كتابا عن «التربية».
وه. ج. ويلز الأديب الإنجليزي الذي مات قبل سنوات قد ألف كتابا عن مدرسة ساندرسون التي اختطت خططا جديدة وجعلت التربية منهجا بدلا من التعليم، بل إن معظم مؤلفات ويلز تنحو إلى التوجيه في التربية الشخصية والشعبية والعالمية، وهو لم يؤلف كتابه العظيم عن تاريخ العالم إلا وهو يسترشد بفكرة التربية لقرائه، بل التربية الإنسانية، حتى يخرج هذا القارئ من حدود الوطنية إلى رحابة العالمية، وقصصه هي مشروعات للتربية.
وما زلت أذكر وصف ه. ج. ويلز للسياسي المشهور جلادستون بأنه رجل ناقص التربية؛ لأنه لم يكن يعرف العلوم ولم يستنر ذهنه بكشوفها في أصل الإنسان وسعة الكون وأسسه الاقتصادية ونحو ذلك، وهذا على الرغم من أنه كان يتقن اللغتين القديمتين الإغريقية واللاتينية.
لقد كان العلم والتاريخ مصباحين استرشد بهما ويلز في التوجيه البشري وألف عنهما كثيرا، بل أكاد أقول إنه لم يؤلف غيرهما؛ لأن قصصه نفسها تنزع إلى هذا التوجيه، وكانت دراسة التاريخ عنده وسيلة إلى الوحدة البشرية التي تسمو على الاختلافات المذهبية واللونية والجغرفية: لغة واحدة وعالم واحد، بل إنه ليسمي هذا العالم «قريتنا الكبرى».
ولما قارب الموت كان أعظم ما تعذب به تلك القنبلة الذرية التي حطمت أحلامه وجعلته يحس الخطر منها في انقراض الحضارة والإنسان، مع أني أعتقد أن لهذه القنبلة وجها، هو تعميم السلم وتعمير الدنيا وإلغاء الحرب؛ ذلك لأن خطرها أكبر من أن يتيح لإحدى الدول التفكير في الحرب التي قد تقضي عليها كما تقضي على العدو، ثم تنتشر كالوباء المميت إلى سائر أنحاء هذا الكوكب.
وقد دأب ويلز في شرح الدلالات الجديدة من العلم، وكان على الدوام يوضح لنا التخلف في العلوم الاجتماعية عن العلوم المادية، وما يحمل هذا التخلف من أخطار فادحة للبشر، فإن المجتمعات القديمة والأخلاق القديمة التي تحمل أعباء من الأساطير والعادات والامتيازات والاحتكارات، لا ترتفع إلى ما سما إليه العلم من ابتكارات للقوات الجديدة التي قد تعمر الدنيا وتحيلها إلى جنة، أو تدمرها وتحيلها إلى جهنم.
ومصداق هذه الأقوال يتضح في أيامنا عندما نتأمل السياسة؛ فإن مشكلة السويس لم يكن فيها ما يشكل أقل الإشكال لو أن الساسة الأوربيين كانوا على شيء من التربية، فقد أوشكوا على أن يجروا العالم إلى الحرب عامة لأنهم - كما كان يمكن لويلز أن يقول - يجهلون التاريخ وإنسانيته والوحدة البشرية فيه، كما يجهلون العلم وقواته للتعمير والتدمير.
فقد تعلم هؤلاء الساسة الأوربيون في المدرسة والجامعة، ولكنهم لم يتربوا، ولم تحس نفوسهم إحساس الإنسانية.
والتعليم هو مهمة المدرسة والجامعة، ولكن التربية هي مهمة العمر كله، وتربية بلا تعليم خير ألف مرة بل مليون مرة من تعليم بلا تربية، وحسبنا برهانا أن أحد خريجي كلية الحقوق في القاهرة ألف في الشهر الماضي (1957) كتابا يخبرنا فيه عن العفاريت والجن والشياطين، كيف تتزواج، وكيف تتوالد، ولماذا يزيد عددها على المصريين (من الإنس).
صفحة غير معروفة