وكانت كنيسة القصر على ما تركها الرهبان قديمة رهيبة خالية عن بهارج الزينة، في صدرها تمثال ملكين كبيرين ناشرين على المقدس لواء من تحت نافذة حمراء الزجاج، وليس فيها من الضوء غير قنديل ضعيف يرمي كبد الدجى بسهام دقيقة صفراء من الشعاع، فكانت لذلك مهيبة بل مخوفة للمتأملين، فخرت المرأتان ساجدتين مرتعدتين وجلا، ولكن «ماري» لم تكن خائفة على نفسها ولكن على «ڤكتور»، وبينما هما على تلك الحال إذ فاجأهما برق خاطف، وتلاه رعد قاصف، فانخلع قلباهما خوفا ، وصاحت مدام «دي ڤلمورين» صيحة شديدة، ووقفت مذعورة فاقدة الرشد، وحينئذ فتح الباب وكان الداخل «ڤكتور»، فبقيت «ماري» ساجدة تحمد الله، والتقى ناظر الفتى بناظر الباريسية الحسناء، فلم تكن هي التي غضت من طرفها أولا، وأعاد النظر فاندهش من مجلى ذلك الحسن العجيب، حتى خيل له ابتداء أن ملكا كريما نزل من السماء إلى ذلك المكان، ثم نهضت «ماري» فرحة برؤية زوجها مسرورة بسلامته، وتقدمت إليه وهي تعيد الحمد لله وعلى أثرها الباريسية الحسناء، فعرفتها ل «ڤكتور» على ما جرت به العادة، فأحس الفتى بالرهبة لأول مرة من حياته، فإن لحظ الباريسية قد فعل فيه ما يفعل السحر، فشعر من نفسه بالفرح والاضطراب معا، وما ألطف قول القائل:
بطرفك والمسحور يقسم بالسحر
أعمدا رماني أم أصاب ولا يدري
رنا للحظة الأولى ولست مجربا
وكررها أخرى فأحسست بالشر
أما هي فلم تكن قادرة على تحقيق انفعالات نفسها في تلك الحال، بل كان كل ما لديها عجيبا غريبا بالنظر إليها، فإن سذاجة ذلك المقام وخلوه عما تعودت رؤيته من الزخرف والزينة، وتلك المرأة الصافية النية، الكثيرة الحياء، وهذا الرجل البارع الحسن، الظاهر الخجل، الغريب الزي، كل ذلك حصل منه في مخيلتها صورة عجيبة غير معينة، وأورثها انشغالا من حيث لا تكاد تدري، فالتزمت الصمت حتى استأنف «ڤكتور» الكلام فقال: كنت أفتش عليكما يا سيدتي، فقد أعد الطعام وجئت لأتشرف بصحبة ضيفتنا إلى المائدة.
ثم تناول يدها من غير أن تجيبه بشيء، فتوكأت عليه كما جرت العادة، فانطلق بها وسارت «ماري» على أثرهما حتى بلغوا القاعة، ورأوا بقية الجماعة فحيوهم التحية المألوفة، وهدأ سر المركيزة الحسناء، فعادت إليها سرعة الخاطر، وهزتها الرقة والظرف فقالت خطابا للجمع:
لله منزلكم ما أبهجه وأبهاه! إنه في غاية الرونق والحسن، وإن كان مخوفا ولا سيما في أوقات الأنواء.
فأجابها الكونت والد «ڤكتور» متلطفا: صدقت يا سيدتي، غير أننا قد ألفنا هياج الأنواء، فلسنا نخافه، فإن من تعود الشيء هان عليه، أما المنزل فلا شك أنه لم يتزين كما ينبغي لاستقبال ضيوف مثلكم كرام، فقد كان الواجب عليه أن يتلقاكم مكللا بالأزهار مطوقا بقلائد الأنوار. - إن منزلكم غني عن الزينة بما فيه من المحاسن، وكأني منه في قصر شائق مما يتخيل الشعراء وأصحاب القصص في حكاياتهم. - نحن يا سيدتي لا نقرأ القصص والحكايات؛ لأنا نخاف هواجس الأفكار. - ما ذلك اللواء الذي يحمله الملكان من فوق مقدس الكنيسة؟ - علم منقوش عليه هذا القول الرهيب «أيها الإنسان هو ذا قاضيك». - هذا يحمل على الظن بأن الرهبان الذين كانوا هنا من قبلكم قد ارتكبوا كثيرا من الآثام حتى عظم خوفهم من قضاء الله سبحانه وتعالى. - بل الأجمل أن يظن يا سيدتي المركيزة أنهم خافوا كثيرا من ارتكاب الإثم.
وفي خلال هذه المحاورة سكن الهواء، وهدأت الأنواء، وأوشك الجو أن يصفو؛ فرام الضيفان أن يعودا إلى منزلهما «قصر سرڤيل»، فقال لهما الكونت: إني أخاف على المركيزة من صعوبة الطريق ومشقة السير، فلو بقيتما عندنا إلى الغد لكان ذلك أولى، فإنا بوجودكم سعداء، فقالت المركيزة: لك الشكر يا سيدي الكونت ألفا، ولكني أخاف على والدتي من القلق واشتغال البال، فإنها لن تطمئن نفسها حتى تراني، ولن يسكن روعها علي ولو جاءها مني كتاب أو رسول.
صفحة غير معروفة