مقدمة المترجم
المقدمة
تمهيد
القصة
مقدمة المترجم
المقدمة
تمهيد
القصة
الباريسية الحسناء
الباريسية الحسناء
تأليف
أديب إسحق
مقدمة المترجم
لا يجهل أحد من ذوي الاطلاع أن للأوربيين عناية عظيمة بهذه الأحاديث المدونة المسماة قصصا، باعتبار أنها من وسائل تهذيب الأفكار، ووسائط تدميث الأخلاق، وذرائع إصلاح العادات، وقد كثر فيهم كتابها بكثرة طلابها، فما يمر يوم إلا وتظهر في مدنهم قصص جديدة يتداعى الناس إليها تداعي الجياع إلى القصاع، ويقبلون عليها إقبال الظمآن إلى موارد الماء.
وقد صار إنشاء هذه القصص عنهم فنا مستقلا برأسه، له أحكام معلومة، وقواعد مرسومة، وحد معين، وتاريخ مبين، فلولا ضيق المقام عن موضوعه الواسع لبسطنا الكلام عليه بيانا لماهيته، وإيضاحا لما كان عليه، وما صار إليه في الشرق والغرب، فإنه مبحث ما ألمت به أقلام كتابنا إلى الآن، ولكنا نأتي على ما يحتمله المقام من جملته فنقول: القصة في اللغة: «الحديث»، و«الأمر» و«التي تكتب»، والمعنى الأخير هو المشهور والمأثور عرفا، فالقصة أمر أو حديث يكتب على أسلوب من الرواية، ولا يشترط فيه صحة الخبر، وهي قديمة العهد من وراء زمن التاريخ المعروف.
نشأت مع الأوائل في مهاد تمدنهم، وكانت ديوان معارفهم وآدابهم، فامتزجت بتواريخهم واختلطت بأديانهم وعلومهم، حتى أوشكت أن توجد آثارها في كل ما كتبوه، وما برحت تتبع الأقوام في مدارج تمدنهم وعرفانهم متنقلة من طور إلى طور، منصرفة عن حال إلى حال، حتى وضعت حدود العلوم والفنون، وميز بعضها من بعض تمييزا يحفظها من الشبهات واللبس؛ فسلم التاريخ من القصص، ومحصت كتب العلم من أحاديث الخرافة، وصار تأليف القصة فنا معروفا معلوم القواعد والأحكام كما تقدم القول.
وقد اختلفت أحوال القصص باختلاف أحوال الأمم وعاداتهم وأخلاقهم، فكانت حماسية في حالة الفروسة والبداوة، أدبية في حالة التمدن وانتشار الأدب والمعارف، غرامية في حالة الترف والرفاهة والانغماس في اللذات، وهي اليوم بين بين، ولكن الغالب على أصحابها أنهم يقصدون بها إلى وصف الأحوال والذوات وانتقاد الأخلاق والعادات.
وهذه القصة الصغيرة غرامية الحديث، أدبية النتيجة، وهي لخاتون من نبلائهم يقال لها «الكونتة داش» وقد ترجمتها والشباب في عنفوانه، وجواد الصبا في أول ميدانه، ثم أمررتها على النظر في هذه الأيام، ومثلتها بالطبع إجابة لدعوة بعض الأصدقاء وأنا بين أشغال شاغلة وأحوال دون المراد حائلة، فأتت كما يجيء، لا كما يجب، وكما استطعت، لا كما أحب.
وكنت قد التزمت في ترجمتها حفظ المعاني، كما وجدت في الأصل، غير مبال أن يكون منها ما يخالف مشربي أو مشرب غيري من الناس؛ فإني ناقل، وما على الناقل من سبيل، وسلكت في التعريب مسلك المطابقة بقدر الإمكان، فتبعت أسلوب المؤلفة حريصا على مفردات ألفاظها وقوالب عباراتها أن تضيع وتفسد بالنقل عامدا إلى ترجمتها بما يشاكلها من اللفظ والعبارة العربية، إلا فيما لم أجد له مثيلا في معلومي اليسير من اللغة.
وما أكتم على القارئ الكريم أن هذا السبيل لم يكن سهلا، فإن عادات الأوربيين وأخلاقهم وخواطرهم، بل وقائعهم وأحوالهم وأشياء عندهم من الملبس والمفرش وغير ذلك مما يذكر في القصص، مباين بالجملة لما كان من مثله عند أصحاب هذا اللسان، بل منه ما لم يوجد عندهم البتة، وإنما وجد عندنا في هذه الأيام التي قضي بها على الناطقين بالضاد أن تكون لديهم مسميات ليس لها في لغتهم أسماء، وأن يتغاضى علماؤهم وأدباؤهم عن هذا الخلل، فلا يجدوا غير طمطمانية الأعاجم للدلالة على الكثير مما يستعملونه لباسا وطعاما وفراشا وزينة للبيت.
وقد نمقت هذه القصة بشيء من النظم منه ما صدر عن الخاطر الفاتر - وهو الأكثر - ومنه القديم المنقول، وأشرت إلى هذا في بعض الأماكن بنحو: قال الشاعر، أو رحم الله من قال، أو لله در القائل.
وأهملت الإشارة في بعضها اكتفاء بالشهرة أو سهوا، ولا أذهل ههنا عن إيضاح نسبة الأبيات الأخيرة التي جعلتها ختاما للقصة، فهي لصديقي الأديب المتفنن الكاتب اللوذعي: إسكندر أفندي العازار.
وقد كان السبب في نظمه لها أني رويت له القصة في بعض أحاديثنا، فأعجبته نتيجتها الأدبية، فاستنشدته فيها أبياتا من رقيق شعره، فأجاب وأرسل إلي في اليوم الثاني تلك الأبيات، فضمنت بها للقصة حسن الختام.
المقدمة
حسب المرأة قوم آفة
من يدانيها من الناس هلك
ورآها غيرهم أمنية
فاز بالنعمة فيها من ملك
فتمنى معشر لو نبذت
وظلام الليل مشتد الحلك
وتمنى غيرهم لو جعلت
في جبين الليث أو قلب الفلك
وصواب القول لا يجهله
حاكم في مسلك الحق سلك
إنما المرأة مرآة بها
كل ما تنظره منك ولك
فهي شيطان إذا أفسدتها
وإذا أصلحتها فهي ملك
أجل، ومن أسوأ الأمور تصريفا بين الناس أمر الزواج؛ فقد كثرت فيه المصائب، وتلونت من جراء اختلاله النوائب، وأكثر ما تكون مرارته في أيامه الأولى على كونها المسماة بأيام العسل؛ لأن الغالب فيها اقتران فتاة سليمة النية، ساذجة النفس، معرضة القلب لأنواع التأثر وضروب الانفعال برجل علم ورأى، وامتحن الأشياء حتى لم يبق في نفسه شعة من النور، فصار قاسيا فظا محبا لذاته ولن يبرح كذلك ما دام حيا، أو برجل لا يزال في نفسه بقية من الصبابة، يثيرها ما يجد في عرسه من عواطف الشباب الطاهرة النقية، فيكشف لها سر الحب، وقوة الوجد، ولذاذات الهوى، حتى إذا مالت بكليتها إليه، وعولت في مستقبل سعادتها عليه، وانخدعت بما عرفت من لذة الحياة، واغترت بما علمت من سر المحبة، أغلق من دونها باب هذا الفردوس، وأهبطها منه قائلا: لقد رأيت أحلاما، وصار هذا المقام عليك حراما، نعم، إنك لم تتجاوزي العشرين سنا، ولم يزل شبابك غضا، ولكن قلبي قد جف، بل مات، ولست بقادر على رد ما فات، فاصبري على اليأس الموجود، أو اندبي الرجاء المفقود، وحذار أن تلتمسي منه بدلا عند غيري من الناس؛ فإنك لن تفوزي بحلم ساعة من هذا البدل أو تفقدي فيه الراحة والسعادة وبقية الأمل، وتكوني هدفا لسهام الاحتقار مني ومن نفسك ومن سائر الأنام، ويكون ما تذرفين من الدمع غشاوة على ما ترين من الابتسام، ثم تزادي على ما فيك من الندم قلقا واضطرابا، وعلى ما أسومك من الهجر بأسا واكتئابا . نعم، هذا مصير النساء في كثير من أحوال هذا الزمان، وهن مع ذلك متهمات مذمومات بكل لسان. آه لو علم المنصفون بما يعانين من العناء، ولو رأى العادلون ما يقاسين من البأساء، ولو درى أهل الحق بما يقاومن من عاديات البلاء، لبذلوا لهن الرحمة والشفقة بدل الملام والتعنيف، وقالوا فيهن قول الإنجيل الشريف: «من كان منكم بلا وزر فليرجم الخاطئ بالحجر الأول.» وهيهات أن يوجد في الناس من يتجرأ على ذلك ولا يكون من الكاذبين.
تمهيد
كل من في الوجود يطلب صيدا
غير أن الشباك مختلفات
والهنا غير مستحيل ولكن
دونه في سبيلنا عقبات
فكلنا يريد إدراك السعادة، وما أحد يبلغ منها مراده، ولكل في سير أحواله طريقة، وما أحد يرى حاله من وجه الحقيقة، وقد يلتمس المرء المحال، فتنقضي أيامه بتقليب الآمال، تجيئه فيرتاح إليها، وتنقضي فيبكي عليها، والله - سبحانه وتعالى - قسم على الناس الحظوظ وأسباب الهناء، كما يقسم الأب العادل ماله على أولاده بالسواء، فمنا من يفتح كفه ويلقي سهمه في البحر، ومنا من ينفق في الساعة ما أعطي لكل العمر، ومنا أجواد سذج كرام يبذلون سعادتهم في سبيل الحب بلا عوض ثم يرونها مداسة بالأقدام، فالحكيم الجدير بآلاء السماء الخليق بنعماء الهناء من ستر لذته عن أعين الحاسدين والرقباء، فهو في نعيم مقيم، وعلى أمل عظيم، يبتسم لآتيه، ولا يندم على ماضيه؛ فينعم باللذة المستمرة، ويموت على فراش المسرة.
القصة
1
الحب كالكأس قد طابت أوائله
لكنه ربما مجت أواخره
كان يوم ابتداء قصتنا يوم عيد سعيد في قرية «بروغ» بمقاطعة «بواتو» بفرنسا، قد احتفل فيه أهل تلك الناحية بزواج «ڤكتور ديلار» ب «ماري دملفو»، وكان الفتيان كريمين عليهم محببين إليهم، وكانا متآلفين متعاشقين على صغر، ربيا متجاورين وشبا متعارفين متلازمين، فاتحد قلباهما حبا على انتظار ساعة الاتحاد قالبا وقلبا، وكان والد «ڤكتور» غنيا، كثير العقار، يسكن قصرا فسيحا قديما في «غور» واد بهيج ظليل، أما والد «ماري» فكان من الشرفاء الذين أنحت الثورة الفرنسوية - عام 1789م - على أموالهم، وكدرت صفو أحوالهم؛ فكان لذلك فقيرا يسكن في قرية «بروغ» بيتا حقيرا، ولا يملك غيره من العقار، غير أن هذا الفرق الواضح بين ثروة الرجلين لم يمنع الكونت ديلار والد «ڤكتور» من قبول الفتاة التي اختارها ابنه أهلا، بل كان يقول: إن مال «ڤكتور» كاف للاثنين، إن «ماري» لخير من كنوز الأموال.
وكان «ڤكتور» فتى مليح الشباب، جميلا، فائق الحسن، حاد المزاج، قابلا للانفعالات الشديدة، لم يتجاوز الثانية والعشرين من سنيه.
وقد جمع قواه إلى ذلك اليوم في محبة «ماري»، فكانت شهواته راقدة تحت ظلال التربية الحسنة، مستورة برماد الملاينة له فيما ينعطف إليه، فلم يكن يعلم من أحوال الحياة غير التي حصلت له بالتصور، وانطبعت منه في المخيلة، فمال إلى صرف العمر براحة وسلام بين والديه وزوجته وأولاده والكتب، ولم يكن أتى المدينة - أي بواتو - غير ثلاث مرات، ولم يلبث فيهن غير بضع ساعات، إذ كان يلم به الشوق إلى المنزل والوادي والغاب والروض النضير، فيعود متمنيا لو كان له جناحان ليطير، وجملة القول أنه كان قوي الطباع ذكيا، ولكنه غير مخرج بأساليب الحياة المدنية، فقد تصرف في تهذيبه أناس منحطون عنه عقلا وذكاء، فما علموه غير ما يعلمون، ثم جعلوا لخاطره حدا، وأقاموا من دون تصوره سدا؛ فبات لا يعرف مقدار نفسه، ولا يدري بما هو محتاج إليه. وكان الذي علمه مبادئ العلم والأدب قسا تقيا يقال له «برنار»؛ لهذا القس لم يكن واقفا على أسرار القلوب، ولم يكن عارفا بأحوال الرجال، فكان يحمد الله سبحانه على أن يسر له مثل هذا التلميذ اللين العريكة الصادق الإرادة، ولا يعلم أن من وراء تلك الأزهار بركانا، إن مسته شرارة أوقدت فيه نارا تهدم في طرفة عين ما بناه له من قصور الهناء والسلام لمستقبل الأيام.
أما «ماري» فكانت ساذجة كغيرها من بنات القرى، مماثلة لأليفها في عدم المعرفة بمقدار نفسها، جامعة بين فضائل النساء وشجاعة الرجل، وقد صرفت أيام طفولتها وأوقات صباها في حجر والدها وكان شيخا عاجزا ، فلم يكشف لها من أسرار الحياة غير المعروف والإحسان والحب الخالص، فكانت تهمل نفسها تفرغا للعناية بشأن من يحتاج إليها، وتبذل حياتها في سبيل من تميل نفسها إليه، وكانت جذابة العينين، معتدلة القد، زاهرة الطلعة، مليحة الجملة على أن الجمال كان أظهر من الحسن فيها. وقد جعلت نفسها وقفا على حب «ڤكتور»؛ لما ظهر لها بالبداهة من شجاعته وكرم سليقته، فكانت هائمة فيه مدلهة به وجدا وإعجابا على علم منها بحقيقة الحب، وعلى غير علم بسر الإعجاب.
فاقتران «ڤكتور» و«ماري» على هذه الملاءمة الظاهرية قد بشر البيتين بنعيم مستمر وعيشة مرضية؛ فلم يحذرا معه شيئا من عواقب الحالتين المشار إليهما في مقدمة الكتاب: حالة خلو قلب الرجل من الحب، وحالة دنوه من حد الملال، ولكن ذلك الاقتران قد صادف منهما حالة ثالثة غير مأمونة المآل، ألا وهي حالة عدم الاختبار؛ فإن الحب هو الوفاء، ولا بد في الوفاء من تمام العلم بالموعود، وما يحول دونه من العقاب والأمور الصعاب، فإن الخطر المجهول عسير الاجتناب.
وكان المتفق عليه بين البيتين أن «ماري» ووالدها يسكنان بعد الزواج قصر الكونت «ديلار» بوادي «مرلي»، فلما عقد القران في البيعة عادت العروس إلى بيت أبيها لتودع أحبابها وأترابها وأول أرض مس جسمها ترابها؛ فطافت مع زوجها بحديقة المنزل ثم دخلت غرفتها فيه لتنظر لآخر مرة ستائرها البيضاء وما حولها من أغصان الياسمين والريحان، وتودع الصورة التي كانت تستقبلها في الصلاة، فأثر فيها الوداع، فقالت ل «ڤكتور»: لن أعود بعد إلى هذا المكان ... وأنت تعلم أني سائرة عنه باختيار وقبول، ومع ذلك فبي من وداعه غصة لا أستطيع لها منعا، ولا أدرك لها سرا، وأني ذاهبة معك مستصحبة والدي إلى منزلك، فلست مبقية هنا غير هذا المنزل الصغير، وهذه الأزهار التي غرستها بيدي، ومع هذا فقلبي يكاد يذوب التياعا، فقل لي فديتك ما سر هذا الانفعال؟! فقال: إنك تجلبين علي الغم واليأس بما تتشاءمين، فإن ذلك يدل على ارتيابك بي وضعف اتكالك علي، يا شقيقة الروح أما تثقين بحبي؟ أما تعتمدين على شرفي؟ أوما تعلمين أني أحبك حب كرام الرجال؟!
فكفكفت الفتاة دمعها وتجلدت وسعها لتدفع الكدر عن «ڤكتور»، ثم تقدمت إلى قفص فيه بلبل غرد كانت قد علمته ضروبا من الألحان الشجية، فحلت رباط القفص وحملته إلى الحديقة، ثم نادت بابنة البستاني وأهدت إليها القفص وهي تقول: احفظيه يا خليلتي تذكارا وحينئذ:
سمعت فتاة الحي شدو البلبل
فبكت مودعة بدمع مسبل
فكأنما سمعته يشدو قائلا
قول المتيم في الحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل
وكانت العربات عند الباب، فركب الكاواليير «دملفو» والد «ماري» إلى جانب الكونت «ديلار» والد «ڤكتور»، وركب العروسان بعدهما عربة شائقة الزينة، فلما حصلت لهما الخلوة في تلك العربة انكشفت عن سماء فكرهما سحابة الريب، فانجلى لهما الهناء في ذلك اليوم السعيد، فلم يبق في نفسهما عند الوصول إلى القصر غير الأمل والسرور.
والقصر هذا قصر «مرلي» كان من قبل ديرا قديما لبعض الرهبانيين، فاشتراه الكونت «ديلار» من أسقف بواتيه، واتخذه لنفسه دارا، وهو منفرد لم أر مثل وحشته، على أني لم أجد مثل بهجته؛ فإن المبايت والغرف والكنيسة قد بقيت فيه على مثل ما كانت عليه من الوحشة في زمن الرهبان، ولكن أشجاره المتفرقة المحدقة بواديه الضيق البعيد الغور، وسكوت الغابات من حوله، وخرير جدول الوادي المتدفق نهرا كالفضة على حصباء كالجواهر بين الصفصاف الباكي، والنيلوفر الضاحك، كل هذه المناظر البهية كانت في القصر من مظاهر الأنس وتجليات الجمال.
فقضى العروسان في هذا القصر شهر العسل - أي شهرهما الأول بعد الزواج - قصيرا بما طال فيه من السرور والفرح والابتهاج، فكانا يشكران الله على أن أوجدهما، ويحمدانه على أن جمع شملهما، ولا يشعران فيما يمر من أيامهما إلا بالهناء الخالص الذي لا تتقد فيه للوجد نار، ولا تظهر للجوى آثار، فكانت سعادتهما سارية على مهل، والأيام جارية على عجل، لكن هذه الحالة التي هي خير الحالات الدنيوية قل أن يعرف قدرها من يصل إليها، وخصوصا من كان حاد المزاج قوي الطبع؛ فإنه لا يميل إلى الراحة ما لم يعان العناء كثيرا، فإن حصلت له قبل الإعياء كان دائم القلق مما لا يعلم له سرا شديد الاحتياج إلى الحس والانفعال، ولو كان أليما حتى كأنما عند كل من الناس أمانة من الدمع لا بد من ردها يوما. نعم، إن الأحزان مقبلة لا محالة آجلا أو عاجلا على الإنسان، ولكنه يتعجلها بالتصور في غالب الأحيان.
ومن لم يرض نفسه بالقنوع
ولو لبس التاج عاش فقيرا
وبعد القران بعام واحد ولدت «ماري» غلاما بهي الطلعة، بارع الحسن، فاشتدت به رابطة الاتحاد بينها وبين «ڤكتور» فازداد عناية بها، وحبا لها، وسكونا إليها، واجتهادا في خدمتها، فكانت ولادة الغلام بركة جديدة على الزوجين، أما «ماري» فقد وجهت عنايتها، وصرفت قوتها إلى القيام بالواجبات الوالدية حتى ظهر لها المستقبل على شكل جديد، فإنها لم تكن تتصور قبل الولادة غير منزلها وواديه، فلما رزقت ذلك الغلام انفتحت أبواب التأمل في هذه الحياة، وما فيها من الطرق المتشعبة للمطامع والأماني في الثروة والمجد، فكانت كلما نظرت إلى رأس طفلها الجديد وهيئته المماثلة لهيئة أبيه حتى كأنه متقمص فيه، تقول في نفسها على غير اختيار منها إن هذا الغلام جدير بأعلى وأوسع من هذا المقام، ولا ترضى له بالحالة التي هي عليها، وإن كانت أسعد الحالات لديها، وأحبها إليها، بل تروم أن يوجد بحيث يرتفع قدره، ويعظم شأنه بين الناس، حين يكون فيهم قبسا من الأقباس. وجملة القول أن الطفل قد فتح بين يديها أبواب الآمال، فأنقذها من الملال ونقص الكمال:
باتت بلا أمل من فرط ما سعدت
فجاءها ولد أحيا لها الأملا
وما تطيب حياة ما بها أمل
بالنقص يتلو سرور النفس أن كملا
أما «ڤكتور» فكان يشعر من نفسه بامتلاء ذهنه خواطر لا يجد لها كشفا، ولا يدرك لها كنها، فيسرح في غابات «مرلي» من الصباح إلى المساء متنزها، بل هائما في ذلك الوادي معتقلا بندقيته وهو لا يطلب صيدا، متعجبا من نفسه كمن اكتشف أرضا جديدة، وكان قد قرأ الكتب التي في خزانته ثلاثا ، وجمع من شذرات الألباب وخطرات الأفكار ما يؤلف منه عدة أسفار، حتى اعتراه الضجر وتولته السآمة؛ فبات لا يحفل بهذه الأشغال، ولا يجد فيها راحة للبال فينطلق فكره في مجال الخيال، ويهيم في أودية الأماني والآمال على اختلاف بينه وبين زوجته في ذلك من حيث أن هاجسه لم يكن متعلقا بولده، ولكن بالمجد والحب وبهارج الحياة، فكان يتصور لنفسه سؤددا عاليا، ويتمنى لها صيتا باقيا ويتخيل إدراك اللذات، ويهجس بقضاء الشهوات، وكان في عناصر وجوده من هذه العواطف جراثيم ترتفع وتنمو وتطلب الامتداد فيضيق عليها ذلك الوادي:
فيقول والآمال ملء ضميره
وبقلبه من عزمه أسرار
لي في ضمير الدهر سر كامن
لا بد أن تستله الأقدار
وفي تلك الأيام قدم إلى عمالة «بواتو» بيت من نبلاء باريس الوجهاء، واشتروا هناك قصرا يقال له قصر «سرڤيل» على مسافة ميلين من قصر «مرلي» ليقيموا فيه فصل الربيع؛ فإنه في تلك البلاد بهيج بديع، فتحدث الناس في قدومهم كثيرا، واختلفت في أمرهم الأقوال والآراء، وما كان ذلك لغرابة شأنهم، ولكن لأن سكان «بواتو» من أهل التقليد الحراص على عادات البيوتات ومبادئهم في هيئة الاجتماع، ولا سيما أهل المقامات المعروفة فيهم، فإن أكثرهم من قدماء النبلاء الذين لم يخرجوا من أوطانهم إلا للمهاجرة مع آبائهم يوم غلبت الثورة الفرنسوية على أحزاب الملك، وسار هؤلاء الأحزاب يستنجدون الملوك عليها، ومن أجل هذا كان في أولئك النبلاء احترام بالغ للعادات القديمة، وكراهية شديدة للحالات الجديدة، ونوع من الاحتراز والاعتزال عن مخالفيهم في الأدب يشبه أن يكون جفوة وخشونة، فكانوا لا يعرفون منزلة أهل الكياسة، ولا يعلمون قدر الفنون، ولا يقبلون شيئا يجيء من الطريق، بل ربما ناطوا السوء بما لا يفهمون مع سلامة نياتهم من سوء القصد، ومعاذ الله أن أريد انتقاد هذه المبادئ عليهم، فإني لا أرى في الناس خلقا أشرف وأقدس من حرص المرء على ما ربي عليه، ووقع من السلف إليه، ولكني أبسط واقع الحال تمهيدا لما سأذكره من خبر هذا البيت الباريسي، الذي قدم إلى «بواتو» كما سبقت الإشارة إليه.
فقد كان هذا البيت عبارة عن برزة نصف من النساء، يقال لها «المركيزة درميل»، وبنات لها فتيات عذارى، ولم يصادف عند أهل «بواتو» إقبالا، بل سرى بين جماعة النبلاء منهم أن أولئك النساء غير جديرات بالقبول رأسا، فإن الأم منهم كثيرة التذكر لحسنها الماضي، شديدة العناية بحفظ بقاياه، والبنات متبرجات غير مصونات يظهرن بأثواب لا تستر الأكتاف، ولا تحجب الصدور عن الأنظار، ومع ذلك فقد خاطر بعضهم بزيارة هؤلاء الضيوف، وغلب حب الاستطلاع على غيرهم، فمالوا إلى رؤيتهم لتحقيق ما يقال فيهم، فأتوهم زائرين فاجتمع بذلك من حول «المركيزة درميل» وبناتها عصابة من الشبان والفتيات الحسان، فبالغن في مؤانستهم وإكرامهم، وأقمن لهم المراقص والأعياد، فأقبل الناس عليهم أزواجا وفرادى، وصار قصر «سرڤيل» مجلس الذوق وملتقى إخوان الأنس والصفاء، فاغتفر الناس لأهله غرابة أحوالهم في جنب ما جلبوه لهم من السرور والهناء.
ولم يكن بين قصر «مرلي» وقصر «سرڤيل» غير ميلين كما تقدم القول، فلما استقر بالباريسيات المقام وفدن على قصر «مرلي» زائرات مسلمات، وكان «ڤكتور» وزوجته غائبين عن المنزل، فاستقبلهن الوالدان الشيخان بما ينبغي لمقامهن من القبول والإكرام، ثم حان وقت رد هذه الزيارة، فاهتم أهل «مرلي» بذلك غاية الاهتمام، واجتمعوا للمشاورة في الأمر، فقال «ڤكتور»: لا بد من طلب ثوب جديد من المدينة ل «ماري»، فإن أثوابها قديمة الزي لا تصلح لزيارة مثل هؤلاء القوم، فقالت «ماري»: لا حاجة بي إلى ذلك، فإن ثوب إكليلي الأبيض - وهو ثوب الزواج - لم يلبس غير مرتين، فإذا لبسته وجعلت على رأسي عصابة مكللة بالزهر الغض كنت كما يحسن أن أكون. ثم أشارت إلى أنها حامل لا تقوى على ضنك اللباس الجديد، فقال الكونت «ديلار» والموسيو «دملفو»: إن «ماري» مليحة على كل حال، وفي كل ثوب، فلتفعل ما تشاء، فصمت «ڤكتور» مغالبا نفسه في قبول هذا الرأي، فبقيت المذاكرة عند هذا الحد .
وبينما أهل «مرلي» يتهيئون لزيارة أهل «سرڤيل» إذ جاءهم من هؤلاء كتاب دعوة إليه، فلم يبق لهم من سبيل إلى تأخير الزيارة، فلبست «ماري» ثوب الإكليل، وتزينت ما استطاعت، ولكنها لم تكن منشرحة الصدر، فإنها كانت تجد من نفسها انقباضا عن معاشرة الناس.
ولقد خبرت بني الزمان فلم أجد
في قربهم لرضى الكريم طريقا
وبلوتهم فرأيت لامع قولهم
زورا وخادع ودهم تمليقا
ورأيت أني إن كذبت منافق
وإذا صدقت فقد عدمت صديقا
فهجرتهم واخترت فكري صاحبا
لا خوف منه والفؤاد رفيقا
ثم سار الأربعة: «ڤكتور» و«ماري» ووالداهما على عربة من اللاتي يراها أهل القرى بعين الاستحسان، ولا تصادف عند الباريسيين وأمثالهم غير الاستهجان، فلما وصلت بهم العربة إلى مدخل قصر «سرڤيل» ورأتها فتياته الثلاث تبسمن استهزاء بها أو استخفافا بأصحابها، ثم دخل الجماعة القصر، وكانت أثواب الرجال منهم - أي أثواب الشيخين و«ڤكتور» - مجعدة ظاهرة الطيات؛ لما أنها كانت محفوظة في الخزائن من يوم العرس، وأما ثوب «ماري» الأبيض فإنه كان أبعد من تلك الأثواب عن الزي الجديد، ولما انتهوا إلى القاعة نظرت الفتيات إلى «ماري»، ثم نظرن إلى «ڤكتور» فأكبرن حسنه وجماله العجيب وقلن متلهفات: ما أضيع هذا الجمال!
وأحست «ماري» بانحطاطها عنهن، وبعدها عما رأت بهن من الرشاقة وحسن الزي، شأن النبيه الذكي، فلاذت بأطراف الصمت والخفاء، فلم تنطق بكلمة ولم تبد إشارة، وظهر ذلك ل «ڤكتور»، فأخذته فيه عزة النفس، ورأى أن المقام ضنك عليه وعلى زوجته غير أنه تجلد مخافة الهوان، واستعمل ما فيه من النباهة والذكاء في اجتناب الاستهجان، فأعانه الجمال على ما أراد، فارتفعت منزلته عند الفتيات ارتفاعا عظيما، وصح عندهن بعد انقضاء الزيارة فيما حكموا به على أهل «مرلي» أن الشيخين محو مطلق - أي لا شيء - وأن «ماري» غبية بلهاء، وأما «ڤكتور» فلو انفصل عن هذه الجماعة وتخرج بآداب الاجتماع ولبس مما يفصله «بلين» - خياط كان مشهورا - لكان من أحسن رجال الفرنسيس وأحقهم بحب الغانيات.
ولما عاد أهل «مرلي» إلى منزلهم تذاكر الشيخان فيما رأياه وما سمعاه من أهل «سرڤيل»، أما «ڤكتور» و«ماري» فكانا متفكرين صامتين يسمعان ولا يجيبان، حتى جاء وقت الرقاد وهم كل منهم بالانصراف إلى مخدعه ، فقالت الفتاة لزوجها: لست بذاهبة بعد هذه المرة إلى مجامع الناس. - لك الاختيار، فافعلي يا صديقتي ما تريدين.
1
وظهرت علائم الوحشة على «ڤكتور» بعد زيارته لأهل «سرڤيل»، واشتد به الميل إلى الانفراد والتغيب عن المنزل؛ حتى قلقت «ماري» لذلك وألم بها الغم، فكانت كلما غاب زوجها وأدركه المساء قبل الرجوع تقف له في طرف حديقة القصر عند شبكة البركة، فبينما هي في ذلك الموقف لعدة أيام مضت من تلك الزيارة إذ طرق سمعها صوت حوافر خيل على الطريق، فأخرجها ذلك من عالم الهيمان الذي كانت فيه، فرأت الجو أدكن والسحائب سوداء، والمطر متدفقا كأفواه القرب، وقد هبت العاصفة، وجلجلت الرعود القاصفة، ولمعت سيوف البرق على صفحات الأفق، ثم توارت حركة الحوافر متوجهة نحو القصر؛ فعلمت أن القادمين وافدون عليه لاجئون من النوء إليه، فحدقت لتراهم، فإذا بامرأة ورجل من ورائهما خادم، وكانت المرأة فتاة فائقة الجمال قائمة على صهوة الجواد، كأنها من فرسان الرجال، فجبنت «ماري» عند رؤيتها وارتدت إلى مدخل الدهليز، فأقبلت المرأة عليها وهي تقول: عفوا يا سيدتي عن وفودنا فجأة عليك، فإنا تائهون في هذا الوادي بين هذه الغابات، وقد أدركنا المطر، واشتدت الأنواء علينا، فهل في هذه الأرض من مبيت نلوذ به من العاصفة. - أنتم بالقرب من «مرلي» وأنا صاحبة المكان، فإن شئتم اتباعي إليه وجدتم الملاذ الأمين وكنت لكم من الشاكرين.
فأثنت المرأة والرجل عليها ثناء جميلا، ثم قالت المرأة: المقام يا سيدتي لا يحتمل الكلفة، فها أنا أعرفك بنفسي: إني ابنة «المركيزة درميل» التي تشرفت برؤيتك في منزلها في الأسبوع الماضي، وهذا زوجي «المركيز دي ڤلمورين»، وهو لا شك مسرور بما سرني من سنوح هذه الفرصة للائتناس بلقائك.
فانحنت «ماري» لهذا الكلام شكرا، وسارت أمام الضيفين في طريق القصر، فعادت الفتاة إلى حديثها فقالت: أتيت هذا البلد أول أمس، فرأيت من بهجة منظره ما حبب إلي التجول فيه، فأصابني ما رأيتني عليه من التيه.
وما برحوا سائرين بين صفوف الأشجار الملتفة، والرعد يهزم، والمطر يهمع، و«ماري » قلقة مضطربة على زوجها تلتفت المرة بعد المرة لعلها تراه مقبلا، ولا تعير السمع حديث مدام «ڤلمورين» إلا قليلا، ثم خافت أن تحسب ذلك منها إعراضا أو كراهية للضيافة، فقالت لها: لا تؤاخذيني يا سيدتي، فإني مترقبة رجوع الموسيو «ديلار» - تعني زوجها - من الصيد، فقد مضى ميعاده، وأخاف أن يدركه المطر، ويظلم عليه الليل وأنا لذلك على ما ترين من القلق والانزعاج.
ثم اشتدت العاصفة، وهمى الغيث وابلا، حتى نفذ الماء في ثوب «ماري» وثوب ضيفتها الحسناء مع أنه من الجوخ،
2
فلم تصلا إلى القصر إلا وقد ثقل الثوبان بالماء، وتلوثت أطرافهما بالوحول، وكان الليل قد أقبل بجيوش الظلام، وضرب في الآفاق خيام القتام، فصار من حق الضيافة على «ماري» أن تعير ضيفتها ثوبا تلبسه إلى أن يجف ثوبها المبلول، فسارت بها إلى غرفة النوم، وتركت زوجها «المركيز دي ڤلمورين» لدى حميها يعتني بشأنه ويتدارك ما يحتاج إليه، وحينئذ لمع البرق دراكا، فتلاه الرعد والصاعقة، وانصب البرد كالحجارة وثارت العواصف، فزلزل القصر من أساسه حتى كأن عناصر الطبيعة قد هجمت عليه لتجعله دكا، فاشتد القلق ب «ماري» من جراء غياب «ڤكتور» فكانت تصلح شأن ضيفتها وهي كالآلة الصماء لا تنطق ببنت شفة، وغلب الخوف على الضيفة أيضا فالتزمت السكوت وجلا، ثم طال عليها الصمت، فقالت الباريسية الغريبة: أرى أن الإنسان يشعر بالحاجة إلى الصلاة والدعاء لله في مثل هذه الأوقات، فما قولك في ذلك يا سيدتي؟! - إن رمت الصلاة، فهلم ندخل الكنيسة قبل الرجوع إلى القاعة.
وكانت كنيسة القصر على ما تركها الرهبان قديمة رهيبة خالية عن بهارج الزينة، في صدرها تمثال ملكين كبيرين ناشرين على المقدس لواء من تحت نافذة حمراء الزجاج، وليس فيها من الضوء غير قنديل ضعيف يرمي كبد الدجى بسهام دقيقة صفراء من الشعاع، فكانت لذلك مهيبة بل مخوفة للمتأملين، فخرت المرأتان ساجدتين مرتعدتين وجلا، ولكن «ماري» لم تكن خائفة على نفسها ولكن على «ڤكتور»، وبينما هما على تلك الحال إذ فاجأهما برق خاطف، وتلاه رعد قاصف، فانخلع قلباهما خوفا ، وصاحت مدام «دي ڤلمورين» صيحة شديدة، ووقفت مذعورة فاقدة الرشد، وحينئذ فتح الباب وكان الداخل «ڤكتور»، فبقيت «ماري» ساجدة تحمد الله، والتقى ناظر الفتى بناظر الباريسية الحسناء، فلم تكن هي التي غضت من طرفها أولا، وأعاد النظر فاندهش من مجلى ذلك الحسن العجيب، حتى خيل له ابتداء أن ملكا كريما نزل من السماء إلى ذلك المكان، ثم نهضت «ماري» فرحة برؤية زوجها مسرورة بسلامته، وتقدمت إليه وهي تعيد الحمد لله وعلى أثرها الباريسية الحسناء، فعرفتها ل «ڤكتور» على ما جرت به العادة، فأحس الفتى بالرهبة لأول مرة من حياته، فإن لحظ الباريسية قد فعل فيه ما يفعل السحر، فشعر من نفسه بالفرح والاضطراب معا، وما ألطف قول القائل:
بطرفك والمسحور يقسم بالسحر
أعمدا رماني أم أصاب ولا يدري
رنا للحظة الأولى ولست مجربا
وكررها أخرى فأحسست بالشر
أما هي فلم تكن قادرة على تحقيق انفعالات نفسها في تلك الحال، بل كان كل ما لديها عجيبا غريبا بالنظر إليها، فإن سذاجة ذلك المقام وخلوه عما تعودت رؤيته من الزخرف والزينة، وتلك المرأة الصافية النية، الكثيرة الحياء، وهذا الرجل البارع الحسن، الظاهر الخجل، الغريب الزي، كل ذلك حصل منه في مخيلتها صورة عجيبة غير معينة، وأورثها انشغالا من حيث لا تكاد تدري، فالتزمت الصمت حتى استأنف «ڤكتور» الكلام فقال: كنت أفتش عليكما يا سيدتي، فقد أعد الطعام وجئت لأتشرف بصحبة ضيفتنا إلى المائدة.
ثم تناول يدها من غير أن تجيبه بشيء، فتوكأت عليه كما جرت العادة، فانطلق بها وسارت «ماري» على أثرهما حتى بلغوا القاعة، ورأوا بقية الجماعة فحيوهم التحية المألوفة، وهدأ سر المركيزة الحسناء، فعادت إليها سرعة الخاطر، وهزتها الرقة والظرف فقالت خطابا للجمع:
لله منزلكم ما أبهجه وأبهاه! إنه في غاية الرونق والحسن، وإن كان مخوفا ولا سيما في أوقات الأنواء.
فأجابها الكونت والد «ڤكتور» متلطفا: صدقت يا سيدتي، غير أننا قد ألفنا هياج الأنواء، فلسنا نخافه، فإن من تعود الشيء هان عليه، أما المنزل فلا شك أنه لم يتزين كما ينبغي لاستقبال ضيوف مثلكم كرام، فقد كان الواجب عليه أن يتلقاكم مكللا بالأزهار مطوقا بقلائد الأنوار. - إن منزلكم غني عن الزينة بما فيه من المحاسن، وكأني منه في قصر شائق مما يتخيل الشعراء وأصحاب القصص في حكاياتهم. - نحن يا سيدتي لا نقرأ القصص والحكايات؛ لأنا نخاف هواجس الأفكار. - ما ذلك اللواء الذي يحمله الملكان من فوق مقدس الكنيسة؟ - علم منقوش عليه هذا القول الرهيب «أيها الإنسان هو ذا قاضيك». - هذا يحمل على الظن بأن الرهبان الذين كانوا هنا من قبلكم قد ارتكبوا كثيرا من الآثام حتى عظم خوفهم من قضاء الله سبحانه وتعالى. - بل الأجمل أن يظن يا سيدتي المركيزة أنهم خافوا كثيرا من ارتكاب الإثم.
وفي خلال هذه المحاورة سكن الهواء، وهدأت الأنواء، وأوشك الجو أن يصفو؛ فرام الضيفان أن يعودا إلى منزلهما «قصر سرڤيل»، فقال لهما الكونت: إني أخاف على المركيزة من صعوبة الطريق ومشقة السير، فلو بقيتما عندنا إلى الغد لكان ذلك أولى، فإنا بوجودكم سعداء، فقالت المركيزة: لك الشكر يا سيدي الكونت ألفا، ولكني أخاف على والدتي من القلق واشتغال البال، فإنها لن تطمئن نفسها حتى تراني، ولن يسكن روعها علي ولو جاءها مني كتاب أو رسول.
ولذلك لا بد لي من الرجوع إلى المنزل، وإن طاب لنا ههنا المقام، فإن رمتم إتمام الجميل فأسعفونا بدليل يسلك بنا سواء السبيل، فإنا غرباء لأنا من التيه. - فقال «ڤكتور» متهيبا مترددا وجلا: إن شئت يا سيدتي كنت بنفسي لكم دليلا. - تلطفت وتفضلت ولكن يسوءني أن أزعجك في مثل هذه الساعة، وأجعل مدام «ديلار» - تريد زوجته - في قلق وبلبال، ففي رجل من خدامكم غناء. - إني أعرف الناس بمسالك هذه الناحية، وقد ألفت التنزه ليلا فلست أنزعج منه، أما زوجتي فلا تقلق ولا تخاف علي. - إن كان الأمر كذلك فقد رضيت بما قضيت، إنا نكون معك آمن منا مع سواك، ولسنا نروم التيه مرة ثانية في نواحيكم؛ فإن التائه لا يجد في كل حين ما وجدناه عندكم من حسن الضيافة، فما بقي إلا أن أستعيد ثوبي لنسير معا.
ولقد مر هذا الحديث كله بسمع «ماري» وهي صامتة لا تخرج عن حد ما يجب على ربة المنزل في هذه الحال، ولا تزيد على الإيماء أو الإشارة بما يناسب قول زوجها مما يفيد الرضى والقبول، ثم صحبت الباريسية إلى غرفتها لإعانتها على تبديل الثوب المستعار، وهي على حالها من السكون والاحتشام، لكنه كان من طي احتشامها ضرب من الجزع والنفور تشعر به وتغالب نفسها فيه، فإنها قد رأت المركيزة على حالة ممتازة لم ترها من قبل، وتأملت ما عليه من الرشاقة وما تعنى به من صغار أمور الزينة التي لا تخطر لها ببال، فقابلت بين نفسها وهذه المرأة الحسناء ذات البهجة والرواء، فتولاها الخجل والأسف، ثم قطعت المركيزة السكوت، وقالت على نية التحبب إلى «ماري»: هل لك يا سيدتي من ولد؟ - رزقت ولدين، وأنا حامل بالثالث. - أتم الله نعمته عليك، أما أنا فالغالب أني لا أرزق ولدا.
وتنهدت إثر هذا القول تنهد الآسف الآيس؛ فأجابتها «ماري»: لا تقنطي يا سيدتي من رحمة الله، فأنت صبية والله كريم منان.
وكان في هذا المقال من التوكل والإيمان، وعلى محيا «أوچيني» من سيماء الطهر وصفاء النية ما أثر في طبيعة المركيزة على كونها عسيرة الانفعال، فقالت: ما أحسن هذا التوكل وما أسعد هذه الحال!
ثم جاء الخادم يخبر الباريسية أنه قد استكمل الأهبة وشد على الخيل، فخرجت من الغرفة وودعت أهل المنزل متلطفة مبالغة في الشكر، ثم امتطت صهوة الجواد، وراضته على الرغم من الظلام حول الدرابزين، ثم أطلقته فجرى خببا، وسار على أثرها زوجها و«ڤكتور»، فلما غابت عن الأبصار قال الكافالير والد «ماري»: لو كنت في عمر العشرين لفتنت بهذه الحسناء. - فقال الكونت: لا بدع إن فتنت كثيرا من الناس، وأنشد معه لسان الحال قول من قال:
وحسناء تزري بالغزالة في الضحى
إذا برزت لم تبق يوما بها بها
لها مقلة نجلاء كحلاء خلقة
كأن أباها الظبي أو أمها مها
فقالت «ماري»: وما فائدتها من افتتان الناس بها وهي محصنة ذات بعل؟!
فتغامز الشيخان وابتسما متعجبين من سلامة نية «ماري» وصفاء طينها، ثم عادا إلى القاعة يعيدان من لعب النرد - الطاولة - ما قطعه عليهما قدوم الزائرين، وكل امرئ بشأن نفسه لاه وكل يغني على ليلاه.
2
أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
وانصرفت «ماري» إلى غرفة طفليها، ولبثت هناك ترعاهما حتى أخذها الرقاد، فعادت إلى القاعة والشيخان فيها يلعبان «ويلعب بهما الزمان»، فجلست على مقربة منهما متلهية بالزركشة عن خطرات البال، ولكنها لم تستطع قرارا، بل كانت تنهض المرة بعد المرة إلى الشباك، فتنظر إلى السماء، فترى بقايا الغيوم مبددة في فضاء الأفق، وفضالات البروق متكسرة على صفحات الجو، وتنظر إلى الأرض، فتبصر الماء والوحول مما تخلف من السيول، فتطير نفسها شعاعا وينخلع قلبها ارتياعا، فتدعو الله في سرها أن يذهب عنها الخوف والقلق، ويعيد زوجها بالسلامة، فلما أتت الساعة العاشرة ليلا غلب عليها الاضطراب وتولاها الاكتئاب؛ فقالت موجهة إلى والدها الخطاب: لم يعد بعد «ڤكتور» يا أبتاه. - لا تجزعي يا بنية، فلعله اختار أن يبيت في «سرڤيل». - وقال الكونت: لو كنت في سنه لفعلت ذلك لا محالة. - ولم يا سيدي؟!
فتواردت خواطر الشيخين عند سماعهما هذا السؤال من «ماري»، فضحكا منه معا فاستنفرت، وأعادته ملحة في طلب الجواب؛ فقال الكونت: تسألين عما يدعو «ڤكتور» إلى أن يبيت في «سرڤيل»؟ فاعلمي أن هناك نساء حسانا يسألنه ذلك لا محالة، وما يهون على الفتى مخالفة أمر الحسان.
فأصابها سهم هذا الجواب في قلبها فجرح وبرح؛ لأنه لم يخالج فكرها من قبله أن في الدنيا امرأة غيرها يرتاح «ڤكتور» إلى رضاها، ويسره أن يبيت في مغناها، ولم تكن تعرف الغيرة ولا العادة الفاسدة التي تجيز للرجال على وجه ما خيانة نسائهم؛ فعظم تأثير هذا الخاطر فيها غير أنه كان لحسن حظها سريع الزوال، فإن «ڤكتور» لم يبت في «سرڤيل» بل عاد إلى المنزل في تلك الساعة فسكن جأش «ماري»، ولكن لم تزل من نفسها آثار الانفعال، أما هو فلم يلبث في القاعة إلا قليلا، ثم طلب الانصراف معتذرا بما ناله من التعب والمشقة في النهار، ودخل مخدعه من غير أن يمر بغرفة زوجته خلافا لما جرت به عادته من يوم عرسها إلى ذلك اليوم.
ومذ حينئذ أيقنت «ماري» بفتور محبة «ڤكتور» واستيلاء الملل منها عليه، فكان محصل ما يمر بها من الخواطر مماثلا لقول الشاعر:
لعيني كل يوم فيها عبرة
تصيرني لأهل الحب عبرة
علامة شقوتي في الحب أني
ثقلت عليه لا من طول عشرة
فكأن للأنفس الطاهرة والقلوب الرحيمة دليلا منها على فتور المحبة قبل حصوله، أو أن للفتور أسهما دقيقة خافية تمس القلب متوالية عليه فتخدشه خدوشا يتصل بعضها ببعض، فتصير جرحا كبيرا. نعم، إن الرجل الأديب إذا أحس من نفسه بفتور المحبة حاول إخفاءه، وتمالك ما استطاع خوفا على المرأة التي لا تزال تحبه، أن يصيبها سهم الصدود، ولكنه ربما وقع غير مختار فيما يدل على فتور حبه، ولا يكاد يبين فترى منه عين محبة ما لا يراه سائر الناظرين.
إن العيون على القلوب شواهد
فبغيضها لك بين وحبيبها
وإذا تلاحظت العيون تفاوضت
وتحدثت عما تجن قلوبها
ينطقن والأفواه صامتة فما
يخفى عليك بريئها ومريبها
وإذا كان الأمر كذلك فيمن يحاول الكتمان ولا يجهر بالصدود والهجران، فما الظن بمن يصد جهرا ولا يلقي على الهجر سترا؟! ولا جرم أنه يصيب مهجة محبه بسهم ما لجرحه التئام، ويوقد في قلبه من اليأس نارا ذات ضرام، ولكثر ما تصيب هذه السهام قلوب النساء فتقطع منها أسباب الهناء والرجاء، وما يلزمهن في معرفة الإعراض والفتور غير كلمة أو إشارة مما يشف عن ذات الصدور.
ولما كان الغد وجاء وقت الطعام صباحا واجتمع آل البيت على المائدة أنبأهم «ڤكتور» بعزمه على السفر إلى مدينة بواتيه، فقالت «ماري» بانكسار واحتشام: لعلك تروم السفر لشأن يدعوك إليه؟!
فقال: نعم. ثم حول وجهه عن زوجته لكيلا يقع نظرها عليه، فتلمح علامة الارتباك فيه؛ فقال له والده: ومتى تعود يا بني؟ - بعد ثلاثة أيام!
فشق ذلك على «ماري»، ولم تتمالك أن صاحت مستفهمة منكرة : ثلاثة أيام؟! - نعم، وما موجب العجب والاستنكار؟
فأثر هذا الجواب في نفس «ماري» تأثيرا شديدا، فبكت وقالت: آه يا «ڤكتور»! إنا لم نمتحن بعد بمثل هذا الفراق، ثم ضجت بالبكاء وألقت بنفسها على زوجها، فتلقاها وضمها متأثرا مما ألم بها من الغم، ثم رام تطييب خاطرها، فقال: إن كنت لا تصبرين على فراقي، فلست براحل عنك يا شقيقة الروح. - أحق ما تقول؟! - حق لا ريب فيه ... فقال الكونت «ديلار»: إن كان في سفرك مصلحة، فلا ينبغي العدول عنه يا بني. - نعم، فقد أنبأني وكيلنا بالمدينة أن بعض الناس طلب منه مقدارا من المال قرضا، فرأيت من المصلحة أن أسير إلى المدينة بنفسي لأنظر في الأمر وأفعل ما يقتضيه. - إن كان الأمر كذلك فلا ينبغي أن تمنعي زوجك من السفر وتعارضيه في قضاء ما يجب عليه، فأنت أم ولد صغار مسئولة عنهم في الحال والمآل، فلا تذهلي عن ذلك، ولا تميلي مع هوى النفس. - فأجابت وهي آسفة كاسفة البال: صدق والدك يا «ڤكتور» فلا بد من ذهابك إلى المدينة. - وهل تغالبين الأسى وتجلدين؟! - نعم، أتجلد ما استطعت. - إذن أسافر بعد الطعام شاكرا لكم هذا القبول، وستعلمون أني لست بأقلكم رغبة في قرب اللقاء.
وسار «ڤكتور» بعد ذلك مخلفا عند زوجته وحشة الفراق، وكان قد حدث منذ الأمس في ذلك البيت ما غير حالة أهله تغييرا سيئا، إذ وجد في نفس كل منهم شيء يخفيه، وسر يكتمه على الباقين. نعم، إن ذلك السر كان خفيفا غير ذي بال، ولكن أول خاطر يكتمه المرء عن ذويه يكون كالحبة تدفن في الأرض، فتنبت وتنمو فتصير شجرة ذات فروع وجراثيم، فلو كشف أهل هذا البيت أسرارهم، وأزالوا حجب الكتمان عن أنفسهم أول الأمر لأمكن رجوع الهناء والأنس إليهم، ولكنهم كتموا خواطرهم وحجبوا سرائرهم؛ فتفرقوا مبتئسين متفكرين، فلم يعاودهم الصفاء، ووقفت «ماري» تنظر إلى العربة وهي سائرة بزوجها على عجل حتى غابت عن نظرها، فرجعت إلى غرفة أطفالها ينشد لسان حالها:
مستجير الهوى بغير مجير
ومضيم النوى بغير نصير
فهو ما بين عمر يوم طويل
يلتظي وعمر يوم قصير
لا أقول المسير أرق عيني
كان هذا العذاب قبل المسير
واستولت الكآبة على أهل «مرلي» في غياب «ڤكتور»، فانقطعت «ماري» عن الغناء وهي تشتغل، وامتنعت من مداعبة طفلها في المرج الأخضر على بساط النبات الغض كما جرت به عادتها إلى ذلك الحين، بل كانت تطوف دهاليز القصر مكتئبة متمشية على مهل، وتدخل البيعة فتدعو الله وهي ناظرة إلى الطريق، ويلح عليها والدها وحموها بالذهاب إلى «سرڤيل» لرد زيارة الباريسيات فتأبى، ولكن يعود «ڤكتور» فتسير معه، إنها قد واعدته بألا تخرج من البيت قبل رجوعه.
ثم عاد «ڤكتور» ومن خلفه في العربة صندوق فيه أثواب جديدة، وأسباب زينة لم يكن يلتمسها من قبل، فلما وقع نظر «ماري» على ذلك الصندوق وعلمت بما فيه، سألت زوجها عما دعاه إلى شراء تلك الأثواب فقال: إني أخجل من جيراننا أن أزورهم بثوبي القديم، فأكون فيه كالرجل الباقي من عهد الطوفان، وقد علمت أنهم يستهزئون بي من أجل ذلك، ولست أريد أن يستهزئ بي أحد من الناس.
فلم تجبه «ماري»، ولكنها لم تقنع بما قال، فبقي في نفسها شيء من سوء الظن، فلما أصبحت ورأته بلباس غرفة النوم معتدل القوم صبيحا متأنقا لم تعجب به كما تعودت إلى ذلك اليوم، بل داخلها الظن بأنه لم يتأنق في ملبسه ليحسن في عينها، وإنما تكلف ذلك لشيء جديد في نفسه لم تحط به علما.
والريب للنفس داء
إن طال أعيا شفاؤه
كالسم في الجسم يسري
حتى يعز دواؤه
ثم جاء وقت الغذاء، واجتمع له أهل البيت على المائدة، فتجاذبوا هناك أطراف الكلام ، فساقهم الكونت «ديلار» إلى الحديث عن جيرانهم سكان «سرڤيل»، وزعم أن لم يبق مانع من زيارتهم، بل إنها وجبت فلا ينبغي تأخيرها إلى ما بعد الغد، فالتمست «ماري» أن تتخلف عن أسرتها بدعوى انحراف المزاج، فأبى «ڤكتور» ووالده إلا أن تسير معهم وما زالا بها حتى أجابت.
ولما أتى الوقت المعين للزيارة نشط لها أهل المنزل وخرجوا إلى موقف العربة، فكان اختلاف أحوالهم ومناظرهم من أغرب ما رأته العين؛ فإن الشيخين كانا بزيهما القديم، كأنهما من بقايا أمة قد خلت، و«ماري» على حالها من السذاجة التي تلازم نساء القرى، وتجعلهن مغمزا للمدنيات ولو كن حسانا، أما «ڤكتور» فإن ثوبه الجديد لم يكن منطبقا عليه تمام الانطباق، ولكن اعتداله الطبيعي كان ساترا لهذا العيب فلم تذهب جدة الثوب برونق بهائه، وحسن روائه، ولكنه ظهر فيه محتاجا إلى شيء من العادة ليكون رشيقا.
ولما وصل القوم إلى «سرڤيل» تلقاهم أهل القصر، وخصوصا مدام «مرسيل» - أم الفتيات - ومدام «ڤلمورين» - الباريسية الحسناء - بأحسن مما لقوه في المرة الأولى من القبول والإكرام، وكانت مدام «ڤلمورين» لابسة لفافا من الحرير الهندي والتفتاء الوردي مطرفا بالكشاكش ترفل فيه بلا كلفة ولا قلق، فيعلم الناظر إليها أنها ليست بدخيلة على الرونق والزينة وأبهة النعيم، وكانت يداها الجميلتان مستورتين بكفوف صفراء تسر الناظرين، وشعرها اللامع الأسود كجناح الغراب مسترسلا على كتفيها غير معقوص ولا مضفور، وكان على صدرها من الجواهر الكريمة ما يروق للعين حسنا ونفاسة، وعلى جملتها من آثار النعمة والشرف والكياسة الباريسية ما لا يقلد ولا يوصف بلسان، فهي على حد قول سكريب «أحسن ما فيها أن حسنها غير محدود».
من حسنها أن ليس يوصف حسنها
وجمالها ألا يحد جمالها
هي آية الحسن التي قد أعجزت
وصافها من حيث عز مثالها
ترنو بمقلة جؤذر نبالة
وارحمتاه لمن تصيب نبالها
وتهز من تحت الغلائل قامة
من غير شك قاتل عسالها
ومن استجار بعطفها من طرفها
ألقى له شرك الغرام دلالها
فإذا رنت وإذا انثنت وإذا دنت
فتنت فما من حيلة نحتالها
وكان «ڤكتور» ينظر إليها نظر الحائر المندهش، وهي تتصباه غير عامدة بما تظهر من الرشاقة، وما تبدي من حركات الدلال، فتارة تفتح حنجور عطرها فتشمه، وهي غنية عن الطيب، وطورا تنزع الكف الأصفر عن يدها الرشيقة، فيظهر بياض أناملها تحت سواد خاتم من الميناء، حتى عظمت بها فتنة «ڤكتور»، واشتدت منها غيرة «ماري»، وهي مع ذلك تعطف من رياض الحديث كل فن، وتقطف منه لكل سامع زهرة تنفي عن القلب الحزن حتى انشرحت بمعاني كلامها الصدور كما قرت بمحاسن وجهها الأنظار.
فحديثها السحر الحلال لو انه
لم يجن قتل السامع المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت
ود المحدث أنها لم توجز
فأحست «ماري» بانحطاطها عن هذه المليحة حسنا وجمالا ورشاقة وظرفا، فأخذتها الغيرة على «ڤكتور»، ونالها من ذلك ألم عظيم، فعقدت نيتها على أن تلزم البيت من بعد هذه الزيارة؛ فلا تكون عرضة للغبن في الموازنة بينها وبين الباريسية الحسناء، ثم بذلت مجهودها في تقصير الزيارة حتى خف قومها للانصراف، ولما خلت بهم في العربة غلب الكمد عليها فبكت بكاء مرا، فأثر بكاؤها في نفس «ڤكتور» فصاح: ما بالك تبكين؟! ماذا أصابك؟! - لا شيء، إن الحر قد اشتد علي، فأورثني صداعا أليما، عدمت به الجلد لا جرم أني غير صالحة لمعاشرة الناس، فلن أحضر بعد هذه المرة مجلس اجتماع.
فقال الكونت «ديلار»: نعم رأيتك في منزلنا ب «مرلي» أسعد منك الآن وأهنأ، ولكنك مخطئة فيما عزمت عليه، فأنت في ريعان الشباب، ولا تليق وحشة العزلة بهذا العمر، ثم إنك أم ولد صغار، فإن لم تخرجي من المنزل، ولم تدخلي مجالس المعاشرة؛ فمن ذا الذي يتولى تهذيب أولادك كما يقتضيه أدب الاجتماع. - «ڤكتور» يفعل ذلك ويحضر المجالس عني. - لا، لست أرضى بهذا لست أرضى.
فعاودها البكاء، فقالت: سوف نرى. ولم تزد.
ومرت بهم بعد ذلك عدة أيام، وهم بحسب الظاهر على سابق حالهم من الراحة والسكينة، و«ڤكتور» يخرج كل يوم للتنزه ويعود قبل المساء ، فيكب على قراءة بعض الكتب، ولا ينظر إلى شيء آخر مما بين يديه، أما «ماري» فكانت أشد تفكيرا وأعظم قلقا واضطرابا من ذي قبل، تتأمل في أحوال زوجها وترقب أعماله الغريبة؛ فيحصل في وهمها من التصورات وفي نفسها من الانفعالات ما لم تشعر بمثله إلى ذلك الحين، وكان الحب دليلها في سبيل الاعتبار والاختبار، فعلمت أن «ڤكتور» قد مسه الضجر، وتولاه الملل؛ فصار من همها أن تسليه وتواليه.
وهيهات لا يرجى السلو بحالة
لطفل هوى فيه الغرام محكم
دعته إلى حجر المحبة غادة
رآها عن الدر المنضد تبسم
وذاق حلاوات الحديث وشاقه
بوجه التي يهوى جمال منمنم
وليس له صبر فيرجى فطامه
إذا بعدت والطفل بالصبر يفطم
وبينما هم ذات ليلة على المائدة، إذ جاءهم رسول بكتاب من «سرڤيل» تدعوهم فيه مدام «مرسيل» إلى ليلة أنس ورقص وصفاء تمثل فيها بعض الروايات، ثم تكون مأدبة شائقة تحت سرادقات مما يذكر بعجائب ألف ليلة وليلة، وكان اهتمام أهل «مرسيل» بإعداد أسباب الحسن والبهجة لتلك الليلة الموعودة قد عرف واشتهر بين أهل الناحية حتى صار موضوع أحاديثهم وسمرهم نهارا وليلا، فقال الكونت: إن الخياطات في هذه الناحية غير صنع الأيدي وغير قادرات على إحكام الزي، فينبغي أن نكتب إلى باريس بطلب ثوب جديد إلى «ماري»، فإني أريد أن تكون مثل مدام «ڤلمورين» حسنا ورواء. - لا حاجة بي إلى ذلك يا والدي؛ إذ لست بذاهبة إلى «سرڤيل».
فقال «ڤكتور»: وكيف هذا؟ - إني مثقلة، متعبة بالحمل؛ فلا أستطيع الذهاب، ولا أصبر على ضيق الثوب الجديد، فسر أنت لتحدثنا بما تراه هناك من العجائب والغرائب.
فألح «ڤكتور» والشيخان عليها في العدول عن هذا العزم، فصرفت الحديث إلى المزاح، وتضاحكت من عناد نفسها كثيرا على أنها لم تتحول عنه، وكان الضجر مستحوذا على «ڤكتور»؛ فاتخذ عناد زوجته وسيلة لإظهار الكدر فنهض وهو يقول: افعلي ما تريدين.
ثم ألقى البندقية على كتفه، وخرج من المنزل متوجها نحو «بروغ»، متنزها بين المروج والآثار القديمة، وكانت ناحية «بواتو» إلى ذلك العهد مرقشة بأطلال بالية ورسوم منازل عافية، منها ما هو باق من عهد الرومانيين، ومنها - ولعله الأكثر - من بقايا الأعصر المتوسطة، وسكان هذه الناحية يتناقلون عن تلك الأطلال أحاديث خرافة تدل على أن ذكرى بيت «لوزينيان» الشهيرة محفوظة عندهم بالرواية، ينقلها الأبناء عن الآباء حتى كأن ذلك البيت لا يزال في عالم الوجود، فهم يسمون كل طلل في ناحيتهم «مرلوزين» نسبة إلى امرأة من بيت «لوزينيان» يحسبونها من الجن، وهي في الواقع زوجة «مل» و«لوزينيان» فركبوا في تسميتها الاسمين، وقالوا «ملوزين» ثم حرفوا هذا المركب فصار «مرلوزين» وسموا به الأطلال كما تقدم القول.
وكان بالقرب من «بروغ» برج قديم منفرد من بقايا قصر عظيم، كان في الحقيقة ل «مرلوزين» المذكورة تصرف وقتا من العام فيه، وتقيم سائره بقصرها الكبير المعروف، وذلك البرج عال، حسن الموقع، يطل منه على ما حوله من الأرض، ويرى الجالس فيه نواقيس كثير من قرى الناحية، ويشرف على السواقي المتفرقة من الجدول وما يليها من البروج والبساتين.
وكان «ڤكتور» كثيرا ما يقصد هذه الجهة في تنزهاته، فيهيم تحت قناطر القباب الخالية، أو يجلس على تلال هذه الجدران البالية، فيذكر مجدها السابق وعزها القديم، ففي اليوم الذي ذكرناه وصل هذا المكان، وهو أضيق صدرا منه في كل يوم، فصعد الهضبة المؤدية إلى البرج على مهل، فسمع من فوقه صوت غناء، فوقف له ورعاه السمع، فعلم أنه صوت امرأة غير قروية، وذلك بما وجد فيه من حسن التوقيع، والتلحين، والرقة التي يلزم فيها من العلم بفن الألحان ما لا يتحصل إلا في المدن الكبيرة، وكان اللحن شجيا يثير الأشجان، فأثر في نفس «ڤكتور» حتى كاد يبكيه، وما برح واقفا حتى انقطع الصوت عنه، فمشى متفكرا فيه إلى أن بلغ رصفة كالدرج تنتهي إلى مدخل البرج، فرفع هناك عينيه، فأبصر على خطوات منه فتاة بثوب أبيض وخمار من اللاذ أدق مما تنسج العنكبوت، يلعب الهواء بأطرافه فتعلق بغصون الآس النابتة على جدران الأطلال، وكانت هذه الفتاة جالسة محدقة بالوادي هائمة الفكر فيه، وبين يديها علبة ألوان ورقعة صورة مبدوءة تدل على أنها جالسة هناك للتصوير، فلما أحست بحركة «ڤكتور» التفتت إلى جهته، فعلت وجهها حمرة الخجل، ووثب على «ڤكتور» من تحت قدميها كلب صغير نباح، وكانت هذه الرسامة الفتاة هي المركيزة «دي ڤلمورين» الباريسية الحسناء.
رسامة قد جرى توقيع حاجبها
بظلم أهل الهوى والأمر ما رسمت
تحكمت في قلوب العاشقين كما
شاء الجمال ولم تعدل بما حكمت
كريمة غير أن البخل عادتها
يا حسن باخلة في الحسن قد كرمت
وافت لترسم أزهار الرياض ضحى
فكان في خدها بعض الذي رسمت
واستقبلت أقحوان الروض فابتسمت
عن مثل ما صورت منه وما علمت
فقل لواصفها ما أنت منصفها
فقد علت عن معاني وصفها وسمت
ما البدر إن سفرت؟! ما الغصن إن خطرت؟!
ما الظبي إن نفرت؟! ما الدر إن بسمت؟!
فاضطرب «ڤكتور» عند رؤيتها، وصار بين الخجل والوجل من أن يكون أورثها انزعاجا، فاعتذر والتمس العفو ما استطاع كلاما فقالت: أتيت على الرحب، فإني جئت هذا المكان مستصحبة «تريم» رفيقا - وأشارت إلى الكلب - فأنسيت نفسي تأملا في جمال هذا الوادي، لا جرم أن بلدكم بلد نعيم وبهجة يحمد في مثله المقام. - إن بين «سرڤيل» وهذه الأطلال بعدا غير قليل، فكيف جرؤت على الخروج إليها بغير محام؟!
فأومأت إلى كلبها وقالت: وما شأن هذا؟! لا تستخفن به فهو ينبهني، وكفى بالتنبيه وقاية، فإن كثيرا من أخطار هذا الوجود متى علمت لم تعد شيئا محذورا. - صدقت إلا أن في غاباتنا أفاعي سامة لا يدفع شرها مثل هذا الرفيق. - ما الشر وما الخوف من الشر؟! أيحسن بي توقع البلاء وحرمان النفس من لذة الحياة خوفا منه، وأن أترك من أجله التنزه على انفراد وهو أبهج ما لدي؟ إني أحب الحادثات والغرائب، فإذا أتيت مكانا فدأبي أن أجوس خلاله وألم بكل بقعة منه، فأسير منزهة فيه متسلحة بعلبة الألوان والمروحة وكتاب الرسم كما ترى، لا أخبر أحدا ولا أستصحب رفيقا رغبة في العزلة والحرية، وفرارا من الكلفة الملقاة علينا نحن النساء بحكم العادات، وهربا من ضيق الصدر في متسع القاعات.
فاجتماع الأحباب صفو ولكن
كدرته مئونة الاحتشام
فهنيئا للرجال أنهم سعداء بالحرية والاستقلال.
فعجب «ڤكتور» من هذا الكلام غاية العجب؛ لأنه لم ير المرأة من قبله إلا باعتبار أنها خلق ضعيف محتاج إلى الهداية في سبيل الحياة، فلم يتصور إمكان ظهورها بشيء من الاستقلال والحرية، وإقدامها على تذليل العقبات الحائلة بين فكرها وتجليات الذكاء، وجملة القول أنه لم يكن يعرف من النساء غير قعائد البيوت، فلما سمع كلام المركيزة عرف المرأة الحسناء، فغلبت عليه الحيرة والدهشة فقال بعد الصمت: كيف كيف لا تخافين؟! - ومم أخاف؟! أمن حية تلسعني كما أنذرت؟ أتحسبني حريصة على هذه الحياة التي حظر بها علينا - نحن النساء الضعيفات - أن نعيش كما نريد؟ لا لعمري؛ فهي حياة غير جديرة بالحفظ، فإن ضاعت فلا أسف عليها.
حرص الرقيق على الحياة حكى
حرص البخيل وما له مال
فالعمر آمال وليس لمن
في الرق يفني العمر آمال
فازداد «ڤكتور» حيرة في أمر هذه الفتاة، كيف ينالها الملال من الحياة؟! وكيف لا ترهب الموت وهي في ريعان الشباب ونضارة الحسن وتمام النعمة؟! فتساءل عما تحتاج إليه في نيل السعادة، وعن سر شوقها إلى الاستقلال، وما الذي تفعل إن حصلت عليه، فكانت هذه المسائل كلها أسرارا غامضة عنه، فاتسع بها مجال التصور لديه؛ فتسابقت خواطره فيه وما يسبق الخاطر هاجس القلب في مثل تلك الحال إلا إذا كان من القوة بمكان.
ولم يكن علم المركيزة بأحوال «ڤكتور» كافيا في بيان ما أثر كلامها في نفسه، على أنها أحست منه بانفعال غير معهود، فمالت إلى استطلاعه منه ثم لم تجرؤ على ذلك، فالتزمت وإياه السكوت حتى سكن خاطرها واطمأنت نفسها، فقالت: لعلنا نراك ومدام «ديلار» - تريد زوجته - في «سرڤيل» يوم تشخيص الرواية. - أما أنا فلست أتأخر عن هذه المسرة، وأما زوجتي فهي مثقلة متألمة فلا تستطيع الفوز بهذا الإرب. - إني أراجع دوري في التشخيص منفردة له متنزهة، فهل تعرف الروايات التي سنشخصها؟ - ما رأيت إلى الآن تشخيص رواية، ولا قرأت من الروايات إلا منظومات أدبائنا المشهورين. - يا عجبا! ما رأيت إلى الآن تشخيصا؟! - كيف يتيسر ذلك ولم أتجاوز حدود هذا الوادي.
فحدقت المركيزة ب «ڤكتور» تحديق المستغرب لما بين يديه، فإنها لم تكن رأت من قبله رجلا من طبقته، يجهل كل ما لم يره مدونا في الكتب، ويكون على حاله من الجمال الباهر والذكاء الظاهر ولا علم عنده بكونه جميلا ذكيا، ثم أدركت - بما فيها من فراسة النساء - أن سجاياه الفطرية الفائقة لو أخرجت من مضيق ذلك الوادي لأثمرت خيرا، وصارت بعد حين من محاسن الوجود، فاجتمعت قوى فكرها على الرغبة في استقدامه إلى «باريس» فقالت غير مختارة: ينبغي أن تجيء «باريس». - أريد ذلك ولا ينبغي لي. - وما السبب؟ - عفوا، إني لا أستطيع الجواب. - لك الأمر.
فاحمر «ڤكتور» مما قاله خجلا وخاف أن يكون أساء الأدب في امتناعه عن الجواب، أما هي فتلاهت عن ذلك وقالت: لا بد أن يكون لهذه الأطلال قصة غريبة. - إن لها قصصا كثيرة، ولكن لا يجدر بالذكر غير واحدة منها. - أتريد أن تقصها علي؟! - أخاف ألا أحسن الحكاية، ومع ذلك أقول امتثالا للأمر. «قد سمعت - لا شك - بحديث الجنية «ملوزين» أميرة «لوزينيان» المشهورة التي كان لها الملك في جانب عظيم من هذه البلاد، فتلك الأميرة كانت تسكن هذا البرج، وههنا حل بها المصاب الذي ما برحت تبكي وتنوح من جرائه منذ خمسمائة عام أو ستمائة فيما يزعمون، وكان لها خلوة في إحدى القباب التي تلوح لنا تحت هذه الهضبة، تنعكف فيها على السحر في كل يوم من منتصف الليل إلى الصباح متحجبة عن الأبصار، علما منها بأن لو رآها أحد من الناس على تلك الحال لفسد سحرها أو ضاع، وكان لها عشيق تهواه ويروم أن يكون لها بعلا، وكان العهد بينهما أن يتركها وشأنها بعد منتصف الليل، ولا يلتمس العلم بمكانها في ذلك الوقت، فثبت المعشوق على هذا العهد مغالبا فيه هوى النفس حتى غلبه في إحدى الليالي؛ فتبع الساحرة من غير أن تشعر به، ورأى فعلها في الخلوة فانمسخت للحال حية «وبقي من ذلك في يدها أثر لا يزول»، فلما بدت للرجل على تلك الصورة أغمي عليه من الخوف تحت هذا الدرج، فأتته وردته إلى الرشد، ثم أعانته إلى الرجوع إلى المنزل، فلما أفاق من الإغماء والدهشة صد عن الأميرة وعابها بالسحر؛ فأيقنت بوقوفه على سرها ولزمها إبعاده اضطرارا، فأمرته بالخروج ففعل محتارا راضيا، ولكنه ما لبث أن جد به الشوق إليها، فندم على ما وقع منه، وأرسل إليها يلتمس العفو والسماح، فجنحت إلى ذلك، ولكن منعها شيطانها عنه فردت الفتى خائبا فتولاه اليأس، فاعتزل في بعض الأديار حتى مات، ولم تكن هي تستطيع الموت؛ فبكت وملأت غابات هذه الناحية نواحا، ومذ حينئذ اشتهر صراخ «ملوزين»، وكان نواحها إنذارا بموت أحد من بيت «لوزينيان»، فلما انقرضوا صارت تنوح إنذارا بمصائب الناس، فإذا نزلت بالبلد نازلة سمعت الفلاحين يقولون: لا عجب فقد سمعنا صياح «ملوزين».»
فلما فرغ «ڤكتور» من حديثه قالت مدام «دي ڤلمورين»: لقد اختارت هذه الساحرة لنفسها حياة شقية، ولم تجد من لذة الوجود ما يهون تسليم النفس للشيطان. - يزعمون أنها ما زالت حية، وكيف كان الأمر فهي لا شك حية الذكر! - ثم كيف يقال إنها كانت تحب وتعشق، ولو صدقت في دعوى الحب لضربت بعصا السحر وجه شيطانها، ولم تترك من تهواه، فليس في الأرض ولا في الجحيم ما يغني من الحب.
فإن المحب يعاني الصدود
ويقضي الوعود ويرعى العهودا
ويصبر في الحب صبر الجليد
يلين الحديد ويدني البعيدا
ويفني الوجود وفاء وجودا
ويحسب ذاك الفناء وجودا
فإن عاش عاش حميدا سعيدا
وإن مات مات فقيدا شهيدا
وما فرغت باريسيتنا الحسناء من هذا الكلام الصادر من القلب حتى أخذها فيه حياء النساء، فعلت وجهها الزاهر حمرة الخجل، وكان «ڤكتور» أشد منها استحياء على أنه كان حائر الفكر، تائه اللب، يحسب نفسه في منام، وما يسمعه أضغاث أحلام، ويرى تلك الحسناء مستولية على لبه تتصرف فيه كيف تشاء، فتدفعه في طرق لا يعرفها إلى غايات لا يدركها؛ فيهيم في تلك المسالك هيام طرف الناظر من قمة الجبل الرفيع.
ومالت الشمس إلى الغروب وهما لاهيان ذاهلان عنها بما كانا يتجاذبان من أطراف الحديث من بضع ساعات، وكانت مدام «دي ڤلمورين» تتوقد في كلامها ذكاء، وتلتهب حدة، وتذوب تصورا، وتسيل رقة مقلبة أوجه الحديث، متفننة في ضروبه، متنقلة في أساليبه، تجد فتثير الأشجان، وتمزح فتذهب الأحزان، وتظهر العلم حتى يقال هذه آية الدهاء والذكاء، وتوهم الجهل حتى يقال هذه غاية السذاجة والصفاء، و«ڤكتور» مستهدف لتلك السهام بلا اختبار يحميه ولا اعتبار يقيه، ثم تنبهت الباريسية الحسناء لميل الشمس إلى الغروب، فخفت للانصراف، وقالت ل «ڤكتور»: قدر عليك أن تكون دليلي في مسالك هذا البلد، وأن أراك بين يدي كلما كنت محتاجة إليك حتى عجزت عن القيام بحق الثناء عليك، فهل لك أن تبلغني منزلنا غير مأمور؟!
فخف لذلك وانشرح وداخله السرور والفرح؛ فقال: لك الأمر وعلي الشكر. وانحدرا من الهضبة حتى بلغا شاطئ الجدول والنسيم تزف إليه والغصون تميل عليه.
غدير دار نرجسه عليه
ورق نسيمه وصفا وراقا
تراه إذا حللت به لورد
كأن عليه من حدق نطاقا
فقالت المركيزة: إن بي ظمأ وهذا ماء زلال، فقال «ڤكتور»: بل على خطوات قليلة من هذا المكان عين ماء أصفى من هذا الجدول وأشفى، فإن شئت صرنا إليها، فهي من أبهج متنزهات البلد. فأجابته إلى ذلك، فدخل بها بين ألفاف الأشجار على منحدر الهضبة حتى بدت لها العين من تحت قبة متهدمة يتكسر الماء على أحجارها، ومن حولها شجرات كبيرة من السنديان وارفة الظلال، وهي رائقة صافية كعين الديك أو مرآة الحسناء يتخللها النبات الأخضر، كأنه ترصيع الزمرد على صفحات الماس، وعلى الأرض مما يليها بساط سندسي زركشته يد الربيع بلآلئ الأزهار وجملة العين وما حولها فتنة للأبصار.
فجلست المركيزة تشرب الماء بكفها البيضاء، فناولها «ڤكتور» متهيبا راجف اليد حقة حمراء تسر الناظر آيلة إليه من أمه يحملها لورود الماء في الصيد، فتأملتها وأعجبت بحسب لونها وشكلها وما فيها من النقش، ثم أعادت النظر إلى العين وأطلقته في مجال جمال الوادي فرأته كما قيل:
وقانا لفحة الرمضاء واد
سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا
حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا
ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا
فحجبها ويأذن للنسيم
يروع حصاه حالية العذارى
فتلمس جانب العقد النظيم
فقالت: لله هذا المكان ما أبهجه وما أبهاه! ولقد وددت لو كانت لي هذه العين لأبني عليها قبة تحار في حسنها العين، فهي أصلح مكان رأيته لهيام النفس في أودية التصور والخيال، فهل تعلم لمن هي؟ - لخادمك يا سيدتي فإن المكان بجوار قصرنا، وهو مما وهبني والدي يوم تزوجت. - أتريد أن تبيعني هذه العين؟ - أقدمها خدمة على مقداري، وحسبي من العوض القبول. - لا، لست أريد إلا الشراء، وكفاني أن أكون ملكة في هذه المملكة الصغيرة، فأنقض فيها، وأبرم وأفض، وأنظم، وأبني، وأهدم كما أريد، فبكم تبيعها مني؟ - بصورة من رسم يدك. - قبلت على علم بأنك مغبون، ومن الغد أرسل الفعلة إلى هذا المكان للبناء. - ونسميها عين التلاقي. - أحسنت ... ولكن قد مضى الوقت وأقبل الظلام؛ فسر بي إلى البيت.
فأجاب ممتثلا وسارا صامتين والهوى يتكلم في قلب «ڤكتور» بما لا يكاد يفهم، وكأنه يقول:
أراك فاستحيي فأطرق هيبة
وأخفي الذي بي من هواك وأكتم
وهيهات أن يخفى وأنت جعلتني
جميعي لسانا في الهوى يتكلم
أما «أليس» - وهو اسم الباريسية الحسناء - فكانت مشغولة النفس بما مر بها في ذلك اليوم تقلب فيه الخواطر متقلبة بين التصورات بما فيها من الميل إلى الغرائب، لا تنظر في عاقبة الأمر ولا تتنبه لحقيقة شأنها وحالة «ڤكتور»، فيا أسفاكم في النساء من حسناء يضلها الخيال؛ فتنقاد له خفة وطيشا، فترمى بالذنب وتتهم بفساد النفس، وما هي في الواقع والحقيقة إلا ذاهلة عن عاقبة الأمر، ولو فطنت لكل ما يترتب على العدول عن سراط الواجبات من فقد السعادة، وزوال الهناء، وضياع الراحة لما اتخذت غير ذلك الصراط سبيلا.
ولما وصل الرفيقان أول طريق «سرڤيل» شكرت «أليس» ل «ڤكتور» سعيه، وآذنته بالفراق بعد إذ واعدته باللقاء في الغد عند العين قائلة: وهناك أخبرك بما عسيت أن أعزم على إنشائه في العين وما حولها، وألتمس رأيك فيه، فإن حقوق الجوار واجبة الرعاية، ثم ودعته باسمة وشردت عنه في طريق القصر شرود الغزال.
3
هو الحب فاسلم بالحشى ما الهوى سهل
فما اختاره مضنى به وله عقل
فبقي «ڤكتور» ناظرا إليها، شاخصا بها حتى غابت عن بصره، فحول قدميه إلى حيث كانت أولا حتى وصل ذلك المكان، ولم يدر فمر به النسيم بليلا، فعبث بشعره، ورطب جبينه الملتهب، فجلس حيث كانت جالسة يلتمس فهم ما لم تصل مداركه إليه من انفعالات نفسه، فيرى أن هناك جمالا فائق الوصف يجذبه نحو تلك المرأة التي ما رأى مثلها في النساء إلى ذلك الحين، ولا يدرك لهذا الأمر سرا، ولا يجد له حدا حتى غربت الشمس، وأقبل الظلام فتنبه لوجوب الرجوع إلى «مرلي»، فانقبض من ذلك صدره أيما انقباض.
وكانت «ماري» تنتظر عودته عند باب الحديقة وبين يديها طفلها البهي، فلما رأته أسرعت إليه تعانقه وتقبله بصفاء قلب لم يداخله الفساد، ثم تأملته، فإذا هو مفكر منزعج، فخافت أن يكون منحرف المزاج، فأقبلت عليه تهتم بشأنه، وتعنى بخدمته عن صدق وداد واختصاص، فلم ينفر منها، ولكنه لم يستطع إخفاء ما في النفس.
دلائل الحب لا تخفى على أحد
كحامل المسك لا يخلو من العبق
ولما دخل غرفتها التي هي مقدس شعائر الوالدية، ومجلى فضائل الزوجية، وجدها خالية من الزينة والبهجة، ثم نظر إلى زوجته فرأى بساطة زيها الذي لم يكن فيه من الحسن غير النظافة والطهر، فأذكرته بما رآه صاحبا من محاسن الباريسية الحسناء، وكانت «ماري» تراقبه وهي صامتة وتحاول الوقوف على سره فلا تستطيع، ثم أرسلت إليه طفليهما فقبلهما على الجبين قبلة غير مشتاق، فأعادتهما إليها مكتئبة وضمتهما إلى صدرها إنصافا مما رأته من ظلم أبيهما، ثم دنا أحدهما من وعاء صيد أبيه، وأخرج منه الحقة الحمراء التي شربت بها الباريسية الحسناء، فانتزعها أبوه من يده بعنف وأودعها الخزانة قائلا: لا ينبغي لأحد أن يمسها مذ الآن.
ولم ينم «ڤكتور» بل أحيا الليل هائما في القصر، فكان تارة يدخل الكنيسة للصلاة فلا يرى فيها غير صورة واحدة: صورة «أليس»، وحينا يتمشى في الحديقة تحت الأشجار يرجو تسكين ما به من تباريح الحمى برطوبة الهواء وما هي إلا نار الغرام ذات الضرام.
وما كاد يتنفس الصبح حتى خرج من القصر من غير أن يشعر بخروجه أحدا، حتى أن والده لم يتمالك أن قال حين لم يره على المائدة : إن ل «ڤكتور» شأنا جديدا في هذه الأيام، أما هو فلم يجسر على الدنو من الموعد قبل الساعة المعينة خوفا وحياء، فأخذ يطوف بالضواحي بين المروج والبساتين، فينشده «معي» لسان الحال:
أودى بصبرك لوعة وسقام
أم راعك الرقباء واللوام؟
أم أنت أنت فما شكوت من الجوى
لكن دمعك بالهوى نمام؟
كفكفه لا يطفئ بقلبك وجده
إن السلو على المحب حرام
واشرب كئوس الذكر مترعة به
فالذكر كأس والغرام مدام
واطرب وكن في كل واد هائما
منه فأهل الحب قبلك هاموا
ذكروا المعاهد والعهود فما انطوى
في نشرهم نقض ولا إبرام
وتواجدوا في الذكر وهي طريقة
لحقيقة فيها الهيام مقام
واستقبلوا وجه الصباح بأعين
سهرت دجاه والأنام نيام
وسرت بهم أرواحهم نحو الحمى
فسعت على آثارها الأجسام
وقد عجب الفلاحون من رؤية «ڤكتور» على هذه الحال في تلك الساعة؛ لأنهم لم يروه من قبلها بكرة في البساتين، والبسطاء من الناس لا يعقلون كيف تحول أحوال النفوس.
ولما أتت الساعة الثانية انطلق «ڤكتور» نحو عين التلاقي، وكان وهو بلباس الصيد البهي أحسن منه بثوب الزيارة، فرأى المركيزة جالسة في مكانها بالأمس، وقد أعمدت رأسها بيديها فعل المتفكر المتأمل، فتلقته بالإقبال وحسن الاشتمال، ولكن كان في نفسها شيء من الاضطراب وعلى وجهها علائم الاكتئاب، ولما جلس قالت له بعد التحية المعتادة: فكرت أمس في أمر العين، فرأيت أن أبقيها على ما هي عليه الآن، فإن هذه الرسوم والآثار ملائمة لموقعها الطبيعي، وأخاف أن يضيع حسنها بالإصلاح، فدارت بينهما المذاكرة على هذا الموضوع، فأظهر «ڤكتور» كل ما لديه من العلم وكل ما فيه من الذكاء، وأوضح رأيه في الأمر بأفصح لسان وأعذب بيان، حتى مالت «أليس» بكليتها إليه، فتقاربت منهما الروحان وتناسب القلبان، بما بينهما من صلة الشباب، ورابطة الجمال، وما في ذلك المكان من مظاهر الحسن وتجليات الأنس، فما افترقا إلا وفي قلب كل منهما حب عظيم ووجد مقيم يشعران به ولا يبوحان، وقد اتحدت نفساهما حبا، فكانا على حد ما قيل:
بكم اتحدت هوى فلو حييتكم
قلت السلام علي إذ أنتم أنا
وتواعدا باللقاء من الغد في «سرڤيل»، حيث تكون ليلة الأنس الموعودة عند الباريسيات، ثم انصرف «ڤكتور» محتملا جسمه إلى منزله وتاركا فؤاده عند «أليس».
أخذتم فؤادي وهو بعضي فما الذي
يضركم لو كان عندكم الكل
فرآه آل بيته على تلك الحال من تشتت البال والبلبال، فبالغوا في الاعتناء بشأنه، ودارت به زوجته وأولاده يحاولون تنبيه فكره إليهم وهو لاه عنهم بالتي سلبته ذلك الفكر، حتى أنه خالف العادة في النهوض عن المائدة قبل أبيه وسائر ذويه بلا عذر ولا استئذان؛ فعجب والده من ذلك ولم يتمالك أن قال: يا للعجب! ما الذي أصاب «ڤكتور»؟!
فقالت «ماري»: تولاه الضجر يا والدي، واشتاق إلى معاشرة الناس، ومال إلى اختبار أحوال الاجتماع، فلا بد من إرساله إلى المدينة، فنحن ههنا لا نشفيه ولا نكفيه. - إن كان الأمر كذلك، فاذهبا إلى «بواتيه» واصرفا هناك فصل الشتاء. - أما أنا فلا أحب المدينة، ولست بتاركة منزلنا، فقد خلقت ألوفا لو تركت هذا الوادي لمت غما، فليذهب «ڤكتور» وحده وأنا أقيم. - كيف تصبرين على فراق زوجك؟ - إني أريد له السرور والسعادة، ولا بد لي من الصبر فللضرورة أحكام، فأنا أقيم ههنا مع الأولاد ولا شك أن «ڤكتور» يعود إلينا ولو بعد حين ، فإن الله مع الصابرين، ثم أعياها التجلد، فسقطت من عينها دمعة سخية، فمسحتها بأطراف البنان وقامت لتلحق بزوجها في غرفته، ولما كان الغد لم يخرج «ڤكتور» من المنزل، بل اهتم إلى المساء بإصلاح شأنه ومراقبة لباس الخدم ومسح العربة والخيل اهتماما لم ير منه قبلا، ثم عني بأمر لباسه فتأنق فيه ما شاء مسرعا غاية الإسراع حتى تم استعداده للزيارة قبل والده بنحو ساعة، فأعجبت به «أوچيني» وهو على تلك الحال إعجابا ممزوجا بالشك، ولم تجرؤ على معانقته ولا تقبيله مخافة أن تجعد الثوب أو القميص.
وأقيمت المأدبة في «سرڤيل» عند الباريسيات على وفق المرام، وجرى تشخيص الروايات الموعودة، فكانت مدام «دي ڤلمورين» المركيزة الحسناء هي المشخصة لأهم الأدوار، فأحسنت في التمثيل نهاية الإحسان حتى جرى مدحها على كل لسان، فلما تجلت على المدعوين في بهرة المنتدى بعد الفراغ من التشخيص حسدتها النساء حسد الضرائر للحسناء، وخفقت لها قلوب الرجال افتتانا بكمال ذاك الجمال، ولا تسل عما جرى على «ڤكتور» وهو الذي ما حضر قبل تلك الليلة مثل هذه المأدبة ولا رأى قبل تلك الرواية تمثيلا، فكيف به والتي استعبد قلبه هواها، واسترقه بيان بديع معناها هي المشار إليها والمعول عليها في المأدبة والتمثيل؟! على أنه كان آخر من تقدم إليها للثناء عليها، فلما رأته انعطفت إليه كأنما هي تطلبه من دون سائر القوم وقالت: هل سرك ما رأيته مني؟ - آه يا سيدتي ... ولم يزد.
والتزمته بقية الليلة لم تشتغل عنه بسواه ولم ترقص؛ لأنه لم يكن من الراقصين، وهي مع ذلك تتصباه برقة لفظها، وتتيمه بحركة لحظها، وترشفه من المنادمة مداما، تثير في القلب صبابة وغراما، حتى هزه الوجد واستخفه الفرح، ولمح الناس منه ومن خليلته ما كانا عليه؛ فتحدثوا في أمرهما متأسفين على «ماري» زوجة «ڤكتور»، توسلا للوقيعة في الباريسية الحسناء، وهذا شأن الناس من قبلهم ومن بعد لا يبذلون الشفقة إلا لتكون حجابا يستر النية السوداء.
وانصرف والد «ڤكتور» وحموه إلى منزلهم ب «مرلي» في أول المنصرفين ، ولبث هو في المرقص حتى لم يبق فيه أحد من المدعوين، ثم سار وفي ضميره للحب أسرار، ومذ حينئذ وقع في أحواله الباطنية انقلاب لم يخف عن قلب زوجته إن كان خافيا عن أعين الناس.
قلوب أهل الحب تبصر من
أسراره ما لا ترى الأعين
تحسبه مستترا خافيا
وهو صريح عندها بين
فإنه كان يخرج من المنزل ويعود إليه في أوقاته المعينة لذلك، ولا ترى منه زوجته غير الحب والائتلاف، ولا يجد منه أولاده غير الحنو والانعطاف مع سكينة ظاهرة عليه، إذا رآه من لم يعان الصبابة أيقن أنه خلو من الغرام، ولم تر عينه ما يتقد في قلبه من ناره ذات الضرام، ولا عجب؛ فإنها لا تبصر القلوب إلا عيون القلوب، وما كان «ڤكتور» خبيرا بأحوال الهوى بصيرا بأمور الحب ، ولكنه تلقن العلم بها ليلة المأدبة أو بعدها، فكتم جواه وأخفى هواجس هواه.
وأقامت المركيزة الحسناء في «سرڤيل» بعد المأدبة ستة أسابيع وأهل الناحية يتحدثون في أمرها وأمر «ڤكتور» ويكثرون فيهما الأقاويل، ولكن من غير شاهد أو دليل، فقد كان المحبان على حذر من الرقباء يكتمان الحب ويظهران خلو القلب كلما التقيا على مرأى من الناس، حتى كأن الذي بينهما معرفة قريبة العهد لا غرام موثق العهد، ولما سارت المركيزة إلى باريس تجلد «ڤكتور» للاعج الأشواق، وغصة الفراق، وزار أهلها في «سرڤيل»، ولم يكن على شيء من علائم الاكتئاب ودلائل الاضطراب، ولكنه لم يمض على ذلك غير بضعة أيام حتى أعياه التجلد وعناه الصبر، فبكر ذات يوم إلى غرفة زوجته وقال لها متلطفا ما استطاع. - أروم السفر إلى باريس لمصلحة تقتضيه فهل تأذنين في ذلك؟ - لك الأمر فافعل ما تشاء. - إذن أسافر غدا، أستودعك الله.
4
الحب أول ما يكون مجانة
فإذا تمكن صار شغلا شاغلا
بعد الذي مر بنا من حديث، «ڤكتور» و«ماري» تعاقبت عليهما الأيام وتوالت الشهور عامين طويلين، وهو مقيم بباريس يجتني زهر الصفاء من حدائق الهناء، ويرشف راح الأفراح بكئوس الانشراح، وهي مقيمة ب «مرلي » تغالب الغم والكمد، وتحاول الصبر والجلد، وتسأل الله المعونة والمدد.
وكان «ڤكتور» قد كتب إلى قومه بعد وصوله إلى باريس يقول:
إنه عزم على الإقامة بها شهرين لا شهرا واحدا ليتسنى له رؤية ما اشتملت عليه من الغرائب والعجائب، ثم زعم أنه شديد الرغبة في طلب العلم قوي الميل إلى استكشاف أسرار السياسة، وأنه يروم دراسة القوانين ليصير فقيها فيتأتى له الوصول إلى مرتبة النيابة، ثم تململ من كونه رجلا عطلا لا أثر له ولا فائدة منه أهمل ما آتاه الله من الذكاء ورضي من الحياة بالخمول والكسل، فلم يكن له سؤدد ولا شرف، وجملة قوله أنه طمح إلى المعالي وحدثته نفسه بالمجد، فاختار المقام بباريس لعلمه بأن زوجته صادقة الحب فلن تعارضه فيما يسعى إليه مما يعود بالمجد والفائدة عليها وعليه، وأنه سيدرك أمنيته بعد حين فيستقدم «ماري» إليه لتكون شريكة سعده وقسيمة مجده ورفيقة أنسه بلا خوف من الفراق، وغير ذلك من أنواع الخديعة وضروب الحيلة.
وما نفذت في «ماري» خدعة «ڤكتور» واحتياله، ولا انطلى عليها محاله، ولكنها صبرت على تجنيه ورضيت بما كان يقضيه، فكانت تكتم الغم وتكظم الغيظ منه، ولا تراسله بما يشف عن القلق واشتغال البال، إلا أنها كتبت إليه مرة تذكره بأن مالهما غير كثير، فلا يجوز لهما إنفاقه جزافا وحرمان أولادهما منه، ثم ترجوه موالاة الرسائل، وأن يقدم إليهم لتراه متى أمكنه من ذلك شغله الشاغل الجديد، وهلم جرا مما لا يخرج عن حد التلطف ولا يشعر باختلال الوداد حتى أن «ڤكتور» لما قرأ ذلك الكتاب اغرورقت عيناه بالدمع وأوشك أن يعود إلى بلده، لولا أن جذبته على رغمه جاذبة الهوى، فأقام لدى «أليس» ينشد في حبها بلسان الحال قول من قال:
أقمت كما شاءت وشاء غرامها
لها الذنب لا تجزى به ولي العذر
وفارقت أهلي في هواها وإنني
وإياهم لولا الهوى الماء والخمر
وكان حب الباريسية الحسناء قد سرى في نفس «ڤكتور» سري النار بالضرم، فكان يزورها ما شاء الحب والشوق لا يخاف عذولا، ولا يخشى رقيبا «بما اعتاده كبراء الفرنج مما يسمونه بالحرية أو بسلامة النية وهو بغير ذلك أشبه»، فدخل عليها في خدرها ذات يوم في الساعة الثانية بعد الظهر، ولم يكن هو ذلك الفلاح الساذج المتهيب الأجنبي عن بهارج الزينة وأحوال الاجتماع كما رأيناه من قبل، ولكنه كان غيسانيا مترفا منعما لبيبا مليح الشباب، كامل معاني الحسن، شائق الرواء، رشيق الحركة بلا كلفة ولا اكتساب، وممن يأخذون بالأسباب ويعظمون في أنفس الناظرين ما لم يكونوا لهم من الحاسدين:
يزيدك وجهه حسنا
إذا ما زدته نظرا
فتلقته المركيزة بابتسامة لها في ثغور الحسان معان يفهمها المحبون، وظهرت منها عليها سيماء الإعجاب به والحب له، فمدت إليه يدها البيضاء فقبلها باحتشام، ثم أبقاها بين يديه فقالت: تأخرت عني يا «ڤكتور» وقد كنت أنتظر قدومك لنتشاور فيما ألبس الليلة لمرقص السفارة، فإني أريد أن أكون ملكة الحسان فيه. - ما عليك إلا أن تظهري، فما أحد ينازعك التاج. - لست أطلب منك المدح وإنما أروم المشورة، فماذا تقول في إكليل من زهر العطر شاهي؟ (زهر يعرف أيضا بإبرة الراعي ينظم بين الجواهر وتجعل باقة منه على الصدر فوق ثوب من اللاذ الأزرق). - هذه غاية الحسن والزينة، فإن العطر شاهي نادر الوجود في هذه الأيام، أما الثوب الأزرق فتكونين فيه قمرا في سماء زرقاء عليه إكليل من الجواهر والزهر من دونه أكاليل النجوم الزهر. - أتستحسن ذلك حقيقة؟ - غاية الاستحسان. - لا أخفي عنك أن هذا الرأي مكتسب، فإن «باتون» الزهار قال ل «جمدراتي» إن امرأة قد استشارته فيما نتزين به من الزهر، فأشار عليها بالعطر شاهي، ثم لم يجد منه غير شيء قليل فآثرني به عليها. - أصاب وراعى النظير. - وأنت متى تتبعني إلى السفارة؟ - بعد زيارة الوزير، فقد علمت أن الأمر على ما نريد، وأن النجاح عتيد، وأزيدك أنه قد عزم على عرضي للنيابة متى جاء وقت الانتخاب، فسوف أصير باهتمامك نافعا للوطن. - آه لو كنت تعلم مقدار إعجابي بمزاياك، وما أذكره في كل يوم من أنك لولاي لكنت باقيا في بلادك مجهول المكان خامل الذكر، تنمو نمو النبات بلا منفعة ولا أثر مع كونك مخلوقا لتعظم في الدنيا آثارك، ويعلو في الوجود منارك، فكلما نظرت إليك الآن وسمعتك متكلما بأحسن بيان، ورأيت ما لك من المزية على الأقران؛ حمدت الله سبحانه واجب الحمد على أن وجدت في سبيلك لأرشدك إلى غايات المجد. - صدقت أيتها الحبيبة المفداة بالروح، فلقد هديتني سبيل الفلاح، وأنقذتني من عذاب الضجر، ولولا أن رأيتك لمت غما ويأسا محترقا بشعلة الذكاء التي أوقدتها في قلبي السماء، فقد كنت أذوب كل يوم كما يذوب الشمع، ولا أدرك لذلك سرا فأهيم من التصور في أودية آمال يمثلها الخيال، وليست بموجودة في واقع الحال حتى استقبحت وجودي واستهجنت من كان لهم في قلبي مكان من الحب؛ فصرت منفردا لا أجد أنيسا، ولا ألتمس جليسا إلى أن تجليت لي في مظهر الجمال، فتحولت هاتيك الأحوال، فأنا الآن حي بهواك سعيد برضاك لا أرى من محاسن الوجود سواك، أغمض الطرف حين لا أكون لديك، ولا ترى عيناي عينيك لأعود بالفكر إلى الأيام السالفة، فأذكر ملتقانا الأول إذ رأيتك في كنيسة منزلنا بين البروق اللامعة، فخلتك ملكا على سحابة تنبعث منها أشعة النور، ثم أذكر موقفنا على الآثار والأطلال، ورجوعنا من الغد إلى عين التلاقي، حيث اتحد منا القلبان، وامتزجت الروحان، فنطقت أنفسنا بالحب من غير لسان، وأذكر المأدبة التي رأيتك فيها بهجة الأنظار وفتنة الأفكار، وأحاديثنا من بعدها في كل يوم على تلك العين، ونحن من وراء حجاب من الخفاء لا ترانا عين رقيب ولا عين، وإني ما كنت حيا إلا بقربك ولا موجودا إلا في حبك، فكان غيابك عني غياب الروح عن البدن، فلم يكن بك من حاجة لاستخلافي قبل سفرك أن أسير إلى باريس على أثرك، بل لو نهيتني عن ذلك لما كنت أنتهي، فإنك قد حببت إلي الحياة وأنت هي، وأوضحت ذاتي لذاتي، وهتكت سجوف الخفاء عن صفاتي، فكل ما لدي من مال وما عساه أن يكون في من حسن وكمال، وما ظهر علي من مخايل الذكاء وما ترين في من البهجة والرواء، فهو مستمد من محاسنك الغراء، فأذني لي أجث بين يديك لأثني واجب الثناء عليك. قال هذا ورام الترامي على قدميها، فأنهضته وهي تقول: آه ما ضر الزمان لو سمح بتلاقينا قبل هذه الأيام؟! ولم يكن بين كل منا والآخر حاجز مكروه. - كان ذلك من فوق اليدين يا قرة العين، على أننا قد وجدنا لنحيا معا مؤتلفين متحدين، ويمين الله لن نفترق ما دمنا أحياء. - لا ريب عندي في صدق حبك وثبات قلبك. ثم قالت ولسانها يتلجلج وصوتها يتهدج: ولست ألم بما في نفسك من العواطف الأجنبية عني إلا بلطف واحتراز، ولكني في قلق مستمر منها، فلا بد أن أسألك: هل عندك خبر من «بواتو»؟ - نعم. - وكيف حال مدام «ديلار»؟ (تعني زوجته). - تزعم أنها الآن أحسن حالا، ولكني في ريب من ذلك، فقد رأيت في كتبها سرا غريبا لم أر مثله من قبل؛ فأيقنت أنها تكتم عني حقيقة الأمر. - إن كانت منحرفة المزاج، فقد وجبت عليك زيارتها لتدفع الظنون، وترى أولادك الذين تحبهم حبا صادقا. - أذكرتني من ذنبي ما كنت ناسيا يا «أليس»، نعم، إني مخطئ إلى التي لم أر منها إلى الآن غير الحب، وإن أولادي أعزاء علي، غير أن هذا الحب وذاك الذنب يخفيان في مظهر هواك، فإنك تسليني عن كل موجود، ولا أسلوك بشيء من الوجود، ولقد أفرغت قلبي من كل شيء سوى حبك، فصار لك الملك فيه بلا شريك.
ملكتك القلب فرفقا به
ما أحسن الإحسان ممن ملك!
أستغفر الله فما أنت من
هذا الملا إن أنت إلا ملك
وحينئذ ضرب ناقوس الباب إشارة إلى قدوم زائر جديد، فانقطع حديث الأليفين، وانصرف «ڤكتور» يسعى في شأنه وبقيت المركيزة تنتظر قدوم الزائر، ولما عاد «ڤكتور» إلى منزله للعشاء، رفع إليه الخادم كتابا من الكونتة «سرزول» ترجوه فيه أن يأتي منزلها في الساعة الثالثة بعد الظهر، فإن تأخر عن هذا الميعاد، فلا يزعجن نفسه بالمسير إليها، فإنها لا تكون في المنزل بعد الساعة الخامسة.
وكانت هذه الكونتة من نساء القصر الملكي قبل الثورة، ولها صداقة قديمة مع والد «ڤكتور»، وكانت كريمة الخلق، شريفة عالية النسب، معروفة بالفطنة والذكاء، ولها أصدقاء كثيرون في حي النبلاء المسمى «فوربورسين جرمين»، وكان «ڤكتور» قد أفنى الحيل في استعطافها إليه، فأعرضت عنه بما بها من الحرص على التستر والاحتشام الظاهري، وما رأت من تهتكه في حب «أليس»، بل وقفت له ولها بالمرصاد توسعهما عذلا ولوما، وتروم التفريق بينهما رحمة بزوجة «ڤكتور»، حتى فرط منها إلى بعض الناس قول يشعر باستعدادها لإصلاح ما أفسد الهوى بين «ڤكتور» و«ماري»، فصار هذا الشأن همها الفرد من ذلك الحين، وكانت صداقتها مع الكونت «ديلار» قديمة أتى عليها نحو خمسين عاما، وقيل: بل كان بينهما حب لا يفي لفظ الصداقة بمعناه، ثم تحول ذلك الحب صداقة بعد أن ارتحل الشباب وأقفر مغناه، فكان الكونت يستريح إلى حبيبته القديمة بأسرار ضميره، فلما وقع من «ڤكتور» ما علمناه كتب إليها يخبرها بسفره، وما ألم ببيتهم من الغم، وكيف صبرت «ماري» على ذلك صبرا جميلا، وأعلمته هي بما كان من ابنه في باريس، وأنه بلغ من شدة حبه للمركيزة أن غادر لأجلها آبائه في السياسة، وانحاز إلى نصراء الوزارة، فأضاع شرفه في سبيل الحب، وكانت الكونتة غاضبة على «ڤكتور» من وجهين: الأول أنه تهتك في الحب فأضاع أدبه، والثاني أنه اتبع من السياسة مذهبا لا يلائم نسبه، وطالت المراسلة بينها وبين أبيه فيما يحسن التوسل به إلى رده عن الغواية وإرشاده سبيل الهداية، ثم سارت بنفسها إلى مرلي، ولا شك أنها لم تغادر مستقرها الأمين إلا لأمر ذي بال، وكانت بعد رجوعها متحجبة في منزلها لا تزار إلا في أوقات معينة، ولا تخرج إلا متنكرة مستصحبة فتاة من النساء تزعم أنها أتت بها من «بواتو» لتكون لها رفيقة، فالتبس أمرها على الناس، فصارت كمن يعد مكيدة لأهل الحكم.
فلما وقف «ڤكتور» على كتابها ساءه فوات الوقت الذي استزارته فيه، وخاف أن تتخذ تأخره عنه حجة جديدة عليه؛ فإنه كان - على ذكائه وحسن بيانه - يخاف جدالها في قضية حبه التي لا تقوم له فيها حجة ولا برهان، فكتب إليها يعتذر بما وجد من العذر، ثم أقبل على إصلاح شأنه استعدادا للذهاب إلى المرقص.
ولما جاء الوقت المعين في أوراق الدعوة تجلت غرف السفارة الإنكليزية بأنواع الزينة المعتادة في المآدب الكبيرة، وتقاطر إليها المدعوون من كل جانب، حتى كاد الزحام يمنعهم من الحركة - يا عجبا كيف لا يمنعهم من الفرح والهناء - وكانت المركيزة الحسناء في المرقص فتنة للناظرين سطعت جواهر حليها من تحت أزهار العطر شاهي، فاستوقفت لها الأبصار، فما تحدث من رآها إلا في حسن زيها وجمال محياها، ولم تكن أتت المرقص إلا بعد نصف الليل، كما هي عادة الحسان المتصببات «لتنتظر فيعظم الشوق إليها»، فدار بها الناس وهي دائرة النظر على «ڤكتور» حتى لمحته بين الجمع فتقدمت إليه، ورأت علائم إعجابه بها بين عينيه، فلمعت لذلك أسرتها وتمت به مسرتها.
وعند الساعة الأولى بعد نصف الليل أعلن الحاجب قدوم الكونتة «سرزول» والويكونتة «ديلار»، فالتفت أهل المرقص متعجبين مما سمعوا، فإنهم كانوا يعرفون «ڤكتور ديلار»، ولكن لم يكن فيهم من رأى زوجته، بل كان أكثرهم يحسبونه عزيبا، فلما نطق الحاجب باسم تلك الخاتون المنسوبة إليه أخذهم في أمرها حب الاستطلاع، فداروا بها من كل جانب يرمونها بالأنظار، ويتداولون في شأنها الأقاويل والظنون، أما هي فكانت مرافقتها للكونتة كافلة لها بحسن القبول عند السفيرة وسائر خواتين المأدبة، ولكنها كانت مع ذلك خائفة كاسفة البال، مشردة الفكر لائذة بأذيال رفيقتها تهيبا من «ڤكتور» أن تلقاه فيسوءه انقيادها إلى رأي مدام «سرزول» حتى وهن عزمها وكاد الخوف يعجزها عن الوقوف لولا أن شدت الكونتة أزرها، وأزالت من قلبها الرعب، وعللتها بإدراك الأماني، وأنها ستكون هي المشار إليها بالبنان بين جميع من في المرقص من الحسان.
وكان زي مدام «ديلار» مماثلا لزي المركيزة الحسناء، على أن ثوبها الأبيض كان أزين، وباقات الأزهار عليه أحسن، وجواهر حليها أبهى وأثمن، ولم تكن تلك الجواهر لها وحدها، ولكن أعارتها الكونتة من حلاها الثمينة ما كملت لها به أسباب الزينة، والتمست لها العطر شاهي من منابته، ولم تترك ل «باتون» - بائع الزهر - منه غير القليل، فكان لها منه أكاليل منسوقة موفورة، ولم يكن للمركيزة إلا أزاهر قليلة منثورة، وفي الجملة أن زينة «ماري» كانت أبهى من زينة «أليس» على قرب المماثلة بينهما، وقد اتضح ذلك لمن رأى الاثنين من أهل المرقص، فصح عندهم أن «ماري» إنما عمدت إلى تلك المماثلة لتبين كيف يظهر الفرق بين المتشابهات، فكان ذلك موضوع الأحاديث في كل حلقات الرقص، ولما اشتد قلب «ماري» قالت لها لويكونتة: ينبغي أن ترقصي مع ابن أخي ليراك زوجك، ولا تخافي سوءا فإنك منصورة لا محال وما لك من شبه في هذا الجمال، فامتثلت أمرها ورقصت مع ابن أخيها بين الراقصين، ولم تكن منفردة في الجمال، ولكن كان في حسنها غضاضة ومائية قل أن توجد في نساء باريس - لشدة ما يكابدون من عناء السهر وضنك الأثواب - وكانت مع ذلك جديدة، وللجديد عند الناس طلاوة، فإن أكثرهم كالمبتذل الذي أتى عليه وقت طويل، فهو يمل ما كان موجودا ويلتمس كل يوم حسنا جديدا، أما «ڤكتور» فكان لدى المركيزة في آخر الغرف لاهيا بمسامرتها عن الرقص والراقصين، وكان قد أتى عليه هناك ساعة من الزمن، ولم يسمع بحديث زوجته حتى دنا منه أحد أصحابه، وقال له: ماذا تقول في مليحة فتانة تنسب إليك، وهي بصحبة الكونتة «سرزول»؟ - وهمت يا صاحبي، فليس في باريس من امرأة تنسب إلي. - لست واهما، لست واهما؛ فالمرأة تدعى بالويكونتة ديلار، وهي الآن ترقص في الغرفة الأولى، وقد حدقت بها الأبصار وافتتنت بها العقول؛ فإنها من آيات الحسن والجمال. - أعيد إليك القول أنك واهم فيما انصرف خاطرك إليه. - إني على هدى وبينة مما أقول، والفتاة بزي سيدتي - وأشار إلى «أليس» - ألا إن ثوبها أبيض. - فقالت «أليس»: بهذا الزي؟! - نعم سيدتي، بزيك هذا ... أزاهر من العطر شاهي وحلى متألقة الجواهر.
فتساءلت أعين «ڤكتور» و«أليس» عن سر هذا الأمر، فقال «ڤكتور»: لا، لا يمكن! - فقال صاحبه: هلم وانظر بعينك.
فأجاب «ڤكتور» متبسما من الغيظ: أنت وما أردت، فسر بنا لنرى.
وانطلقا إلى الغرفة الأولى مخترقين صفوف الراقصين المتزاحمين على رفعة قدرهم تزاحم الغوغاء حتى تجلت لهم الحسناء المقصودة، فتبينها «ڤكتور» فإذا هي «ماري» بعينها، لكنها لم تكن كما عهدها ساذجة فطرية الخلق تخاف الكلام، ولا تكاد تحسن تأدية السلام، وإنما كانت بهية فتانة رشيقة الحركات ذات بهجة ورواء، فحار في أمرها، ولم يدر كيف أتت باريس، وكيف تحولت أحوالها السابقة، ثم التقى نظره بنظرها، فأوشكت أن يغمى عليها من التهيب والخوف، ولكنها تجلدت، فسكن جأشها، فأتمت الرقص، وحينئذ شعر «ڤكتور» بيد مسته في كتفه، فالتفت فرأى مدام «سرزول» تبتسم إليه ابتسام الظافر وهي تقول: ألا ترى أني أعددت لك دهشة تجلب السرور، وأني أتقنت تعليم زوجتك فنون الإتقان، وأحسنت تلقينها أساليب الإحسان؟ وهل عرفتها بعد تغير أحوالها وظهور جمالها؟ - لك المنة والفضل فيما تكلفت من تعليمها وتغيير أحوالها، ولكن ما ضر لو أخبرت بالأمر وإن لم أشاور فيه، ألم تروني لذلك أهلا؟! - لا يا حبيبي الويكونت، ولكني ووالدك قد أضمرنا لك هذه الخدعة المطهرة، والدهشة السارة، ولو أظهرناك عليها من قبل لضاعت بهجتها، وقد أعيتنا زوجتك ترددا وامتناعا حتى تم لنا إلجاؤها إلى ما تراه اعتقاد أن يجلب لك السرور. - لقد كلفت نفسك يا سيدتي من المبالغة في الاهتمام. - لا أجد من كلفة فيما يجلب لك المسرة، فأنت ابن الصديق القديم الذي أتى علي في صداقته خمسون عاما، وما كتبت إليك صباحا أدعوك إلى زيارتي قبل المساء إلا لأن «ماري» أبت أن تأتي المرقص من غير أن تعلمك بذلك، وقد سرني غيابك عن منزلك وقت الزيارة، فإني أمنت به ضياع الدهشة وذهاب ما أتوقع لها من حسن التأثير.
ثم تقدم نحو «ڤكتور» صاحبه الذي أخبره الخبر، ولم يكن سمع ما دار بينه وبين الكونتة من الحديث فقال: أرأيت مدام «ديلار»؟ - نعم، وهي زوجتي بعينها، وقد أتت باريس هذا المساء ونزلت على الكونتة «سرزول»، فكتمت الكونتة عني خبرها على سبيل المداعبة والمباغتة بالسرور. - هنئت بها يا صاحبي فهي آية من آيات البهاء! - ولست كاتمك أني من لقائها في أتم الهناء.
ثم انتهى دور الرقص، فتمشت «ماري» قاصدة زوجها والكونتة وهي تتعثر بأذيال الخوف حتى وقفت تجاه «ڤكتور» ولم ترفع طرفها إليه، فقالت لها العجوز: لا بأس عليك با بنية، فإني قد التزمت العهدة في كل ما جرى، فلن تسمعي فيه لوما، ثم إن زوجك يحبك الحب العظيم؛ فلا خوف منه، فقال «ڤكتور»: مرحبا بك يا سيدتي، وإن كنت قد اخترت لنا هذا الملتقى العمومي، فقبضت «ماري» على يد زوجها وعلت وجهها حمرة الخجل، فقالت لهما الكونتة: تخطرا معا يا ولدي، وأنت يا «ڤكتور» كن معجبا بامرأتك مسرعا لإظهارها للناس فذلك يفيدك خيرا، وسأقدمكما إلى بعض ذوي المقامات الذين يحصل منهم النفع. - فلم يستطع «ڤكتور» مخالفة الكونتة، بل سار بزوجته على أثرها، فطافت بهما على أهل المرقص تعرف بهما أكابر الوجهاء، رافعة صوتها ما أمكن رفع الصوت في ذلك المقام، مخاطبة كل من تقف به بشيء من هذا الكلام، لله ما أحسن هذين العروسين! إنهما سيقيمان بباريس، كان اعتلال مدام «ديلار» هو السبب في افتراقهما، وقد عاودتها العافية فلن يفترقا بعدها، أما أحسنت في الجمع بينهما في هذا المرقص البهيج؟ أما ترون عليهما لوائح الهناء والسعادة؟
وكانت «ماري» في الواقع فرحة مفعمة القلب هناء وسرورا، لكن «ڤكتور» كان مبتئسا مضطرب الذهن، منقبض الصدر، منفعل النفس من كل الوجوه، يروم الخروج من موقفه الحرج ولا يستطيع التخلص من ملازمة الكونتة؛ فإنها لم تكن تغفل عنه طرفة عين، وقد بشرته بأنها لا تنصرف من المرقص في ذلك اليوم السعيد الذي هو عندها بمنزلة العيد إلا بعد انتهاء الرقص وتفرق المدعوين.
وكانت «أليس» على حالة من القلق لا يعرفها إلا من يعانيها أو يقع فيما يدانيها، فلم تجرؤ على التحول من مكانها، بل وقفت فيه شاخصة إلى باب الغرفة تنتظر إياب «ڤكتور» انتظار المتهم لقضاء الحاكم، حتى مر بها صاحبه الذي أتاه بنبأ زوجته، فابتدرته بالسؤال عنه غير مالكة من نفسها ما يليق بها من الجلد، قالت: ماذا جرى على الموسيو «ديلار»؟ - تركته سعيدا فرحا، يمشي على الأرض مرحا، ووددت لو رأيته وزوجته يتخطران بين الراقصين والكونتة تحول إليهما الأنظار. - أتركته مع زوجته؟ - نعم، نعم، وهي لعمر أبي فتانة حسناء يأخذ حسنها بالألباب، أفما عرفتها يا سيدتي؟ - عرفتها ... رأيتها في «بواتو» فلاحة عسراء بلهاء. - لست أدري إن كانت بلهاء، ولكني أقول عن يقين إنها ليست فلاحة ولا عسراء. - وهل هما الآن معا؟ - على أحسن حال من المسرة والهناء، ينظر إليهما بالأعين ويشار بالبنان.
فأوشكت المركيزة أن يغمى عليها من هذا القول غيرة وقلقا بما خطر لها من الخواطر وما داخلها من الظنون، وحدثتها النفس بداءة بدء أن تناظر ضرتها علنا بشاهد الحسن ودليل الجمال، ثم خامر قلبها الخوف من حيث لم تدر، وكانت هذه أول مرة خافت بها مناظرة الحسان، فرأت أن الفرار أوقى لها من الثبات، وأحفظ لكرامتها عند ذوي المقامات، فعولت على الانصراف، وقالت للفتى صاحب «ڤكتور»: أرجوك أن تدعو إلي الموسيو «ڤلمورين» من هذه الغرفة - وأشارت إلى مكانه - فقد دعاني إلى الانصراف ثلاثا ولا أحب أن أكلفه الرابعة.
فامتثل الفتى وأبلغ إلى المركيز «ڤلمورين» مقالة زوجته، فسارع إليها ملبيا مطيعا، وكانت هي قد أيقنت بتعذر انتصارها في ساحة المناظرة، فرضيت بالتقهقر من غير انكسار للنجاة من غير فرار، فعقدت يدها على ساعد زوجها، وتمشت وإياه في غرف القصر متخطرة مختالة دلالا وعجبا تبتسم لكل من تراه، وتتيم كل من تلقاه، حتى أجمع أهل المرقص رجالا ونساء على أنها لم تر من قبل أجمل منها في تلك الليلة وأحسن، ثم لمحت الكونتة وماري ومعهما الموسيو «ديلار» عند المائدة؛ فأومأت إليهم بالسلام ولم تجرؤ على الدنو منهم خشية أن يخونها الجلد، فانطلقت بزوجها مسرعة هارعة حتى أتت موقف العربة، فانطرحت في زاويتها كاسفة البال واهنة العزم، ونظرت الكونتة إليها وهي منصرفة على تلك الحال، فأخذتها الشفقة عليها فقالت بنفسها: أسفا عليها! إن عذابها لأليم، ولقد فعلت فعل كرام النفوس، فهي جديرة بأن يرق لها لولا أنها على الباطل، وأن الحق بالنصر أحق.
ثم التفتت تطلب «ڤكتور» فلم تجده، فسألت عنه «ماري»، فلم تعلم كيف غاب، فساءها ذلك، ولكنها لم تكن ممن يقفون في السبيل قبل إدراك الغاية، فأخفت ما نالها من القلق والاضطراب، وعادت إلى الطواف حول الراقصين في الغرف، ثم حملت «ماري» على الرقص حتى كلت وأعيت، فلجت بطلب الانصراف، فأمرت الكونتة بتقديم عربتها وأجلست الفتاة، ثم أمرت السائق بتوجيه الخيل إلى بيت «ڤكتور»، فصاحت «ماري»: رحماك يا سيدتي، كيف نسير إلى منزله؟! - وإلى أي منزل غيره تسيرين؟ أيحسن بزوجة المسيو «ديلار» أن يعرف أنها في باريس، ولا تكون في منزل الموسيو «ديلار»؟! - وما الرأي إن طردني من بيته؟ - إن حمله الحقد والطيش على الإعراض عنك، فما عليك إلا أن تتركيه وشأنه حتى يجيء أولادك غدا، فيشتد بوجودهم أزرك، وتغلب حجتك، أما طردك من البيت فاعلمي أنه لا يتجرأ عليه. - لست بجاسرة على دخول منزله كيف كان الأمر. - إني أرافقك إليه وأضمن لك البقاء فيه. - توكلنا على الله ...
ولما بلغتا منزل «ڤكتور» استوقفت الكونتة العربة، وأرسلت السائق بين يديها مخبرا، ثم اقتادت «ماري» من يدها إلى الدرج، فرأتها ترتعد وجلا، فقالت لها: تجلدي، لا بأس عليك، أترضين أن تكون العجوز أقوى منك، وأن تستعيني بها على السير؟!
ثم وصل سائق العربة وقرع باب الدار، فخرج إليه الخادم والنوم ملء عينيه، ولما رآه ومن ورائه الكونتة و«ماري» عجب من قدومهم إلى دار سيده في مثل تلك الساعة من الليل، فقالت له الكونتة: هذه الويكونتة «ديلار» فبشر زوجها بقدومها. - إن سيدي غائب لم يعد بعد. - إذن ننتظره.
فسار الخادم بين يديهما بالمصباح إلى مجلس الدار، فلما أوصلهما قالت له الكونتة: إن الموسيو «ديلار» لم يكن متوقعا وفود السيدة عليه في هذه الليلة، وإنما هي دهشة مضمرة له، فلا شك أنكم لم تستعدوا لاستقبالها الآن، فانحنى الخادم تصديقا على هذا المقال وانصرف لإعداد ما تحتاج إليه سيدته من أسباب الراحة، فقالت «ماري» مغمغمة: ماذا عساه أن يقول؟
ثم نظرت إلى ما حولها من الآنية المستظرفة، والتحف الثمينة المزخرفة، فدلتها الفطرة الأنثوية على أنها تذاكر أو هدايا نسائية، فقالت: ما هذا الإسراف والتبذير؟! وكم فيما أراه من أثر لغيري؟! - عليك بالتجلد يا بنية، فأنت ههنا صاحبة الحق الجلي، فلا تجزعي، إن الله ولي أمرك، وأخيار الناس أنصارك.
وبقيتا بعد ذلك صامتتين نحو نصف ساعة، والكونتة على شيخوختها لا تظهر شيئا من علائم الكلال والتعب غير أنها كانت تهز كتفيها من حين إلى حين تململا من الانتظار، ثم أحست بحركة عربة وقفت في الطريق، وضرب بعد وقوفها جرس المنزل، ففتح الباب، فقرع أذنها صوت «ڤكتور»، وسمعت الخادم يخبره بقدوم زوجته، ثم رأته مقبلا على المجلس، فنهضت إليه و«ماري» لا تستطيع نهوضا، فلما وصل قالت له العجوز: هذه زوجتك يا حبيبي الويكونت صحبتها إلى منزلك لأسلمها إليك تسليم الأمانات ثم أمضي فأستريح، وبسطت إليه يدها للوداع وهي تقول: واعلم أني خدمتك خدمة من طب لمن حب، ولسوف تذكرني فتشكرني.
ثم عانقت «ماري» وهي فاقدة الرشد خوفا وانزعاجا، وخرجت فتبعها «ڤكتور» محاولا إخفاء غيظه بمراسم التوديع ومواجب الإكرام في التشييع، ثم عاد إلى زوجته، فوقف أمامها صامتا شاخصا إليها برهة من الزمان، ثم خاطبها والغيظ يكاد يخنقه فقال: إيه سيدتي! هو ذا أنت عندي، وقد جئت غير مدعوة ولا منتظرة، ولم تبالي أكنت قادرا على قبولك أم غير مستعد له، فجعلتني في موقف حرج أوشك أن أكون به سخرية لأهل باريس، لا جرم قد أفرطت مدام «سرزول» في الاعتماد على شيخوختها وسطوة والدي فيما اختارت لنا من الحيرة والارتباك، فإني أعرف من طباعك وأحوالك ما يحملني على الجزم بأنك لم تحضري المرقص مختارة، وإنما أكرهت على المسير إليه ، ولولا اختراعي لذاتي لما ملكت من نفسي الصبر، وكنت الآن ... لا أدري ... أي شيء. - مهلا «ڤكتور» مهلا، أرعني السمع ولا تلم الكونتة ولا والدك، ولا تسئ بي الظن قبل استماع ما أقول، إني أجهل شأنك في هذا البلد، ولا أعلم لم حرمتني من لقائك، ولكني لا أجهل الغاية التي تسعى إليها والأمنية التي تروم الحصول عليها، فأنت تلتمس العلاء والمجد والثروة والعز، وتطمع أن يصيبك الانتخاب، وتكون من النواب، فيتسع لديك المجال، فتبلغ نهاية الآمال، وأنت في كل ذلك محتاج إلى الصيانة مفتقر إلى ما يدرأ عنك الشبهات، فلن تصير شيئا مذكورا حتى تكون مصون الظاهر وقورا، وإني لو استطعت إطلاقك مما يفيدنا معا لما ترددت فيه، ولكن الأمر من فوق ما نريد، فإن لنا أولادا أعزاء وأنت لهم لا لنفسك، ولا بأس مع ذلك عليك، بل كن كما شئت، وافعل ما أردت، ولا تبال بوجودي في منزلك؛ فإني أكون فيه بمنزلة الصديقة الرفيقة أو بمكان الأخت الشقيقة، أو غير ذلك مما تختار ما عدا منزلة الزوجة، فتراني متى شئت أن تراني، وأسليك من غمك إذا رأيتني لتسليتك أهلا، ثم تفعل ما أردت، وتذهب أيان قصدت، وتكون ولي أمرك وأمورنا جميعا، لا تعارض، ولا يعترض عليك، ولعلك تستريح في أوقات الفراغ لمداعبة أطفالنا، فتنكشف عنك الهموم، فأولئك الأطفال ما برحوا أعزاء عليك لا محال، ويكون المشهود والمشهور من أمرك عند الناس أنك محصن في أهلك مصون، فتندفع الشبهات عنك وتنقطع الظنون، ثم لا يلزمك الاهتمام بتدبير المنزل، وتخف عنك مئونة النظر في صغائر الأمور، أما أنا فلا أطالبك بشيء ولا أدعي لنفسي عليك حقا، وسأحفظ لك العهد وإن كان عنيفا عسيرا، وحسبي من السعادة رضاك، ومن الهناء أن أراك.
أراك فيمتلي قلبي سرورا
وأخشى أن تشط بك الديار
فجر واهجر وصد ولا تصلني
رضيت بأن تجور وأنت جار
فعظم تأثير هذا الكلام في نفس «ڤكتور» حتى تغير لونه، وانقلب غيظه رقة، وصار غضبه حلما، فانعطف إلى زوجته خافضا رأسه بين يديها متنصلا بلسان الحال من ذنبه إليها، ثم قبض على يدها مرتعدا وقبلها مترضيا متوددا، فسقطت عليها من عينه دمعة الندامة، فكفته «ماري» عن ذلك بألطف إشارة وقالت: لا يليق بنا الاسترسال إلى الشفقة أيها الحبيب، فنحن إلى الجلد والثبات أحوج، فلتستعن بهما أنت على السعي في شأنك، وأنا على حفظ ما عاهدتك عليه، وقد مسني الآن التعب فأرشدني إلى الغرفة المعدة لي، وغداة غد يصل أولادنا الأعزاء، آه لو علمت مقدار شوقي إليهم! - من أي وقت فارقتهم. - من شهرين؛ فإن مدام «سرزول» رامت أن تعودني عادات أهل باريس، وتعلمني مخالطة الناس حتى لا أوجب لك الخجل، فأتت بي من «بواتو» بأمر أبيك منذ شهرين، وبقيت عندها متنكرة عنك إلى اليوم. - حاشا لحسنك أن يورثني الخجل، فهو جدير بأن يبعثني على العجب والافتخار، فإنك أجمل من رأيت تحت السماء، ولكم ذكرت بعد فراقنا أيام اللقاء، وعانيت من البعد صنوف العناء، وندمت فلم ينفع الندم بعد إذ قضي الأمر وجف القلم. - خفض عليك جعلت فداك، فغاية السعادة لي أن أراك سعيدا، ومنتهى الشقاء أن تكون بعيدا، واكفف الآن عن الكلام غير مأمور، فسنعود إليه غدا أو بعده متى شئت، فقد أخذني التعب، واستولى علي النعاس.
فسار بها إلى باب غرفتها، فلما خلت بنفسها سجدت تصلي وتدعو الله، والصلاة عون على البأساء في شدائد الحياة ولا حول للإنسان ولا قوة إلا بالله.
ولما كان الصباح قدم الأولاد، فتلقاهم «ڤكتور» كما يلتقي الآيس نعمة منزلة من السماء، فعانقهم مليا وقبلهم كثيرا، أما «ماري» فكانت تحمد الله على جمع الشمل وتحقيق الرجاء، ولا تطلب في الهناء مزيدا، مخافة النقصان، وقد أنسي الاثنان ما مضى وأتم الله عليهما نعمة الرضى، فجلسا يتجاذبان أطراف الحديث من قديم وحديث، وبينما هما على هذه الحال الراضية، دخل الخادم ودفع إلى «ڤكتور» كتابا مزخرف الغلاف منسوق العنوان، فلم يخف على «ماري» أمر هذا الكتاب، فنهضت وهي تقول ل «ڤكتور»: إني منصرفة عنك لإعداد مكان ملائم لي وللأولاد، وقد ظهر لي أن هذا المنزل على صغره يفي بحاجتنا إلى أن نجد مكانا أوسع منه، ثم ودعته وخرجت، فلما صارت بحيث لا يراها مسحت من عينها دمعة كادت تحرقها ولبث «ڤكتور» كاسف البال، مضطرب النفس، يرى نفسه أشقى أهل الأرض لحصوله بين أليفتين مخالصتين متساويتين في محبته لا يستطيع مقاطعة أولاهما؛ لأنها زوجته وأم ولده وشريكته في اسمه، ولا يقوى على هجر الثانية؛ لأنه واثقها على الحب والوفاء، فبذلت له نفسها متعرضة في سبيل حبه للعذل واللوم وضياع الحرمة عند زوجها وآلها وسائر الناس، فهو بين قوتين جاذبتين يقاسي عذاب الخوف وملامة السريرة، وكان قد أفنى الحيل طلبا لرؤية «أليس» بعد انصرافها من المرقص، فأعياه ذلك فتردد في فض كتابها مخافة العتاب أو حذر العلم بما تعانيه من العذاب، ثم غلب عليه حب الاستطلاع، ففتح الكتاب فلم يجد فيه شيئا مما ظن وخاف، وإنما كان مضمونه أنها تبينت ما تحتم عليه من حكم الضرورة، فهي صابرة متجلدة لا تشكو ولا تلوم، وإنما تسأله أن يزورها لتسمع من لسانه حكاية الحال، وإن كان الزمان قضى عليها بفراقه، فلا أقل من أن يتولى بنفسه تسليتها في هذا المصاب، فهي تنتظر قدومه إليها صابرة ما أمكن الصبر.
فاستثاره هذا الكلام وجدا، واستفزه غراما وشوقا، فطار إلى منزل الحبيبة خافق القلب، منزعج النفس، مشغول الفكر بما نالها من الغم، فرآها منفردة في خدرها منهوكة القوة صفراء اللون غيرة وجزعا، فبسطت إليه عند دخوله ذراعيها، ثم أغمي من الوجد عليها فابتدرها برش الماء، وفتح النوافذ لتجديد الهواء، فلما أفاقت رأته جاثيا لديها يقبل يديها ويقول: لا تجزعي، لا تجزعي.
فإذا تألفت القلوب على الهوى
فالناس تضرب في حديد بارد
ولقد جمعت بيننا المودة، فلن نفترق ما دام فينا بقية من الحياة.
ألفت بيننا المودة حتى
جللتنا والزهر بالأوراق
نحن غصنان ضمنا عاطف الوج
د جميعا في الحب ضم النطاق
في جبين الزمان منك ومني
غرة كوكبية الائتلاق
كلما كرت الليالي علينا
شق منا الوفاء جيب الشقاق
ولما عاد إلى منزله وجد ابنه يلعب في بيت المائدة، فنظر إلى وجهه الأبيض الغض من تحت شعره الأشقر الجعدي، فطابت بذلك نفسه، وانشرح له صدره، فعلم أن الحب الوالدي هو اللذة المستقبلة التي ستسليه عما عساه أن يفقد من سائر اللذات، فخطاب الصغير بقوله: أين أمك يا «أوجين»؟ - أمي ... أعدت لنا عند الصباح غرفة بجوار مخدعها لنكون فيها منفردين عنك، فلا ترانا إلا إذا شئت، ولا نزعجك متى كنت مشغولا.
فقال «ڤكتور» في نفسه: ما برحت هي إياها: خلق كريم، ونفس شريفة، وفؤاد سليم، وأنا أقابل هذا الوفاء والإحسان بالخيانة والكفران. ولما شعرت «ماري» بقدوم زوجها أقبلت نحوه مرحبة به باسمة له وهي تقول: رأيت الآن مدام «سرزول» فذكرت لها كل ما أبديت لي من الملاطفة والمجاملة، فسرها ذلك أيما سرور وهي تروم أن أسير معها لزيارة بعض الوجهاء، وتزعم أن في ذلك مصلحة لك، فإن كنت ترى هذا الرأي، فإنا نزور أولا مدام «درميلي» ومدام «ڤلمورين» اللتين عرفناهما في «بواتو» من قبل.
ولما نطقت «ماري» باسم الباريسية الحسناء تهدج صوتها وارتعشت أعضاؤها بما نالها من انفعال النفس، ولكنها تمالكت وتجلدت ما استطاعت حتى كاد قلب «ڤكتور» ينفطر شفقة عليها، وحتى صغرت عنده نفسه بما وجد بها من كرم النفس؛ فضمها إلى صدره باكيا وهو يقول: عفوا، عفوا، إن ذنبي كان كبيرا، فلست بالحب منك جديرا. - دع عنك هذا الكلام فلا عتب ولا ملام، إني زوجتك الأمينة وأبى الله أن تألف نفسي الحقد والضغينة، بل حسبي من السعادة أن أراك، وأفوز بدوام قربك ورضاك.
فلأنت من دون البرية موئلي
ولأنت من دون الأنام عتادي
فإذا دنوت فتلك غاية مقصدي
وإذا رضيت فذاك كل مرادي
فعلم «ڤكتور» بعد هذا المقال أن عفو زوجته واسع لا حد له، وعلمت هي أن في قلبه بقية من محبتها، فأمسى قليل الوجل وباتت كثيرة الأمل.
ثم أتمت ما استأذنته فيه فزارت «أليس» ولم تجدها، فأبقت لها تذكرة الزيارة، فانفتح بذلك باب التزاور والتلاقي بينهما ، فنجا «ڤكتور» من ضنك الارتباك.
5
هي الدنيا تقول بملء فيها
حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركم مني ابتسام
فقولي مضحك والفعل مبك
وتعاقبت الأيام على هذه الحال ستة أشهر طوال و«ماري» صابرة صبر كرام النفوس، لا تخلف وعدا ولا تنكث عهدا، ولا تألو في إخفاء عذابها جهدا، و«ڤكتور» يرى منها ذلك الصبر الجميل والتأسي العجيب، فيرق لها فؤاده بما فيه من رقة الحب.
من ملك الحب رقة
كساه لطفا ورقه
فمن غدا مسترقا
فقل هواه استرقه
ومن رأيت خليقا
فالحب تمم خلقه
وكان يترضاها بالإقبال عليها والانعطاف إليها، فلا تراه إلا مهتما بشأنها، مسارعا إلى قضاء ما تريد، يتحفها بالهدايا والتقادم النفيسة على الولاء، وينفحها بما تشتهيه نفسها من غير سؤال، ولا يعارضها في شيء من أمور المنزل، فتقول له كلما أتاها بهدية غالية أو ثوب جديد: أكثرت من هذه الهدايا، أكثرت جدا، فلا تبذر من أجلي المال، فأنت محتاج إليه. - إنما أنفق من حباء الوالد منذ قدومك باريس، فإنه يرسل ما يلزمنا من المال رغبة في مرضاتك، وتوفيرا لأسباب راحتك، ويأمرني أن أبذله في سبيل إسعادك من غير حساب، ولو استطعت لألقيت تحت أقدامك ذهب الأرض في الطول والعرض.
ولم يكن هذا القول شافيا لعلة «ماري»، ولا ذاك المال المبذول كافيا في إزالة ما بنفسها من ألم الغيرة، فالمال عرض أحقر من أن يكون للصادق في حبه غرضا، والحب مقام أرفع من أن تصل إليه يد المتطاول بالمال، غير أن «ماري» لم تكن أشقى من الباريسية الحسناء بالا، ولا أسوأ حالا، فإن الألم الذي يمكن إعلانه بلا خجل ولا خوف من اللوم يخف على النفس وإن كان شديدا، ومن علم أنه على الحق هان عليه التأسي فيما يعانيه من العذاب.
وكانت «أليس» شديدة الغيرة لا تستطيع الصبر على قرب «ڤكتور» من زوجته، مع معرفتها بمكان «ماري» من صفاء النية والطهر، ولا تجد من سبيل إلى الراحة مع علمها بازدياد حب «ڤكتور» لها واشتداد هواه، وكانت مع ذلك رقيقة الطبع، سريعة الحس، كريمة النفس، فكان يؤلمها أن تكون مضطرة لغض الطرف وخفض الرأس كلما رأت زوجة «ڤكتور».
ومما زادها ألما وعذابا وشقاء بال أن زوجها المركيز «ڤلمورين» تنبه من رقدة غفلته، فأساء بها الظن وداخلته الغيرة عليها، وكان السبب في ذلك أنها رأت «ڤكتور» يؤانس «ماري» في محفل قوم من الوجهاء، فخانها الجلد وظهرت عليها الغيرة حتى تنبه لشأنها كل من كان في المحفل، واتصل الخبر بحمويها فنقلاه لابنهما بغية أن يحفظ حوبته، ويصون حرمته، فأقام على «أليس» العيون والأرصاد، ووقف لها بالمرصاد يراقبها نهارا وليلا، ولا يغفل عنها طرفة عين، وإن رأى غير شيء ظنه رجلا، وهذا شأن المغفلين إذا وقعت في الأمر شبهة، تولاهم فيه الطيش والعناد، وجاوزوا الحد في التوقي منه محتكمين بما يصوره الوهم، خائفين الخديعة من حيث لا تخاف، حتى يعنتوا من وقع منه ذلك الأمر بالمراقبة من غير موجب والرصد لغير علة.
ومع ذلك لم يمنع المركيز «ڤكتور» من دخول بيته، ولكنه أوجب على زوجته ألا تقبل منه الزيارة إلا ندرا، فكانت تلقاه ويلقاها حيث لا يشعر بهما رقيب ولا تراهما عين، وأقاما على هذه الحالة راضيين بها غير مباليين بالمشقة، حتى أحسا أن أرصاد المركيز يتبعون زوجته أيان سارت، فاعتراهما الوجل، فعاد إلى التوقي والاحتراز، وكان «ڤكتور» قد اتخذ في شارع «فوبورسنت أونوري» دارا كبيرة ذات قسمين، لكل قسم مدخل برأسه وبينهما باب لا يفتح إلا من جهة واحدة، فاختار لنفسه القسم الذي يفتح من جهته الباب، وجعل زوجته في الآخر مشترطا عليها ألا تدخل قسمه بالمرة، فلم تكن تلقاه إلا على المائدة في أوقات الأكل، وكانت المركيزة الحسناء تزوره في ذلك المنزل كلما سنحت لها فرصة، وغفلت عنها أعين الرقباء.
فأتته صباح يوم بلا وعد ولا خبر مضطربة راجفة لا تكاد تثبت على قدميها، وألقت بنفسها على المقعد وهي فاقدة الرشد فصاح «ڤكتور»: جعلت فداك، ماذا اعتراك؟! - قد اسودت الحياة في عيني، وصار الموت غاية ما أريد.
كفى بي داء أن أرى الموت شافيا
وحسب المنايا أن تكون أمانيا - واحيرتاه! ما الذي حل بنا؟ - نكثت عهدي وسلوت عني.
حتام حظي لديك حرمان
وكم كذا لوعة وهجران
أين ليال مضت ونحن بها
أحبة في الهوى وجيران؟
وأين ود عهدت صحته؟
وأين عهد؟ وأين أيمان؟
ألم تر كيف كنت بالأمس تهتم بشأن زوجتك عند الكونتة «سرزول»، وكيف كانت هذه العجوز الماكرة تنبه الناس لذلك إجهازا على فؤادي الجريح بسهم الغيرة. بلى، رأيت ذلك وكانت زوجتك حسناء تعلن دعوى الصبر، وتظهر علائم الطهر حتى جدت في أعين الناظرين، وصارت هي المشار إليها بالبنان في ذلك المحفل، فعاودك ما عهدته بل من حب الذات والعجب والزهو، فملت إليها، وأقبلت عليها تروم إعلان سعدك وإبداء مجدك لكل من يراك. - وهمت يا راحة الروح، فقد كنت يومئذ لا أكاد أنظر إلى «ماري». - لا يفيد البيان بعد العيان، فقد ظهر غدرك الذي تنكره لمئتي نفس في ذلك المحفل، وكانت مدام «سرزول» تلك التي نسيت عهد الصبا بعد بلوغها الخامسة والسبعين تبذل الجهد في تنبيه فكرتي لذلك الغدر. - أضعت رشدك يا قرة العين، فإن مدام «سرزول» قد أمسكت عن التداخل في أمورنا. - مالت إلي الراحة؛ لتهنأ بما جلبت علي من العناء . - «أليس» «أليس» ما هذا الكلام؟!
هل تعلمين وراء الحب منزلة
تدني إليك إذا ما الحب أقصاني - لا لوم علي وإن فاتني الجلد، فإني أصرف الأيام في قتال أعدائي وأعدائك، لا أعبأ بانخفاض شأني وضياع قدري، ولا أبالي بعاقبة أمري، ولا أروم إلا بقاء ودادك وصفاء فؤادك، ثم لا ألقاك إلا خلسا يغفل عنها الرقباء، وأنت مع ذلك تهجرني لامرأة تخالها من الملائكة لمجرد أنها تذرك وما تريد، ولو كانت من أهل الحب لظهرت عليها الغيرة، فإن المحب غيور، قل لي - ناشدتك الله - ما الذي بذلته في حبك؟ وأي دليل أقامت عليه؟ تزوجتها فقيرة وأنت غني، ولها الآن أولاد ملاح تأمل أن تجذبك إليها بمغنيط حبهم، وهي مكرمة طيبة الذكر عند كل الناس، واللؤماء يرقون لها ليسلقوني بعد ذلك بألسنة حداد، وهي مع ذلك تراك في أوقات معلومة، ولا تخاف شيئا ولا تحذر أحدا، فأنا أحق منها بالشفقة وأجدر برحمة الناس. - ما أردت أن أقطع الحديث عليك يا منية القلب؛ لأن اضطرابك شديد لا يؤمل الآن تسكينه، وقد صدقت بما نطقت إلا من جهة خفيت عنك الحقيقة فيها، وهي أن «ماري» مع كل ما تتأسى به مما أوضحت في مقالك ليست أقل عناء وشقاء منك، فإنها تحبني كما تحبينني، وتغار علي كما تغارين أنت علي، وهي مع ذلك متجلدة صابرة يمزق الغم فؤادها، ولا أرى منها غير الابتسام، فهل رأيت من يصبر الصبر ويفي هذا الوفاء في كل حين وعلى كل حالة؟! - إيه ما أحسن هذا القول! جئت أطارحك الحب وأشكو إليك ما بي من الوجد، فكان جوابك الثناء على ضرتي، فلا كان اليوم الذي عرفتك فيه. - مهلا «أليس» لا تسخطي على حبنا أو تحل بك الندامة، فالسخط باب الشقاء، إني أحبك حب الشحيح لماله، وأحن إليك حنين الغريب لآله.
وحرمة عهد بيننا عنه لم أحل
وعقد بأيد بيننا ما له حل
لأنت على غيظ النوى ورضى الهوى
لدي وقلبي ساعة منك ما يخلو
إذا أنعمت نعم علي بنظرة
فلا أسعدت سعدى ولا أجملت جمل
واختبريني بما شئت في هواك، فما اختياري إلا رضاك، ولو شئت مزايلة هذا المقام فرارا من الرقباء واللوام لما باليت بترك الوطن والآل واطراح الأماني والآمال، وكان ذلك في جنب ما بذلت لي من الحب يسيرا.
فلو صرفت زماني
والوجد أسقاه صرفا
ولو جعلت حياتي
عليك في الحب وقفا
ولو رأت كل يوم
عيني من الهول صنفا
واشتد فيك عذابي
فمت في اليوم ألفا
لم أوف حق ودادي
وكان حقك أوفى
ولم يكن كل ذا في
سفر المحبة حرفا
فدتك نفس محب
بالحب يشقى ويشفى - يا للسعادة يا للفرح! أتقول ... أتنطق صدقا؟! - متى شئت أقمت على القول دليل الفعل. - شرحت صدري وأذهبت عني الغم. - أسألك في مقابلة ذلك نعمة واحدة. - قل ما تريد، فإني لا أخالف لك أمرا. - لا تظلمي «ماري»، ولا تكوني في ريب من كمال فضيلتها وكرم خلقها. - أمنت، وصدقت. - ثم لا تسمعي فيها قول الأعداء، ولا تثقي إلا بما أقوله أنا. - السمع والطاعة.
فجثا «ڤكتور» لديها خاضعا خضوع الحب، فأمرت يدها البيضاء بين عقد شعره الأسود وهي بين الغم والابتسام، فجعل ينظر إليها نظر الواله ثملا بخمر السعادة والحب، وبينما هما على هذه الحالة فتح باب السر فجأة، ودخلت عليهما «ماري» صفراء راجفة خوفا، فوقفت بالقرب منهما إلى جانب المركيزة الحسناء ولم تنطق ببنت شفة، فقال لها «ڤكتور» منتهرا: ماذا تريدين؟ - ستعلم ذلك عما قليل، أما الآن فانشدكما الله إلا ما تجلدتما وأخفيتما هذا الاضطراب، فالرقيب قريب.
وما كادت تفرغ من هذا الكلام حتى سمعوا من وراء الباب ضجة وصوت رجل يروم الدخول ويمنعه الخادم عنه، فيقول مجهرا: أقول لك إنه ههنا ولا بد لي من الدخول.
فصاحت المركيزة: ويلاه ويلاه! هذا صوت زوجي. فقالت لها «ماري» بصوت المحسن المترفع: لا بأس عليك يا سيدتي، فإني أضمن لك السلامة، وما عليك إلا إظهار الجلد وإخفاء علائم الخوف.
ثم تقدمت نحو الباب ففتحته، ورأت المركيز «ڤلمورين»، فقالت: أهلا ومرحبا، تفضل بالدخول، فهو محظور ولكن على غيرك، وقد جعلنا غرفة زوجي ديوان تفصيل وأزياء، وما نحرمك دخول هذا الديوان. - فرجع المركيز على عقبيه وتغمغم معتذرا بما تيسر من القول، فبدت له زوجته من وراء «ماري» وبدرته بقولها: نعم، لا بد من دخولك، فنحن في حاجة إلى رأيك، قد كنا نروم إدهاشك، فأتيت ولم يبق من سبيل لإخفاء الأمر عنك.
وقال «ڤكتور» مثل هذا القول تأكيدا له وإلحاحا على المركيز بالدخول، ثم قالت «ماري»: وموضوع نظرنا يا سيدي اختيار زي لملبسنا في مرقص الدوكة، فقد عن لي ولمدام «ڤلمورين» أن نكون في ذلك المرقص بزي غريب تحار فيه الألباب، فأتينا غرفة «ڤكتور» نشاوره في الأمر، ولا نكتمك أنه لم يحسن استقبالنا؛ لأنه كان منقطعا إلى شغله، وكان قد أمر الخادم ألا يأذن لأحد في الدخول عليه. إذن كان مجيء المركيزة بقصد زيارتك. - لا ريب في ذلك، وقد واعدتني بالزيارة أول أمس في سفارة إيطاليا. - وكيف لم تخبريني بذلك أيتها العزيزة؟ - وما الموجب لإخبارك يا سيدي، لا جرم صار مثلك مثل الزوج الغيور. - ما أراد المركيز إلا المفاكهة، فهو أرشد من أن تتولاه الغيرة على محصنة مثلك. - صدقت سيدتي، فما أردت إلا المزاح. - فلنعد إذن إلى ما كنا فيه، قلت يا «ڤكتور» إن ثوب الراعية مموها بالبياض يليق بمدام «ڤلمورين»، وأنا أرى أن زي راهبة من راهبات باخوس
3
أليق بشعرها وعينيها السوداوين،
4
فماذا يقول المركيز؟ - إني بينكم كالأصم بين المتكلمين، فليس عندي مما أنتم به علم ولا خبر، ورأي الموسيو «ديلار» أوسع. - ألم أقل للموسيو «ديلار» إن زوجي لا يفهم شيئا من مسائل الملبس، وإنه لا يكاد يحتمل الحديث فيه. - فأنا أستأذنكم في الانصراف بغية ألا أشغلكم بلا طائل، وسأتخير لزيارتكم وقتا أليق بالزيارة.
فنهض «ڤكتور» لتوديع المركيز فشيعه إلى الباب، ثم عاد أصفر اللون مضطربا خوفا مما عساه أن يقع بعد انصرافه، وكانت «ماري» و«أليس» واقفتين مضطربتين تنظر كل منهما إلى صاحبتها ولا تجسر على افتتاح الكلام، فقال «ڤكتور» وهو يريد صرف ذهنهما عما يخاف. - قد أسرع المركيز «ڤلمورين» في الانصراف، فما أشد كراهيته لمسائل الأزياء . - فقالت «أليس» وصوتها يتهدج: وأنا منصرفة كما انصرف، فلعل سيدتي تروم الخلاء بك لأمر. - نعم أريد مفاوضة «ڤكتور»، ولكن ما عندي لك من الحديث أهم ... - لي أنا؟! - نعم أنت، وإن تنازلت للإصغاء إلي بضع دقائق علمت ما أريد، وتبينت لك أهمية ذلك الحديث. - ها أنا سامعة فتفضلي بالكلام، على أني لا أفهم ... - عما قليل تفهمين، فأنت تعشقين زوجي وهو يحبك منذ ثلاثة أعوام. - سيدتي ... - لا تحاولي إخفاء الأمر عني فقد ظهر لكل أهل باريس، ولا تزاولي إنكاره فقد احتملت منه عذابا لا تحتمله الجبال، ومرت بي أيامه وهي أعوام شقاء وعناء. - «ماري»، حبيبتي «ماري»، أيليق بشأنك هذا القول؟ أتريدين أن يكون بينكما نفرة؟! - لا أريد نفرة ولا عتابا، فلا تخف أيها العزيز، ولقد التزمت السكوت إلى الآن، وكتمت حتى عنك ما كابدته من الألم، ولولا الضرورة المبرمة لما تعديت ذلك الحد، وإن كان الموت أهون مما أنا عليه، وأنت يا سيدتي لقد رأيت ما جرى لنا وأني أنقذتك من التهلكة ولولاي لساء مصيرك وكانت حياة «ڤكتور» على خطر، أفلا ترين لي بعد ذلك عليك حقا؟! - أعترف لك بعظم المنة و... - لا منة لي بما فعلت، وإنما الفضل للكونتة «سرزول»، فقد وفدت علي حين دخولك المنزل، ولطفت بلين كلامها وحسن بيانها ما نالني بسبب ذلك من الغيظ الحق، ثم تنبهت لنزول المركيز «ڤلمورين» من عربته على باب منزلنا ففطنت للخطر، وحملتني على الدخول عليكما لإنقاذك وإنقاذ «ڤكتور» من البلية، ولولاها لما خطر ذلك ببالي. - «ماري» خفضي عليك، وترفقي بنفسك، وأجلي هذا الكلام إلى وقت آخر ... - لا يا سيدي قد عزمت على التكلم ولا بد لي منه، قلت يا سيدتي إنك رأيت وجه الخطر الهائل، وعلمت أن أقل البوادر كافية في تنبيه زوجك لحقيقة الأمر، فهل تعلمين ما العاقبة وما المصير؟ - الفضيحة ... وماذا علي إن افتضحت بمن أحب؟ - إن لم يكن عليك من الفضيحة بأس فوبالها على «ڤكتور»، فإن المركيز كما تعلمين جبار عنيد شرس الخلق لا يغتفر زلة، فإذا شعر بما بينك وبين «ڤكتور» حمله على المبارزة ، فيقتل أحدهما لا محالة، فبأي الدمين تجودين؟ أتجسرين على الظهور أمام الله والناس مضرجة بدم زوجك وهو بريء من كل ذنب؟ أو بدم زوجي وهو ذو بيت وعيال، وقد بذل في سبيل حبك ما هان عليه وما عز حتى الشرف الرفيع الغالي؟ - ويلاه! ما أهول ما تذكرين! - نعم، إنه لهول عظيم لو تتبصرين، ولا أخالك تقدمين عليه، أما أنا، أنا الزوجة الشقية، والأم التعيسة البريئة من كل ذنب، فقد كابدت العناء الشديد والعذاب الأليم، وما شكوت ولا تظلمت ما بقي المصاب منحصرا في، والخوف مقصورا علي، أفليس من حقي الآن أن أسالك حفظ الحياة لزوجي وأولادي؟! - سيدتي، تلك حياة أفتديها بروحي.
فتنبه «ڤكتور» للكلام وكان غارقا في بحار التفكر والخيال، فنهض متوجها نحو الباب، فاستوقفته «ماري» وقالت: نشدتك الله إلا ما بقيت. - لا أستطيع البقاء يا سيدتي؛ فقد جعلتني في موقف سخرية واستهزاء، فهذه مناقشة لا يليق بي سماعها، وقد نهيتك عن فتحها ولم تنتهي، فتممي ما ابتدأت إني مخل لك الجو. - لا لن تذهب، ولا بد أن تسمع إلى النهاية كل ما يوحيه إلي حنوي عليك، وسترى مني رقة ولينا، ولا تجد سيدتي ما يبعثها على الشكوى، ولعلها ترتاح أيضا لوجودك الآن معنا فقد حان لأمرنا أن يستقر على حال.
فأومأت «أليس» إيماءة الموافقة والقبول فجلس «ڤكتور»، فقالت إلى «ماري» بصوت ضعيف كصوت المريض في حالة النزع: وبعد هذا فما الذي تريدين يا سيدتي؟ - أريد أن تتركي حب «ڤكتور»، أريد أن تقينا جميعا سوء العاقبة، فلا تطلبي لقاءه بعد الآن، أريد أن تتحملي ما تحملت أنا إلى الآن من الصبر والحرمان، ولا أكلفك إلا ما فعلت، ولا أروم بذلك نصرا ولا افتخارا، إني أدرى بما أنا صائرة إليه، وأعلم أنه من المحال أن يعود لي ما عهدته من محبة «ڤكتور»، فالحب نور لا يوقد إن أطفئ، وزجاجة لا تجبر إن كسرت، فما أتوسل إليك من أجل نفسي ولكن من أجله ...
فنهض «ڤكتور» ثانية يريد الخروج، فأرادت زوجته استيقافه فقال: «ماري»، لقد حملتني ما لا أطيق، فلا أستطيع بل لا أريد أن أسمع فوق ما سمعت ... فقالت «أليس»: دعيه يذهب يا سيدتي، فليس لنا به من حاجة، أما أنا فأعلم أن حالتي توجب علي خفض الرأس لديك، وإن من حقك علي أن أسمع كل ما تقولين، فتكلمي إني سامعة.
فخرج «ڤكتور» فقالت ماري ل «أليس»: أرجوك ألا تحسبيني غير مبالية بما تكابدينه من الألم، فإني لست بفظة القلب، وقد عانيت العناء كثيرا، وذقت العذاب طويلا، ومن ذاق عرف، ولكن لا بد لي من الكلام، فإنك تعرفين ما كنا عليه من العيش الهنيء قبل تفريقك شملنا، ولا تستطيعين العلم بمقدار ما كنا فيه من السعادة قبل قدومك إلينا. - «أنت» يا سيدتي كنت لا شك سعيدة، أما «هو»؟ - و«هو» كان سعيدا أيضا، فإنه لم يكن يعرف غير ما لديه ... - صدقت، ولكنه كان يتصور غير ما يرى، ويتمنى غير ما يصيب، والأماني التي لا تدرك تقتل صاحبها. - آه آه! لقد سلبتني «ڤكتوري». - لا لا، ألف مرة لا لا، إني لم أسلبك ڤكتورك؛ فليس «ڤكتور» الذي كان عندك و«ڤكتور» الذي ترينه الآن سواء، فقد كان ذاك فتى جاهلا لا يعرف شيئا وليس له خلاق ولا ذكاء، وكان فلاحا تدهشه رؤية امرأة، ولا يعرف شيئا من أحوال دنياه ولا من حالة نفسه، وهذا رجل من أفصح رجال الزمان، وممن تناط بهم آمال الأوطان، يتمثل به في الرقة وسلامة الذوق، ويشار إليه بين الظرفاء بالبنان، كذا جعلته مذ عشقته حتى صار حسرة لقلوب مناظريه وحيرة لأعين ناظريه، فهذا وجه حقي عليه وهذا ما أوصله حبي إليه.
الحب هذبه وزين خلقه
وجلا محاسنه بأبهج رونق
فصفت شمائله ورق فدونه
صفر السرى
5
بمائه المترقرق
وسما على أقرانه ببيانه
حتى استرقهم بجر المنطق
وأذاب مهجة ضده برؤايه
حتى تمنى الضد لو لم يخلق
فإذا تكلم فالمعاني في بدي
ع بيانه كالعنبر المتفتق
وإذا بدا فالبدر ليلة تمه
في الحسن بل شمس الضحى في المشرق
وإذا انثنى أثنى على عطفيه في
روض المحاسن كل غصن مورق
آيات حسن في كمال خلائق
هيهات أن تلقى بمن لم يعشق
فهل كان «ڤكتور» كذلك قبل أن عرفناه؟ وهل عهدت به تلك الصفات قبل أن ألفناه؟
نعم، نعم هو الآن كما تقولين، ولكنك ذكرت شيئا وفاتتك أشياء، فذهلت عن سوء العاقبة، ولم تفطني للأخطار، وهبي أن «ڤكتور» راض بما أحرز من المجد والفخر، فهل تحسبينه ناعم البال مطمئن النفس لا يكابد العناء في موقفه الحرج بيني وبينك؟ ولقد رأيت الآن كيف عجز عن احتمال عذابه فاختار الفرار. - إن كان الأمر كذلك فهلا بقيت في «بواتو». - ما تألمت يا سيدتي فيما تقولين ولك العذر، فإنك لست أما، فلا تعرفين مقدار الغم الذي يحيق بمن ترى مستقبل أولادها على خطر الفساد والضياع. - لقد غلبتني الحدة فيما قلت، ولك علي منه العفو والحلم، آه لو تعلمين ما أقاسيه! - أعلم ذلك ولا أجهل شيئا مما أنت عليه إلا ترددك في افتداء «ڤكتور» مما نخاف عليه، تبصري في الأمر هنيهة تعلمي أنه لا نجاة لنا من البلاء ما دمت تقتحمين ما حولك من النوائب والأخطار.
آه! ثم آه لو كنت مكانك وكان بوسعي أن أعيد له الراحة ولو ساغ لي أن أتركه وشأنه! - ما كنت تفعلين. - بل أفعل لا محالة، وقد فعلت من أجله ومن أجل أولادي ما كان أعظم من ذلك إذ أقمت عنده أرى بعيني كل شيء وأصبر على كل ما أرى، وهو الصبر بل أمر، والنار بل أحر.
ثم انقطع الحديث هنيهة من الوقت و«أليس» تبكي بكاء مرا وتتلهف عن كبد حرى، فدنت منها «ماري» وقبضت على يدها وهي تقول: خفضي عليك يا سيدتي وتجلدي، واذكري ما عليك من الواجبات، وإنك إنما تبذلين راحتك في سبيل محبتك، فذلك يحيي العزم ويعلي المروءة، عرفت ما أقول بنفسي ولا تسألي إلا خبيرا، ثم ادعي الله يكن لك نصيرا، إن الله يحب الذين يؤثرون على أنفسهم ويجزيهم الخير عاجلا أو آجلا.
من يصنع الخير لا يعدم جوائزه
لا يذهب العرف بين الله والناس - آه يا سيدتي! لا أستطيع. - بل تستطيعين إن أردت. - أسفا ... إني أضعف مما تقولين عزما، وأضيق مما تطلبين جودا وكرم نفس. - صلي واستعيني بالله.
فصمتت «أليس» والعبرة تكاد تخنقها، وأطرقت «ماري» وهي تنتظر الجواب، فلم يكن يسمع في ذلك المجلس غير شهقات الباريسية الحسناء ساعة من الوقت، ثم استعانت «أليس» بما بقي من القوة، فكفكفت عبراتها ونظرت إلى «ماري» نظرة الآيس وهي تقول: نعم، الحق ما تقولين فلا بد من قضاء الأمر، ولا بد من إطاعتك يا سيدتي. - ليس ما أقوله أمرا فتكون إجابتك طاعة. - بل لك الأمر فأنت صاحبة الحق، ولست أجهل منتك علي في هذا اليوم، ولا أنكر ما رأيت من كرم نفسك ورقة طبعك فيما سلف، وقد حان لي أن أوفي هذه الحقوق، فكوني مطمئنة، ستستريحين مني وأترك لك زوجك ولا أراه أبدا فتحصل الراحة والسعادة للكل. - وأنت تكونين سعيدة، كلما ذكرت نتائج ما تبذلين لنا من المعروف والفداء. - لست أنا المقصودة فيما أفعل، وإنما القصد أنت و«هو» وأولادكما والموسيو «ڤلمورين» - تعني زوجها - ثم والدتي، آه يا رباه! ما لي غير والدتي. - إن ما تعملينه الآن يكسبك رضاها لا محالة. - وا أماه!
إنها تحبك حبا عظيما. ... سيدتي، أسألك أن تمهليني فيما وعدتك ثمانية أيام، وتأذني لي في رؤية «ڤكتور» مرة أخرى، ثم ينقضي الأمر. - أيليق بي أن أرد لك طلبا بعد أن وهبت لي حياة زوجي وسعادة آل بيتي، بارك الله فيك وجزاك عني خيرا.
فخفضت «أليس» رأسها إخفاء لدمعتها وسترا للوعتها، فدنت «ماري» منها وجعلت تؤانسها ما استطاعت محاولة تخفيف ما بنفسها من الألم واليأس، فكانت تنظر إليها ولا تسمع كلامها أو تسمعه ولا تعيه ثم قالت لها اقتضابا: عديني ألا تذكريني له بسوء بعد الفراق. - وقاني الله من ذلك، إني أعرف واجب حسن الذكر، ولا أجهل حق ذوي الأنفس الكريمة، فلا تخافي مني اغتيابا، ولسوف أحفظ لك صديقا صادقا. - حياك الله، ما أكرم هذا الخلق وما أشرف هذه النفس! - لأنت أكرم خلقا وأشرف نفسا فيما تفعلين. - أستودعك الله يا سيدتي، أستودعك الله أبدا، إني سائرة عنك لأحاول كتمان آلامي عن قومي، وهذا هو العذاب الأعظم. - وماذا تريدين أن أقول ل «ڤكتور»؟ - ما شئت، فأنت صاحبة الأمر وبيدك حياته وحياتي. - ولكن لا بد. - سأبعث إليه كتابا.
ثم انطلقت خارجة من باب المنزل تغالب اليأس بالجلد ولا تلوي على أحد.
6
هو الحب فاسلم بالحشى ما الهوى سهل
فما اختاره مضنى به وله عقل
وعش خاليا فالحب راحته عنى
وأوله سقم وآخره قتل
وبعد خروج الباريسية الحسناء ببضع دقائق عاد «ڤكتور» إلى غرفته منزعج النفس مضطربا أصفر اللون كأنما هو خائف من حضور زوجته، فابتدرته «ماري» بالكلام وقالت: لقد كانت مدام «ڤلمورين» آية من آيات الشرف والكمال، فإنها فدتنا بنفسها كرما وجودا وصفاء نية، فلله درها من صديقة صادقة! وهي تروم أن تكتب إليك وتراك مرة أخرى، وقد صار لها علينا حقوق عظيمة، فلا تنس حقها ما حييت وابذل الجهد في قضائه بالانعطاف إليها والاهتمام بخدمتها والإقبال عليها.
فقبض «ڤكتور» على يد زوجته ولم يفه بكلمة، فقالت: أراك متألما مكتئبا حزينا، فلا تخف ذلك عني.
فلا بد من شكوى إلى ذي مروءة
يواسيك أو يسليك أو يتوجع
نعم، إني زوجتك ولكني غير مقيمة لديك إلا لأحنو حنو الولدات عليك، فأداوي سقمك، وأخفف ألمك، وأصفح عن هفواتك، وأحملك على نسيان زلاتك، هذا هو شأني لديك عرفته منذ اقتراني بك، والتزمته بعد إذ أراد الله عز وعلا أن يبتليني بما ابتلى، فهل تريد الآن أن ترى أولادنا؟ - شكرا لك أيتها الحبيبة العزيزة على عفوك الذي لا حد له، وجودك الذي ليس له مثيل، شكرا لك ألف مرة، إني مذ الآن لك ولأولادنا دون سواكم، وأنتم الرابطة التي بيني وبين الحياة، وسأراكم بعد ساعات قليلة، أما الآن فإني محتاج إلى العزلة في صرف هذا الحادث الذي لم يطرأ علي في حياتي أعظم منه، وقد ظهرت لي جسامة ذنبي، وتبينت جمال صبرك وكمال جودك الذي كان من وراء العقول، وأريد الآن أن أكون أهلا لك وجديرا بك، فدعيني غير مأمورة أطلب العزلة حينا من الوقت، ثم نلتقي.
فانصرفت عنه «ماري» قاصدة غرفة أولادها وهي تقول: ما أعظم حبه وما أشد جواه! ويلاه! إنه سيكون شقيا.
وبقي هو في عزلته مستسلما للغم منقادا للعذاب، فعظم الأمر عليه حتى لم يكد يصدق ما رأته عيناه وسمعته أذناه، شأن الواقع في البلاء العظيم والخطب الجسيم يراه خارقا للعادة، بعيدا من المعهود فيداخله الريب فيه بداءة بدء، وإن علمه علم اليقين، فكان - أي «ڤكتور» - يتساءل هل عدل خفية عن حب «أليس»، ورضى أن تبذل راحتها بل حياتها في سبيله، فتتقد النار في مهجته، وتظلم الدنيا في عينيه، ثم يذكر زوجته وما عاملته به من الرقة والإحسان، وأولاده وما لهم عليه من الحقوق؛ فيزداد ألما وعذابا على عذابه وألمه، وهكذا تكون عاقبة الذين يعدلون عن سبيل الواجبات، فأما الرجال فيعدمون الراحة، وأما النساء فيفقدن الحياة المعنوية؛ أي الشرف الذاتي، إن لم يفقدن الأرواح.
ثم أتوه بكتاب من «أليس» ففضه فإذا فيه:
علمت الآن - لا شك ولا ريب - كل ما جرى، فأنت تبكي كما أبكي أنا؛ لأنك تحبني كما أحبك، وقد كان ما جرى لنا محتوما لا مفر منه، فلو لم يقع اليوم لوقع يوما آخر لا محالة، فقد كثر ما حال بيننا من الموانع، وكان كل ما حولنا موجبا لافتراقنا، ولم نكن وجدنا ليكون كل منا للآخر، ولقد وعدت زوجتك أن أبت عقدنا، وأنقض عهدنا، ولا أراك مذ اليوم إلا مرة واحدة، وسأنجز ما وعدت مستمدة ما يلزمني من الجرأة والجلد فيه من كوني أرجو أن تستريح بما أتعب، وتسعد بما أكابد من الشقاء. وقد بقي علي واجب آخر، وهو أن أرد لك ماضي وعودك وأطلقك من عهودك، فاسترد هاتيك الكلمات الطيبة والأيمان والمواثيق المكررة على ألا نفترق بحال من الأحوال، وأن نختار الهيام في الأرض معا على الفراق، وابق لدى زوجتك، فهي ملك كريم يسليك من كل أحزانك، واحببها واحن على أولادك، ثم لا تنس المرأة التي بذلت حياتها في سبيلك، أستودعك الله الآن، وأرجو أن أراك يوم أكتب بذلك إليك، ثم لا نلتقي بعدها في هذه الدنيا، فاسلم ولا تكن شقيا، ومع ذلك فاذكر ودادي وكن وفيا.
أليس
فقرأ هذا الكتاب، وأعاده حتى كاد يمحو سطوره بدموعه، أو يحرق قرطاسه بما تأجج من النار بين ضلوعه، ثم انطرح على مرتبته مجهودا ضائع الجلد مدلها غائب الرشد، ينشده لسان الحال قول من أطرب حيث قال:
رأى اللوم من كل الجهات فراعه
فلا تنكروا إعراضه وامتناعه
ولا تسألوه عن فؤادي «وإن أكن»
علمت يقينا أنه ما أضاعه
فيزيد داعي الغرام على هذا النظام
نعمنا زمانا مر كاليوم عامه
بشمل جميع لا نخاف انصداعه
وكنا كسر ضاق عنه ضميره
ولم يستطع كتمانه فأذاعه
فدار بنا العذال من كل جانب
يلومون لوما لا نطيق سماعه
وقد راع ظبي الحسن منهم رقيبه «وأصعب شيء ما يزيل ارتياعه»
ومضى على «ڤكتور» في هذه الحالة يومان، ولم يأته عن الباريسية الحسناء خبر، فكان يقاسي العذاب الشديد، ويحاول إخفاء ما به عن زوجته، فتراه بعين الفراسة فتكابد من جرائه عناء مرا، ثم جاء «ڤكتور» في اليوم الثالث رقعة ليس فيها غير هذه الكلمات:
غدا في الساعة الثانية في منزلي ب «أوتوبل»، وهي المرة الأخيرة.
فلما كان الغد وقرب الميعاد دخل «ڤكتور» على زوجته وقال: أيتها العزيزة لقد صرنا إلى حالة لا أريد فيها مخادعتك، إني سائر إلى «أوتوبل» ألقى بها مدام «ڤلمورين» آخر مرة، وعلي عهد الشرف لا أراها بعد ذلك، فثقي بما أقول فإني تأملت الأمر وتدبرته، وما أعد إلا ما أستطيع، وسأخبرك برجوعي متى عدت. - إني معتمدة عليك أيها الحبيب، فسر بحفظ الله واحفظ فؤادك وفؤاد تلك المسكينة من الألم والعذاب ما استطعت.
فركب «ڤكتور» عربته قاصدا «أوتوبل»، فلما وصل منزل المركيزة رأى باب الحديقة مفتوحا خلافا للعادة، فدخل واجتاز البستان إلى الدار، فرأى «أليس» تنتظره على موقف الدرج صفراء مكتئبة بدلت شدة الحزن هيئتها، وغيرت محاسن خلقها، فتلقته بوقار وتمهل يشبه أن يكون فتورا وقالت: هلم إلى غرفتي، فإني ههنا وحدي، وقد اخترت الانفراد توقيا واحترازا، ولكي لا يزعجنا أحد من الخلق، بل قل لسائق عربتك أن يسير بها إلى بيت الخولي ويربط الخيل هناك، وأغلق أنت الباب الخارجي وانزع مفتاحه، وعد إلي لننفرد فلا يرانا إلا الله، إن هذه الساعة رهيبة، وإنها آخر أوقات اللقاء.
فامتثل «ڤكتور» أمرها، ثم عاد فوجدها في الغرفة منطرحة على تكأة عريضة واهنة العزم ضحرا وتألما، وهي لابسة ثوبا أبيض وعلى شعرها زهرة ناضرة، وعلى صدرها باقة من الزهر، وكان في الغرفة ريح عطر وأزاهر من أشد الطيوب أرجا، فأثرت في نفس «ڤكتور» حتى كاد يغشى عليه، فمدت له «أليس» يدها، فتناولها وقبلها تقبيلا، فقالت: أرأيت كيف جعلت هذا الملتقى الأخير والوداع الذي ما بعده لقاء مزينا بكل ما جلب لنا السرور والصفاء في أوقات السعادة والهناء، فهاهنا في هذا المكان عينه قضينا أياما كثيرة مرت بنا كالأحلام، نجني زهر المنى من حدائق الحب «والعيش غض، والزمان غلام» ومن حولنا هذه الأزهار وهذه الدمى والتماثيل، فما أجدرنا بأن نجعل الوداع فيه لنذكر في ملتقانا الأخير ما مضى لنا من الفرح والهناء! أما تراني مصيبة يا «ڤكتور»؟
وكان جمال «أليس» وهي على تلك الحالة في كمال ما عهد به من قبل ولكن تغير تجليه، فكانت رشاقة حركاتها ومبالغتها في الاهتمام بملبسها وزينتها وكل ما حولها أظهر منها في الأيام السالفة، لكنها قد استبدلت حدة مزاجها وهاتيك اللحاظ التي هي كالنبال بسكينة تدل على أنها ضائعة القوة، واهنة العزم، لا تملك من الحياة إلا بقية، فكأنما أغار اليأس على تلك الطبيعة القوية فلم تقاومه، بل وسعت له عندها مكانا، وكان «ڤكتور» ينظر إليها هائما في أودية التأمل، فلم يجبها على سؤالها الأخير، فقالت: أي «ڤكتور»، هل مسك ألم من تحتم الفراق؟ وهل علمت أن ليس بعده من تلاق؟ فذكرت قول من قال في مثل هذه الحال:
وكنا كندماني جذيمة صحبة
من الدهر حتى قيل لن تتصدعا
فلما تفارقنا كأني ومالكا
لطول افتراق لم نبت ليلة معا
ثم هل رأيت السلو سهلا؟ وهل طاب لك العيش من بعدي؟!
غيري على السلوان قادر
وسواي في العشاق غادر
لي في الغرام سريرة
والله أعلم بالسرائر - فلا تكلميني هذا الكلام، فهو أشد من الكلام بل هو الموت الزؤام، وقد صرفت الأسبوع متقلبا مما نحن فيه على شوك القتاد، أرى النهار مظلما ولا أكاد أذوق في الليل الرقاد.
أهنى وأيسر ما لاقيت ما قتلا
والوجد جار على قلبي وما عدلا
وقد علمت أن الضرورة أنفذت في حبنا حكمها، فأنفذت في قلبنا سهمها ، فتعين علي أن أبذل في سبيلك الراحة والمنى كما بذلت من أجلي السعادة والهنا، ولكني مع ذلك لا أطيق هذا المصاب، ولا أجد من نفسي مقدرة على احتمال هذا العذاب.
كيف اصطباري والنوى خوفها
أضرم في الأحشاء نار الجحيم
وأنت منى الروح من بدني
إن فراق الروح شيء أليم
لم ندر مقدار الهوى قبل ما
يبدل منه بالشفاء النعيم
وصحة الأبدان لم يدر ما
مقدارها إلا المريض السقيم - صدقت، لقد كنا روحين في بدن واحد، وكنا في مثل جنة الخلد سعادة وفرحا وهناء، لا أروم إلا ما تريده أنت، ولا تطلب إلا ما أرومه أنا، واليوم لا بد لنا من ترك ذلك كله امتثالا لأمر الناس، إنما الناس بلاء الناس. - لو شئت يا راحة الروح ولو لم ترفعي عني العهد والميثاق لنشطنا معا من هذا العقال، وقصدنا ملاذا من الأرض بعيدا عن الرقباء، وكنا به الآن مقيمين آمنين. - نعم، لا ريب عندي في ذلك وإني لو شئت لتركت وطنك وآل بيتك، وكنا نسافر معا ونلقي اليأس في قلوب المحبين، ولكن لو فعلنا لكانت العاقبة عذابا شديدا، فإني أعلم أنك لا تصبر على لوم النفس، بل ربما قتلتك شكوى السريرة، وكنت ترى في حلك وترحالك خيال زوجتك آسفة حزينة، وأولادك باكين مكتئبين، ووالدك رازحا تحت أثقال الحزن، ثم لا تذكر لي ذلك ولكنه لا يخفى عني، فينالنا الشقاء ويكون الأسف الأول مضعفا للثقة، والثقة عماد الحب، فيسقط الاثنان معا، ولقد تأملت في كل هذا منذ يومين حتى ظهر لي وجه الحقيقة منه ؛ ولذاك أعيد قولي إنه لا بد لنا من الافتراق. - ومن لي بالصبر يا «أليس»؟ أراك اليوم ثم يجيء غده وتتوالى بعده الأيام والأسابيع والأشهر والأعوام ولا أبصر هذا الجمال! إن هذا هو المحال.
تقول العواذل من بعد ما
أطلن الملام بقيل وقال
حقيق حقيق وجدت السلو
فقلت محال محال محال
وكيف ترومين يا شقيقة الروح أن أصبر على تجريد حياتي من رونقها الأوحد وشاغلها المفرد، وأبقى بعد ذلك بين هواجس الفكر ووساوس الذكر متقلبا على مثل شوك القتاد. - لا بأس عليك، فإنك لا تكون منفردا وحيدا. - هذا الذي تشيرين إليه أشد علي من الانفراد، فإني سأرى لدي على الدوام ضحية ثانية لا ذنب لها، تحتمل عذابها ويؤلمها عذابي، وتتجلد لمصابها ولا تتسلى عن مصابي، ثم لا أجد من أمنية أعللها بها في الحال أو المآل، ولا أرى غير اليأس القاطع لأسباب الآمال، لكن الموت خير من هذه الحياة. - الموت! الموت! نعم نعم، هو الصديق الذي يمد لنا ذراعيه عندما ينفر الناس عنا. - ما ضر لو كنا نموت يا «أليس»؟! - لا، أنت لا ينبغي أن تموت يا حبيبي، فإن أولادك محتاجون إليك، أما أنا فإني مطلقة الحرية لا شيء يمنعني عن التخلص من العذاب. - نشدتك الله إلا ما أوضحت لي ما الذي تعنين بهذا الكلام. - ما عنيت إلا ما فهمته أنت. - الآن تبين لي سر هذه الخلوة وهذا التجلد وهذه الزينة، فعلمت أنك قد عزمت على الانتحار. - وإن صح ذلك فماذا علي منه؟! - ما عليك من حرج فيما عزمت عليه إلا أنك لم تتخذيني فيه شريكا. - أصحيح ما تقول؟! أتحبني إلى هذا الحد؟ وا فرحتاه! - أي وخالق الحب والنوى، وفالق الحب والنوى، إن الموت معك لأهون من الحياة في البعد عنك، ولقد قبلت ما سمتني من الفراق جهلا مني بحقيقة ما نحن عليه، وكنت أنت أعرف مني بمقدار حبنا، فأضمرت ما أراك الآن عليه، فمتى ترومين أن تموتي؟ - اليوم. - وكيف ذلك؟! - أما قرأت في كتاب «ليون غزلان» قصة تلك الفتاة التي ماتت مختنقة بروائح الزهر؟ - نعم، قرأت هذه القصة. - فهذه ألطف وسيلة رأيتها لترك الحياة، ولقد تأملت فيها كثيرا، وكنت أذكرها كلما سكرنا بخمرة الطرب والهناء، فترتاح نفسي إلى أن أرقد على ما بي من الفرح ذاك الرقاد الذي لا ألم فيه ولا خوف بعده من اليقظة، وقد كدت أعرض ذلك عليك مائة مرة ولم أفعل، فمذ دهمنا اليوم الأسود الذي انقطعت فيه صلات اللقاء عزمت على ما علمته الآن من أمري عزما صادقا، فقصدت عالما بارعا من علماء النبات، فسألته عما يوجد في باريس من الأزاهر السامة الرائحة موهمة أني أخافها وأروم اجتنابها، فكتب لي جريدة بأسمائها زهرة زهرة، ثم علمت منه بوسيلة من الكلام درجة الحرارة التي إذا وجدت معها تلك الأزاهر كانت قاتلة الرائحة، واخترت الموت على هذه الصورة؛ لأنها جميلة تمثل عندي فتاة بارعة الحسن مكللة بالزهر، فمتى فتحت هذا الباب أدخل هذه الغرفة، ولا أخرج بعد ذلك منها، هذه حقيقة الحال قد أبنتها لك قضاء لحقك علي فإن أردت موافقتي على ما نويت ورأيت البعد أصعب من الموت، فليس من حقي أن أمنعك من ذلك، فأنت تحبني كما أحبك وإن متنا معا فقد حفظنا ما تواثقنا عليه من عدم الافتراق.
وكان «ڤكتور» ينظر إليها وهي تتكلم نظر العاشق إلى المعشوق، بل نظر العابد إلى المعبود، جاثيا بين يديها مستسلما لكل ما تصوره الشهوة في مخيلته من فاسد الوهم، فلما فرغت من كلامها صاح: كيف لا أريد ما أردت، ولا أقصد ما قصدت وهو أحب الأماني إلي؟! فإني وقد فرق بيننا الزمان لم يبق لي من بغية إلا أن نموت معا، فنجتمع اجتماعا لا خوف بعده من الفراق، وما أنتظر الآن إلا أن تقولي فأفعل، وتأمري فأمتثل.
فألقت بنفسها عليه فضمها إليه، وتعانقا عناقا كاد يفصل روحهما عن البدن وجدا، فكانت هذه الدقيقة أحسن وأطيب وأشهى وأعذب ما مضى من حياتهما إلى ذلك اليوم، ثم خطر ل «ڤكتور» خاطر جديد فقال: أروم أن أكتب إلى «ماري» فأستودعها الله وأودع والدي وأولادي، آه وا أسفاه عليهم! وما الأسف لموتي فإنهم لا يفقدون به عظيما؟ إني ما كنت لولاك شيئا مذكورا، ولو انفصلت عنك لأضعت ما بي من الذكاء والإقدام فعدت بليدا مستضعفا لا أرجو من الزمان مستقبلا حسنا.
ثم نهض إلى مكتب في الغرفة وتناول القلم، فخط به أسطر الوداع الأخير لزوجته التي أحبها ابتداء ذلك الحب العظيم، ثم هجرها ذاك الهجر الأليم، فتأمل فيما سينالها بموته من الحزن واليأس فما تمالك أن بكى، فنظرت إليه «أليس» وقالت: إن كنت قد ندمت فما فات وقت الرجوع يا «ڤكتور»، أنت حر ولا لوم عليك. - لست أبكي على نفسي يا شقيقة الروح ولكن عليها، وقد انقطعت الآن عن الدنيا بأسرها، ولست أملك نفسي وإنما أنا عبدك المطيع، فأمري بما تريدين.
ومضى عليهما في هذه الحالة بضع ساعات يتجاذبان أطراف الحديث القديم، وتغنيهما أقداح الأحداق عن المدام والنديم، حتى أقبل غراب الليل مسدول الجناحين، فقالت الباريسية الحسناء: لقد حان الدخول إلى غرفة الزهر، فنهضا إليها ناشطين وافتتحا بابها قليلا، فهب عليهما من أرجها القاتل ما ردهما عن الباب مكرهين، فقال «ڤكتور» باسما: ما الذي أرى؟ أيليق بنا أن نخاف من الخيال ونهرب قبل القتال؟! ثم أخذ بيد المركيزة وأدخلها الغرفة وهو يقول: ما أحسن هذا القبر! وكيف لا يحسدنا الأحياء على الموت فيه على هذا المقعد بين هذه الأزهار؟ - صدقت، وإني لأرى الموت حياة لنا، غير أني أرانا في ريعان الشباب وغضارة الحياة، وفينا حسن بارع ولنا مستقبل لامع، وكل ذلك لم يزل بقبضة اليد، ولكن كل ذلك لا خير فيه ما لم يكن الحب، ولا حياة في الحب مع الفراق، فهلم يا حبيبي نطرب على ذكر الحب لآخر مرة، واسمع مني في ذلك أصوات غناء تملأ قلبك طربا.
ثم جلست إلى البيانو،
6
فضربت عليه وغنت بصوت عال شج ضربا من محاورات الغناء
7
يقال له «الفافوريت»، وكان «ڤكتور» يرد أجوبة المحاورة مجيدا، فحسن غناؤهما على هذه الصورة، حتى أنه ليمكن القول إن تلك الأغنية لم يغن بها من قبل هذه المرة غناء أشد تأثيرا في الأنفس؛ وما ذلك إلا لأن انفعالات النفس أقوى وأطيب وأحسن وقعا في القلوب من جميع الشهوات الحسية، وهي أعلى من أن يعرفها كل أحد من الناس، فمن عرفها أسف على فقدها ما دام حيا.
ومضت عليهما ساعة من الزمان على هذه الحالة، ثم ظهر فيهما تأثير السم من رائحة الزهر، وكان كل منهما لاهيا عن ألمه اهتماما بألم حبيبه فقال «ڤكتور»: كيف أنت يا «أليس»؟ - على أحسن حال، فقد وافى الرقاد.
وكانت مع ذلك شاعرة بسريان الحمى بين عظامها، ثم قالت: وأنت كيف حالك؟ - إني أراك وأنعم بالقرب منك فما يعوزني شيء.
وبعد ذلك صمتا هنيهة من الوقت حتى بلغ منهما الخدر مبلغا بعيدا فقال «ڤكتور»: أتعلمين يا راحة الروح ماذا أرى الآن؟ أرى على شكل الصورة البعيدة هاتيك الأودية البهية في مسقط رأسي وموطن أهلي وناسي، وتلك الأطلال التي تلاقينا عليها أول مرة، والعين التي قبلتها مني هدية وكانت أول معاهد الحب، آه، ما أبهى وأبهج هاتيك الرياض والمراعي والغياض! وقصرنا القديم، وخطرات فكري بين تلك الغابات وأماني نفسي التي لم أكن أدركها، والملك الكريم الذي حقق تلك الأماني، كل هذا أراه الآن بعين التصور، فهل تذكرين أنت هاتيك الأويقات الصافية، وما أدركنا بها من نعم السرور الصافية، وتلك المعاهد الناضرة والربوع الزاهرة وما ازدانت به من المحاسن الباهرة؟
ربوع تمر الريح فيها فتكتسي
بها أرجا هوج الرياح الهواجم
إذا مرضت فيها الأصائل عادها
على شعب الأغصان نوح الحمائم
يذكرنا دهرا تقضى نعيمه
وعيشا تولى مثل أضغاث حالم
ولعلك تذكرين أيضا أني منذ جمع بيننا العهد في ذلك العهد ما أورثتك شيئا من الكدر عمدا ولا خالفت لك أمرا، ولا ألوت في طاعتك جهدا بل راعيت ودك، وحفظت عهدك، وما برحت أقيم الأدلة على تولهي فيك غراما حتى جعلت الموت في حبك لأدلتي ختاما، وكنت قد عاهدتك على ذلك فما نكثت، وحلفت فيه وما حنثت.
فأجابت وكان صوتها ضعيفا لا يكاد يسمع : نعم، نعم، أذكر كل هذا، وإني كنت سعيدة مليحة فتانة غضة الشباب، محببة إلى الأنفس، جذابة للقلوب، لا أجد من حولي إلا محبا أتيمه بابتسامة، أو عاشقا أذيب فؤاده بالتفاتة، إذ الأيام قريبة الأمنية دانية الأرب، والحياة كلها صفو، والعيش كله طرب، وقد سمحت بكل ذلك يا «ڤكتور» ولست نادمة عليه؛ لأنك أحببتني حبا صادقا ...
وحينئذ ضعف نور القنديل، وآذن خفقانه بالانطفاء ، فقالت «أليس»: لست أدري ما الذي اعتراني، إني لا أكاد أبصر، فكأنما على عيني غشاوة. - عما قليل لا تبصر شيئا، فهذا لسان الضوء الضعيف ينذرنا بأنه ميت وأنا تابعان له. - أواه، لا أريد أن أموت في الظلمة يا «ڤكتور»، بل أروم أن تحدق عيناي بعينيك إلى آخر نسمة من الحياة، ثم أريد أن أرى هذه الأزهار، وأنظر إلي يدي وإلى محاسني في هذه المرآة فأوقد القنديل وارفع نوره جعلت فداك. - لا فائدة من ذلك، فما بقي في القنديل زيت، ولكن ما للقمر لا يضيء علينا وهو الليلة في تمه؟! - إني ألقيت على زجاج الشبابيك ستائر كثيفة حتى لا يدخل الغرفة شيء من الهواء، فاحتجب عنها لذلك نور القمر فلسنا نراه، ولا نرى شيئا مما بظاهر هذا المكان.
ثم تنهدت تنهد الآسف الضعيف، فقال «ڤكتور»: هل كتبت إلى أمك يا «أليس»؟ - نعم، كتبت إليها وإلى زوجي وإخوتي، وجعلت الكتب على مكتبي في غرفتي. - وهل يعرفون مكانك الآن؟ - يحسبون أني سرت إلى «لوسيان» لأصرف النهار، ثم أبيت عند شقيقتي الكبيرة.
فأمسك هنيهة عن الجواب، واقترن حاجباه، وانقبض جبينه تفكيرا، ثم قال: وهل أخبرتهم في تلك الكتب بما كنت عازمة عليه من الانتحار؟ - أخبرتهم بذلك إلماعا وتلميحا. - ولم هذا؟ - لم يكن لي فيه قصد.
وكان الألم قد اشتد عليها نهاية الاشتداد، فقالت: «ڤكتور» ... إني ظمآنة ظمأ شديدا.
فناولها كأسا من خمر شمبانيا كانت بالقرب منه، فقالت: لست أريد الخمر ... إنما أريد ماء.
فلم يجبها، فشربت من الكأس وأعادتها إليه، فأراد أن يقبل يدها فجذبتها منه ولم تمكنه من تقبيلها، فلبثا بضع دقائق ساكتين ساكنين لا ينطقان بكلمة ولا يتحركان حركة، ثم قال «ڤكتور»: «أليس»، الله!
فقالت وهي ساترة وجهها بيديها: ويلاه ... من غضب الله! ولكنه سيعفو عفوا كريما.
إلهي لا تعاقبني فإني
مقر بالذي قد كان مني
وما لي حيلة إلا رجائي
وجودك إن عفوت وحسن ظني - لعله يعفو ويرحم. - حبيبي «ڤكتور»، إني لم أنم كما توهمت قبلا، لقد خدعني النباتي، فإني أكابد آلاما لا تطاق. - أترومين أن أفتح الباب ليذهب عنك الألم؟ - لا، بل لو أردت ذلك لما أمكن؛ فإني أبقيت المفتاح خارجا. - إذن ما برحت عازمة على شرب كأس الموت. - إلى آخر نقطة منها. - أوما تخافين الندم حين لا ينفع؟ - لا، لست أخاف الندم، ولكن قد اشتد علي الألم. - وأنا ...
وكانت «أليس» تتقلب على المقعد مما نالها من لفح السم، و«ڤكتور» بين يديها ينظر إليها متألما صامتا، ويمسح من حين إلى حين ما كان يقطر من جبينه وسائر وجهه من عرق الألم، ثم انطفأ القنديل، فقال: اللهم عفوا! اللهم عفوا! - أواه اواه! هذه بداءة الموت.
ثم طفقت تبكي بكاء الأطفال وهو لديها صامت يحتمل من السم وحرارة الحمى عذابا من مثل عذاب الجحيم، ثم قالت: «ڤكتور»، «ڤكتور»، هذه آلام مرة المذاق، هذا عذاب لا يطاق، آه ما أصعب الموت! آه ما أشنعه! - نعم، إنه من الصعب المستنكر أن يموت المرء في ريعان شبابه، ونضارة ذهنه، وبحبوحة لذته ومجده، آه يا «ماري» ويا أولادي ويا والدي! - هل تولاك الندم؟ - نعم، ندمت ... ولا غرو فإنهم يندمون لا شك علي، آه وا أسفاه عليك يا «ماري» يا ملكا كريما! - ويلاه! يا رباه! لم يزل يذكرها. - إن ذنبي إليها لذنب عظيم، فإنها ستموت لموتي لا محالة. - يعيد ذكرها متأسفا عليها، وا أسفاه! وأنا أكابد عنائي وأكتم دائي حتى لا أورثه غما، ثم أراه بغيري مشتغلا مهتما ... - أتحسدينها على أن أذكر ذنبي إليها بعد إذ رضيت الموت بين يديك. - ويلاه ويلاه! تراكمت الآلام وتواترت الأكدار.
ولو كان ضر واحد لاحتملته
ولكنه ضر وثان وثالث
تمزق أحشاء ولاعج حسرة
وغدر محب للمواثيق ناكث
ثم عادت إلى البكاء حتى نفد الدمع أو كاد، ثم قالت بعد فترة طويلة: «ڤكتور»، «ڤكتور»، عدت عن عزمي فلست أريد الموت. - قضي الأمر وجف القلم يا «أليس»، قدر هذا علينا فكان، فلسنا نخرج من هذا المكان. - لا، لم يفت شيء ولم يقض أمر، ولم تزل الحياة قريبة المنال منا، فما يعوزنا إلا شيء من الهواء، فافتح النافذة نشدتك الله. - لا، لا يمكن، لا يمكن، ولا بد من الموت. - لست أريد أن أموت، لست أريد، أموت وعمري عشرون سنة، وكل ما حولي يبتسم لي، فالثروة ترفعني مكانا عليا، والجمال يلبسني ثوبا بهيا، والناس من حولي يتلون تبارك الله الواحد الأحد، فيصيح العاشقون منهم مدد الله مددا ... لا، لا أريد الموت، لا أريد الموت. - لا بد منه، ولا ندحة عنه. - إذن تروم أن تقتلني صبرا، وكان حبك خديعة وغدرا، فما فيك من شفقة علي ولا رحمة، ولا أنت تذكر لي ذمة ولا حرمة. - هذه عاقبة جنوننا، فذوقي ما كسبناه، فإنما للمرء ما سعى، وإن سعيه سوف يجزأه. - صدقت، لقد كان ما فعلناه جنونا، فقد كنا نستطيع الصبر على ما قضى به علينا من الفراق، ثم نتأسى فنسلو، فينفتح لكل منا باب جديد من الهناء والمسرة، فهي الدنيا نعيمها زائل وبؤسها غير مقيم، وقد رأينا العبرة بأنفسنا، فلنعتبر الآن وعفا الله عما كان. - لا فائدة بالعبرة، فيومنا ليس له من غد. - لا تطل المزاح فيما يزهق الأرواح، واكسر زجاج هذه النافذة ليدخل الهواء، فتعود إلينا الحياة كما عاد إلينا الرشد والهدى. - لا أكسره أبدا. - إذن أنا أفتح النافذة.
فأخذ بيديها أخذ المقتدر، وقال: لن تبرحي من هذا المكان. - عدمتك من لئيم غاشم تستعلي بقوتك الوحشية على الضعيف، دعني؛ فلست أريد أن أموت من أجلك ولا معك، فقد أبغضتك نفسي. - وأنا أبغضك أيضا، فأنت التي أوصلتني إلى هذا الموقف، أنت التي قتلتني وهدمت ما بنيته من السعادة والراحة لمستقبل الأيام، وحملتني على ارتكاب الذنوب العظيمة، ولولاك ولولا دهاؤك السيئ لكنت إلى اليوم سعيدا شريفا في بلدي بين آل بيتي، فلك الخزي، وعليك اللعنة.
فأجابت ونار الألم تحرق أحشاءها، والسم
يتمشى في مفاصلها
كتمشي النار في الحطب - قد كرهتك، قد كرهتك، فأنت أبغض الناس إلي، يا للمرؤة! أسعفوني بقليل من الهواء، إني لا أريد أن أموت. - بل تموتين ... فإني آليت ألا أتساهل معك في شيء، ولقد أبيت إلا أن أترك أحبائي الصادقين من أجلك، فعلت ولكن زالت الغشاوة عن بصري بعد ذلك، فرأيت ما لم أكن أرى، فلست أمنحك شيئا مما تريدين، فإني لا أرضى أن أكون أضحوكة للناس يستهزئون بي ويقولون: هذا هو الذي وطن نفسه على الموت مع خليلته، ثم غلب الجبن عليه فضعفت نفسه ففر من الموت. لا، لن يكون كذلك. - وماذا علينا من استهزاء الناس؟! وهل تترك الحياة من أجل هذا؟! - أليس إن قولهم ألف مرة: «هرب أخزاه الله» خير من قولهم مرة واحدة: «مات رحمه الله»؟ - الحياة الحياة، لا بد لي من الحياة. - لا سبيل إليها ... فقد اخترت الموت، فموتي ... - فتوقدت نار الغيظ في قلب «أليس»، فعاد إليها شيء من قوتها الزائلة، فحاولت النجاة من يد «ڤكتور» لتفتح النافذة، لكنها لم تقو على التملص من يديه، فدانت لقوته وسقطت فاقدة العزم غائبة الرشد، أما هو فلبث يقاوم الألم بقوته الهرقلية،
8
ويدافع حب الحياة بما بقي له من القوة الفكرية هنيهة من الزمن، ثم صاح: «ماري»، «ماري»، صلي علي، ربي أسالك الرحمة والمغفرة.
فقالت «أليس»: جاء الرقاد المنتظر، فهذه النهاية ... أواه! لعنت أنت أيضا. وأغمضت بعد ذلك عينيها ولم تتحرك، فمسها «ڤكتور» فإذا هي كالجليد، فقال: قد ذهبت في سبيلها وانتهى الدور إلي، ثم أطلق عنان فكره في مجال الخيال، فتصور كل نفيس وكل عزيز مما سيتركه في هذه الدنيا، حتى كأنما هو حاضر لديه، وذكر أيامه السالفة في «بواتو» بين الوادي والغاب والروض والغدير، ومن العجب أنه لم يذكر الفتاة المنطرحة بين يديه بلا حراك، ولم يشعر فؤاده بشيء من الأسف عليها، بل لا عجب؛ فهكذا خلق القلب الإنساني.
كل داء له علاج يرجى
معه للسقيم نيل الشفاء
غير داء القلوب إن حل بغض
بعد حب فما له من دواء
ثم اشتد الألم على «ڤكتور» وأحس حرارة السم في بدنه، فصاح: وا ولداه! وا شوقي إليكما! ثم استولى عليه الخدر والدوار، وضعفت ركبتاه عن حمله، ولكنه لم يفقد رشده في الحال، بل بقي مبصرا مميزا ما حوله يستغفر الله ويسأله العفو والرحمة، حتى غلب الألم وحرارة السم عليه، فسقط على السجادة تحت قدمي عشيقته وهو فاقد الرشد.
قد سمعنا أخبار أهل الهوى مم
ن مضى عن مصارع العشاق
فرأينا من مات شوقا ووجدا
ورأينا من مات يوم الفراق
وحكوا أن منهم من قضى النح
ب سرورا بالقرب حين التلاقي
وهي إن صح ما حكوه أحادي
ث هوى ما نظنه اليوم باق
إنما حير العقول محب
ضمه والحبيب برد العناق
راح يبغي موتا لا هلاك من يه
واه من بعد نفرة وشقاق
يفعل الحقد في قلوب ذويه
فعل نار الجحيم بالإحراق
7
عفا الله عمن صير الهم واحدا
وأيقن أن الدائرات تدور
تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت
وتحدث من بعد الأمور أمور
وتجري الليالي باجتماع وفرقة
وتطلع فيها أنجم وتغور
ويطمع أن يبقى السرور لأهله
وهذا محال أن يدوم سرور •••
قائد الغفلة الأمل
والهوى قائد الزلل
قتل الجهل أهله
ونجا كل من عقل
لم تنس أن «ڤكتور» لم يكتم عن زوجته مسيره إلى «أوتوبل» تلبية لدعوة المركيزة الحسناء، بل أخبرها الخبر، وأظهرها على كتاب الدعوة، فما منعته من إجابتها، ولكن لم تلبث بعد مسيرة أن اعتراها القلق والارتياب، فقصدت الكونتة «دي سرزول» شفيعتها ونصيحتها الصادقة الأمينة ورأت الكونتة على وجهها علائم الاضطراب، فقالت: ما وراءك أيتها العزيزة؟ وما سبب اضطرابك؟ - كنت بالسعادة والهناء أولى وأحق، بعد إذ ردت إلي العناية الربانية زوجي، لولا أني لا أستطيع إزالة الاضطراب عن نفسي، ولا أدري لذلك سرا، بل أدريه ولا أخفيه عنك، إن «ڤكتور» سار إلى «أوتوبل». - وما معنى هذا الكلام؟ - سار ليلقى المركيزة، ويودعها الوداع الأخير. - يودعها الوداع الأخير ! اسمعي ما أقوله يا بنية: إنك ذات صبر وجلد خارق للعادة، وقد احتملت من صنوف العذاب ما لا يحتمل، فلا يليق بك الاغترار في مثل هذه الحال، بل اعلمي أن زوجك وعشيقته إن تلاقيا اليوم للوداع، فإنهما يجتمعان غدا لتجديد عهد الحب، ولو كنت من أهل الاختبار لأحوال أرباب الغرام لعلمت أن الوداع الأخير إنما يكون ليودع المحب حبيبه، فادرعي الصبر أيتها العزيزة، واتقي به الغم، انقضى شيء مما تأملين. - كيف يكون ذلك وقد أقسم لي الأيمان المغلظة، وكتبت له هي بذلك؟! - كل هذا ممكن ولا أجيب عنه شيئا، وإنما أقول: هل تلاقيا؟ فإن كان ذلك، فالأمر ما أوضحت لك. - وهل تحسبين «ڤكتور» من أهل الخديعة يا سيدتي؟! - لا، ولكنه مخدوع مغرور، وقد سار من المنزل بنية صافية، مقتنعا بأنه لن يرى مدام «ڤلمورين» بعد هذه المرة مكابدا أشد العذاب من الفراق العتيد، موقنا بأنه أقوى من أن يغلبه ميل نفسه، فلما رآها اللحظة الأولى أنسي كل هذا، ولم يذكر سوى الحب. - إذن يحبها حبا عظيما. - مثل حب سائر الناس، والحب وإن اختلفت مظاهره في الزيادة والنقصان، فإن نتائجه متشابهة إلا مدة البقاء؛ فإن طولها وقصرها منوطان بأحوال الزمان وأحكام الأيام، وبما يكون في العشيقة من الذكاء والدهاء. - ما أحبني إلا مدة قصيرة جدا. - كان ذلك لازما عن حالك وطباعه، ولم يكن غيره بالإمكان، فأنت لكونك زوجته لم يكن يحول من دونك مانع ولا يحدث في أمرك حادث، بل كان شأنك واحدا على اختلاف الأيام، فلزم أن يكون لهذه الحالة نهاية، وهو كان واسع مجال الخيال، متوقد الذهن، مستور جمر التصور برماد السذاجة، فلم يكن يستطيع المقام في دير قديم ب «بواتو» لدى صغار يبكون، وشيخين وقورين، وامرأة ذات احتشام، بل احتاج إلى ما يذهب عنه الضجر، وتمنى لو لقي من يضربه على أصابعه لتنفتح وتمتد، فلو لم ير المركيزة الحسناء لوقع في أشطان بغي من بنات العشق يحسبها ملكا هابطا من السماء، وكان ذلك شرا من وقوعه بهوى مدام «ڤلمورين»؛ لإمكان أن ينفق كل ما له في هوى البغي، ولقد أخذ الآن في الرجوع إلى رشده، وسوف يبلغه بعد حين فلا تيأسي من رحمة الله. - أرجوك أن تأذني لي في البقاء لديك مدة غيابه، فقد أوصيتهم في المنزل أن يطيروا الخبر إلي متى رأوه مقبلا ، ولا أريد أن أرى الأولاد الآن، فإن رؤيتهم تضعف عزمي، فلا أتمالك أن أذرف الدمع وهم، وا رحمتاه! لهم يسألونني عن سبب البكاء ... - على الرحب والسعة، نتناول العشاء ونصرف ما شاء الله من الليل معا، فإني أعرف عذاب الريب ومقدار ما يدخل من السرور على قلب من لقي فيه صديقا أمينا، فبسط لديه أمره وكشف له سره، حتى كأنما ألقى عليه شيئا من همه، وقاسمه ما أعياه من بؤسه وغمه. - لأنت ملك كريم أرسلت لهدايتي، ووكلت بحمايتي، ولولاك لمت كمدا ويأسا، وماذا ترين الآن؟ ألا يعود - تعني ڤكتور - عما قليل؟ - وا رحمتاه لسذاجتك! إنك ما برحت غير عالمة بما تؤثر الشهوات في النفوس. - كيف هذا وأنا أحبه حبا عظيما لا يحتمل الزيادة؟ أفليس هذا الحب من تلك الشهوات التي تؤثر في الأنفس تأثيرا شديدا؟ - لا، فإن حبك هو الحب المشروع الذي لا حاجة فيه إلى التكتم، ولا محل للخوف والمحاذرة، ثم إن عذابك فيه يتضمن عذوبة العلم بأنك إنما تقضين واجبا، وليس الأمر كذلك في الشهوات.
ثم أقبل الليل ولم يأت «ماري» خبر عن «ڤكتور»، فاشتد اضطرابها، وجعلت تبعث بالرسول بعد الرسول إلى منزلها، ولا يأتيها أحد بنبأ شاف، فقالت الكونتة: لم يأت يا سيدتي، لم يأت. - إن رمت معرفة ما أراه في الأمر، فاعلمي أني ما أظنه يعود الليلة؛ فإن للمحبين حديثا طويلا «بعد» الافتراق. - لعلك أردت «قبل» الافتراق. - إنما أردت ما قلت، وإن كنت لا تزالين في ريب مما أقوله، فسوف يثبته لك العيان يا بنية. - آه، أواه! ما أصعب ما تنذرين به وما أهوله!
ثم اشتد عليها الأسى والأسف، فاسترسلت للبكاء حتى رق لها قلب الكونتة رحمة - والرحمة آخر ما يبقى في أنفس الشيوخ - فقالت: خفضي عليك يا «ماري»، فلا بد لهذه الحالة من آخر. - تظنين أنه لا يعود، فما قولك في مدام «ڤلمورين»، أيمكن ألا تعود إلى منزلها؟ - إنها امرأة من اللواتي لا يفوتهن شيء من أسباب الاحتراز والاحتياط، فلا شك في كونها تداركت ما أشرت إليه، ثم إن الأحوال الحاضرة موجبة لتوقع المكروه من كل وجه؛ ولذلك أخاف أن يكون اليأس قد حملها و«ڤكتور» على شيء من الأعمال البالغة حد الشطط. - ما العمل؟ ما الرأي؟ ما التدبير؟ - أرى أولا أن ترسلي إلى منزل مدام «ڤلمورين» من يسأل، هل هي في المنزل؟ وإن لم تكن هناك فمتى تعود؟ ولا يكون صدور هذا السؤال عنك غريبا بعد حادث «غرفة ڤكتور»، ولا سيما أن المركيز «ڤلمورين» يعتقد أن بينك وبين زوجته صداقة موثقة العرى.
فأرسلت «ماري» خادمها فقيل له: إن المركيزة سارت لزيارة شقيقتها في «لوسيان» ولا تعود إلى صباح الغد، فقالت الكونتة العجوز بعد سماع هذا الكلام: كنت على يقين من أنها تتدارك أمرها، ولا تعدم في كتمه حيلة، فلننتظر إلى غد، بل الأولى أن نذهب الآن إلى «أوتوبل»، فهل تريدين ذلك؟ - أخاف ألا يغتفر زوجي هذه الجرأة؟ - إذن ننتظر ...
ومرت الساعات على هذه الحالة حتى انتصف الليل، فقالت «ماري»: لا بد لي من الرجوع إلى منزلنا يا سيدتي، فقد يئست من أن أراه الليلة، ولا أستطيع ترك الأولاد وحدهم وقتا طويلا، وسأدعو الله وأسأله الرحمة والسلامة، ولا ألتمس المعونة إلا من جوده الواسع، إنه جواد كريم. - أسير معك يا بنيتي العزيزة، فإني وإن كنت عجوزا، فما زلت أقوى على إحياء ليلة من الليالي.
وبعد ذلك خفت لمرافقة «ماري»، فركبتا العربة المعدة، فسارت بهما على عجل و«ماري» مطلة من النافذة تنظر إلى كل من يمر بها، وتحسب كل من تراه «ڤكتور»، وكانت الكونتة تقول في نفسها: وا أسفاه عليها! إني أرق لها، وأعلم أن كل واحدة من النساء لا بد أن تصاب بمثل ما بها ولو مرة واحدة في الحياة، وهل رأيت من شجرة لم يهزها الهوى؟!
ولما بلغتا منزل «ڤكتور» طارت «ماري» إلى الخدم تسألهم عما عساه أن يكون عندهم من خبر زوجها، فلما علمت أنه لم يأت عنه خبر سقطت على الكرسي بالقرب من الموقد، وجلست الكونتة إلى جانبها صامتة لا تجد ما تحدثها به، فاستولى السكون والسكوت على الغرفة، فلم يكن يسمع إلا حركة العربات عائدة بالمتأخرين من أهل الرقص، وكانت «ماري» تتبع حركة العربة مصغية إليها على أمل أن تقف بالباب حتى ينقطع صوت صداها، فينقطع أملها بذلك فتعود إلى حالتها من القلق والاكتئاب والخوف والاضطراب، وفي تلك الساعة قرع باب المنزل، ففتح فصعد الداخل الدرج، وقرع باب الدار، فصاحت «ماري»: هو، هو.
ثم نهضت لتلقاه عند الباب فاستوقفتها الكونتة، وقالت: مكانك ... دعيه يأت إليك، فربما كان في حالة لا يستطيع معها لقاءك.
فامتثلت وجلست تصغي إلى قول المتكلمين عند الباب في غرفة المدخل ثم صاحت: وا خيبتاه! هذا صوت امرأة.
ثم سارعت إلى الباب، ففتحته؛ فرأت مدام «درميلي» والدة المركيزة الحسناء، فابتدرتها هذه بالكلام، وقالت: عفوا يا سيدتي عن قدومي إليك في مثل هذا الوقت، ولكن الأمر من فوق يدي والعذر فيه واضح وجيه، لقد علمت أنك تنتظرين رجوع المسيو «ديلار»، فهل تريدين أن تخبريني بمكانه؟ - وفيم تسأليني هذا السؤال يا سيدتي؟ - لو كان المعترض غيرك من النساء لما علمت كيف أجيب، ولكنك صافية النفس كملائكة السماء؛ ولذلك أخبرك أني أفتش عن ابنتي، وأعلم أنها توجد حيث يكون المسيو «ديلار».
هأنذا قادمة من هناك وقد سألت عنها، فما عرفوا لها خبرا، فعدت إلى المنزل، فرأيت على مكتبها كتابا باسمي تقول لي فيه إني لن أراها ألبتة من بعده، فإنها لم تقدر على فراق المسيو «ديلار»، فنالني من جراء ذلك قلق لا مزيد عليه، فجئتك أنشدك الله أن تخبريني بمكانهما. - هما في «أوتوبل». - وهل أنت على يقين من ذلك؟ - لا شك عندي ولا ريب، فقالت الكونتة: هذا الذي كنت أحاذره، فقد هربا معا لا محالة. - حبذا ما تقولين، وإني أسأل الله تحقيق ظنك. - ما معنى هذا الكلام ؟! - إني لا أخاف عليهما الهرب، وإنما أخاف الموت، فإن ابنتي لتطلبه ولا تخشاه بما أعلم من حدة مزاجها، والتهاب فكرها، وحبها العظيم ل «ڤكتور». - الموت، الموت! ويلاه! وا مصيبتاه! طيروا بنا إلى «أوتوبل».
ثم لم تلبث لتلقي على كتفيها شالا يقيها البرد، بل اندفعت إلى الدرج طالبة باب المنزل، فتبعتها الكونتة ومدام «درملي»، فركبن العربة، وصاحت «ماري» بالسائق: إلى «أوتوبل» إلى «أوتوبل»، انهب الأرض، واقتل الخيل ركضا، فأطلق للفرسين العنان فسارا متباريين كأنهما فرسا رهان، وكانت مدام «درميلي» قد عادت إلى حديث كتاب «أليس» وما فيه من المعاريض والأقوال المبهمة، وكيف أنها ودعت آل بيتها من غير أن تظهر حقيقة الأمر أو تورد كلمة تدل على المكان الذي تقصده، غير أن «ماري» لم تكن تعي شيئا من الحديث، بل كانت مشردة الفكر ضائعة الرشد حتى وقفت العربة أمام درابزين الحديقة، فوثبت من نافذتها ولم تنتظر أن يفتح السائق بابها، وكان السكوت مستوليا على البيت، فلم تسمع منه صوتا ولا حركة، فطفقت تجر سلك الناقوس بعنف وقوة ولا تسمع جوابا، فقالت الكونتة: قد ارتحلا وما في المنزل أحد، فصاحت مدام «درميلي»: إنهما في المنزل، فأيقظوا أقرب حداد إلينا يفتح هذا الباب.
وكانت «ماري» مستمسكة بعروة الجروس تهزها هزا متداركا غير متنبهة لشيء مما حولها حتى عاد الخادم بالحداد، فاقتلع أقفال الباب، فدخلوا الدار و«ماري» في المقدمة تعدو عدو الصغار من غرفة إلى غرفة، ومن مكان إلى آخر بلا ضوء ولا دليل، وتنادي «ڤكتور» بأعلى الصوت فلا تسمع جوابا، ثم جيء بالشمع وأخذت مدام «درميلي» والكونتة العجوز تجوسان خلال الأماكن والغرف، فرأتا غرفة النوم ومكان البليار والأندية كلها خالية، ثم فتحتا مقعد المغسل فهب عليهما ذلك الأرج الشديد فاستوقفهما، وصاحت مدام «درميلي»: إنهما في هذا المكان - مشيرة إلى غرفة الزهر - فافتحوا الباب، وإن كان مقفلا فاقتلعوه.
ففتح الباب واندفعت «ماري» إلى الغرفة، فرأت المركيزة على المقعد و«ڤكتور» تحت أقدامها وهما كالجليد، وليس فيهما حراك فصاحت: طبيب، طبيب، احضروا طبيبا، فلعلهما لا يزالان بقيد الحياة.
وقالت الكونتة: اكسروا زجاج النوافد والشبابيك، وافتحوا مجاري الهواء، فإن رائحة هذه الغرفة قاتلة.
وقد اعتنقت «ماري» زوجها باكية، خافقة القلب من الوقوف بين الرجاء والخوف، فكانت تبل وجهه بدمعها ، وتدعوه بأرق أسماء المحبين، فلا تسمع منه جوابا، ولا تحس منه حركة، ثم حملت المركيزة إلى سريرها، وما برحت «ماري» معانقة زوجها حتى جاء الطبيب وأخذ في معالجة المريضين بكل ما لديه من الأدوية، ثم مضت على ذاك ساعة ولم يبديا حراكا، فازداد قلق «ماري» وسألت الطبيب عن رأيه، فلم يكن جوابه شافيا، فكانت تقول: ربي! جد عليه بالعافية، واجعلني فداءه.
وما برحت تردد هذا القول أو ما بمعناه حتى قال لها الطبيب: سيشفى يا سيدتي بحول الله، ولكن ربما احتاج إلى المداراة والملاطفة التامة مدة طويلة من الزمان. - لك الشكر، لك الشكر يا سيدي، ولو وهبتك حياتي لما كان ذلك وافيا بحقك علي.
وحياتهم وحياتهم قسما وفي
عمري بغير حياتهم لم أحلف
لو أن روحي في يدي ووهبتها
لمبشري بشفائهم لم أسرف
وكانت المركيزة قد أخذت في العود إلى الحياة أيضا، ففتحت عينيها، ووالدتها جاثية بين يديها ترقب حركاتها وسكناتها، فكان هذا المنظر مما تلين له القلوب، أما الكونتة فإنها لم تخرج عن طورها المألوف، ولم تتنازل عن شيء من وقارها المعروف، بل جلست على تكأة في الغرفة، وجعلت تراقب الكل متداركة ما تذهل عنه «ماري» ومدام «درميلي» بما فيهما من القلق، وقد ظهرت لها النتيجة بتمامها، فكانت تبتسم للأمر في سرها، ثم قالت ل «ماري»: احمدي الله أيتها العزيزة واجب حمده، فقد رد إليك «ڤكتور» مرتين، وليطمئن قلبك، فقد صرت في مأمن من المناظرة والشريكة. - أتقولين جدا؟! - لا ريب عندي فيما أقول، فإن رجلا من مثل زوجك يصبر على كل شيء إلا السخرية، وهذه الحالة غير خالية من أسبابها كما ترين.
ثم استعطت - أي جعلت في أنفها سعوطا - واستولت على المقعد مرتفعة الرأس.
وأخذ «ڤكتور» في الرجوع إلى حالة الرشد قبل المركيزة، فلما أمكنه الكلام قال: أين أنا؟ ماري ، يا عجبا! اللهم لك الحمد؛ فقد رأيتها مرة أخرى. - تمهل شقيق الروح، فعما قليل نتحدث واهدأ الآن، فأنت محتاج إلى الراحة المطلقة. - صدقيني، حبيبتي، العفو، المغفرة.
فألقت يدها على شفتيه بلطف ليسكت فلا يزعجه الكلام وهي راقصة القلب فرحا، لا تدري كيف تعلن سرورها وسعادتها، وهو يجيل نظره في المكان الذي هو فيه، ثم قال بصوت منخفض: أحب أن أسير من هذا المكان.
فأجابه الطبيب: عما قليل يتيسر لكما ذلك يا سيدي، أما الآن فإن كنت تبغي الحياة فلا بد لك من التزام السكوت التام. - أتريدين يا «ماري» أن أحيا؟ - جعلت فداك، إني لا أحتمل فقدك، ولا أعيش بعدك. - إذن سأصمت أيها الطبيب.
أما «أليس» فلما عادوتها الحياة وعادت إلى حالة الرشد، ضجت بإظهار الفرح العظيم، وترامت على أمها تعانقها وتمرح ما شاءت الخفة، فنهاها الطبيب ومن حولها عن الحركة والكلام، وقالوا: إن لم تصمت وتلتزم السكون فلا سبيل لها إلى الشفاء. - إن كان لا بد من ذلك في حصول الشفاء فإني ممتثلة ما تأمرون.
وكانت «ماري» تتوقع أن يتفاوض الحبيبان فيما مر بهما وما صارا إليه، فكانت تبذل المجهود لاجتناب ذلك مخافة أن يزعج الكلام زوجها ويتعبه، لكنها لم تستطع إخفاء أحدهما عن الآخر؛ لأن الباب الذي بين الغرفتين كان مفتوحا للهواء، فلما أفاقت مدام «ڤلمورين» دنت «ماري» من زوجها فقبلته وكاشفته في ضمن تلك القبلة ما تخاف، فصمت واكتفى بالسكوت جوابا، وكانت الكونتة تنظر إليهما متتبعة ما يفعلان، فلما صمت «ڤكتور» ابتسمت وقالت ل «ماري»: إنه غير مبال بما أوجست منه خوفا، وقد استوى عنده حضورها وغيابها، فإن الحب الذي كابداه قد مات، فلن يذكره أحد منهما قط، وإنما يليق بالشعراء أن يذكروه، فإنه من ظريف معاني الشعر موت الهوى تحت الزهر.
وقد صحت ظنون العجوز وصدقت أقوالها جملة وتفصيلا، فما جرى بين «ڤكتور» و«أليس» عتاب ولا خطاب، بل انفصلا من غير حديث ولا كلام، وحمل كل منهما إلى منزله، فأقاما حينا من الزمن يمرضان ويداويان حتى حصل لهما الشفاء التام، فقالت الباريسية الحسناء لأمها ذات يوم: أماه، لقد كفاني ما رأيته عبرة، وشفاني من داء الحدة والطيش، فلست متعدية من بعده حدود الرشد والحكمة. - وأنا قد عزمت على بيع أرضنا التي في «بواتو» - بلد «ڤكتور». وكان «ڤكتور» على مثل حالة المركيزة من السلو، ينشد بلسان الحال قول من قال:
إنني بعد بعدكم قد سقيت
من مدام السلو حتى رويت
لم يزل بي ساقي التسلي يساقي
ني كؤوسا من بعدها ما ظميت
نزع الحب من فؤادي فسبحا
ن إله يحيي الهوى ويميت
قد جعلت الهوى وعدت كأني
من سلوى ما كان ما قد هويت
وكأني على الصبابة والتب
ريح والشوق والجوى ما ربيت
وكأني على مفارقة الرو
ح لجسمي يوم النوى ما خشيت
يا خليلي أخبراني بصدق
كيف طعم الهوى؟ فإني نسيت
ففي صباح يوم من شهر نيسان راقت سماؤه، ورق هواؤه وتألق بأشعة الشمس ضياؤه أتته مدام «سرزول» زائرة، فرأته جالسا بالقرب من «ماري»، وأولادهما يلعبون على البساط متناغمين، وطيور نيسان تغرد في الحديقة، فتذهب الأشجان، فطابت نفسها وقرت عينها، فجلست تتأمل في محاسن هذه الهيئة المنزلية، ثم قالت ل «ڤكتور» وزوجته: لقد أفادتكما نصائحي خيرا عظيما، فهل لكما أن تقبلا مني هذه النصيحة الأخيرة؟ - وما هي؟ تكلمي ولك الفضل. - لا بد من رجوعكما إلى «بواتو»؛ فقد اشتهر أمر «أوتوبل» وأخذ الناس يتحدثون فيه وصار اسمك يا «ڤكتور» مضغة في أفواههم، فلست تقوى على الثبات في هذا الموقف الضنك بباريس.
فقالت ماري لزوجها: ما قولك في هذا الرأي؟ - هذا جل المراد وغاية الأمنية، فقد عظم شوقي إلى المنزل الأول، فما أذكر إلا حدائقه، ورياضه، ومنازهه، وغياضه، والغدير، وأشجاره، والحقل، وأزهاره كما رأيتها والموت نصب عيني، ألا إن المقام بينك وبين أولادنا ووالدينا في تلك الأماكن الصافية السماء لهو السعادة الحقيقية، فكل ما خلاه من لذة الحياة كاذب باطل كالآل يحسبه الظمآن ماء. - وأين تترك ذاك الطمع؟ - مات الطمع لا رجع. - وفكرك المتوقد؟! - جعلته وقفا عليك، فهلم نسافر.
فقالت الكونتة: بارك الله فيكما يا ولدي، وأنت يا «ڤكتور» بقي لك عندي نصيحة واحدة: إياك وكثرة الهواجس. - لا تخافي علي يا سيدتي، فلست أهجس واللذة الحقيقية لدي . •••
كانت الكونتة «سرزول» و«ماري» تتراسلان بعد سفر «ڤكتور» وآل بيته إلى «بواتو»، فعلم من مراسلتهما أن باريسيتنا الحسناء صارت من المتحرزات، على أنها ما برحت شديدة الحرص على الزينة والتبرج، وقد تناست «ڤكتور» فلم تكن تذكره البتة خجلا مما وقع لها أو سلوا، أما هو فأقام ببلده بين زوجته ووالده وولده، منقطعا إلى الاهتمام بشئونه من الزراعة والصناعة، متمتعا من حب ذويه بنعيم مقيم ومن نعومة البال بهناء عظيم، وكان إذا ذكر ماضيه ضحك منه، وإن نظر إلى آتيه ابتسم له، وإن تأمل حاله الحاضر حمد الله في الباطن والظاهر والأول والآخر.
يا زمان الشباب سقيا ورعيا
وسلاما يا خير كل زمان
قد ظنناك يا نعيم مقيما
ما ظنناك نشأة النشوان
نحسب العمر فيك دهرا طويلا
والليالي تمر مر الثواني
كم نشقناك نشق نفخة طيب
ورشفناك رشف خمر الدنان
وشغلنا عن الحياة بلهو
وانصرفنا إلى الوجوه الحسان
وسكرنا فما دنا الصحو حتى
آذنتنا السنون بالحرمان
غير أن الشباب لا بد فيه
من غرور يسطو على الشبان
أي غصن ما حركته رياح؟
أي قلب لم ترمه عينان؟
فأخو الرشد من صحا قلبه من
غفلة الجهل قبل فوت الأوان
وتملى من الهناء بما يب
قى صحيحا على ممر الزمان
فانتهب فرصة الصفاء انتهابا
لا تظن الصفاء ظلا ثان
وادخر من صباك جسما معافى
فالصبا والصفاء لا يخلدان
وتمتع بذات خدر حليل
ناعما بالرفاء والولدان
فهي تهديك من نسيمات فيها
منعشات الأرواح والأبدان
وحواليك من بنيك عيون
لا عيون المهى ولا الغزلان
ووجوه تغنيك عن شعر موسى
9
ولياليه أربع أو ثمان
وخدود أشهى وأطرى وأندى
من دموع الصباح في نيسان
ولهم في حديثهم نغمات
يا حنيني لنغمة الكروان
هذه لذة الحياة وهذي
أيها الناس غبطة الإنسان
صفحة غير معروفة